محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

وهذا الجواب لا يرجع إلى معنى محصل أصلا ، وذلك لأنه ان أراد بالكسب والاكتساب كون العبد محلا للفعل كالجسم الّذي يكون محلا للسواد مثلا تارة وللبياض أخرى فيرده انه لا يعالج مشكلة العقاب على امر غير اختياري ، ضرورة ان كونه محلا له ككون الجسم محلا للسواد أو البياض امر خارج عن اختياره فلا يعقل عقابه عليه.

هذا مضافا إلى اختلاف الفعل في الخارج فلا يكون على نسبة واحدة حيث قد يكون قيامه بالفاعل قيام صدور وإيجاد ، وقد يكون قيامه به قيام الحال بالمحل ، وهذا الجواب لو تم فانما يتم في خصوص ما كان قيام الفعل به قيام الحال بالمحل لا مطلقا. وان أراد بهما الفعل الصادر من العبد باختياره وإعمال قدرته فهو يناقض التزامه بالجبر وان العبد لا اختيار له وان أراد بهما شيء آخر يغاير الفعل الخارجي فهو مضافاً إلى انه خلاف الوجدان ، ضرورة انه ليس هنا شيء آخر يصدر من العبد خارجاً ما عدى فعله ننقل الكلام فيه ونقول : انه لا يخلو من ان يكون صدوره منه باختياره أو لا يكون باختياره ، وعلى الأول فلا موجب للتفرقة بينه وبين الفعل والالتزام بأنه اختياري دونه ، وذلك لأن مقتضى الأدلة المتقدمة انه لا اختيار للعبد وهو بمنزلة الآلة فكلما يصدر منه في الخارج يصدر في الحقيقة بإرادة الله تعالى ومشيئته سواء أسمى فعلا أم كسباً ، وعليه فكما ان الالتزام بكون الفعل اختيارياً يناقض مذهبه ، فكذلك الحال في الكسب فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. وعلى الثاني فما هو المصحح للعقاب إذا كان الكسب كالفعل يصدر بغير اختيار العبد. ومن ضوء هذا البيان يظهر انه لا وجه الاستشهاد على ذلك بالآية الكريمة ، لوضوح ان المراد من الكسب فيها هو العمل الخارجي لا شيء آخر في مقابله. ومن هنا قد رتب سبحانه وتعالى في كثير من الآيات الجزاء والعقاب على العمل

١٠١

(الثالث) ما عن الباقلاني من ان الثواب والعقاب انما هما على عنوان الإطاعة والمعصية بدعوى ان الفعل الخارجي وان كان يصدر من العبد بغير اختياره الا ان جعله معنوناً بعنوان الإطاعة والمعصية بيده واختياره ، فاذن العقاب عليها ليس عقاباً على امر غير اختياري.

وغير خفي ان الإطاعة والمعصية لا تخلو ان من ان تكونا عنوانين انتزاعيين من مطابقة الفعل المأتي به في الخارج للمأمور به ومخالفته له أو تكونا امرين متأصلين في الخارج. وعلى الأول فلا مناص من الالتزام بعدم كونهما اختياريين ، بداهة انهما تابعان لمنشإ انتزاعهما ، وحيث فرض عدم اختياريته فبطبيعة الحال يكونان خارجين عن الاختيار فاذن عاد المحذور وعلى الثاني فيرد عليه أولا انه خلاف الوجدان والضرورة ، بداهة انا لا نعقل شيئاً آخر في الخارج في مقابل الفعل الصادر من العبد المنتزع منه تارة عنوان الإطاعة وأخرى عنوان المعصية. وثانياً انا ننقل الكلام إليهما ونقول انهما لا يخلوان من ان يصدرا عن العبد بالاختيار أو يصدرا قهراً وبغير اختيار ، فعلى الأول يلزمهم ان يعترفوا بعدم الجبر واختيارية الأفعال ، ضرورة عدم الفرق بين فعل وآخر في ذلك فلو أمكن صدور فعل عنه بالاختيار لأمكن صدور غيره أيضا كذلك ، فان الملاك فيه واحد. وعلى الثاني يعود المحذور.

(الرابع) ان الأشاعرة قد أنكرت التحسين والتقبيح العقليين وقالوا : ان القبيح ما قبحه الشارع ، والحسن ما حسنه الشارع ، ومع قطع النّظر عن حكمه بذلك لا يدرك العقل حسن الأشياء ولا قبحها في نفسه ، وقد أقاموا على هذا الأساس دعويين : (الأولى) : لا يتصور صدور الظلم من الله سبحانه وتعالى. والسبب في ذلك ان الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير بدون اذنه ، والمفروض ان العالم بعرضه العريض من العلوي

١٠٢

والسفلى والدنيوي والأخروي ملك لله سبحانه وتحت سلطانه وتصرفه ولا سلطان لغيره فيه ولا شريك له في ملكه ومن الطبيعي ان أي تصرف صدر منه تعالى كان في ملكه فلا يكون مصداقاً للظلم ، وعلى هذا فلا محذور لعقابه تعالى العبيد على أفعاله غير الاختيارية ، بل ولا ظلم لو عاقب الله سبحانه وتعالى نبياً من أنبيائه وأدخله النار وأثاب شقياً من الأشقياء وأدخله الجنة ، حيث ان له ان يتصرف في ملكه ما شاء ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون عما يفعلون. فالنتيجة ان انتفاء الظلم في أفعاله تعالى بانتفاء موضوعه وعلى هذا المعنى نحمل الآيات النافية للظلم عن ساحته تعالى وتقدس كقوله (وما ربك بظلام للعبيد) ونحوه يعني ان سلب الظلم عنه لا جل عدم موضوعه واستحالة تحققه ، لا لأجل قبحه.

