نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

لهم ، يكون ﴿بِأَنَّهُمْ قالُوا﴾ سرّا وخفية ﴿لِلَّذِينَ كَرِهُوا﴾ وأبغضوا ﴿ما نَزَّلَ اللهُ﴾ من القرآن ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله - قيل : هم اليهود الذين كرهوا نزول القرآن على محمد (١) - : ﴿سَنُطِيعُكُمْ﴾ ونوافقكم ﴿فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ الذي تتوقعون منّا.

قيل : إنّ المنافقين قالوا لليهود : إنّا نوافقكم في إنكار محمد وتكذيبه ، ولا نوافقكم في إظهار الكفر وإعلان أمرنا بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارنا ، وإنّما لم يوافقوهم في ذلك لما كان لهم في إظهار الايمان من المنافع الدنيوية (٢) .

وقيل : إنّ القائلين هم اليهود ، فانّهم قالوا للمشركين الذين كرهوا ما أنزل الله من القرآن الناطق بالتوحيد والرسالة والحشر : سنطيعكم في بعض الأمر ، وهو إنكار رسالة محمد وتكذيبه ، ولا نوافقكم في إنكار مطلق الرسالة والحشر وإشراك الأصنام بالله (٣) .

﴿وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ﴾ والأقاويل التي قالوها خفية. وقيل : يعني والله يعلم ما في قلوبهم من العلم بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصحّة ما أتى به من القرآن والدين ، فانّهم كانوا مكابرين معاندين (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام في تأويل هذه الآية ، قال : « فلان وفلان ارتدّوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام » .

قال : « نزلت والله فيهما وفي أتباعهما ، وهو قول الله عزوجل الذي نزل به جبرئيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ﴾ في عليّ ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ قال : دعوا بني امية إلى ميثاقهم أن لا يصيّروا هذا الأمر فينا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعطونا من الخمس شيئا ، وقالوا : إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شيء ، ولم يبالوا أن لا يكون الأمر فيهم. فقالوا : سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه ، وهو الخمس ، أن لا نعطيهم منه شيئا ، والذي نزّل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان معهم أبو عبيدة ، وكان كاتبهم » الخبر (٥) .

وعنهما عليهما‌السلام : « أنّهم بنوا امية ، كرهوا ما أنزل الله في عليّ عليه‌السلام »  (٦) .

﴿فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ

 اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٧) و (٢٨)

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥١٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥١٩.

(٣و٤) تفسير الرازي ٢٨ : ٦٧.

(٥) الكافي ١ : ٣٤٨ / ٤٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٨.

(٦) مجمع البيان ٩ : ١٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩.

٦٠١

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله : ﴿فَكَيْفَ﴾ حالهم ﴿إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ﴾ الموكّلون بقبض الأرواح ، وقبضوا أرواحهم.

قيل : إنّ المراد يفعلون في حياتهم ما يفعلون ، فكيف يفعلون إذا قبض روحهم الملائكة (١) . وقيل: يعني هب أنّهم يسرّون كفرهم ، والله لا يظهره في حياتهم ، فكيف يخفونه إذا قبض أرواحهم ملائكة (٢) العذاب حال كونهم ﴿يَضْرِبُونَ﴾ بمقامع الحديد أو النار ﴿وُجُوهَهُمْ﴾ التي أقبلوا بها إلى ما أسخط الله ، وحوّلوها عن الحقّ ﴿وَأَدْبارَهُمْ﴾ وأقفيتهم التي ولّوها عن أهله ، وعمّا فيه رضا ربهم.

﴿ذلِكَ﴾ التوفّي الهائل ، أو الضرب بالمقامع ﴿بِأَنَّهُمُ﴾ لخبث باطنهم ﴿اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ﴾ وأغضبه عليهم من الكفر والطغيان والمعاصي ﴿وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ﴾ وما يوجب حبّه لهم ورحمته عليهم من الايمان والطاعة ﴿فَأَحْبَطَ﴾ الله لذلك ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ الحسنة ، فلا يفيدهم شيء من نفقاتهم على الفقراء وإحسانهم إلى الناس ونظائرهما من الخيرات والمبرّات التي فعلوها حال إيمانهم ، أو حال كفرهم ، ولأنّهم لم يطلبوا بها رضا الله وطاعته ، بل طلبوا رضا الشيطان والأصنام وموافقة هوى أنفسهم.

عن الباقر عليه‌السلام في تأويله قال : « كرهوا عليا عليه‌السلام وقد أمر الله بولايته يوم بدر ، ويوم حنين ، وببطن نخلة ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، نزلت فيه خمس عشرة آية في الحجّة التي صدّ فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المسجد الحرام ، وبالجحفة ، وبخم »  (٣) .

القمي رحمه‌الله : ﴿ما أَسْخَطَ اللهَ﴾ يعني موالاة فلان وفلان وظالمي أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿فَأَحْبَطَ﴾ الله ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ يعني التي عملوها من الخيرات (٤) .

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ * وَلَوْ نَشاءُ

 لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ

 * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا

 أَخْبارَكُمْ (٢٩) و (٣١)

ثمّ بيّن الله سبحانه بعد تهديد المنافقين والكفّار علّة جرأتهم على ما هم عليه من النفاق بقوله : ﴿أَمْ حَسِبَ﴾ وبل توهّم المنافقون ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الشكّ وعناد الرسول والعصبية ﴿أَنْ لَنْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥١٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٦٧.

(٣) روضة الواعظين : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٠٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩.

٦٠٢

يُخْرِجَ اللهُ﴾ ولن يظهر للمؤمنين أبدا ﴿أَضْغانَهُمْ﴾ وأحقادهم وعداوتهم للرسول والمؤمنين ، فيبقى كفرهم وحقدهم لهم مستورا ، وهذا لا يمكن أبدا.

قيل : إن كلمة ( أم ) استفهامية متصلة ، والتقدير : أحسب الذين كفروا أن لن يعلم الله إسرارهم ، أم حسب المنافقون أن لن يظهرها الله (١) .

﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ إراءتهم ﴿لَأَرَيْناكَهُمْ﴾ ولعرفناكهم بأعيانهم وأشخاصهم بالأمارات والدلائل ﴿فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ﴾ وعلامات في وجوههم دالة على نفاقهم.

