نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

١

٢

٣
٤

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ

 وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) )

ثمّ بيّن الله تعالى فضائل التّوراة ببيان ما فيها من العلوم إجمالا بقوله : ﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ﴾ التي كانت من زبرجد الجنّة - على رواية (١) - ، أو زمرّد أخضر - على اخرى (٢) - ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وعلم يحتاج إليه ، وكتبنا فيها ﴿مَوْعِظَةً﴾ كثيرة ﴿وَتَفْصِيلاً﴾ وشرحا وافيا ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المعارف والأحكام ، وقلنا : يا موسى ، إذا علمت ما في الألواح ﴿فَخُذْها بِقُوَّةٍ﴾ في القلب ، أو بجدّ وعزيمة ﴿وَأْمُرْ﴾ وحثّ ﴿قَوْمَكَ﴾ ومن تبعك ﴿يَأْخُذُوا﴾ ويعملوا ﴿بِأَحْسَنِها﴾ من عزائم أحكامها. وقيل : إنّ المراد من الأحسن : هو الحسن ؛ وهو كلّها (٣) .

ثمّ وعظهم بقوله : ﴿سَأُرِيكُمْ دارَ﴾ فرعون وقومه ، وسائر الامم المهلكة الّذين كانوا هم ﴿الْفاسِقِينَ﴾ والخارجين عن طاعة أحكامي ، كيف خربت وعفيت آثارها بعصياني لتعتبروا بها.

قيل : يعني سادخلكم أرض مصر وأرض الجبابرة والعمالقة بالشّام. وعليه يكون فيه وعد وترغيب.

عن ابن عبّاس ، في تفسير ﴿دارَ الْفاسِقِينَ﴾ قال : هي جهنّم ، أي فليكن ذكر جهنّم حاضرا في خواطركم (٤) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل لمّا أنزل الألواح على موسى عليه‌السلام أنزلها وفيها تبيان لكلّ شيء كان أو هو كائن إلى أن تقوم السّاعة ، فلمّا انقضت أيّام موسى عليه‌السلام أوحى الله إليه أن يستودع الألواح - وهي زبرجدة من الجنّة - جبلا يقال له زينة ، فأتى موسى عليه‌السلام الجبل فانشقّ له الجبل ، فجعل فيه الألواح ملفوفة ، فلمّا جعلها [ فيه ] انطبق الجبل عليها ، فلم تزل في الجبل حتّى بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبل ركب من اليمن يريدون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا انتهوا إلى الجبل انفرج الجبل وخرجت الألواح ملفوفة كما وضعها موسى عليه‌السلام ، فأخذها القوم فلمّا وقعت في أيديهم القي في قلوبهم أن لا ينظروا إليها وهابوها حتّى يأتوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل [ الله ] جبرئيل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بأمر القوم وبالذي أصابوه.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٦٠ / ١٦١٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٦.

(٢) بصائر الدرجات : ١٦١ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٧.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٢٤٠.

(٤) تفسير الرازي ١٤ : ٢٣٨.

٥

فلمّا قدموا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموا عليه ابتدأهم فسألهم عمّا وجدوه ، فقالوا : وما علمك بما وجدنا ؟ قال : أخبرني به ربّي ، وهو الألواح ، قالوا : نشهد أنّك لرسول الله. فأخرجوها فدفعوها إليه ، فنظر إليها وقرأها وكانت بالعبرانيّة ، ثمّ دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : دونك هذه ففيها علم الأوّلين والآخرين ، وهي ألواح موسى عليه‌السلام ، وقد أمرني ربّي أن أدفعها إليك ، فقال : لست احسن قراءتها ، قال : إنّ جبرئيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه ، فإنّك تصبح وقد علّمت قراءتها قال : فجعلها تحت رأسه ، فأصبح وقد علّمه [ الله ] كلّ شيء فيها ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسخها ، فنسخها في جلد ؛ وهو الجفر ، وفيه علم الأوّلين والآخرين ، وهو عندنا ، والألواح عندنا ، وعصا موسى عندنا ، ونحن ورثنا النبيّين أجمعين » .

قال : « قال أبو جعفر : تلك الصّخرة التي حفظت ألواح موسى عليه‌السلام تحت شجرة في واد يعرف بكذا » (١) .

وفي رواية : « أنّ الباقر عليه‌السلام عرّف تلك الصّخرة ليماني دخل عليه » (٢) .

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ

 لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ

 يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) )

ثمّ هدّد الله سبحانه الكفّار المنكرين للتّوراة بقوله : ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ﴾ التفكّر في ﴿آياتِيَ﴾ الدالّة على توحيدي وكمال قدرتي - من إهلاك الامم الماضية بكفرهم وعصيانهم ، وعن النّظر في معجزات موسى عليه‌السلام وكتابه - الكفّار ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾ ويترفّعون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ على الأنبياء والمؤمنين بهم ﴿بِغَيْرِ الْحَقِ﴾ واستحقاق ، ويرون أنفسهم أفضل وأشرف من الرّسل ، مع أنّه لا فضل لهم ولا شرف ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ وحجّة على توحيد الله ، أو معجزة دالّة على رسالة رسله ، أو من آيات التّوراة ﴿لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ ولا يصدّقوها ولا ينقادوا لها ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ ويطّلعوا على طريق الحقّ ﴿لا يَتَّخِذُوهُ﴾ ولا يختاروه لأنفسهم ﴿سَبِيلاً﴾ ومسلكا لانطباع قلوبهم ، واستيلاء الشّيطان عليهم ، وتمرّنهم على الانحراف ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ﴾ وطريق الضّلال والمذهب ﴿يَتَّخِذُوهُ﴾ لسلوك أنفسهم ﴿سَبِيلاً﴾ لا يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم الزّائغة ، وإفضائه إلى مشتهياتهم الباطلة.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٦٠ / ١٦١٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٧.

(٢) بصائر الدرجات : ١٦٢ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٨.