ومن ضوء هذا البيان يظهر وجه عدم اتصاف افعال العباد بالظلم حيث انها افعال لله تعالى حقيقة وتصدر منه واقعاً ، ولا شأن للعباد بالإضافة إليها في مقابل شأنه تعالى ، ولا إرادة لهم في مقابل إرادته.

(الثانية) ان الله سبحانه وتعالى هو الحاكم على الإطلاق فلا يتصور حاكم فوقه ، وعليه فلا يعقل ان يكون محكوماً بحكم عبيده ، ولا معنى لعدم تجويز الظلم عليه بحكم العقل ، فان مرده إلى تعيين الوظيفة له تعالى وهو غير معقول.

ولنأخذ بالنقد على كلتا الدعويين : اما الدعوى الأولى فهي ساقطة جداً. والسبب في ذلك ان قضيتي قبح الظلم وحسن العدل من القضايا الأولية التي يدركهما العقل البشري في ذاته ، ولا يتوقف إدراكه لهما على وجود شرع وشريعة ، وتكونان من القضايا التي هي قياساتها معها ، ولن يتمكن أحد ولا يتمكن من إنكارهما لا في افعال الباري عزوجل ولا في افعال عباده. وأما ما ذكره الأشاعرة في وجه عدم اتصاف أفعاله تعالى

١٠٣

بالظلم فهو خاطئ. وذلك لأن حقيقة الظلم هي الاعوجاج في الطريق والخروج منه يمنة ويسرة وعدم الاستقامة في العمل وهو المعبر عنه بجعل الشيء في غير موضعه ، كما ان حقيقة العدل عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع وعدم الخروج منها يمنة تارة ويسرة أخرى وهو المعبر عنه بوضع كل شيء في موضعه ، وبطبيعة الحال ان صدق الظلم بهذا التفسير لا يتوقف على كون التصرف تصرفاً في ملك الغير وسلطانه. ومن هنا لو قصر أحد في حفظ نفسه يقال انه ظلم نفسه ، مع ان نفسه غير مملوكة لغيره ، كما انه لو وضع ماله في غير موضعه عد ذلك ظلما منه. وعلى ضوء هذا التفسير لو أثاب المولى عبده العاصي وعاقب عبده المطيع عد ذلك منه ظلماً ووضعاً لهما في غير محلهما وان كان التصرف تصرفاً في ملكه وسلطانه.

وعلى الجملة كما ان العقل يدرك ان مؤاخذة المولى عبده على العمل الصادر منه قهراً وبغير اختيار ظلم منه ووضع في غير موضعه وان كان الملك ملك نفسه والتصرف تصرفاً في سلطانه ، كذلك يدرك ان مؤاخذة المطيع وإثابة العاصي ظلم. فالنتيجة ان الظلم لا ينحصر بالتصرف في ملك غيره. نعم عنوان الغصب لا يتحقق في فعله تعالى حيث انه عبارة عن التصرف في ملك الغير من دون اذنه ورضاه ، وقد عرفت ان العالم وما فيه ملك له تعالى.

ونزيد على هذا ان أفكار التحسين والتقبيح العقليين يستلزم سد باب إثبات النبوة وهدم أساس الشرائع والأديان. والوجه في ذلك هو ان إثبات النبوة يرتكز على إدراك العقل قبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب في دعوى النبوة ، وإذا افترضنا ان العقل لا يدرك قبح ذلك وانه لا مانع في نظره من ان الله سبحانه وتعالى يعطى المعجزة بيد الكاذب ،

١٠٤

فاذن ما هو الدليل القاطع على كونه نبياً وما هو الدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته. ومن الطبيعي انه لا دافع له ولا مبرر الا إدراك العقل قبح ذلك.

ومن ذلك يظهر ان الأشاعرة لن يتمكنوا ولا يتمكنون من إثبات مسألة النبوة على ضوء مذهبهم. هذا مضافاً إلى ان عقاب المطيع لو كان جائزاً ولم يكن قبيحاً من الله سبحانه لزم كون إرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً ، فانهما لدعوة الناس إلى الإطاعة والثواب وتبعيدهم عن المعصية والعقاب ، وإذا افترضنا ان كلا من المطيع والعاصي يحتمل العقاب على فعله كما يحتمل الثواب عليه فلا داعي له إلى الإطاعة ، لجواز ان يثاب سبحانه وتعالى العاصي ويعاقب المطيع.

ودعوى ان عادة الله تعالى قد جرت على إظهار المعجزة بيد الصادق دون الكاذب خاطئة جداً.

اما أولا فلأنه لا طريق لنا إلى ثبات هذه الدعوى الا من طريق إدراك العقل ، وذلك لأنها ليست من الأمور المحسوسة القابلة للإدراك بإحدى القوى الظاهرة ، ولكن إذا عزلنا العقل عن حكمه وانه لا يدرك الحسن والقبح فما هو المبرر لها والحاكم بها وكيف يمكن تصديقها والعلم بثبوتها له تعالى.