عن أنس ، قال : ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفينا تسعة من المنافقين ، يشك فيهم الناس ، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى وجه كل منهم مكتوب : هذا منافق (٢) .

﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ﴾ والله يا محمد ﴿فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ وفحوى كلامه ، واسلوب محاورته ، وصرف الكلام عن سننه الجارية عليه ، إما بازالة الإعراب ، أو التصحيف ، وإما بازالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى التعريض ، كقولهم : ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ(٣) أو المراد لتعرفنهم في معنى قول الله ، كقوله : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا(٤) وقيل : لحن القول : الوجه الخفي من القول الذي يعرفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيره (٥) .

﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَعْمالَكُمْ﴾ ظاهرها وباطنها ، فيجازيكم على حسب قصودكم ونياتكم.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « قلت أربع كلمات أنزل الله تصديقهن ، قلت : المرء مخبوء تحت لسانه ، فإذا تكلم ظهر ، فأنزل الله : ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ » (٦) .

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : لحن القول : بغض علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٧) .

﴿وَ﴾ بالله ﴿لَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ ولنختبرن إيمانكم بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ﴾ ونميزهم من غير المجاهدين ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ على مشاق الجهاد وسائر التكاليف ، وتميزوا من غير الصابرين والثابتين في المعارك من المولين والفارين ﴿وَنَبْلُوَا﴾ و

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٦٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٠.

(٣) المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٤) النور : ٢٤ / ٦٢.

(٥) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٠.

(٦) أما لي الطوسي : ٤٩٤ / ١٠٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩.

(٧) مجمع البيان ٩ : ١٦٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠.

٦٠٣

نمتحن ﴿أَخْبارَكُمْ﴾ بأنكم صادقون في الايمان ، وأنكم ثابتون في نزال الأعداء ، إنه صدق أو كذب.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ

 الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا

اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٢) و (٣٣)

ثم هدد سبحانه الكفار والمنافقين بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله في الباطن ، أظهر الايمان أو الكفر ﴿وَصَدُّوا﴾ ومنعوا انفسهم أو غيرهم ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والعمل بدين الاسلام ﴿وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾ وعاندوه وعارضوه ﴿مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ﴾ وو ضح ﴿لَهُمُ الْهُدى﴾ والحق من رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحة دينه ، بما شاهدوا من معجزاته ونعوته في الكتاب السماواة. قيل : اريد منهم بنو قريظة والنضير من اليهود ، ورؤساء قريش المطعمون يوم بدر ، أولئك (١)﴿لَنْ يَضُرُّوا اللهَ﴾ تعالى بكفرهم وصدهم وشقاقهم مع الله بشقاقهم مع الرسول ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الضرر ، بل يضرون أنفسهم أشد الضرر ﴿وَسَيُحْبِطُ﴾ الله ويبطل البتة ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ ومكائدهم في إطفاء نور الحق ، واضمحلال كلمة التوحيد ، وإبطال دين الاسلام.

وقيل : إن المراد من الذين كفروا خصوص أهل الكتاب ومن أعمالهم الخيرية التي كانوا يعملونها قبل الكفر برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

ثم لما بين سبحانه أن الكفر ومشاقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب بطلان الأعمال الخيرية ، حث المؤمنين على طاعة الله ورسوله ، والتحذير عن إبطال الأعمال بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ في جميع ما أمراكم به ونهياكم عنه ﴿وَلا تُبْطِلُوا﴾ بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرياء والسمعة والعجب ﴿أَعْمالَكُمْ﴾ كما أبطل الكفار بالكفر ومشاقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أعمالهم. وقيل : إن المعنى لا تبطلوا بالشرك أعمالكم (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام. قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش : يا رسول الله ، إن شجرنا في الجنة كثير ؟ فقال : نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أن الله تعالى

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٧١.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٢.

٦٠٤

يقول : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ﴾ » (١) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ *

 فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ

 أَعْمالَكُمْ (٣٤ و) (٣٥)

ثم إنه تعالى بعد بيان بطلان أعمالهم الخيرية وعدم فائدتها لهم ، بين عدم العفو عن ذنوبهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا﴾ وخرجوا من الدنيا ﴿وَ﴾ الحال أن ﴿هُمْ كُفَّارٌ﴾ حين موتهم ﴿فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ ذنوبهم التي اقترفوها في الدنيا ، كثيرة كانت أو صغيرة ، لعدم أهليتهم للمغفرة والرحمة ، فاذا علمتم أن الله يعادي الكفار ، ولا يقبل أعمالهم الخيرية ، ولا يغفر ذنوبهم ، ولا يرحمهم ﴿فَلا تَهِنُوا وَ﴾ لا تتوانوا في قتالهم ، ولا تضعفوا في جهادهم ، بل جدوا واجتهدوا فيه ، ولا تجعلوا المشاغل الدنيوية مانعة عنه ، ولا ﴿تَدْعُوا﴾ هم ﴿إِلَى السَّلْمِ وَ﴾ الصلح. ولا تسئلوا منهم متاركة القتال ، فان فيه ذلكم ، والحال ﴿أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ والغالبون عليهم.

ثم بين سبحانه علة علوهم وغلبتهم بقوله : ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ﴾ وناصركم في الدارين ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ﴾ ولن يضيع ﴿أَعْمالَكُمْ﴾ بل يعطيكم أجرها فوق ما تتوقعون ، فيكون لكم في جهادهم شرف الدنيا وثواب الآخرة ، فلا ينبغي لمن له عقل أن يتهاون فيه.

لما بين سبحانه أن الغلبة على الكفار بنصرة الله لا بقوتهم وشوكتهم ، كان مجال أن يتوهم أن أجر جهادهم ينقص بسبب كون الغلبة بنصرته تعالى ، فدفعه سبحانه وقال : لم ينقص أجر جهادكم بسبب نصرته ، بل يعطيكم أجركم كاملا (٢) .