٦

عن القمّي رحمه‌الله : إذا رأوا الإيمان والصّدق والوفاء والعمل الصّالح لا يتّخذونه سبيلا ، وإن يروا الشّرك والزّنا والمعاصي يأخذوا بها ويعملوا بها (١) .

﴿ذلِكَ﴾ الخزي والتكبّر والانحراف عن الحقّ حصل لهم ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا﴾ وكفروا ﴿بِآياتِنا﴾ الدالّة على الدّين الحقّ وسبيل الرّشد ﴿وَكانُوا عَنْها﴾ معرضين كأنّهم كانوا عنها ﴿غافِلِينَ

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا

 يَعْمَلُونَ (١٤٧) )

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد عموم المكذّبين بآياته من الأوّلين والآخرين بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ من التّوراة والإنجيل والقرآن ﴿وَلِقاءِ الْآخِرَةِ﴾ والحشر إلى دار الجزاء ﴿حَبِطَتْ﴾ وبطلت ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ الحسنة التي عملوها مدّة أعمارهم في الدّنيا ؛ من صلة الأرحام ، والإحسان إلى الفقراء والأيتام ، وغيرها من الخيرات ، فلا يصلون بها إلى الصّواب ، ولا يتخلّصون بها من العذاب ، لاشتراط قبولها بالإيمان بالمبدأ والمعاد ورسالة الرّسل.

ثمّ نبّه سبحانه على أن عقوبته وخزيه إنّما يكون استحقاقهما بسبب سيّئات الأعمال ، لا للتشفّي وغيره من الأغراض ، بقوله : ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ هؤلاء المكذّبون جزاء ﴿إِلَّا﴾ على ﴿ما كانُوا﴾ في الدّنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ وهل يعاقبون إلّا على ما كانوا يرتكبون من الكفر والمعاصي ومعارضة الرّسل ومعاندة الحقّ ، لا والله لا يجزون إلّا على أعمالهم السيّئة وعقائدهم الفاسدة.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ

 لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) )

ثمّ أنّه تعالى بعد ما بيّن غاية جهل بني إسرائيل بسؤالهم من موسى عليه‌السلام - بعد عبورهم في بلاد العمالقة ، واطّلاعهم على عبادتهم الأصنام - أن يجعل لهم صنما يعبدونه ، ذكر أنّهم لغاية جهلهم آل أمرهم إلى أن عبدوا العجل واتّخذوه إلها ، بقوله : ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾ وأغلب قبيلة بني إسرائيل ؛ وهم كانوا سبعمائة ألف أو ستمائة ألف ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ وبعد ذهابه إلى الميقات ، لغاية جهلهم ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً﴾ قيل : سمّي ولد البقر به لاستعجال بني إسرائيل عبادته. وكان ذلك العجل ﴿جَسَداً﴾ ذا لحم ودم ﴿لَهُ خُوارٌ﴾ وصوت كصوت البقر.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٤٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٨.

٧

قيل : إنّ موسى عليه‌السلام وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوما ، فلمّا تأخّر رجوعه قال لهم السّامريّ - وكان رجلا من قرية يقال لها سامرة ، وكان مطاعا في بني إسرائيل ذا قدر - : إنّكم أخذتم الحليّ من آل فرعون فعاقبكم الله بتلك الخيانة ، ومنع موسى عنكم. وذلك أنّ بني إسرائيل كان لهم عيد يتزيّنون فيه ويستعيرون الحليّ من القبط ، فاستعاروا حليّ القبط لذلك ، فلمّا أغرق الله القبط بقيت تلك الحليّ في أيدي بني إسرائيل ، فقال لهم السّامريّ : اجمعوا الحلّي حتّى احرقها لعلّ الله يردّ علينا موسى (١) .

وقيل : سألوه إلها يعبدونه ، وقد كان لهم ميلا إلى عبادة البقر منذ مرّوا على العمالقة الّذين كانوا يعبدون تماثيل البقر ، فجعل السّامريّ الحلّي بعد جمعها في النّار ، وصاغ لهم من ذلك عجلا لأنّه كان صائغا ، وألقى في فمه ترابا أخذه من أثر فرس جبرئيل ؛ وكان ذلك الفرس فرس الحياة ما وضع حافره على شيء إلّا اخضرّ ، وكان قد أخذ ذلك التّراب عند فلق البحر ، أو عند توجّهه إلى الطّور ، فانقلب ذلك الجسد لحما ودما ، وظهر منه خوار وحركة ومشي ، فقال السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى ، فعبدوه إلّا اثني عشر ألفا من ستمائة ألف (٢) .

وقيل : إنّه جعل ذلك العجل مجوّفا ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص ، وكان [ قد ] وضع التّمثال على مهبّ الرّيح ، تدخل من تلك الأنابيب ، فظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل ، فأوهم بني إسرائيل أنّه هو يخور (٣) .

أقول : هذا مخالف للقرآن والأحاديث.

ثمّ وبّخ الله بني إسرائيل على عبادتهم ذلك العجل وقولهم بالوهيّته بقوله : ﴿أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ بكلام البشر ﴿وَلا يَهْدِيهِمْ﴾ إلى الخير ﴿سَبِيلاً﴾ ولا يرشدهم إلى الحقّ طريقا ، مع أنّ الله يكلّم موسى عليه‌السلام ويشرّع الشّريعة الموصلة إلى كلّ خير ، وهم مع الوصف لغاية جهلهم ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ إلها وحسبوه خالقا معبودا ﴿وَكانُوا﴾ في عبادتهم تلك ﴿ظالِمِينَ﴾ على الله بتضييع حقّه وحطّ شأنه ، وعلى أنفسهم بتعريضها للهلاك.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا

 لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما

 خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ)

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير روح البيان ٣ : ٢٤٢.