وأما ثانياً فلان إثبات هذه العادة له تعالى تتوقف على تصديق نبوة أنبياء السابقين الذين أظهروا المعجزة وجاءوا بها ، وأما من أنكر نبوتهم أو أظهر الشك فيها فكيف يمكن حصول العلم له بثبوت هذه العادة.

وبكلمة أخرى العادة انما تحصل بالتكرار وتعاقب الوجود ، وعليه فننقل الكلام إلى أول نبي يدعى النبوة ويظهر المعجزة فكيف يمكن تصديقه في دعواها وما هو الطريق لذلك والدافع لاحتمال كونه كاذباً في دعوته بعد عدم إدراك العقل قبح إظهار المعجزة بيد الكاذب من ناحية ، وعدم ثبوت

١٠٥

العادة المفروضة من ناحية أخرى ، وقد تحصل من ذلك انه لا طريق إلى إثبات نبوة من يدعيها الا إدراك العقل قبح إظهاره تعالى المعجزة بيد الكاذب ولولاه لانسد باب إثبات النبوة.

واما ثالثا فلانا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان عادة الله تعالى قد جرت على ذلك ، ولكن ما هو المانع من تغيير هذه العادة وما هو الدافع لهذا الاحتمال. ومن الطبيعي انه لا دافع له الا إدراك العقل قبح ذلك ، وإذا افترضنا ان العقل لا يدرك قبحه ولا مانع عنده من هذا التغيير فاذن ما هو الدافع له؟

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان دعوى جريان عادته تعالى على مؤاخذة العاصي وإثابة المطيع أيضاً بعين ما قدمناه فلا نعيد وتوهم ان إثابة المطيع ومؤاخذة العاصي مستندة إلى وعده تعالى ووعيده في كتابه الكريم من الحسنات والسيئات ، والدخول في الجنة والنار ، والحور والقصور ، والويل والعذاب وما شاكل ذلك من ألوان الثواب والعقاب خاطئ جداً والسبب في ذلك انه لا يمكن الوثوق بوعده تعالى ووعيده بعد الالتزام بعدم إدراك العقل قبح الكذب وخلف الوعد عليه سبحانه. فالنتيجة ان في عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح وتجويز ارتكاب الظلم على الله تعالى القضاء الحاسم على أساس كافة الشرائع والأديان.

وأما الدعوى الثانية فلأنها نشأت من الخلط بين حكم العقل العملي وحكم العقل النظريّ ، وذلك لأن الله تعالى لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم العقل العملي ، وهو حكم العقلاء باستحقاقه تعالى المدح تارة والذم أخرى على الفعل الصادر منه في الخارج ، بداهة انه لا يتصور ان يحكم عليه سبحانه عبيده.

واما العقل النظريّ فهو كما يدرك وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته

١٠٦

وعلمه وحكمته التي هي من لوازم علمه وقدرته ، كذلك يدرك قبح ارتكابه سبحانه الظلم واستحالة صدوره منه ، كيف حيث انه مناف لحكمته. ومن الطبيعي ان ما ينافي لها يستحيل صدوره من الحكيم تعالى ، والسبب في ذلك ان صدور الظلم من شخص معلول لأحد أمور : الجهل ، التشفي ، العجز ، الخوف وجميع ذلك مستحيل في حقه تعالى. وكيف كان فإدراك العقل استحالة صدور الظلم منه سبحانه وقبحه من القضايا الأولية التي هي قياساتها معها. ومن هنا لو لا إدراك العقل قبح الظلم لاختلت كافة الأنظمة البشرية المادية والمعنوية.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان افعال الله تعالى لا تتصف بالقبح وأن كل ما يصدر منه سبحانه حسن الا انه لا ينبغي الشك في ان العقلاء يعاقبون عبيدهم على مخالفتهم ويثابون على إطاعتهم ، كما انهم يمدحون الفاعل على فعل ويذمونه على فعل آخر ، وهكذا ، ولو كانت الأفعال الصادرة منهم غير اختيارية كما هو مختار الأشاعرة ومذهب الفلاسفة فلا معنى لاستحقاقهم المدح والثواب عليها تارة ، والذم والعقاب أخرى. ومن هنا لا يستحقون ذلك على الفعل الصادر منهم بغير اختيار وانهم يفرقون بين الأفعال الاختيارية وغيرها ، فلو كانت الأفعال بشتى أنواعها واشكالها غير اختيارية فما هو سبب هذه التفرقة وحكمهم باستحقاق المدح أو الذم في بعضها دون بعضها الآخر. ومن الطبيعي ان كل ذلك يكشف بصورة قاطعة عن بطلان نظرية الجبر وصحة نظرية الاختيار.

الخامس ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك نصه «العقاب انما يتبعه الكفر والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فان السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة

١٠٧

كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع السؤال انه لما جعل السعيد سعيداً والشقي شقياً ، فان السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك ، وانما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد سر بشكست).