قيل : إن الآية ناسخة لقوله ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها(٣) وفيه : أنه لا تنافي بين الحكمين ، فان الآية ظاهرة في حرمة طلب المسلمين الصلح مع الكفار أولا ، والآية الاخرى إذن في إجابة الكفار إن طلبوا الصلح ، فان في طلب الصلح منهم ذل ومهانة للمسلمين (٤) ، وفي إجابة دعائهم إلى الصلح شرف وكرامة لهم.

﴿إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ

 أَمْوالَكُمْ * إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٦) و (٣٧)

__________________

(١) ثواب الأعمال : ١١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٣.

(٣) الأنفال : ٨ / ٦١.

(٤) تفسير القرطبي ١٦ : ٢٥٦.

٦٠٥

ثم بالغ سبحانه في حث المؤمنين على الجهاد ببيان مهانة الدنيا وعظمة أجر الآخرة بقوله : ﴿إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ والعمر فيها والاشتغال بزخارفها وزينتها ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ وباطل وعمل سفهائي عند العقلاء وأهل البصيرة ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ أيها الناس بما يجب الايمان به ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الكفر والعصيان ومخالفة أحكام الله ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ الله ﴿أُجُورَكُمْ﴾ ومثوبات أعمالكم الصالحة من الايمان والتقوى في الآخرة ، كما وعدكم به ﴿وَلا يَسْئَلْكُمْ﴾ الله ﴿أَمْوالَكُمْ﴾ جميعا ، فتتضررون في الدنيا بسبب الايمان والتقوى ، ويختل معاشكم ، حتى يصير الضرر مانعا من الايمان والتقوى ، وإنما يسألكم جزءا يسيرا منها بعنوان الزكاة كالعشر ونصف العشر.

وقيل : إن المراد لا يسألكم أموالكم لأنه ليس لكم مال ، بل جميع ما في ايديكم مال الله ، أو دعه عندكم ، وأجازكم في صرفه في محاويجكم تفضلا عليكم ، فلا ينبغي أن تمتنعوا عن صرفه فيما أمركم مالكه بصرفه (١) .

ثم قرر سبحانه لطفه بالمؤمنين بأن لم يرض بضررهم وحرجهم وفساد باطنهم وضمائرهم بقوله : ﴿إِنْ يَسْئَلْكُمُوها﴾ ويأمركم بصرفها ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ ويجهدكم بأمركم بصرف الكل في سبيله ﴿تَبْخَلُوا﴾ وتمتنعوا عن صرف الكل ﴿وَيُخْرِجْ﴾ الله بسبب ذلك الأمر والسؤال أو البخل ﴿أَضْغانَكُمْ﴾ وأحقادكم الحادثة بذلك السؤال ، فان ابن آدم ينقم ويبغض من يطمع في ماله ، ويوقعه في الضرر ، ولذا لم يسالكم جميع أموالكم.

﴿ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما

 يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ

 لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)

ثم وبخهم سبحانه على بخلهم بصرف اليسير من أموالهم بقوله تعالى : ﴿ها أَنْتُمْ﴾ وتنبهوا أيها المؤمنون بأنكم ﴿هؤُلاءِ﴾ البخلاء الذين ﴿تُدْعَوْنَ﴾ من قبل الله ﴿لِتُنْفِقُوا﴾ يسيرا من أموالكم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وترويج دينه ، واعانة أوليائه ﴿فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ﴾ ويمتنع ببخله عن الانفاق ، والحال أن ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ﴾ بماله على الفقراء والمجاهدين وسائر الوجوه البرية ﴿فَإِنَّما يَبْخَلُ﴾ ويمسك الخير ﴿عَنْ نَفْسِهِ وَ﴾ يحرم من منافعه.

﴿اللهِ﴾ تعالى هو ﴿الْغَنِيُ﴾ بذاته عنكم وعن أموالكم وصدقاتكم ﴿وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ﴾ إليه وإلى ما

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٤.

٦٠٦

عنده من الخيرات ، فما يأمركم به هو عين خيركم وصلاحكم ، وفائدته راجعة إليكم.

ثم هدد سبحانه العصاة والمخالفين بقوله : ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ وتعرضوا عن الايمان والطاعة والانفاق يهلككم و﴿يَسْتَبْدِلْ﴾ ويخلف في أرضكم ومساكنكم ﴿قَوْماً﴾ آخرين وجماعة ﴿غَيْرَكُمْ﴾ يعيشون في دياركم ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ﴾ في العصيان والإعراض عن الايمان والطاعة ، بل يكونون مؤمنين مجدين في التقوى والطاعة.

قيل : إن كلمة ( ثم ) دالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب (١) .

قيل : إن المخاطب قريش ، والبدل الأنصار. وقيل : إن المخاطب العرب ، والبدل أهل فارس (٢) ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن القوم وسلمان كان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : « هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس » (٣) ، ورواه ( المجمع ) أيضا ، وفيه فضيلة عظيمة لأهل فارس (٤) .

وفي الحديث : « خيرتان من خلقه في أرضه : قريش خيرة الله من العرب ، وفارس خيرة الله من العجم » (٥) .

وعن أبي الدرداأ أنه كان يقول بعد قراءة هذه الآية : أكثروا يا بني فروح (٦) . قيل : إن فروح إن فروح كتنور ، أخو إسماعيل وإسحاق ، أبو العجم الذين في وسط البلاد (٧) .

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : ﴿إِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ يا معشر العرب ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ يعني الموالي »(٨).

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٦.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٦.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٦ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٣ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٦.

(٤) مجمع البيان ٩ : ١٦٤.

(٥-٧) تفسير روح البيان ٨ : ٥٢٦.

(٨) مجمع البيان ٩ : ١٦٤ ، عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢.