٨

(يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ

 الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا

 فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٤٩) و (١٥١))

ثمّ أنّهم ندموا من عملهم الشّنيع بسعي هارون ومواعظه البليغة ﴿وَلَمَّا سُقِطَ﴾ رؤوسهم ﴿فِي أَيْدِيهِمْ﴾ وندموا. قيل : إنّ السّقوط في اليد كناية عن شدّة النّدامة ؛ لأنّ النادم يضع غالبا رأسه على يده (١)﴿وَرَأَوْا﴾ وتبيّنوا ﴿أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا﴾ عن الطّريق الحقّ بعبادتهم العجل حتّى كأنّهم لشدّة وضوحه عاينوه بأبصارهم ﴿قالُوا﴾ تحسّرا وندامة : والله ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا﴾ ويتفضّل علينا ﴿رَبُّنا﴾ بإنعامه ﴿وَيَغْفِرْ لَنا﴾ ويتجاوز عن خطيئتنا بكرمه ﴿لَنَكُونَنَ﴾ ألبتّة ﴿مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ والهالكين.

﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى﴾ من الميقات ﴿إِلى قَوْمِهِ﴾ حال كونه ﴿غَضْبانَ﴾ عليهم لعبادتهم العجل ﴿أَسِفاً﴾ شديد الحزن ، لأنّ الله فتنهم ، ثمّ وبّخهم و﴿قالَ :﴾ يا قوم ﴿بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي﴾ وساء ما عملتم ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ وفي زمان غيبتي وذهابي إلى ميقات ربّي ، حيث عبدتم العجل وأشركتم بالله ، أو بعد ما رأيتم منّي التّوحيد ونفي الشّريك عن الله.

ثمّ لامهم على ترك انتظارهم رجوعه بقوله : ﴿أَ عَجِلْتُمْ﴾ وتركتم ﴿أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ بتوحيده وحفظ عهدي وانتظار رجوعي ﴿وَأَلْقَى﴾ من يده ﴿الْأَلْواحَ﴾ وطرحها على الأرض من شدّة غضبه لله ، وفرط انضجاره من قومه حميّة للّدين.

روي أنّه لمّا ألقاها انكسرت فذهب بعضها (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ منها ما تكسّر ، ومنها ما بقي ، ومنها ما ارتفع » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّه عرّف يمانيّ صخرة باليمن ، ثمّ قال : « تلك الصخرة التي التقمت ما ذهب من التّوراة حين ألقى موسى عليه‌السلام الألواح ، فلمّا بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدّته إليه وهي عندنا ».(٤).

وروي أنّها كانت سبعة أسباع ، فلمّا ألقى الألواح تكسّرت فرفع منها ستّة أسباع وبقي سبع [ واحد ] ، وكان فيما رفع تفصيل كلّ شيء ، وفيما بقي الهدى والرّحمة (٥) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رحم الله أخي موسى ، ليس المخبر كالمعاين ، لقد أخبره الله بفتنة قومه ، ولقد عرّف أن ما اخبر به حقّ ، وأنّه على ذلك لمتمسّك بما في يديه ، فرجع إلى قومه ورآهم ، فغضب

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٨.

(٢) تفسير الصافي ٢ : ٢٣٩.

(٣) بصائر الدرجات : ١٦١ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٩.

(٤) بصائر الدرجات : ١٥٧ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٩.

(٥) تفسير الرازي ١٥ : ١١.

٩

وألقى الألواح » (١) .

﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ هارون وبشعره ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ عن الصادق عليه‌السلام : « وذلك لأنّه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك ، ولم يلحق بموسى عليه‌السلام ، وكان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب (٢) . وقيل : إنّه جرّه إلى نفسه ليسّاره ويستكشف كيفيّة تلك الواقعة.

إذن اعتذر هارون و﴿قالَ﴾ استعطافا له : يا ﴿ابْنَ أُمَ﴾ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ﴿إِنَّ الْقَوْمَ﴾ لشدّة حرصهم على عبادة العجل ﴿اسْتَضْعَفُونِي﴾ واستحقروني ولم يعتنوا إلى قولي ﴿وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ إن منعتهم عنها ، ولم يكن لي من العدّة ما أقهرهم على تركها وأدفعهم عن نفسي ، ومع ذلك لم أقصّر في إنذراهم ووعظهم ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ﴾ بإظهار الغضب عليّ ﴿وَلا تَجْعَلْنِي﴾ في استحقاق العقوبة شريكا ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بعبادة العجل.

عن الصادق عليه‌السلام : « لم يقل يابن أبي ؛ لأنّ بني الأب إذا كانت امّهاتهم شتّى لم تستبعد العداوة بينهم إلّا من عصمه الله منهم ، وإنّما تستبعد العداوة بين بني امّ واحدة » (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّه كان أخاه لأبيه وامّه » (٤) .

وقيل : إنّه كان أكبر من موسى عليه‌السلام بثلاث سنين ، وكان حمولا (٥) ليّنا (٦) .

فقبل موسى عليه‌السلام عذره وتلطّف به و﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ ما صدر منّي من الغضب على هارون ﴿وَلِأَخِي﴾ هارون ما صدر منه من الإقامة في القوم ، وترك التّشديد على عبدة العجل ﴿وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ﴾ الواسعة والجنّة ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

 وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) )

ثمّ أعلن الله سبحانه بغضبه على عبدة العجل وسوء عاقبة عملهم الشّنيع بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ إلها ومعبودا لأنفسهم من دون الله ﴿سَيَنالُهُمْ﴾ ويصيبهم ﴿غَضَبٌ﴾ شديد ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ومالك أمورهم. قيل : هو ما امروا به من قتل أنفسهم ﴿وَذِلَّةٌ﴾ وخزي ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ قيل : هو خروجهم من ديارهم ، وقيل : هي الجزية ﴿وَكَذلِكَ﴾ الجزاء الفظيع ﴿نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ علينا القائلين بأنّا شاركنا العجل في الالوهيّة.

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٧٤١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٣٩.

(٢ و٣) . علل الشرائع : ٦٨ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٠.

(٤) الكافي ٨ : ٢٧ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٠.

(٥) الحمول : الحليم الصّبور.

(٦) تفسير الصافي ٢ : ٢٤٠.