وملخص كلامه (قده) هو ان العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يلزم المحذور المتقدم ، بل هو من لوازم الأعمال السيئة التي لا تنفك عنها ، فان نسبة العمل إلى العقاب كنسبة الثمر إلى البذر. ومن الطبيعي ان البذر إذا كان صحيحاً كان نتاجه صحيحاً ، وإذا كان فاسداً كان نتاجه فاسداً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان تلك الأعمال تنتهي بالاخرة إلى الشقاوة التي هي ذاتية للإنسان والذاتي لا يعلل. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا إشكال لا من جانب العقاب حيث انه من لوازم الأعمال وآثارها ، ولا من جانب تلك الأعمال حيث انها تنتهي في نهاية المطاف إلى الذات.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية أولا انها مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة حيث ان لازمها عدم إمكان العفو بالشفاعة ونحوها ، مع انهما قد نصتا على ذلك وان العقاب بيده تعالى وله ان يعاقب وله ان يعفو ، فهو فعل اختياري له سبحانه. وعلى الجملة فلا ينبغي الشك في بطلان هذه النظرية على ضوء الكتاب والسنة. وثانياً انها لا تحل مشكلة العقاب على امر غير اختياري فتبقى تلك المشكلة على حالها ، بل هي تؤكدها كما هو واضح. نعم لو كان مراده (قده) من تبعية العقاب للكفر والعصيان التبعية على نحو الاقتضاء فلا إشكال فيها من الناحية الأولى ولا تكون مخالفة للكتاب والسنة فيبقى الإشكال فيها من الناحية الثانية وهي ان الأعمال إذا كانت غير اختيارية فكيف يعقل العقاب عليها (١)

__________________

(١) لا بأس بالتعرض لما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) في المقام

١٠٨

......................................

__________________

ـ ونقده بشكل موسع. وإليك نصّ قوله :

«وأما الدفع فهو ان استحالة التخلف انما يكون في الإرادة التكوينية وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الإرادة التشريعية وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف ، وما لا محيص عنه في التكليف انما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والإيمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن ان يختار الكفر والعصيان. ان قلت : إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان بإرادته تعالى التي لا يكاد يتخلف عن المراد فلا يصح ان يتعلق بهما التكليف ، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

قلت : انما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية والا فلا بد من صدورها بالاختيار والا لزم تخلف إرادته عن مراده تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

ان قلت : ان الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما الا انهما منتهيان إلى مالا بالاختيار ، كيف وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشيئة الإلهية ، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالاخرة بلا اختيار. قلت : العقاب انما يتبعه الكفر والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتيّة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فان السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه. والناس معادن كمعادن الذهب والفضة كما في الخبر ، والذاتي لا يعلل ، فانقطع السؤال انه لما جعل السعيد سعيداً ، والشقي شقيا ، فان السعيد سعيد بنفسه ، والشقي شقي كذلك ، وانما أوجدهما الله تعالى»

نلخص كلامه (قده) في عدة نقاط : (الأولى) ان الإرادة

١٠٩

......................................

__________________

ـ التكوينية علة تامة للفعل ويستحيل تخلفها عنه (الثانية) ان إرادة العبد تنتهي إلى الإرادة الأزلية بقانون ان كل ما بالغير ينتهى بالاخرة إلى ما بالذات (الثالثة) ان إرادته تعالى من الصفات العليا الذاتيّة كالعلم والقدرة وما شاكلهما. (الرابعة) ان الشقاوة والسعادة صفتان ذاتيتان للإنسان (الخامسة) ان منشأ العقاب والثواب انما هو الشقاوة والسعادة الذاتيتين اللازمتين للذات وأما النقطة الأولى والثانية والثالثة فقد تقدم الكلام فيها في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من دون حاجة إلى الإعادة.

وأما النقطة الرابعة فان أراد بالذاتي في باب الكليات أعني الجنس والفصل فهو واضح الفساد ، بداهة ان السعادة والشقاوة ليستا جنسين للإنسان ولا فصلين له والا لكانت حقيقة الإنسان السعيد مباينة لحقيقة الإنسان الشقي وهو كما ترى ، فعندئذ لا محالة يكون مراده منه الذاتي باب البرهان ، وعليه فنقول.

ان أراد به الذاتي بمعنى العلة التامة يعنى ان شقاوة الشقي علة تامة لاختياره الكفر والعصيان ، وسعادة السعيد علة تامة لاختياره الإيمان والإطاعة فيرده البرهان والوجدان من ناحية ، والكتاب والسنة من ناحية أخرى.

أما الأول فمضافاً إلى ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بصورة مفصلة نقد نظرية الجبر وإثبات الاختيار ان الشقاوة والسعادة لو كانتا كذلك لزم هدم أساس كافة الشرائع والأديان وأصبح كون بعث الرسل إنزال الكتب لغواً محضاً فلا تترتب عليه أية فائدة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لزم من ذلك هدم أساس التحسين والتقبيح العقليين الذين قد التزم بهما العقلاء لحفظ نظم حياتهم المادية والمعنوية وإبقاء نوعهم.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا يمكن الالتزام بذلك

١١٠

.....................................

__________________

ـ وأما الثاني فلان الوجدان حاكم بالاختيار ، وانه ليس في كمون ذات الإنسان ما يجبره على اختيار الكفر والعصيان مرة ، واختيار الإيمان والإطاعة مرة أخرى وأضف إلى ذلك ان في المشاهد والمحسوس الخارجي القضاء الحاسم على تلك الدعوى ، حيث اننا نرى شخصاً واحداً كان شقياً في أول عمره وصار سعيداً في آخره أو بالعكس ، فلو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين فكيف يعقل تغييرهما ، لاستحالة تغيير الذاتي وانقلابه.