٦٠٧
٦٠٨

في تفسير سورة الفتح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)

ثم لما ختمت سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتضمنة لبيان فضيلة المؤمنين به باتباعهم دينه الحق ، وتفضله عليهم بتكفير ذنوبهم وإصلاح امور دينهم ودنياهم ، وأمرهم بنصرته ، والانفاق في ترويج دينه ، والجهاد لإعلاء كلمته ودفع أعدائه ، والبشارة بغلبتهم على الكفار ، نظمت سورة الفتح المبدوءة ببشارة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح مكة أو الحديبية ، ونصرته على أعدائه ، الموقوف على ثبات المؤمنين في نصره ، والانفاق في الجهاد معه ، وبغفران ذنوبه ، وسائر تفضلاته عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المؤمنين به ، فافتتحها عزوجل بذكر أسمائه الحسنى على دأبه تعالى تيمنا وتعليما للعباد و المؤمنين بقوله تعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثم ابتدئها بالبشارة بقوله : ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ﴾ يا محمد ، مكة وغلبناك على أهلها ، وظفرناك بها عنوة ﴿فَتْحاً﴾ وظفرا ﴿مُبِيناً﴾ ظاهرا ، مكشوف الحال لكل أحد ، إنه بقدرتنا وتأييدنا.

عن أنس بشر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند انصرافه من الحديبية ، وإنما أتى سبحانه بصيغة الماضي إيذانا تحقق وقوعه (١) .

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لقد نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا وما فيها » (٢) .

وفي روآية اخرى : « لقد نزلت علي سورة ما يسرني بها حمر النعم » (٣) .

وفي ثالثة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : « انزلت علي سورة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس » (٤) ثم قرأ السورة عليهم ، وهنأهم وهنأوه ، وفي الآية والروآيات دلالة واضحة على عظمة شأن هذا الفتح الذي

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٣ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٦٥ ، وفيه : الدنيا كلها ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣.

(٣) تفسير القرطبي ١٦ : ٢٦٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٦ و٧.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٦.

٦٠٩

فيه قوة الإسلام ورواج شرعه.

روت العامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في المنام أنه مع أصحابه دخلوا مكة آمنين محلقين رؤسهم ومقصرين ، وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه ، وطائف هو وأصحابه واعتمر ، فأخبر بتلك الرؤيا أصحابه ففرحوا ، ثم أخبرهم أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر ، فخرج عليه الصلاة [ والسلام ] بعد أن اغتسل في بيته ، ولبس ثوبين ، وركب راحلته القصوى من عند بابه ، ومعه ألف وأربعمائة من المسلمين على روآية ، وأبطأ عليه كثير من أهل البواد خشية من قريش ، وسائق عليه‌السلام معه الهدي سبعين بدنة (١) ، وكان خروجه يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة ، فلما وصل إلى ذي الحليفة (٢) ، وهو ميقات المدنيين ، صلى بالمسجد الذي فيه ركعتين ، وأحرم بالعمرة هو وغالب أصحابه ، ومنهم من أخر الإحرام إلى الجحفة (٣) ، ثم نفد الماء في الطريق بين أصحابه ، فأقبلوا نحوه ، وكان بين يديه ركوة (٤) يتوضأ منها ، فقال : « ما لكم ؟ » قالوا : يا رسول الله. ليس عندنا ماء نشرب أو نتوضأ منه إلا في ركوتك. فوضع يده في الركوة ، ففار الماء من أصابعه الشريفة أمثال العيون ، فشربوا وتوضأوا ، وقال جابر : لو كنا مائة ألف لكفانا (٥) .

ثم أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله بشر بن سفيان إلى مكة عينا له ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بعسفان (٦) ، قال : يا رسول الله ، قد سمعت قريش بخروجك ، فلبسوا النمر - قيل : هو كناية عن إظهار شدة العداوة والحقد له - واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش ، ومعهم زادهم ونساؤهم وأولادهم ، ونزلوا بذي طوى (٧) ، وتعاهدوا على أن لا تدخلها عليهم أبدا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أشيروا علي - أيها الناس - أتريدون أن نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ » فقال المقداد : يا رسول الله ، إنا لا نقول ما قالت بنو إسرائيل لموسى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ(٨) ولكن نقول : اذهب أنت وربّك [ فقاتلا ] إنا معكما مقاتلون. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « امضوا على اسم الله » فساروا.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هل رجل [ يخرجنا ] من طريق إلى غير طريقهم التي هم بها » فقال رجل من أسلم اسمه ناجية بن جندب : أنا يا رسول الله. فسلك بهم طريقا وعرا ، ثمّ أفاضوا إلى أرض سهلة.

__________________

(١) البدنة : ناقة أو بقرة تنح قربانا بمكّة.

(٢) ذو الحليفة : قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة.

(٣) الجحفة : قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكة على أربعة مراحل.

(٤) الرّكوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٣.

(٦) عسفان : منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة.

(٧) ذو طوى : موضع عند مكة.

(٨) المائدة : ٥ / ٢٤.

٦١٠

ثمّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآلهأن يسلكوا طريقا يخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكّة ، فسلكوا ذلك الطريق ، فلمّا نزلوا بالحديبية نزح (١) ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ماء ، فشكا الناس إلى رسول الله العطش ، وكان الحرّ شديدا ، فأخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله سهما من كنانته ، ودفعه إلى البراء بن عازب ، وأمره أن يغرزه في جوف البئر (٢) - وقيل : تمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ مجّه في البئر - فجاش الماء حتى امتلأت البئر ، فشربوا جميعا ، وروت إبلهم ، ولم ينفد ماؤها (٣) .

وقيل : لمّا ارتحلوا من الحديبية أخذ البراء السّهم من البئر ، فخفضت كأن لم يكن فيها ماء.

فلمّا أطمأن صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديبية ، جاءه بديل بن ورقاء ، وكان سيد قومه ، فسأله ما الذي جاء به ؟ فأخبره أنّه لم يأت يريد حربا ، إنّما جاء زائرا للبيت ، فلمّا رجع إلى قريش وأخبرهم بما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يطمئنوا بقوله ، ثمّ أرسلوا الحليس بن علقمة ، وكان سيد الأحابيش ، فلم يعتمدوا عليه أيضا ، فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي عظيم الطائف ، فلمّا قام بالخبر من عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يغسل يديه إلّا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، ولا يحدّون النظر إليه تعظيما له.

فقال : يا معشر قريش ، إنّي جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه ، أخاف أن لا تنصروا عليه.

فقالت له قريش : لا تتكلّم بهذا يا أبا يعفور ، لكن نردّه عامنا هذا ، أو يرجع من قابل. فقال : ما أراكم إلا سيصيبكم قارعة ، ثمّ انصرف هو ومن معه إلى الطائف.

