نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٤٦

١
٢

٣
٤

في تفسير سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ

 عَلِيمٌ * يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة الفتح المبتدئة ببيان فتح مكّة وألطاف الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً(١) والمختتمة ببيان علّو مقامه ، وبيان فضائل أصحابه ، وكونهم رحماء بينهم ، اردفت بسورة الحجرات المبتدئة بايجاب حفظ احترام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعظيمه ، وتعليم أدب حضوره ، وبيان وظيفة المؤمنين وتعليم كيفية سلوك بعضهم مع بعض ، ووجوب الاصلاح بينهم إذا تخاصموا وتنازعوا ، وغير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة ، فابتدأها بذكر الأسماء الحسنى حسب دأبه تعالى تعليما للعباد وتبرّكا بقوله تبارك وتعالى : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

ثمّ لمّا كانت السورة مشتملة على التكاليف الشاقة ، ابتدأها بالنداء شفاهية للمؤمنين بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ليزيل التعب والعناء بلذّة النداء ، ولينشّط قلوبهم بتوصيفهم بالايمان ، وليبين أن امتثالها من لوازمه ، وأن الايمان باعث على المحافظة عليها ، رادع عن الإخلال بها.

ثمّ شرع سبحانه في بيان وظائف المؤمنين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿لا تُقَدِّمُوا﴾ أنفسكم في المشي ، أو أمر من الامور ، ولا تقطعوه ﴿بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ وأمامهما ، وذكر ذاته المقدسة باسم الجلالة لتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو المراد بحضرتهما وفي منظرهما ، إلّا بعد أن يحكما به ويأذنا فيه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ العظيم الذي أنتم بين يديه وفي منظره في جميع أقوالكم وأفعالكم ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بضمائركم وأعمالكم ، فيجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.

قيل : نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قيل الصلاة ، فانّ ناسا ذبحوا قبل صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) الفتح : ٤٨ / ٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٦٢.

٥

وعن البراء أنّه خطبنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم النحر ، فقال : « إنّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثمّ نرجع وننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا ، ومن ذبح قبل أن نصلّي فانّما هو لحم عجّله لأهله ، ليس من النّسك في شيء » (١) .

وعن عائشة : أنّها نزلت في النهي عن صوم يوم الشكّ ، والمعنى لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم(٢).

وعن الحسن : لمّا استقرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمدينة ، أتته الوفود من الآفاق ، فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا عن أن يبتدؤا بالمسألة حتى يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المبتدئ (٣) ، والظاهر والاعتبار مقتضي لأن يكون النهي عن كلّ ما يقدّم عليه سواء كان بالقول أو بالفعل ، كالأكل والمشي وغيرهما.

كرّر النداء بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ازديادا لاظهار اللّطف بهم والاهتمام بالمنادى له واستقلاله ﴿لا تَرْفَعُوا﴾ ولا تعلوا ﴿أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ﴾ في تكلّمكم عنده تعظيما له وتأدّبا منه.

روى بعض العامة عن عبد الله بن الزبير : أنّ الأقرع بن حابس من بني تميم ، قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، استعمله على قومه. فقال عمر : لا نستعمله يا رسول الله ، بل استعمل القعقاع بن معبد. فتكلّما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي. فقال عمر : ما أردت خلافك. فنزلت الآية ، فكان عمر بعد ذلك إذا تكلّم عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يسمع كلامه حتى يستفهمه ، وقال أبو بكر : آليت على نفسي أن لا اكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا سرّا (٤) .

أقول : العجب من العامة القائلين بأفضلية الرجلين على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وروايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ما طلعت شمس ، وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير - أو أفضل - من أبي بكر » (٥) مع أنّهم رووا نزول كثير من الآيات في ردع الرجلين عن زلاتهما ، ولم يرو نزول آية في ردع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن زلّة ، بل ما نزلت آية فيه إلّا وفيها مدحة وبيان فضله.

﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا

 تَشْعُرُونَ (٢)

ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن تعلية الصوت على صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين مكاملته ، نهى عن تسوية الصوت في الجهر لصوته بقوله : ﴿وَلا تَجْهَرُوا﴾ أيّها المؤمنون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لَهُ﴾ بصوتكم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٦٢.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٦٢.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٦٢.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٦٣.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٦٢.

٦

﴿بِالْقَوْلِ﴾ إذا كلمتموه (١) وكلّمكم ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ﴾ بصوته عند مخاطبتكم ﴿لِبَعْضٍ﴾ آخر ، بل أجعلوا أصواتكم عند مكالمته أخفض من صوته ، مراعاة لجلالته وعظمته ، كما هو الدأب في مخاطبة العبد الذليل لسيده العظيم المهيب كراهة ﴿أَنْ تَحْبَطَ﴾ وتبطل ﴿أَعْمالُكُمْ﴾ فانّ عدم الاعتناء بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحقيره مؤدّ الى الارتداد الموجب لردّ الأعمال وعدم قبولها ﴿وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ بأنّ مخالفة هذا النهي مؤدّ إلى الكفر حبط الأعمال.

روى بعض العامة عن ابن عباس : أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، فانّه كان في اذنيه وقرّ ، وكان جهوري الصوت ، وربما كان يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيتأذّى بصوته (٢) .

وعن أنس : أنّه لمّا نزلت هذه الآية فقد ثابت ، فتفقّده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبر بشأنه ، فدعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله ، فقال : يا رسول الله ، لقد انزلت إليك هذه الآية ، وإنّي رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط. فقال : « لست هناك ، إنّك تعيش بخير ، وتموت بخير ، وإنّك من أهل الجنّة » (٣).

قيل : إنّه قتل شهيدا يوم مسيلمة الكذّاب (٤) .

وقيل : إنّ الفرق بين النهيين ، أنّ النهي عن رفع الصوت فيما إذا تكلّمتم وتكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلى المؤمنين أن لا يبلغوا بأصواتهم فوق الحدّ الذي يبلغ إليه صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يغضّوا من أصواتهم بحيث يكون صوت النبي عاليا على أصواتهم ، والنهي عن الجهر فيما إذا كلّمه المؤمنون وهو ساكت ، فنهي المؤمنين عن أن يبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينهم ، بل يجب عليهم أن يلينوا القول لينا يقارب الهمس (٥) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قدم المدينة ، وكثر حوله المهاجرون والأنصار ، كثرت عليه المسائل ، وكانوا يخاطبونه بالخطاب العظيم الذي لا يليق به ، ولذلك قال الله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ...﴾ الآية وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم رحيما ، وعليهم عطوفا ، وفي إزالة الآثام عنهم مجتهدا ، حتى إنّه كان ينظر إلى من يخاطبه ، فيعمد على أن يكون صوته مرتفعا على صوته ، ليزيل عنه ما توعّده الله من حبط أعماله ، حتى إنّ رجلا أعرابيا ناداه يوما من خلف حائط بصوت جهوري : يا محمد ، فأجابه بأرفع من صوته ، يريد أن لا يأثم الأعرابي بارتفاع

__________________

(١) في النسخة : تكلمتموه.

(٢) جوامع الجامع : ٤٥٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ٦٤ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٧.

(٣) جوامع الجامع : ٤٥٦ ، تفسير روح البيان ٩ : ٦٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٨.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٦٥.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٦٤.

٧

صوته » (١) .