١٠

قيل : إنّ المراد من الّذين اتّخذوا العجل : هم الّذين أصرّوا على عبادته ولم يتوبوا عنها ؛ كالسامريّ وأضرابه من الّذين اشربوه في قلوبهم ، ومن الغضب : عذاب الآخرة ، ومن الذلّة : الاغتراب والمسكنة الدائمة.

روي أنّ موسى عليه‌السلام همّ بقتل السامريّ ، فأوحى الله إليه : لا تقتله فإنّه سخيّ ، ولكن أخرجه من عندك ، فقال له موسى عليه‌السلام : فاذهب من بيننا مطرودا فإنّ لك في الحياة - أي في عمرك - أن تقول لمن أراد مخالطتك جاهلا بحالك : [ لا مساس ، أي ] لا يمسّني أحد (١) .

وفي ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فقال : « فلا نرى صاحب بدعة إلّا ذليلا ، ولا مفتريا على الله وعلى رسوله وأهل بيته إلّا ذليلا » (٢) .

( وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ

 رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً

 وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٣) و (١٥٤) )

ثمّ أنّه تعالى بعد إظهار الغضب على غير التّائبين من عبدة العجل ، أعلن برحمته على العصاة التّائبين بقوله : ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ﴾ كبيرة كانت أو صغيرة ﴿ثُمَّ تابُوا﴾ منها ﴿مِنْ بَعْدِها﴾ ما دامت حياتهم باقية ﴿وَآمَنُوا﴾ بربّهم إيمانا خالصا من شوب الشّرك والنّفاق ، وعملوا بمقتضى الإيمان ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ وراء الأعمال السيّئة ، أو التّوبة ﴿مِنْ بَعْدِها﴾ والله ﴿لَغَفُورٌ﴾ للذّنوب وإن كثرت وجلّت ﴿رَحِيمٌ﴾ بعبادة التّائبين ، مفيض عليهم بالخيرات الدّنيوية والأخرويّة.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان غضب موسى عليه‌السلام على عبدة العجل وعمله حاله ، بيّن سكون غضبه ، واعتذار هارون ، وتوبة قومه من عصيانهم وعمله حينه بقوله : ﴿وَلَمَّا سَكَتَ﴾ وسكن ﴿عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾ لاعتذار أخيه ، وتوبة قومه ﴿أَخَذَ الْأَلْواحَ﴾ التي ألقاها حين الغضب من يده ، واستنسخ منها التّوراة ﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾ والكتاب الذي كتبوا منها ﴿هُدىً﴾ وإرشاد إلى كلّ حقّ ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ وخير عظيم ﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ ومن عصيانه يتّقون ، ومن عذابه يخافون.

( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ

 شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ )

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٢٤٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٤ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤١.

١١

(تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ

 الْغافِرِينَ (١٥٥))

ثمّ أنّ الله تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يأتي بسبعين من خيار بني إسرائيل للاعتذار عن عصيان قومهم ، وفي الوقت الذي عيّنه الله ﴿وَ﴾ أن ﴿اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ وانتخب منهم ﴿سَبْعِينَ رَجُلاً﴾ من خيارهم ﴿لِمِيقاتِنا﴾ والموعد الذي وعدناهم فيه ، ليعتذروا من عبادة قومهم العجل.

قيل : إنّ موسى عليه‌السلام اختار من كلّ سبط - وكانوا اثني عشر - ستّة رجال ، فزاد اثنان على السّبعين ، فقال موسى عليه‌السلام : ليتخلّف منكم رجلان فإنّي امرت بسبعين ، فتنازعوا فقال : إنّ لمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع وذهب موسى عليه‌السلام مع الباقين ..

عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ السّبعين لمّا صاروا [ معه ] إلى الجبل قالوا له : إنّك قد رأيت الله ، فأرناه كما رأيته ، فقال : إنّي لم أره ، فقالوا : ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ(١) فاحترقوا عن آخرهم » الخبر (٢) .

وقيل : أخذتهم الرجفة فصعقوا وماتوا.

﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ بما أجترأوا على الله من طلب الرّؤية ، واحترقوا وماتوا ، وبقي موسى عليه‌السلام وحيدا فقال : يا ربّ ، اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل وجئت بهم ، فإن أرجع إليهم وحدي كيف يصدّقوني بما اخبرهم به ؟ ﴿قالَ﴾ تذكّرا للعفو السّابق لاستجلاب العفو اللّاحق : ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ حين مخالفتهم النّهي عن عبادة العجل ﴿وَإِيَّايَ﴾ حين سألتك الرّؤية.

وقيل : إنّه تمنّ لهلاكهم وهلاك نفسه قبل أن يرى ما اري ، لخوفه من تهمة بني إسرائيل بقتلهم.

ثمّ استعطف من الله بإنكار إهلاكهم عليه مع غاية لطفه وسعة رحمته بقوله : ﴿أَ تُهْلِكُنا﴾ يا ربّ ﴿بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا﴾ من سؤالهم رؤيتك ﴿إِنْ هِيَ﴾ وما هذه الفتنة والبليّة ﴿إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾ وابتلاء من قبلك ؛ حيث إنّك أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك ، فطمعوا في رؤيتك ، وأنت ممتحن عبادك بالفتن و﴿تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ﴾ بحسب خبث ذاته - ضلالته ﴿وَتَهْدِي﴾ وتثبت على الحقّ ﴿مَنْ تَشاءُ﴾ - لطيب ذاته - هدايته وثباته ، فلا تزلّ قدمه بفتنتك ، بل يزيد إيمانه ﴿أَنْتَ وَلِيُّنا﴾ والمدبّر لامورنا بحكمتك ولطفك لا مدبّر لنا غيرك ، إذن ﴿فَاغْفِرْ لَنا﴾ ما فرّطنا في جنبك من الخطايا والزّلل ﴿وَارْحَمْنا﴾ بإفاضة الخيرات علينا ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ﴾ تغفر الذّنوب وتبدّل السيّئات بالحسنات.

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٥٥.