ثمّ دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش ، وحمله على بعير له ، يقال له الثعلب ، ليبلّغ اشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فخلّوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بما لقي.

ثمّ دعا عمر بن الخطاب ، وأمره أن يبلّغ أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إنّي أخاف قريشا على نفسي ، وما بمكّة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلّك على رجل أعزّ بها منّي ؛ عثمان بن عفان ، فانّ بني عمّه يمنعونه.

فدعا عثمان ، فبعثه إلى أشراف قريش ، وأمره أن يأتي رجالا مسلمين بمكّة ونساء مسلمات ، ويدخل عليهم ويخبرهم أنّ الله قرب أن يظهر دينه بمكّة حتى لا يستخفى فيها بالايمان ، فخرج

__________________

(١) يقال : نزح البئر : قل ماؤها أو نفد.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٤.

٦١١

عثمان إلى مكّة ومعه عشرة رجال من الصحابة بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليزوروا أهاليهم هناك ، فلقي عثمان قبل أن يدخل مكّة أبان بن سعيد ، فأجاره حتى يبلّغ رسالته ، وجعله بين يديه ، فأتى عظماء قريش ، فبلّغهم الرسالة ، وهم يقولون : إنّ محمدا لا يدخل علينا أبدا.

فلمّا فرغ عثمان من الرسالة ، قالوا له : إن شئت فطف بالبيت ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله. وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ عثمان ومن معه قتلوا كلّهم ، فقال : « لا نبرح حتى نناجز القوم » فأمره الله بالبيعة ، فنادى مناديه : أيّها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فاخرجوا على اسم الله ، فثاروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو تحت شجرة من أشجار السّمر (١) ، فبايعوه على عدم الفرار ، وقالوا لها بيعة الرّضوان (٢) .

أقول : لعلّ وجه التسمية أنّ الله قال : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ(٣) .

وأول من بايع سنان بن سنان الأسدي ، فقال : يا رسول الله ، ابايعك على ما في نفسك. قال : « وما في نفسي ؟ » قال : أضرب بسيفي حتى ينصرك الله أو اقتل ، وصار الناس يقولون : نبايعك على ما بايعك عليه سنان (٤) . وروي أن عثمان رجع بعد ثلاثة أيام ، فبايع هو أيضا.

وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعثت قريش أربعين رجلا ، عليهم مكرز بن حفص ، ليطوفوا بعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلا ، رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، ويجدوا منهم غفلة ، فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرز فانّه أفلت ، وأتى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحبسوا ، فبلغ قريشا حبس أصحابهم ، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنّبل والحجارة ، وقتل من المسلمين ابن رسم رمي بسهم ، فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.

وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله جمعا فيهم سهيل بن عمرو ، فلمّا رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تفاءل ، وقال لأصحابه : « سهل أمركم » فقال سهيل : يا محمد ، إنّ ما كان من حبس أصحابك ، وما كان من قتال من قاتل ، لم يكن من رأي ذوي رأينا ، بل كنّا كارهين له حين بلغنا ، وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا أصحابنا الذين اسروا أولا وثانيا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إني لا ارسلهم حتى ترسلوا أصحابي » فقالوا : نفعل فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك ، فبعثت قريش عثمان والعشرة ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابهم.

ولمّا سمعت قريش بهذه البيعة ، كبرت عليهم ، وخافوا أن يحاربوا ، وأشار أهل الرأي منهم بالصّلح

__________________

(١) السّمر : ضرب من شجر الطّلح ، واحدته سمرة.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤.

(٣) الفتح ٤٨ / ١٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٥.

٦١٢

على أن يرجع ويعود من قابل ، ويقيم ثلاثا ، فبعثوا سهيلا ومكرز أو حويطب بن عبد العزّى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للصّلح ، فلمّا رآه مقبلا قال : « أراد القوم الصّلح » فلمّا أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الصّلح لم يرض بعض الأصحاب به ، وقالوا : علام نعطي الدنية في ديننا ، ونحن المسلمون ، وهم مشركون ؟ فأشار صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرضا ومتابعة الرسول.

ثمّ دعا عليا عليه‌السلام ، فقال : « اكتب بسم الله الرحمن الرحيم » . فقال سهيل : لا نعرف هذه ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فكتبها لأنّ قريشا كانت تقولها.

ثمّ قال : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو » . فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك ، ولم اصدّك عن البيت ، ولكن اكتب اسمك وأسم أبيك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « امح رسول الله » . فقال علي عليه‌السلام : « والله لا أمحوك ». فقال : « أرنيه » فأراه إياه ، فمحاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده الشريفة ، وقال : « اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو » وقال : « أنا والله رسول الله ، وإن كذّبتموني » .

وكان الصّلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، ومن أتى من قريش ممّن هو على دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير إذن وليه ردّه إليه ذكرا كان أم انثى ، ومن أتى قريشا ممّن كان مع محمدا ذكرا كان أو انثى لم ترده إليه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وأنّ بيننا وبينكم عيبة مكفوفة (١) ، لا إسلال ولا إغلال (٢) ، وأنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يرجع عامة هذا ، فلا يدخل مكّة ، وإذا كان عام قابل خرج منها قريش ودخلها محمد بأصحابه ، وأقاموا بها ثلاثة أيام معهم سلاك الراكب السيوف في القرب والقوس ، لا يدخلونها بغيرهما.

فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصّلح ، وأشهد عليه رجالا من المسلمين ، قام إلى هدية فنحره ، وفرّق لحمه على الفقراء ، فلمّا رأى المسلمون الصّلح وما تحملّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دخلهم من ذلك أمر عظيم ، وكانوا لا يشكّون في دخولهم مكّة وطوافهم بالبيت ذلك العام للرؤيا التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال عمر : ألم تقل إنّك تدخل مكة آمنا ؟ قال : بلى ، أفقلت لكم من عامي هذا ؟ قال المسلمون : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فهو كما قال جبرئيل ، إنّكم تأتونه وتطوفون به »  (٣) .