وعن القمي رحمه‌الله : نزلت في وفد من بني تميم ، كانوا إذا قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفوا على باب ججرته ، ونادوا يا محمد ، اخرج إلينا ، وكانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّموه في المشي ، وكانوا إذا كلّموه (٢) رفعوا أصواتهم فوق صوته ، ويقولون : يا محمد ، يا محمد ، ما تقول في كذا ؟ كما يكلّمون بعضهم بعضا ، فأنزل الله [ الآية ](٣) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ

 لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ

 أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ

 غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) و (٥)

ثمّ إنه تعالى بعد ترهيب المؤمنين من مخالفة نهية ، رغّبهم في امتثاله بقوله تبارك وتعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ﴾ ويخفضون ﴿أَصْواتَهُمْ﴾ حين تكلّمهم ﴿عِنْدَ رَسُولِ اللهِ﴾ وفي حضوره مراعاة للأدب ، وخشية من مخالفته نهي الله عن رفع الصوت فوق صوته ، والجهر له بالقول ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون هم ﴿الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وأخلصها ﴿لِلتَّقْوى﴾ ووسعها له ، أو مرّنها عليه ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ وستر كامل لذنوبهم ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لا يسع البيان حسنه وقدره.

ثمّ ذمّ الله سبحانه الرافعين أصواتهم المسيئين للأدب بالنسبة إلى النبي بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ﴾ وخارج البيوت المسكونة لأزواجك حين استراحتك فيها ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ ولا يدركون قباحة سوء الأدب بالنسبة إلى من لا يدانيه أحد من الأولين والآخرين في الجلالة والعظمة ووخامة عاقبته. وقيل : الأكثر هنا بمعنى الكلّ (٤) ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ وتوقّفوا خارج الحجرات ، ولم ينادونك ﴿حَتَّى تَخْرُجَ﴾ من حجرتك متوجّها ﴿إِلَيْهِمْ﴾ لا إلى غيرهم ، والله ﴿لَكانَ﴾ ذلك الصبر والتوّقف ، وترك التعجيل والنداء ﴿خَيْراً لَهُمْ﴾ وأصلح وأنفع في الدنيا والآخرة من التعجيل في لقائك ، ورفع الصوت بندائك ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لذنب أولئك المسيئين للأدب إن تابوا وندموا على ما صدر منهم ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم إن صلحوا.

قيل : إنّ الذين نادوا الرسول عيينة بن الحصين الفزاري ، والأقرع بن حابس التميمي ، وفدا على

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام : ٤٧٧ / ٣٠٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٨.

(٢) في النسخة تكلموه.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٧.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٦٨.

٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة ، وهو راقد ، فقالا : يا محمد ، اخرج إلينا ، فنحن الذين مدحنا زين وذمّنا شين ، فاستيقظ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج وقال لهم : « ويحكم ذلكم الله » (١) .

وروي أنّه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم فقال : « هم جفاة بني تميم ، لو لا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال ، لدعوت الله أن يهلكهم ، فنزلت الآية ذمّا لهم »(٢) .

وعن ابن عباس رضى الله عنه : أنّه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سريّة إلى حي بني العنبر ، وأمرّ عليهم عيينة بن الحصين ، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، وقدم بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء بعد ذاك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا في أهله ، فلمّا رأتهم الذرارى ى أجهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكلّ امرأة من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيت وحجرة ، فجعلوا ينادون : يا محمد ، اخرج إلينا ، حتى ايقضوه من نومه ، فخرج إليهم فقالوا : يا محمد ، فادنا عيالنا. فنزل جبرئيل فقال : إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ » قالوا : نعم. قال سبرة : أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد ، وهو أعور بن بشامة بن ضرار. فرضوا به.

فقال الأعور : فأنا أرى أن تفادي نصفهم ، وتعتق نصفهم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قد رضيت » ففادى نصفهم ، وأعتق نصفهم. وقال مقاتل : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ لأنّك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء (٣) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ

 فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد تعليم المؤمنين الأدب مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمهم كيفية معاملتهم مع سائر الناس ، فابتدأ بكيفية معاملتهم مع الفسّاق بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ﴾ وأنبأكم ﴿فاسِقٌ﴾ من الفسّاق ﴿بِنَبَإٍ﴾ وأخبركم بخبر يعظم وقعه في القلوب ، كالإخبار بإرادة قوم قتالكم ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ وتفحّصوا عن صدقه وكذبه حتى تظهر حقيقة الحال ، ولا تعتمدوا على خبره ، فانّ من لا يحترز عن الفسق لا يؤمن منه الكذب ، فيكون في تحقيق الحال من الحذر ﴿أَنْ تُصِيبُوا﴾ أيّها المؤمنون وتضرّوا ﴿قَوْماً﴾ من المسلمين ﴿بِجَهالَةٍ﴾ وبسبب عدم العلم بواقع الحال ، وعدم طريق عقلائي دالّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٦٧.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٦٨.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٦٨.