وأما الكتاب فمضافاً إلى انه بنفسه شاهد صدق على بطلان هذه الفرضية فقد دلت عدة من الآيات الكريمة على نظرية الاختيار والأمر بين الأمرين ، وبطلان نظرية الجبر ، وان الأعمال الصادرة عن الإنسان تصدر بالاختيار ، لا بالقهر والجبر ، كما تقدم التكلم في جملة منها في ضمن البحوث السابقة ، ولو كانت الشقاوة والسعادة ذاتيتين له بالمعنى المتقدم لكان مقهوراً في أعماله ومجبوراً فيها.

وأما السنة فقد نصت الروايات المتواترة على خطأ نظريتي الجبر والتفويض ، وإثبات نظرية الاختيار والأمر بين الأمرين. ومن الطبيعي ان فيها القضاء المبرم على هذه الفرضية. وأضف إلى ذلك ان هاتين الصفتين لو كانتا ذاتيتين بالمعنى المزبور لكان الأمر بالدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى ، وحسن العاقبة ، وان يجعله تعالى الشقي سعيداً لغواً محضاً كان مجرد لقلقة اللسان ، بداهة استحالة انقلاب الذاتي وتغييره عما يقتضيه ، اذن في نفس هذه الأدعية شاهد صدق على بطلانها.

فالنتيجة ان الذاتي بهذا المعنى غير معقول.

وان أراد بالذاتي الذاتي بمعنى الاقتضاء فهو وان كان أمراً ممكناً في نفسه ، وليس فيه القضاء الحاسم على أساس كافة النظم الإنسانية : المادية والمعنوية ، السماوية وغيرها ، وكما ليس على خلافه حكم العقل والوجدان

١١١

.....................................

__________________

ـ الا ان المستفاد من بعض الأدعية انهما ليستا بذاتيتين بهذا المعنى أيضاً ، وذلك لما ورد فيها من ان الشقي يطلب من الله تعالى ان يجعله سعيداً ، فلو كانت الشقاوة صفة ذاتية له ولازمة لذاته فكيف يعقل تغييرها وانقلابها إلى صفة أخرى وهي السعادة. ودعوى ان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صحيحة الكناني «الشقي من شقي في بطن أمه السعد من سعد في بطن أمه (١) وقوله «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، يدلان على ان السعادة والشقاوة صفتان ذاتيتان للإنسان خاطئة جداً ، وذلك اما صحيحة الكناني فلو كنا نحن وهذه الصحيحة ولم تكن قرينة خارجية على الخلاف لا مكن ان يقال بدلالتها على انهما صفتان ذاتيتان له ، ولكن حيث لا يمكن كونهما ذاتيتين على نحو العلة التامة فبطبيعة الحال تكونان على نحو الاقتضاء ، ولكن القرينة الخارجية قد منعتنا عن الأخذ بظاهرها وهي صحيحة ابن أبي عمير الواردة في بيان المراد منها قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الشقي من شقي في بطن أمه السعيد من سعد في بطن أمه فقال : «الشقي من علم الله (علمه الله) وهو في بطن أمه انه سيعمل إعمال الأشقياء والسعيد من علم الله (علمه الله) وهو في بطن أمه انه سيعمل إعمال السعداء (٢) فانها واضحة الدلالة على بيان المراد من تلك الصحيحة وإطار مدلولها ، وقد تقدم في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع ان العلم الأزلي لا يكون سبباً للجبر ومنشأ له. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان نفس هذه الصحيحة تدل على ان الشقاوة والسعادة صفتان عارضتان على الإنسان بمزاولة الأعمال الخارجية كسائر

__________________

(١) البحار ج ٥ ص ١٥٣

(٢) راجع نفس المصدر

١١٢

.....................................

__________________

ـ الملكات النفسانيّة الطيبة والخبيثة التي تحصل لنفس الإنسان من مزاولة الأعمال الحسنة والسيئة ، وليستا من الصفات الذاتيّة اللازمة لذاته منذ وجوده في هذا الكون أو انعقاده في الرحم.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انهما صفتان عارضتان المنتزعتان من الأعمال الخارجية.

وأضف إلى ذلك اننا إذا حللنا الإنسان تحليلا موضوعياً فلا نجد فيه غير الصفات المعروفة ، والملكات النفسانيّة ، والقوى الشهوانية ، والقوى العقلية صفة أخرى ذاتية له تسمى بصفة الشقاوة أو السعادة.

وبكلمة أخرى ان الإنسان لحظة تكونه في بطن أمه أو لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه اية صفة من الصفات والملكات النفسانيّة ، والقوى العقلية والشهوانية ما عدى حياته الحيوانية ، وتحصل هذه الصفات والملكات والقوى له بمرور الأيام وطول الزمن ، وبطبيعة الحال ان صفتي الشقاوة والسعادة لو كانتا ذاتيتين له لكان الإنسان واجداً لهما من تلك اللحظة وهو كما ترى. ومن هنا لا يصح إطلاق الشقي عليه منذ تلك اللحظة وكذلك السعيد. وعلى هذا الضوء فلا مناص من الالتزام بأنهما كسائر الملكات النفسانيّة تحصل لنفس الإنسان من مزاولة الأعمال الخارجية مثلا تحصل صفة الشقاوة لها من مزاولة الأعمال السيئة ، وصفة السعادة من مزاولة الأعمال الحسنة ، وليس لهما واقع موضوعي غير هذا.