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا دخل في العام القابل ، وحلق رأسه ، قال : « هذا الذي وعدتكم » فلمّا كان يوم

__________________

(١) أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة. أو منطوية على الوفاء بالصلح.

(٢) أي لا سرقة ولا خيانة.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٥.

٦١٣

الفتح وأخذ المفتاح قال : « هذا الذي قلت لكم » (١) .

أقول : يعلم من تلك الرواية حال عمر وحال كثير من الأصحاب وحال بيعتهم هنا من فرار أكثرهم يوم حنين.

قيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام بالحديبية تسعة عشر أو عشرين يوما ، ثمّ انصرف إلى المدينة ، فلمّا بلغ بكراع الغميم (٢) نزلت عليه سورة الفتح ، قال بعض الصحابة : ما هو بفتح ، لقد صدّونا عن البيت ، وصدّوا هدينا ، فلمّا بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلامهم السوء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل هو أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح (٣) عن بلادهم ، وسألوكم الصّلح ، والتجأوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا ، وظفركم الله عليهم ، وردّكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتوح ، أنسيتم يوم احد ، وأنا أدعوكم في اخراكم ؟ أنسيتم يوم الأحزاب ، إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؟ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنّون بالله الظنونا ؟ » .

فقال المسلمون : صدق الله ورسوله ، هو أعظم الفتح ، والله يا نبي الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وبأمره.

ثمّ أصاب الناس مجاعة شديدة ، وهمّوا أن ينحروا ظهورهم (٤) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ابسطوا أنطاعكم وعباءكم » ففعلوا ثمّ قال : « من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينشره » ثمّ دعا لهم ، ثمّ قال : « قرّبوا أوعيتكم » فأخذوا ما شاءوا ، ملأوا أوعيتهم ، وأكلوا حتى شبعوا ؟ وبقي مثله ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل من أصحابه : « هل من وضوء ؟ » (٥) فجاءه بأداوة فيها ماء قليل ، فأفرغها في قدح ، ووضع راحلته الشريفة في ذلك الماء ، فتوضأ المسلمون كلّهم به (٦) .

وروى القمي رحمه‌الله عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم ، أنّ الله عزوجل أمر رسوله في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ، ويحلق مع المحلّقين ، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا ، فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وساقوا البدن ، وساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ستة وستين بدنة ، وأشعرها عند إحرامه ، أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة ، وقد ساق من ساق منهم الهدي مشعرات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشا ذلك ، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا ، ليستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٧.

(٢) كراع الغميم : موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة.

(٣) البراح : الزوال والمغادرة.

(٤) أي الدوابّ التي يركبونها أو تحمل أثقالهم.

(٥) الوضوء - بالفتح - : الماء.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٦ و٧.

٦١٤

يعارضه على الجبال ، فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر ، فأذّن بلال ، فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، فقال خالد بن الوليد ، لو حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فانّهم لا يقطعون صلاتهم ، ولكن تجبيء لهم صلاة اخرى أحب إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصلاة الخوف.

فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديبية ، وهي على طرف الحرم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستنفر الأعراب في طريقه معه ، فلم يتبعه أحد ، ويقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ، إنّه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبدا.

فلمّا نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحديبية ، خرجت قريش يحلفون باللات والعزّى لا يدعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدخل مكّة وفيهم عين تطرف ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: أنّي لم آت للحرب ، وإنّما جئت لأقضي مناسكي ، وأنحر بدني ، واخلّي بينكم وبين لحماتها.

فبعثوا عروة بن مسعود الثقفي ، وكان عاقلا لبيبا ، وهو الذي أنزل الله فيه : ﴿وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ فلمّا أقبلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عظّم ذلك ، وقال : يا محمد ، تركت قومك وقد ضربوا الأبنية ، وأخرجوا العوذ المطافيل (١) ، يحلفون باللات والعزّى لا يدعوك تدخل مكّة وفيهم عين تطرف ، أفتريد أن تبير أهلك وقومك يا محمد ؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما جئت للحرب ، وإنّما جئت لاقضي مناسكي ، وأنحر بدني ، وأخلّي بينهم وبين لحماتها. فقال عروة : والله ما رأيت أحدا صدّكما صددت.

فرجع إلى قريش ، فأخبرهم ، فقالت قريش : والله لئن دخل محمد مكّة ، وتسامعت به العرب ، لنذلنّ ولتجترئنّ علينا العرب. فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو ، فلمّا نظر إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ويح قريش ، قد نهكتهم الحرب ، ألا خلّوا بيني وبين العرب ، فإن أك صادقا فانّما أجر الملك إليهم مع النبوة ، وإن أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب ، لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطّة لله فيها رضى (٢) إلّا أجبتهم إليه.

فلمّا وافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قالوا : يا محمد ، ألا ترجع عامك هذا إلى أن ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر العرب ، فانّ العرب تسامعت بمسيرك ، فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ، ونخلي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنّا.

__________________

(١) العوذ : الحديثة العهد بالنتاج من الابل والخيل ، والمطافيل : ذوات الطفل.

(٢) في المصدر ، وتفسير الصافي : سخط.

٦١٥

فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك.

وقالوا : تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا ، ونردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيهم ، ولكن على أنّ المسلمين بمكة لا يؤذون في إظهارهم الاسلام ، ولا يكرهون ، ولا ينكرون عليهم شيئا يفعلونه من شرائع الاسلام ، فقبلوا ذلك.

فلمّا أجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الصّلح أنكر عامة أصحابه ، واشدّ ما كان إنكار عمر ، فقال : يا رسول الله ، ألسنا على الحقّ ، وعدوّنا على الباطل ؟ قال نعم. قال : فنعطى الذلّة في ديننا ؟ فقال : إنّ الله عزوجل وعدني ولن يخلفني. قال : لو أنّ معي أربعين رجلا لخالفته.