٩

عليه ، أو بسفاهة وعدم رعاية حكم العقل ﴿فَتُصْبِحُوا﴾ وتصيروا بعد ظهور خطأكم ﴿عَلى ما فَعَلْتُمْ﴾ من الإضرار على القوم ﴿نادِمِينَ﴾ مغتمّين متمنّين عدم صدور ذلك الفعل منكم.

في بعض مطاعن عثمان

روي أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان بن عفان لامّه ، بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بني المصطلق ليأخذ صدقاتهم ويجبي زكاتهم ، وكان بينه وبينهم إحنة (١) وحقد كامن في الجاهلية بسبب دم ، فلمّا سمعوا بقدومه استقبلوه ركبانا ، فحسب أنّهم مقاتلوه ، فرجع هاربا منهم ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّهم قد ارتدّوا ، ومنعوا الزكاة ، وهمّوا بقتلي ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الظاهر بقتالهم ، فنزلت الآية (٢) .

وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إليهم خالد بن الوليد بعد رجوع الوليد بن عقبة عنهم في عسكر ، وقال له: اخف عنهم قدومك بالعسكر ، وادخل عليهم ليلا متجسّسا ، هل ترى فيهم شعائر الاسلام وآدابه ، فان رأيت منهم ذلك فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فافعل بهم ما يفعل بالكفّار ، فجاءهم خالد وقت المغرب فسمع منهم أذان المغرب والعشاء ، ووجدهم مجتهدين باذلين وسعهم ومجهودهم في امتثال أمر الله ، فأخذ منهم صدقاتهم ، وانصرف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ وأخبره الخبر فنزلت : ﴿أَنْ تُصِيبُوا ...﴾](٣) .

أقول : من مطاعن عثمان أنّه ولّى هذا الوليد الفاسق الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلّى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ، ثمّ قال : هل أزيدكم ؟ ومن الواضح أنّه لم يكن حاله خفيا على عثمان مع كونه أخاه.

ويدلّ على كون المراد من الفاسق هو الوليد بن عقبة ما روى في ( الاحتجاج ) عن الحسن المجتبى عليه‌السلام - في حديث - أنه قال : « وأما أنت يا وليد بن عقبة ، فو الله ما ألومك على ألومك على أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر ثمانين جلدة ، وقتل أباك صبرا بيده يوم بدر ، أم كيف لا تسبّه وقد سمّاه الله مؤمنا في عشر آيات من القرآن ، وسمّاك فاسقا وهو قوله : ﴿إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾... الآيه » (٤) .

وعن القمي رحمه‌الله : نزلت في عائشة حين رمت مارية القبطية ، واتّهمها بجريح القبطي ، فأمر رسول الله بقتل جريح ليظهر كذبها ، وترجع عن ذنبها (٥) .

أقول : لعلّ المراد من النزول جريانها في حقّها.

في الاستدلا على حجية خبر الواحد

ثمّ اعلم أن العامة وكثيرا من الخاصة استدلّوا بالآية المباركة على حجية خبر العدل

__________________

(١) الإحنة : الحقد والضّغن.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٩ : ٧٠.

(٤) الاحتجاج : ٢٧٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٩. (٥) تفسير القمي ٢ : ٣١٨ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٩.