(٢) التوحيد : ٤٢٤ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤١.

١٢

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ

 بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ

 وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦))

فلمّا رأى موسى عليه‌السلام أنّ الله تعالى أحيا السّبعين بدعائه ، بالغ في الدّعاء بقوله : ﴿وَاكْتُبْ﴾ يا ربّ وأوجب عليك ﴿لَنا﴾ بكرمك ﴿فِي هذِهِ الدُّنْيا﴾ ما دمنا فيها امورا ﴿حَسَنَةً﴾ من السّعة في الرّزق ، والرغد في العيش ، والتوّفيق للطّاعة ﴿وَفِي﴾ عالم ﴿الْآخِرَةِ﴾ أيضا الامور الحسنة من النّجاة من العذاب ، والفوز بالجنّة والنّعم الدّائمة يا مولاي ﴿إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ﴾ وعرفناك بكمال الصّفات ، وسعة الرّحمة والمغفرة ، وسؤال الحوائج منك ، وإنّا نرجو منك العفو عن زلّاتنا ونعتذر إليك من خطيئاتنا.

فأوحى الله إلى موسى عليه‌السلام بقوله : ﴿قالَ عَذابِي﴾ في الدّنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ﴿أُصِيبُ بِهِ﴾ وانزله على ﴿مَنْ أَشاءُ﴾ تعذيبه على حسب استحقاقه ، ﴿وَ﴾ لكن ﴿رَحْمَتِي﴾ ونعمتي وإحساني في الدّنيا ﴿وَسِعَتْ﴾ وشملت ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ من الجمادات والنّباتات والحيوانات ، والمؤمنين والكفّار بعد موتهم ﴿فَسَأَكْتُبُها﴾ وأثبتها واديمها في الآخرة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الشّرك والمعاصي ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ من أموالهم إلى الفقراء والمصارف المقرّرة ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا﴾ ودلائل توحيدنا ، ورسالة رسولنا ﴿يُؤْمِنُونَ

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي

 التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ

 الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ

 عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ

 هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) )

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان اختصاص رحمته في الدّارين بالمتّقين المزكّين المؤمنين بالآيات ، بيّن اختصاص المؤمنين بخاتم الأنبياء بتلك الصّفات بقوله : ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ﴾ مختصّون بالرّحمة الدّائمة ، فلا تشمل اللّاحقين من بني إسرائيل إلّا إذا التزموا باتّباعه.

وعن ( الكافي ) : عن أحدهما عليهما‌السلام : « الرّسول : الذي يظهر له الملك فيكلّمه ، والنبيّ : هو الذي يرى

١٣

في منامه ، وربّما اجتمعت النبوّة والرّسالة في واحد » (١) .

وقيل : في توصيفه ب « الرّسول » إشعار بأنّه صاحب كتاب ، وب « النبيّ » إيماء إلى أنّه صاحب المعجزة.

وقيل : إنّما سمّاه رسولا بالإضافة إلى الله ، نبيا بالاضافة إلى الخلق (٢) .

وعن الزجّاج : معنى الامّي الذي هو على صفة امّه العرب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّا امّة اميّة ؛ لا نكتب ولا نحسب » فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون (٣) .

ومن المعلوم أنّ كونه اميّا بهذا المعنى من أعظم معجزاته ، فإنّه لو كان يحسن الخطّ والقراءة لصار متّهما بأنّه ربّما طالع كتب الأوّلين والآخرين. فحصّل هذه العلوم بتلك المطالعة ، فلمّا أتى بالقرآن العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين من غير تعلّم ومطالعة ، كان ذلك من جملة معجزاته الباهرة.

وقيل : إنّ المراد من الامّي : المنسوب إلى امّ القرى.

عن ( المجمع ) : عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل لم سمّي النبيّ بالامّي ؟ قال : « نسب إلى مكّة ، وذلك من قول الله : ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها(٤) وامّ القرى مكّة ، فقيل امّي لذلك » (٥) .

وعن الجواد عليه‌السلام أنّه سئل عن ذلك ، فقال : « ما يقول النّاس ؟ » قيل : يزعمون أنّه إنّما سمّي بالامّي لأنّه لم يحسن أن يكتب الخطّ ، فقال : « كذبوا لعنهم الله ، أنّى ذلك والله يقول : ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ(٦) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن ، والله لقد كان رسول الله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين - أو قال : ثلاثة وسبعين - لسانا ، وإنّما سمّي الامّي لأنّه كان من أهل مكّة ، ومكّة من امّهات القرى ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها(٧) .

ثمّ استدلّ سبحانه على صحّة نبوّته بقوله : ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ﴾ عن الباقر عليه‌السلام : « يعني اليهود والنّصارى ، صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله واسمه [﴿مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾](٨) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قال يهودي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي قرأت نعتك في التّوراة ( محمّد بن عبد الله مولده بمكّة ، ومهاجره بطيبة ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا سحار (٩) ولا متزين بالفحش ولا قول

__________________

(١) الكافي ١ : ١٣٥ / ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٢.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٢٥١.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ٢٣.

(٤) الأنعام : ٦ / ٩٢.

(٥) مجمع البيان ٤ : ٧٤٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٢.

(٦) الجمعة : ٦٢ / ٢.

(٧) علل الشرائع : ١٢٤ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٢.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ١٦٤ / ١٦٣٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٢.

(٩) في أمالي الصدوق : ولا صخّاب.

١٤

الخنا ) وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله ، هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله » (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : « لما انزلت التّوراة على موسى عليه‌السلام بشّر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » قال : « فلم تزل الأنبياء تبشّر به حتّى بعث الله المسيح عيسى بن مريم فبشّر بمحمّد ، وذلك قوله : ﴿يَجِدُونَهُ﴾ يعني اليهود ، [ والنصارى ]﴿مَكْتُوباً﴾ يعني صفة محمّد ﴿عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ﴾ وهو قول الله عزوجل يخبر عن عيسى : ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ(٢) .