وقد تحصل من ذلك ان هذا البيان التحليلي قرينة على حمل الصحيحة على ما ذكر آنفاً مع قطع النّظر عما ورد في تفسيرها وبيان المراد منها.

وأما رواية الثانية فهي لا تدل بوجه على انهما صفتان ذاتيتان للإنسان بداهة انها لا تتعرض لهما لا تصريحاً ولا تلويحاً فكيف تكون ناظرة إليهما ودالة على كونهما ذاتيتين ، بل هي ناظرة إلى اختلاف افراد الإنسان بحسب ـ

١١٣

(السادس) ان شيخنا المحقق (قده) قد أجاب عن هذه المسألة بجوابين.

(الأول) ان العقوبة والمثوبة ليستا من معاقب ومثيب خارجي ، بل هما من تبعات الأفعال ولوازم الأعمال ، ونتائج الملكات الرذيلة ، وآثار الملكات الفاضلة ، ومثل تلك العقوبة على النّفس لخطيئتها كالمرض العارض على البدن لنهمه ، والمرض الروحاني كالمرض الجسماني ، والأدوية العقلائية كالأدوية الجسمانية ، ولا استحالة في استلزام الملكات النفسانيّة الرذيلة للآلام الجسمانية والروحانية في تلك النشأة أي النشأة الأخروية ، كما انها تستلزم في هذه النشأة الدنيوية ، ضرورة ان تصور المنافرات كما يوجب الآلام النفسانيّة كذلك يوجب الآلام الجسمانية ، فاذن لا مانع من حدوث منافرات روحانية وجسمانية بواسطة الملكات الخبيثة النفسانيّة فالنتيجة ان العقاب ليس من معاقب خارجي حتى يقال : كيف يمكن صدور العقاب من الحكيم المختار على ما لا يكون بالاخرة بالاختيار ، وفي الآيات والروايات تصريحات وتلويحات إلى ذلك ، فقد تكرر في القرآن

__________________

ـ الملكات والكمالات النفسانيّة ، ومراتبها الدانية والعالية ، كاختلاف الذهب والفضة.

فالنتيجة من مجموع ما ذكرناه قد تبين ان القول بكون صفتي السعادة والشقاوة ذاتيتين للإنسان لا يخرج عن مجرد الفرض والخيال.

وأما النقطة الخامسة فقد ظهر خطاؤها من ناحيتين : (الأولى) ان الشقاوة ليست صفة ذاتية للإنسان ليكون في انتهاء العقاب إليها القضاء الحاسم على على قاعدة قبح العقاب على امر خارج عن الاختيار (الثانية) ان العقاب لا يعقل أن يكون من لوازم تلك الصفة على نحو العلة التامة ، بل هو من معاقب خارجي كما تقدم بشكل مفصل.

١١٤

الكريم (انما تجزون بما كنتم تعملون) وقوله عليه‌السلام «انما هي أعمالكم ترد إليكم». (الثاني) ان المثوبة والعقوبة من مثيب ومعاقب خارجي كما دل على ذلك ظاهر الكتاب والسنة ، وتصحيحهما بعد صحة التكليف بذلك المقدار من الاختيار في غاية السهولة ، إذ كما ان المولى العرفي يؤاخذ عبده على مخالفة امره ، كذلك مولى الحقيقي ، لوضوح أن الفعل لو كان بمجرد استناده إلى الواجب تعالى غير اختياري وغير مصحح للمؤاخذة لم تصح مؤاخذة المولى العرفي أيضاً ، وإذا كان في حد ذاته قابلا للمؤاخذة عليه فكون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة والاختيار لا يوجب انقلاب الفعل عما هو عليه من القابلية للمؤاخذة ممن حولف امره ونهيه.

وقد أجاب عن ذلك بجواب آخر وهو ان الحكم باستحقاق العقاب ليس من أجل حكم العقلاء به حتى يرد علينا إشكال انتهاء إلى ما لا بالاختيار بل نقول بان الفعل الناشئ عن هذا المقدار من الاختيار مادة لصورة أخروية ، والتعبير بالاستحقاق بملاحظة ان المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لإفاضة الصورة من واهب الصور. ومنه تعرف ان نسبة التعذيب والإدخال في النار إليه تعالى بملاحظة ان إفاضة تلك الصورة المؤلمة المحرقة التي تطلع على الأفئدة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب ، فلا ينافي القول باللزوم ، مع ظهور الآيات والروايات في العقوبة من معاقب خارجي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) من الأجوبة.

اما الأول فيرد عليه ما أوردناه على الجواب الأول حرفاً بحرف فلا نعيد : وأما الاستشهاد على ذلك بالآيات والروايات فغريب جداً ، لما سبق من ان الآيات والروايات قد نصتا على خلاف ذلك وأما قوله تعالى : (انما تجزون بما كنتم تعملون) فلا يكون مشعراً بذلك فضلا عن الدلالة

١١٥

ضرورة ان مدلوله جزاء الناس بسبب الأعمال الصادرة منهم في الخارج ، وأما كونه من آثارها ولوازمها التي لا تتخلف عنها فلا يدل عليه بوجه أصلا. وأما قوله عليه‌السلام «انما هي أعمالكم ترد إليكم» فظاهر في تجسم الأعمال ، ولا يدل علي ان العقاب ليس من معاقب خارجي ، بداهة انه لا تنافي بين الالتزام بتجسم الأعمال في الآخرة وكونه بيد الله تعالى وتحت اختياره.