١٠

الواحد ، حيث رتّب وجوب التبيين على كون المخبر فاسقا ، ولو لم يجز قبول خبر العادل ، لما كان للترتيب على خبر الفاسق فائدة ، وتقريره أنّ تعليق وجوب التبيين على خبر الفاسق ، يقتضي انتفاء الوجوب عند انتفاء الفسق في المخبر ، وهو بكون المخبر عادلا ، وحينئذ فإمّا نقول بعدم قبول خبره ولو مع التبيين ، بمعنى كون التبيين لغوا في مورده ، فيلزم كون خبر العادل أسوأ حالا من خبر الفاسق ، وهو باطل ، مع أنّ التبيّن سبب لليقين بصدقه ، ولا معنى لعدم قبول الخبر المتيقّن الصدق. وإمّا نقول بوجوب قبول خبره بلا تبيّن ، فهو المطلوب ، وفيه أنّ الاستدلال مبني على القول بحجيّة مفهوم الوصف ، وتعليق الحكم عليه ، وهو ممنوع ، كما حقّق في محلّه.

نعم لو تمسّك بمفهوم الشرط ، بأن يقال : إنّ الآية نظير قولك : إن جاءك زيد سائلا فأعطه درهما ، فانّ مفهومه إن جاءك غير سائل فلا تعطه ، وفيه : أن الشرط هنا لبيان تحقّق الموضوع ، كقولك : إن رزقت ولدا فاختنه ، وهذه القضية الشرطية لا مفهوم لها إلّا أن يقال الموضوع هو النبأ ، والمعنى : النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا ، وإن جاء به غير الفاسق ، وهو العادل ، فلا تبيّنوا.

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ

 حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ

 وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧) و (٨)

ثمّ لمّا أخبر الوليد بقيام بني المصطلق لقتال المسلمين ، رأى جمع من الأصحاب تجهيز الجيش وإصابتهم ، وكانوا يتوقّعون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتّبع رأيهم ، فردعهم عن هذا التوقّع بقوله : ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيّها المسلمون ﴿أَنَ﴾ محمدا الذي يكون ﴿فِيكُمْ﴾ ويعيش بينكم كأحدكم هو ﴿رَسُولَ اللهِ﴾ العالم بحقائق الأمور ، المحيط بجميع المصالح والمفاسد ، فلا تتوقعوا منه أن يتّبع آراءكم ويطيعكم في أهوائكم ، تنزيلا له عن شأنه ، وحسبانا أنّه كأحدكم ، جهلا بمقامه ، فانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ ويتّبع آراءكم ﴿فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ وغالب الوقائع بالله ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ وابتليتم بالمفاسد ، ووقعتم في المهالك أو المشاقّ ، لجهلكم وقصور فهمكم وعقلكم ، ولا تتوهّموا أنّكم لكمال عقلكم وجودة أفهامكم وتنوّر أفكاركم ، اخترتم الايمان ، واحترزتم عن الكفر والفسق والعصيان ، وتستدلّون به على إصابة رأيكم في جميع الأمور ، وحسن أنظاركم في تشخيص المصالح ﴿وَلكِنَّ اللهَ﴾ برحمته ولطفه عليكم ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ﴾ بالله ورسوله ، ورغّبكم إليه ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وحسّنه في ضمائركم بإقامة البراهين القاطعة ، وإراءة المعجزات الباهرة ، وتوفيقكم لقبوله ، وتنبيهكم على فوائده ﴿وَكَرَّهَ

١١

 إِلَيْكُمُ﴾ وأبغض لديكم ﴿الْكُفْرَ﴾ والشّرك ﴿وَالْفُسُوقَ﴾ والكذب على ما روي عن الباقر عليه‌السلام (١)﴿وَالْعِصْيانَ﴾ ومخالفة أحكام الله كافّة.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الحبّ والبغض أهو من الايمان ؟ قال : « وهل الإيمان إلّا الحبّ والبغض » ثمّ تلا هذه الآية (٢) .

ثمّ مدح سبحانه المحبّين للايمان ، المبغضين للكفر والعصيان بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصفتين الجليلتين ﴿هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ والمهتدون إلى الطريق الموصل إلى قرب الله وجنّته التي وعد المتّقون ، وإنّما ذلكم الحبّ والبغض يكون ﴿فَضْلاً﴾ وإحسانا ﴿مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً﴾ عظيمة منه تعالى ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بقابليات الأشخاص و﴿حَكِيمٌ﴾ في أفعاله ، لا يعطي أحدا إلّا بالاستحقاق.