روي « أنّ موسى ناجاه ربّه تعالى فقال له في مناجاته : اوصيك يا موسى وصيّة الشّفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم ، ومن بعده ؛ بصاحب الجمل الأحمر ، الطيّب الطّاهر المطهّر ، فمثله في كتابك أنّه مهيمن على الكتب كلّها ، وأنّه راكع ساجد راغب راهب ، إخوانه المساكين ، وأنصاره قوم آخرون » (٣) .

أقول : لو فرضنا أنّه لم توجد رواية في وجود اسمه في الكتابين لعلمنا بوجوده فيهما ؛ لأنّه لو لم يكن مع صراحة القرآن بوجوده ووجود نعوته فيهما لأنكر عليه أهل الكتاب ، وصار كذبه أظهر من الشمس في رائعة (٤) النّهار.

ثمّ عدّ سبحانه من صفاته الكريمة المكتوبة في الكتابين أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ويحثّهم على العمل بالمحسّنات العقليّة ﴿وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ويزجرهم عن القبائح ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ﴾ واللّذائذ التي لا خساسة فيها ولا ضرر ؛ من المأكولات والمشروبات ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ﴾ وما تتنفّر منه الطّباع ، وما يتضرّر منها ﴿وَيَضَعُ﴾ ويرفع ﴿عَنْهُمْ﴾ بإتيان الحنيفية السّهلة السّمحة ﴿إِصْرَهُمْ﴾ والتّكاليف الوجوبيّة الشّاقّة عليهم ؛ كوجوب قرض موضع النّجاسة من الثّوب والبدن ﴿وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ والمحرّمات الشّاقة ؛ كحرمة العمل يوم السّبت ، وأخذ الدية في القتل ، وحرمة التصرّف في الغنائم ، وحرمة الشّحوم ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ﴾ وبما جاء به ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ وعظّموه بإطاعة أوامره ونواهية والتّسليم لأحكامه ﴿وَنَصَرُوهُ﴾ وأعانوه على أعدائه وفي ترويج دينه ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ﴾ وهو القرآن ﴿الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ وعن الصادق عليه‌السلام : « النّور في هذا الموضع عليّ والأئمّة عليهم‌السلام » (٥) ، وقيل : إنه الهدى والبيان والرّسالة (٦) ، و [ قيل : ] الحقّ الذي ظهوره في القلوب كظهور

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥٥٢ / ٧٣٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٣.

(٢) الكافي ٨ : ١١٧ / ٩٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٣ ، والآية من سورة الصف : ٦١ / ٦.

(٣) الكافي ٨ : ٤٣ / ٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٣.

(٤) في النسخة : رابعة.

(٥) الكافي ١ : ١٥٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٣.

(٦) تفسير الرازي ١٥ : ٢٥.

١٥

النّور (١) .

﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون المتّبعون ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بأعلى المقاصد من النّجاة من النّار والدّخول في الجنّة.

﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ

 وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي

 يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)

ثمّ أنّه تعالى - بعد إثبات رسالة رسوله بالإخبار بوجود اسمه وصفاته في الكتب السماوية ، وبكون شريعته أكمل وأسهل من الشّرائع السّابقة ، وبيان أفضليّة تابعيه على سائر الامم ، والوعد بالفلاح على الإيمان به والعمل بكتابه - أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلام النّاس هموم رسالته بقوله : ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ من العرب والعجم ، والأبيض والأحمر والأسود ﴿إِنِّي رَسُولُ اللهِ﴾ أرسلني ﴿إِلَيْكُمْ جَمِيعاً

عن الحسن المجتبى عليه‌السلام : « أنّه جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد ، أنت الذي تزعم أنّك رسول الله ، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران ، فسكت النبيّ ساعة ثم قال : نعم ، أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النبيّين ، وإمام المتّقين ، ورسول ربّ العالمين. قالوا : إلى من ، إلى العرب ، أم إلى العجم ، أم إلينا ؟ فأنزل الله هذه الآية » (٢) .

ثمّ أمره الله تعالى بإظهار كمال معرفته به بالصّفات التي فيها دليل صحّة دعواه بقوله : ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ يعزّ من يشاء ويذل من يشاء ، ويعطي الملك من يشاء وينزعه ممّن يشاء ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا شريك له في الالوهيّة والربوبيّة حتّى يزاحمه في إنفاذ إرادته ، ولا ندّ له حتّى يقهره في سلطانه ، القادر الحيّ الذي ﴿يُحيِي﴾ الأموات ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء.

فإذا كان كذلك كان عليه إحياء القلوب بمعارفه ، وتربية الأرواح بالأمر بالعبادات وتهذيب الأخلاق ، كي يستعدّوا لقبول فيوضاته ، ولا يمكن ذلك إلّا بإرسال رسول يهديهم إلى الحقّ وما به الحياة الرّوحانيّة والكمالات المعنويّة ، وأنا ذلك الرّسول ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته ﴿وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ﴾ ومرّ تفسيره (٣)﴿الَّذِي﴾ هو لكمال عقله وعلمه ﴿يُؤْمِنُ﴾ بشراشره (٤)﴿بِاللهِ وَكَلِماتِهِ﴾ التي أنزلت إليه وهي القرآن العظيم. وقيل : معجزاته الكثيرة ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾ في جميع أقواله وأفعاله ، وانقادوا

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٢٥.

(٢) أمالي الصدوق : ٢٥٤ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٣.

(٣) تقدم في الآية (١٥٧) من تفسير هذه السورة.

(٤) الشّراشر : الجسم بجملته.

١٦

لأوامره ونواهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى خير ، وتسعدون في الدّنيا والآخرة.

﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)

ثمّ بين سبحانه حسن اتّباع طائفة من بني إسرائيل لدين موسى عليه‌السلام ترغيبا لامّة خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله في اتّباعه بقوله : ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ﴾ وجماعة مهتدون يتّبعون موسى عليه‌السلام ، وهم مع اهتدائهم في أنفسهم ﴿يَهْدُونَ﴾ غيرهم من سائر النّاس ﴿بِالْحَقِ﴾ وبكتابه النّاطق به إلى الحقّ ، والدّين المرضيّ عند الله ﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ في الأحكام الجارية بينهم.