واما الثاني فيرد عليه ما تقدم في ضمن البحوث السابقة من ان مجرد كون الفعل مسبوقاً بالإرادة لا يصحح مناط اختياريته رغم ان الإرادة بكافة مباديها غير اختيارية من ناحية ، وكونها علة تامة من ناحية أخرى ومنتهية الإرادة الأزلية من ناحية ثالثة ، بداهة ان الفعل والحال هذه كيف يعقل كونه اختيارياً. وعلى هذا الضوء فلا يمكن القول باستحقاق العقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب على الفعل الخارج عن الاختيار ، فاذن هذا الجواب لا يجدى في دفع المحذور المزبور.

وأما الثالث فهو مبتن على تجسم الأعمال وهو وان كان غير بعيد نظراً إلى ما يظهر من بعض الآيات والروايات الا ان مرده ليس إلى أن تلك الأعمال مادة لصورة أخروية المفاضة من واهب الصور على شكل اللزوم بحيث يستحيل تخلفها عنها ، بداهة ان التجسم بهذا المعنى مخالف صريح للكتاب والسنة حيث انهما قد نصا على ان العقاب بيده تعالى ، وله ان يعاقب وله ان يعفو.

وعلى الجملة فالمجيب بهذا الجواب وان كان يدفع مسألة قبح العقاب على الأمر الخارج عن الاختيار ، حيث ان العقاب على أساس ذلك صورة أخروية للأعمال الخارجية اللازمة لها الخارجة عن اختيار المعاقب الخارجي فلا يتصف بالقبح ، الا انه لا يعالج مشكلة لزوم لغوية بعث الرسل وأنزل الكتب

١١٦

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه في نهاية المطاف ان الالتزام باستحقاق العقاب من معاقب خارجي وحسنه لا يمكن الا على ضوء نظريتي الإمامية والمعتزلة. واما على ضوء نظريتي الأشاعرة والفلاسفة فلا يمكن حل هذه المشكلة الا بوجه غير ملائم لأساس الأديان والشرائع.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بعدة نتائج :

(الأولى) ان إرادته تعالى عبارة عن المشيئة وإعمال القدرة والسلطنة وهي فعله سبحانه وتعالى. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الشوق المؤكد لا يعقل ان يكون إرادة له تعالى. ومن ناحية ثالثة ان إرادته سبحانه ليست من الصفات العليا الذاتيّة. ومن ناحية رابعة ان الكتاب والسنة تنصان على ان إرادته تعالى فعله. ومن ناحية خامسة انه لا وجه لحمل الكتاب والسنة على بيان الإرادة الفعلية دون الذاتيّة كما عن الفلاسفة وجماعة من الأصوليين ، وذلك أولا لعدم الدليل علي كون إرادته تعالى ذاتية ، بل قد تقدم عدم تعقل معنى صحيح لذلك وثانياً ان في نفس الروايات ما يدل على نفي الإرادة الذاتيّة.

(الثانية) ان تفسير الإرادة بالعلم بالنظام الكامل التام من ناحية كما عن المحقق صاحب (الكفاية (قده) وبالرضا والابتهاج من ناحية أخرى كما عن شيخنا المحقق (قده) تفسير خاطئ لا واقع موضوعي له.

(الثالثة) ان تقسيم المشيئة إلى مشيئة ذاتية وهي عين ذاته تعالى وإلى مشيئة فعلية وهي الوجود الإطلاقي المنبسط كما عن الفلاسفة وشيخنا المحقق (قده) قد تقدم نقده بشكل موسع ، وقلنا هناك ان هذا التقسيم يقوم على أساس ان تكون نسبة الأشياء إلى ذاته الأزلية نسبة المعلول إلى العلة التامة من كافة الجهات والنواحي ، لا نسبة الفعل إلى الفاعل المختار. وقد سبق نقد هذا الأساس بصورة موضوعية ، وأقمنا البرهان على انه لا واقع له في أفعاله تعالى.

١١٧

(الرابعة) ان الأشاعرة قد استدلوا على الجبر بعدة وجوه. وقد تقدم المناقشة في تمام تلك الوجوه وبينا عدم دلالة شيء منها على ذلك.

(الخامسة) ان ـ ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري من ان عادة الله تعالى قد جرت على ان يوجد في العبد فعله مقارناً لإيجاد القدرة والاختيار فيه فيكون فعل العبد مخلوقاً له تعالى إبداعاً وإحداثاً ـ قد تقدم نقده بشكل موسع ، وقلنا هناك انه لا يرجع إلى معنى صحيح ، لا في المعاليل الطبيعية ، ولا في الأفعال الاختيارية.

(السادسة) المعروف بين الفلاسفة قديماً وحديثاً ان الأفعال الاختيارية بشتى أنواعها مسبوقة بالإرادة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنها إذا بلغت حدها التام تكون علة تامة لها ، وتبعهم على ذلك جماعة من الأصوليين. وقد تقدم المناقشة في ذلك بصورة مفصلة ، وأقمنا البرهان مضافاً إلى الوجدان ان الإرادة لا تعقل ان تكون علة تامة للفعل. هذا من جانب. ومن جانب أخر قد أثبتنا ان الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة باعمال القدرة والسلطنة.