ورجع سهيل بن عمر وحفص بن الأحنف إلى قريش ، وأخبراهم بالصّلح ، فقال عمر : يا رسول الله ، ألم تقل لنا : إنّا ندخل المسجد ونحلق مع المحلّقين ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمن عامنا هذا وعدتك ؟ قلت لك : إنّ الله عزوجل قد وعدني أن أفتح مكة وأطوف وأسعى وأحلق مع المحلّقين فلمّا أكثروا عليه قال لهم : إن لم تقبلوا الصّلح فحاربوهم ، فمرّوا نحو قريش وهم مستعدون للحرب ، وحملوا عليهم ، فانهزم أصحاب رسول الله ثمّ قال : يا علي ، خذ السيف واستقبل قريشا ، وأخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام سيفه ، وحمل على قريش ، فلمّا نظروا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام تراجعوا ، ثمّ قالوا : يا علي ، بدا لمحمد فيما أعطانا. قال : لا.

وتراجع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستحيين ، وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألستم أصحابي يوم بدر ، وأنزل الله عزوجل فيكم ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ؟(١) ألستم أصحابي يوم احد ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ؟(٢) ألستم أصحابي يوم كذا ؟ فاعتذروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وندموا على ما كان منهم ، وقالوا : الله أعلم ورسوله ، فاصنع ما بدا لك.

ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالا : يا محمد ، قد أجابت قريش إلى ما أشترطت من إظهار الإسلام ، وأن لا يكره أحد على دينه. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمكتب (٣) ، ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال له : اكتب ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل بن عمرو : لا نعرف الرحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك : باسمك اللهمّ. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اكتب باسمك اللهم ، فانّه اسم من أسماء الله ، ثمّ كتب : هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والملأ من قريش. فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا أنّك رسول الله ما حاربناك ، أكتب : هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله ،

__________________

(١) الأنفال : ٨ / ٩.

(٢) آل عمران : ٣ / ١٥٣.

(٣) المكتب : قطعة أثاث يجلس عليها للكتابة.

٦١٦

أتانف من نسبك يا محمد ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا رسول الله ، وإن لم تقرّءوا. ثمّ قال : يا علي امح واكتب : محمد بن عبد الله. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أمحو اسمك من النبوة أبدا ، فمحاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده ، ثمّ كتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله والملأ من قريش ، وسهيل بن عمرو ، اصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، وعلى أن يكفّ بعض من بعض ، وعلى أنّه لا إسلال ولا إغلال ، وأنّ بيننا وبينهم عيبة مكفوفة ، وأن من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنه من أتى محمدا بغير إذن وليه ردّه إليه ، وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم تردّه إليه ، وأن يكون الاسلام ظاهرا بمكة ، ولا يكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ولا يعيّر ، وأنّ محمدا يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثمّ يدخل عليها في العام القابل مكّة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليها بسلاح إلّا سلاح المسافر : السيوف في القرب. وكتب علي بن أبي طالب وشهد على الكتابة المهاجرون والأنصار.

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فو الذي بعثني بالحقّ نبيا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض (١) مضطهد ، فلمّا كان يوم صفيّن ورضوا بالحكمين ، كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاويه بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله ، أخبرني رسول الله بذلك.

قال : فلمّا كتبوا الكتاب قامت خزاعة ، فقالت : نحن في عهد محمد رسول الله وعقده ، وقامت بنو بكر وقالت : نحن في عهد قريش وعقدها ، وكتبوا نسختين : نسخة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسخة عند سهيل بن عمر ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انحروا بدنكم ، واحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا وقالوا : ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ، ولم نسع بين الصفا والمروة ؟ ! فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك ، وشكا ذلك عند امّ سلمة ، فقالت : يا رسول الله ، انحر أنت واحلق. فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحلق ، فنحر القوم على حيث يقين وشكّ وارتياب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيما للبدن : رحم الله المحلّقين. وقال : قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله ، والمقصّرين ؟ لأنّ من يسق هديا لم يجب عليه الحلق. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانيا : رحم الله المحلّقين الذين لم يسوقوا البدن. فقالوا : يا رسول الله ، والمقصّرين ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله المقصّرين.

ثمّ رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو المدينة ، فرجع إلى التنعيم بمنزل تحت الشجرة ، فجاء اصحابه الذين

__________________

(١) مضّ فلان من الشيء : ألم من وجع المصيبة ، وأمضّه الشيء : بلغ من قلبه الحزن به ، أي أحرقه وشقّ عليه.

٦١٧

انكروا عليه الصّلح ، واعتذروا وأظهروا الندامة على ما كان منهم ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستغفر لهم ، فنزلت آية الرّضوان (١) .

قال جمع من المفسرين : إنّ المراد بالفتح هو فتح الحديبية (٢) ، كما هو مدلول الروايتين السابقتين العامية والصادقية.

وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم (٣) . وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوا الصّلح (٤) .

وعن الشّعبي : أنّ السورة نزلت بالحديبية ، وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك العزوة ما لم يصب في غزوة ، حيث أصاب أن بويع بيعة الرّضوان ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح به المسلمون (٥) .

وعن مجاهد : أنّه ما حصل له في تلك السنة من فتح خيبر (٦) . وقيل : هو جميع الفتوحات التي حصلت له صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) .

وقيل : هو ما فتح من الاسلام والنبوة والدعوة بالحجّة والسيف ، ولا فتح أبين وأعظم منه ، وهو رأس الفتوح كافّة ، إذ لا فتح من فتوح الاسلام إلّا وهو شعبة من شعبه وفرع من فروعه (٨) .

وعن قتادة : أنّه بمعنى الحكم والقضاء ، والمعنى أنّا قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل (٩) . والأظهر هو الأول ، وقد أيّد بوجوه تعدّ من وجوه النّظم :

منها : أنّ فتح مكّة كان فيه غنائم كثيرة اضعاف ما أنفقوا ، فكان مناسبا لما في آخر السورة السابقة ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ(١٠) لضياع تلك الغنائم الكثيرة عليه وحرمانه منها بسبب بخله عن الانفاق.

ومنها : أنّه تعالى قال في السورة السابقة : ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ(١١) يعني لا تسألوا الصّلح ، بل اصبروا حتى يسأل المشركون منكم الصّلح والأمان ، كما كان في فتح مكّة حيث أنّ صناديد قريش جاءوا إلى المسلمين مؤمنين أو مستأمنين.