قيل : إنّ الأشهر بين المفسّرين أنّ هذه الامّة قوم من بني إسرائيل وراء الصّين بأقصى المشرق ، وذلك أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في العتوّ والطّغيان بعد وفاة موسى عليه‌السلام وخليفته يوشع حتى اجترأوا على قتل الأنبياء ، ووقع الهرج والمرج ، تبرّأ سبط منهم ممّا صنعوا واعتذروا ، وسألوا الله تعالى أن يفرّق بينهم وبين أولئك الطّاغين ، ففتح الله لهم - وهم في بيت المقدس - نفقا في الأرض ، وجعل أمامهم المصابيح فساروا ومعهم نهر من ماء يجري ، وأجرى الله عليهم أرزاقهم ، فساروا فيه على هذا الوجه سنة ونصف سنة حتّى خرجوا من وراء الصين [ إلى أرض ] بأقصى المشرق طاهرة طيبة فنزلوها ، وهم مختلطون بالسّباع والوحوش والهوام لا يضرّ بعضهم بعضا ، وهو متمسّكون بالتّوراة مشتاقون إلى الإسلام ، لا يعصون الله طرفة عين أبدا ، تصافحهم الملائكة ، وهم في منقطع من الأرض لا يصل إليهم أحد منّا ولا أحد منهم إلينا ؛ إمّا لأنّ بينهم وبين الصّين واديا جاريا من رمل يمنع النّاس من إتيانهم ، كما عن ابن عبّاس. أو نهرا من شهد ، كما عن السدّي. فانّهم كبني أب واحد ليس لاحد [ منهم ] مال دون صاحبه ، يمطرون باللّيل ويضحون (١) بالنّهار ، ويزرعون ويحصدون جميعا فيضعون الحاصل في أماكن من القرية ، فيأخذ كلّ منهم قدر حاجته ويدع الباقي (٢) .

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرئيل ليلة المعراج : « إنّي أحبّ أن أرى القوم الّذين أثنى الله عليهم بقوله : ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ فقال : إن بينك وبينهم مسيرة ستّ سنين ذهابا ، وستّ سنين إيابا ، ولكن سل ربّك حتّى يأذن لك ، فدعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّن جبرئيل ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل أنّه أجيب إلى ما سأل ، فركب البراق فخطا خطوات فإذا هو بين أظهر القوم ، فسلّم عليهم وردّوا عليه سلامه ، وسألوه : من أنت ؟ فقال : « أنا النبيّ الأمّي » ، قالوا : أنت الذي بشّر بك موسى

__________________

(١) ضحى يضحو : برز للشمس ، ضحى يضحى : أصابه حرّ الشمس.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٢٥٩.

١٧

وأوصانا بأن قال لنا : من أدرك منكم أحمد فليقرى عليه منّي السّلام فرّد رسول الله عليه سلامة ، وقالوا : فمن معك ؟ قال : « أو ترون » ، قالوا : نعم ، قال : « هو جبرئيل » . قال : « فرأيت قبورهم على أبواب دورهم فقلت : فلم ذلك ؟ » قالوا : أجدر أن نذكر الموت صباحا ومساء ، فقال : « أرى بنيانكم مستويا ؟ » قالوا : ذلك لئلّا يشرف بعضنا على بعض ، ولئلّا يسدّ أحد على أحد الرّيح والهواء. قال : « فما لي لا أرى لكم قاضيا ولا سلطانا ؟ » قالوا : إذا أنصف بعضنا بعضا ، وأعطينا الحقّ فلم نحتج إلى قاض ينصف بيننا. قال : « فما لي أرى أسواقكم خالية ؟ » قالوا : نزرع جميعا ونحصد جميعا ، فيأخذ كلّ أحد منّا ما يكفيه ويدع الباقي لأخيه ، فلا نحتاج إلى مراجعة الأسواق. قال : « فما لي أرى هؤلاء القوم يضحكون ؟ » قالوا : مات لهم ميّت فيضحكون سرورا بما قبضه الله على التّوحيد. قال : « فما لهؤلاء القوم يبكون ؟ » قالوا : ولد لهم مولود ، [ فهم ] لا يدرون على أيّ دين يقبض فيغتمّون على ذلك.

قال : « فإذا ولد لكم ذكر ، فماذا تصنعون ؟ » قالوا : نصوم لله شكرا شهرا. « قال : فالانثى ؟ » قالوا : نصوم لله شكرا شهرين. قال : « ولم ؟ » قالوا : لأنّ موسى عليه‌السلام أخبرنا أنّ الصبر على الانثى أعظم أجرا من الصّبر على الذّكر. قال : « أفتزنون ؟ » قالوا : وهل يفعل ذلك أحد ، لو فعل ذلك أحد حصبته السّماء ، وخسفت به الأرض من تحته. قال : « أفترابون ؟ » قالوا : إنّما يرابي من لا يؤمن برزق الله. قال : « أ فتمرضون ؟ » قالوا : لا نمرض ولا نذنب ، إنّما تذنب امّتك فيمرضون ليكون كفّارة لذنوبهم. قال : « هل في أرضكم سباع وهوام ؟ » قالوا : نعم ، تمر بنا ونمر بها ، ولا تؤذينا ولا نؤذيها. فعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شريعته والصلوات الخمس عليهم ، وعلّمهم الفاتحة وسورا من القرآن.

وعن الحدّادي : أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، ولم يكن يومئذ نزلت فريضة غير الصلاة والزّكاة ، فأمرهم بالصلاة والزّكاة ، وأن يتركوا تحريم السّبت ويجمعوا ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم. فهم اليوم هناك حنفاء مسلمون مستقبلون قبلتنا (١) .

أقول : هذا يؤيّد القول بأنّ قبلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قبل الهجرة هي الكعبة.