عن الصادق عليه‌السلام في تأويل الآية : ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ﴾ يعني الأول والثاني والثالث » (٣) .

أقول : تحقيقه أنّ حبّ الايمان عين حبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكونه عليه‌السلام مجسّمة الايمان ، وبغض أعمال الثلاثة عين بغض الثلاثة الذين هم مجسّمتها.

﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى

 الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا

 بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق المورث لإثارة الفتنة بين المسلمين ووقوع القتال فيهم ، بيّن حكم القتال الواقع بينهم ، ورغّب في الإصلاح بقوله : ﴿وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وجمعان منهم ﴿اقْتَتَلُوا﴾ وتنازعوا في أمر من الأمور الدينية أو الدنيوية ، والجمع باعتبار الأفراد ، فانّهم يقتتلون ﴿فَأَصْلِحُوا﴾ بالوعظ والنّصح والتهديد وبذل المال وغيرها ﴿بَيْنَهُما﴾ حفظا لنفوسهما ، وردعا لهم عن المنكر.

بيان فضيلة الاصلاح بين المؤمنين

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا أخبركم بأفضل من الصيام والصلاة والصدقة ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله. قال : « إصلاح ذات البين » (٤) .

﴿فَإِنْ بَغَتْ﴾ وتعدّت ﴿إِحْداهُما عَلَى﴾ الطائفة ﴿الْأُخْرى﴾ ولم ترتدع بالوعظ

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٠٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٤٩.

(٢) الكافي ٢ : ١٠٢ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٠.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٣١٩ ، الكافي ١ : ٣٥٢ / ٧١ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٠.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٧٣.

١٢

والنّصح وغيرهما ﴿فَقاتِلُوا﴾ أيّها المؤمنون الطائفة ﴿الَّتِي تَبْغِي﴾ وتتعدّى على الطائفة الأخرى ﴿حَتَّى تَفِيءَ﴾ وترجع الطائفة الباغية ﴿إِلى أَمْرِ اللهِ﴾ جبرا ، ﴿فَإِنْ فاءَتْ﴾ وانقادت لحكمه قهرا ، من وجوب كفّ اليد عن قتال المؤمنين ، والتحذّر عن البغي عليهم ، فاذا انصرفوا عن القتال ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ﴾ والانصاف ، واحسموا مادة النزاع والفساد بإجراء حكم الله ، وإحقاق حقّ المظلوم ، ومنع الظالم عن ظلمه ، على كتاب الله وسنّة نبيه.

ولمّا كان بعد القتال مظنّة الحقد والحيف ، قيّد الصّلح بالعدل ، وأكّده بقوله تعالى : ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ واعدلوا في هذا الأمر وسائر الأمور ﴿إِنَّ اللهَ﴾ عادل ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والعادلين.

عن ابن عباس رضى الله عنه : أنّ النبي مرّ يوما على ملأ من الأنصار ، فيهم عبد الله بن أبي المنافق ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله راكب على حماره ، فوقف عليهم يعظهم ، فبال حماره - أو راث - فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه ، وقال : نحّ عنا نتن حمارك. فقد آذيتنا بنتنه ، فمن جاء منّا فعظه. فسمع ذلك عبد الله بن رواحة ، فقال : ألحمار رسول الله تقول هذا ؟ ! والله إن بول حمار رسول الله أطيب رائحة منك. فمرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطال الكلام بين عبد الله بن ابي الخزرجي المنافق ، وبين عبد الله بن رواحة الأوسي ، حتى استبّا وتجالدا ، وجاء قوم كلّ منهما من الأوس والخزرج ، وتجالدوا بالعصيّ ، أو بالنعال والأيدي ، أو بالسيف ، فنزلت الآية ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فقرأها عليهم وأصلح بينهم (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، فسئل : من هو ؟ قال : خاصف النّعل - يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام - فقال عمّار بن ياسر : قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثا ، وهذه الرابعة ، والله لو ضربونا حتى يبلغوننا سعفات هجر ، لعلمنا أنّا على الحقّ ، وأنّهم على الباطل. وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه‌السلام ما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل مكّة يوم فتح [ مكة ] » (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « إنّما جاء تأويل الآية يوم البصرة ، وهم أهل هذه الآية ، وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكان الواجب قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله » . إلى أن قال : « فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعدل فيهم ، حيث كان ظفر بهم ، كما عدل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل مكّة ، إنّما منّ وعفا ، وكذلك صنع أمير المؤمنين بأهل البصرة » (٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٧٤.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٢١ ، الكافي ٥ : ١١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٣٧ / ٢٣٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٠.