(السابعة) ان قاعدة ـ ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ تختص بالمعاليل الطبيعية فلا تعم الأفعال الاختيارية ، وذلك لما بيناه هناك من ان تلك القاعدة تقوم على أساس مسألة التناسب التي هي الحجر الأساسي لمبدإ تأثير العلة الطبيعية في معلولها ، ولا مجال لها في إطار سلسلة الأفعال الاختيارية وقد ذكرنا الفرق الأساسي بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية في ضمن البحوث السالفة.

(الثامنة) ان الأفعال الاختيارية تصدر عن الإنسان بالاختيار وإعمال القدرة ، واما الاختيار فهو غير مسبوق باختيار آخر ، بل يصدر عن النّفس بالذات أي بلا واسطة.

١١٨

(التاسعة) ان شيخنا المحقق (قده) قد ناقش في الاختيار بعدة مناقشات ، وقد تعرضنا لتلك المناقشات واحدة بعد أخرى ، مع نقدها بصورة موسعة.

(العاشرة) ان افعال العباد لا يمكن أن تقع تحت إرادة الله تعالى ومشيئته مباشرة لوجهين قد تقدما منا ، وانما الواقع تحت إرادته سبحانه مبادئ تلك الأفعال.

(الحادية عشرة) ان علمه تعالى بوقوع افعال العباد في الخارج لا يوجب الجبر والاضطرار ، بداهة ان حقيقة العلم انكشاف الأشياء على ما هي عليه ولا يكون من مبادئ وقوعها. ومن هنا ذكرنا ان ما أفاده صدر المتألهين من ان علمه سبحانه سبب لوجوب وقوعها في الخارج والا لكان علمه جهلا وهو محال خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا.

(الثانية عشرة) ان ما ذهب إليه الفلاسفة من ان الذات الأزلية علة تامة للأشياء وانها بكافة أنواعها تصدر منها على ضوء مبدأ التناسب خاطئ جداً ولا واقع له. ومن هنا قد ناقشنا فيه بعدة مناقشات.

(الثالثة عشرة) ان المعتزلة قد استدلوا على إثبات نظريتهم (التفويض) باستغناء البقاء أي بقاء الممكن عن الحاجة إلى المؤثر بدعوى ان سر حاجة الممكن وفقره إلى العلة انما هو حدوثه ، وبعده فلا يحتاج إليها وقد تقدم نقد هذه النقطة بشكل موسع في الأفعال الاختيارية ، والمعاليل الطبيعية معاً ، وقد أثبتنا ان سر حاجة الممكن وفقره الذاتي إلى العلة انما هو إمكانه لا حدوثه.

(الرابعة عشرة) ان الصحيح المطابق للوجدان والواقع الموضوعي هو نظرية الأمر بين الأمرين في افعال العباد التي قد اختارت الطائفة الإمامية تلك النظرية بعد رفضها نظريتي الأشاعرة والمعتزلة فيها. وقد دلت

١١٩

على صحة تلك النظرية الروايات الكثيرة التي تبلغ حد التواتر من ناحية ، وعلى بطلان نظريتي الأشاعرة والمعتزلة من ناحية أخرى ، هذا مضافا إلى البراهين العقلية التي تقدمت.

(الخامسة عشرة) ان لأفعال العباد نسبتين حقيقيتين : إحداهما إلى فاعلها بالمباشرة وثانيتهما إلى الله تعالى باعتبار انه سبحانه معطي مقدماتها ومباديها آناً بعد آن بحيث لو انقطع الإعطاء في آن انتفت المقدمات.

(السادسة عشرة) يمتاز ارتباط المعلول بالعلة الطبيعية عن ارتباط الفعل بالفاعل المختار في نقطة ، ويشترك معه في نقطة أخرى. اما نقطة الامتياز فهي ان المعلول في العلل الطبيعية يرتبط بذات العلة ، والمعلول في الفواعل الإرادية يرتبط بمشيئة الفاعل وإعمال قدرته. واما نقطة الاشتراك فهي ان المعلول كما لا واقع موضوعي له ما وراء ارتباطه بذات العلة ويستحيل تخلفه عنها ، كذلك الفعل لا واقع له ما وراء ارتباطه بمشيئة الفاعل واختياره ويستحيل تخلفه عنها.

(السابعة عشرة) ان الآيات الكريمة كقوله تعالى (وما تشاءون الا ان يشاء الله) وما شاكله تدلنا على نظرية الأمر بين الأمرين وتصدق تلك النظرية ، ولا تدل على نظرية الجبر ، ولا على التفويض.

(الثامنة عشرة) ان ما أورده الفخر الرازي من الشبهة على خلقه تعالى العالم بالترتيب الموجود والشكل الحالي وعدم خلقه بترتيب آخر وشكل ثان قد تقدم نقده بشكل موسع على ضوء كلتا النظريتين يعني نظرية الفلاسفة ونظرية الاختيار.

(التاسعة عشرة) لا إشكال في صحة استحقاق العبيد للعقاب على مخالفة المولى واستقلال العقل بذلك على ضوء كل من نظريتي : الإمامية والمعتزلة ، وانما الإشكال في صحة استحقاقهم له على ضوء نظرية الأشاعرة

١٢٠