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ هذه الآية في قوم من وراء الصّين ، بينهم وبين الصّين واد جار من الرّمل ، لم يغيروا ولم يبدّلوا ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون باللّيل ويضحون بالنهار ويزرعون ، لا يصل إليهم أحد منّا ولا منهم إلينا أحد ، وهم على الحقّ » (٢) .

قال في ( المجمع ) : وقيل : إنّ جبرئيل انطلق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج إليهم ، فقرأ عليهم من القرآن عشر سور نزلت بمكة فآمنوا به وصدّقوه ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ويتركوا السّبت ، وأمرهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٢٦٠.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٧٥٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٤.

١٨

بالصّلاة والزّكاة ، ولم تكن نزلت فريضة غيرهما ، ففعلوا (١) .

قال : وروى أصحابنا أنّهم يخرجون مع قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وروي أنّ ذا القرنين رآهم (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في هذه الآية : « قوم موسى هم أهل الإسلام » (٣) .

وقيل : إنّهم قوم مشوا على دين الحقّ الذي جاء به موسى عليه‌السلام ، ودعوا النّاس إليه ، وصانوه عن التّحريف والتّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك (٤) .

﴿وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ

 أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ

 مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ

 ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال متّبعي موسى عليه‌السلام من بني إسرائيل ، بيّن سوء حال بقيّتهم وكفرانهم النّعم التي أنعمها عليهم بقوله : ﴿وَقَطَّعْناهُمُ﴾ وصيّرناهم شعبا ، فصاروا ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً﴾ وقبائل ، كلّ قبيلة منهم من نسل ولد من أولاد يعقوب ، يسمّون باسم أبيهم الأعلى ، وجعلناهم ﴿أُمَماً﴾ وجماعات متميّزة.

قيل : إنّه تعالى سمّى كلّ سبط أمّة لكثرة عددهم. وقيل : لأنّ كلّ سبط يؤمّ غير الذي يؤمّ الأسباط الأخر ، بحيث لا يكاد توافقهم في أمر لتباغظهم وتعصّبهم ، فأنعم الله عليهم بهذا التّفريق والتّقطيع لتنتظم أمورهم ويتيسّر عيشهم (٥) .

ثمّ ذكر سبحانه نعمته الأخرى عليهم بقوله : ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى﴾ في التّيه ﴿إِذِ اسْتَسْقاهُ﴾ وطلب ﴿قَوْمُهُ﴾ منه الماء حين اشتدّ بهم العطش ﴿أَنِ﴾ يا موسى ﴿اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ﴾ - المعهود الذي مرّ بيانه وأوصافه في سورة البقرة (٦) - فضربه بها ﴿فَانْبَجَسَتْ﴾ ونبعت ﴿مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ بعدد أسباط بني إسرائيل.

قيل : إنّ انبجاس الماء : خروجه قليلا ، وانفجاره : خروجه واسعا ، وكان خروجه من الحجر في

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٧٥٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٤.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٧٥٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٤.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٦٥ / ١٦٣٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٤٤.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ٣١.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ٣٣ ، تفسير روح البيان ٣ : ٢٦١.

(٦) تقدّم في تفسير الآية (٦٠) من سورة البقرة.

١٩

الابتداء قليلا ثمّ واسعا.

ثمّ خصّ موسى عليه‌السلام كلّ عين بسبط ، و﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾ وسبط ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ والعين التي خصّت بهم ، حتّى لا يخالطهم فيها غيرهم ، ولا يقع النزاع بينهم لغاية العصبيّة التي كانت لهم ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ﴾ وجعلنا فوقه السّحاب يسير في التّيه بسيرهم ويقف بوقوفهم ، كيلا يؤذيهم حرّ الشّمس ﴿وَأَنْزَلْنا﴾ من السّماء ﴿عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى﴾ - وقد سبق تفسيرهما في البقرة (١) - ثمّ قلنا لهم بلسان موسى : ﴿كُلُوا﴾ يا بني إسرائيل ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ ومستلذّات ما أنعمنا عليكم. ثمّ ظلموا بأن كفروا هذه النّعم الجليلة ، وعصوا أحكامنا ﴿وَما ظَلَمُونا﴾ بكفرانهم وعصيانهم ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث انقطع عنهم الرّزق الطيّب الذي كان يأتيهم بلا اكتساب وكلفة ، واستحقّوا العذاب في الدّنيا والآخرة.

﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا

 الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا

 مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا

 يَظْلِمُونَ (١٦١) و (١٦٢)

ثمّ بيّن الله سبحانه نعمته الاخرى عليهم وكفرانهم إيّاها بعصيانهم وتمرّدهم عن أمر ربّهم بقوله :

﴿وَإِذْ قِيلَ﴾ من قبل الله ﴿لَهُمُ﴾ حين نجوا من التّيه وقربوا من البيت المقدّس أو بلدة أريحا ، وكانت فيها بقيّة من عاد يقال لهم العمالقة : يا بني إسرائيل ﴿اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ الكثيرة النّعم والثّمار ﴿وَكُلُوا مِنْها﴾ وتمتّعوا بها ﴿حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ وفي أيّ ناحية أردتم بلا تعب وعناء ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً﴾ - وقد مرّ تفسيره في البقرة (٢) - فإن فعلتم ذلك ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ﴾ التي سلفت منكم.

ثمّ كأنّه قيل : فماذا لهم بعد المغفرة ؟ أو قيل : هذا للعصاة ، فماذا للمطيعين ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ والمطيعين إحسانا وثوابا ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم ﴿مِنْهُمْ﴾ ما امروا به من قول ( حطّة ) والاستغفار من الذّنوب ، وقالوا ﴿قَوْلاً﴾ آخر ﴿غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ من قول ( حطّة ) استهزاء بالله ورسوله ﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ﴾ بعد تبديلهم واستهزائهم ﴿رِجْزاً﴾ وعذابا شديدا ﴿مِنَ

__________________

(١) تقدّم في تفسير الاية (٥٧) من سورة البقرة.

(٢) تقدّم في تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة.

٢٠