ومنها : أنه تعالى قال في السورة السابقة : ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ﴾ وقال : ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ ويكون فتح مكّة

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٠٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٧.

(٣و٤) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٤.

(٦) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٣.

(٧) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٤.

(٨) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٤.

(٩) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٤.

(١٠) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤٧ / ٣٨.

(١١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤٧ / ٣٥.

٦١٨

شاهدا عليه.

﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً

 مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٢) و (٣)

ثمّ بيّن سبحانه غاية الفتح وفائدته المترتّبة عليه بقوله : ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ﴾ يا محمد ﴿اللهُ﴾ العظيم القادر على كلّ شيء بسبب الفتح الذي فيه إعلاء كلمته وترويج دينه بمكابدة مشاقّ الحروب واقتحام موارد الخطوب ﴿ما تَقَدَّمَ﴾ على الفتح ﴿مِنْ ذَنْبِكَ﴾ وما فرط منك من إقبالك إلى عالم الخلق وتوجّهك إلى غيره لأداء وظيفة الرسالة ، أو من تركك الأولى والأفضل الذي هو ذنب في حقّك ﴿وَما تَأَخَّرَ﴾ منه.

وقيل : إنّ المعنى ليعرف أنّ الله يغفر لك ذنوبك ، فانّ الناس كانوا يعتقدون بعد عام الفيل أنّ الله لا يسلّط على مكة عدوّه المسخوط عليه ، بل لا يفتحها ولا يسلّط عليها إلّا حبيبه المغفور له (١) .

وقيل : إنّ فتح مكّة لمّا صار سببا لتسهيل الحجّ عليه وعلى امّته ، ويكون الحجّ سببا لغفران الذنوب ، بيّن سبحانه أنّ الفتح سبب لغفران ذنوبك إن كان لك ذنب ، حتى يعلم الناس ما في الحجّ من الثواب (٢) .

قيل : إنّه بعد ما ثبت عصمته لا بدّ من القول بكون المراد ذنب امّته ، وخطابه من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال عليه‌السلام : « ما كان له ذنب ، ولا همّ بذنب ، ولكن الله حملّه ذنوب شيعته ، ثمّ غفرها له » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه سئل عنها. فقال : « والله ما كان له ذنب ، ولكن الله تعالى ضمن له أن يغفر ذنوب شيعته على ما تقدّم من ذنبهم وما تأخر » (٥) .

ثمّ بيّن سبحانه فائدته الاخرى بقوله : ﴿وَيُتِمَ﴾ ويكمل بفضله ﴿نِعْمَتَهُ﴾ التي أعظمها إعلاء كلمة الحقّ وضمّ الملك والنبوة ، أو إتمام التكاليف ﴿عَلَيْكَ﴾ فانّ جميع ذلك حصل بعد فتح مكّة ﴿وَيَهْدِيَكَ﴾ في تبليغ الرسالة ، وإقامة مراسم الرئاسة ﴿صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ٧٨.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٦٨ ، تفسير الرازي ٢٨ : ٧٨.

(٣) تفسير الصافي ٥ : ٣٧.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣١٤ مجمع البيان ٩ : ١٦٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧.

(٥) مجمع البيان ٩ : ١٦٨ ، جوامع الجامع : ٤٥٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٧.

٦١٩

قيل : إنّه حصل بعد فتح مكّة من اتّضاح سبيل الحقّ واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبله(١) ﴿وَيَنْصُرَكَ اللهُ﴾ يا محمد ، بذلك الفتح العظيم ، على أعدائك ﴿نَصْراً عَزِيزاً﴾ وقويا ومنيعا ، أو عزيزا صاحبه ، أو نفيسا يقلّ مثله ، وإنّما ذكر سبحانه الاسم الجليل لإظهار كمال العناية بذلك النصر ، ولكونه خاتمة الغايات.

قيل : إنّه لم يبق بعد الفتح عدوّ يعتنى به ، فانّ أغلب العرب صاروا مؤمنين أو مستأمنين (٢) .

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ

 جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ

 وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ

 سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٤) و (٥)

ثمّ بيّن سبحانه ما هو وسيلة نصره في الظاهر بقوله : ﴿هُوَ﴾ المتفضّل ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ برحمته وفضله ﴿السَّكِينَةَ﴾ والطّمأنينة.

وعنهما عليهما‌السلام : « هو الايمان » ﴿فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ(٣) وجعل فيها بلطفه ثباتا وقرارا ، لا تماجّ ولا تزلزل من مشاهدة شوكة العدوّ وقوته وكثرته ﴿لِيَزْدادُوا إِيماناً﴾ ويقينا بنصر الله ، فكأنه صار إيمان مقرونا ﴿مَعَ إِيمانِهِمْ وَ﴾ يقين مضافا إلى يقينهم ، أو المراد لينضمّ يقينهم بالأحكام الإلهية بيقينهم بالتوحيد والمعاد ، أو يزداد إيمانهم بصدق الرسول على إيمانهم بالتوحيد ، أو يزداد إيمانهم الاستدلالي بايمانهم الفطري ، والحال أن ﴿لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الملائكة والجنّ وسائر الحيوانات ، بل سائر الموجودات من المياه والرياح والنار والرعود والصواعق والزلازل وغيرها ، فلا حاجة له في نصرة نبيه إلى المؤمنين ، بل هو قادر على إهلاك أعدائه بإرادته من غير حاجة إلى الجنود من خلقه.

ثمّ بيّن علمه وإحاطته بالقلوب القابلة لنزول السكينة فيها ، ومقدار إيمان المؤمنين وعدد جنوده من الموجودات بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ عَلِيماً﴾ بكلّ شيء ذاتا وقابلية وعددا و﴿حَكِيماً﴾ في تقديره وتدبيره ، يوجد كلّ شيء في محلّه ، ويعامل مع كلّ شيء بما يستحقّه ، وإنّما أراد ازدياد الايمان في القلوب ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ يوم القيامة بإزاء إيمانهم ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ذات أشجار

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٠٤ ، تفسير روح البيان ٩ : ١٠.

(٢) تفسير نور الثقلين ٥ : ٥٦.

(٣) الكافي ٢ : ١٢ / ١ ، و: ١٣ / ٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٩.

٦٢٠