(٣) الكافي ٨ : ١٨٠ / ٢٠٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٥١.

١٣

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين إلى الاصلاح بين المقاتلين والمنازعين منهم بقوله : ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ فقط ﴿إِخْوَةٌ﴾ وأشخاص متحابّون ، كالمنتسبين إلى أب واحد وام واحدة.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج [ عن ] مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « المؤمن أخو المؤمن لأبيه وامّه ، لأنّ الله خلق المؤمنين من طينة الجنان ، وأجرى في صوركم من ريح الجنة » (٢) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير هذا الحديث : « المؤمن ينظر بنور الله » فقال : « إنّ الله خلق المؤمنين من نوره ، وصبغهم في رحمته ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه ، فالمؤمن أخ المؤمن لأبيه وامّه ، أبوه النور ، وامّه الرحمة ، وإنّما ينظر بذلك النور الذي خلق منه » (٣) .

أقول : يمكن أن يكون وجه آخر لاخوّتهم ، وهو أن ولادتهم الايمانية من الرسول والوصي عليهما‌السلام ، كما قال : « أنا وعليّ أبوا هذه الامّة » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : المؤمن أخ المؤمن ، عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه ولا يعيبه ، ولا يعده عدة فيخلفه (٥) .

ثمّ رتّب سبحانه على أخوّتهم ما هو من لوازمها ، وهو كون كلّ منهم مجدّا في تحصيل صلاح الآخر بقوله تعالى : ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ وأرفعوا التنازع منهم ، وحصّلوا التوادّ والرحمة فيهم ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في جميع الامور التي منها ما امرتم به من الاصلاح وإيجاد التراحم بين المؤمنين ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ من قبل ربّكم ﴿تُرْحَمُونَ﴾ على إحسانكم بهم وتقواكم من الله.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا

 نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ (١١)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان وظيفة المؤمنين بالنسبة إلى الظالم والمظلوم منهم ، ووجوب إحقاق حقّ المظلوم ، نهى عن إهانة المؤمن بذكر ما يوجب وهنه وتحقيره بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اعلموا

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٠٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٧٨.

(٢) الكافي ٢ : ١٣٣ / ٧ ، وتفسير الصافي ٥ : ٥١ ، عن الباقر عليه‌السلام.

(٣) بصائر الدرجات : ١٠٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٥١.

(٤) سعد السعود : ٢٧٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٢.

(٥) الكافي ٢ : ١٣٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٥١.

١٤

أنّ من وظائف الإيمان أن ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ﴾ وجمع من رجالكم ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ وجمع آخرين منهم ، ويستهزئ بعضكم ببعض ﴿عَسى﴾ ويرجى ﴿أَنْ يَكُونُوا﴾ اولئك المسخورون والمستهزئون بهم (١) أفضل من الساخرين ، و﴿خَيْراً مِنْهُمْ﴾ وأقرب عند الله ﴿وَلا﴾ تسخر ﴿نِساءٌ﴾ منكم ﴿مِنْ نِساءٍ﴾ اخر منكم ، ولا تستهزئ بعض المؤمنات ببعض آخر ﴿عَسى﴾ ويرجى ﴿أَنْ يَكُنَ﴾ اولئك المسخورات والمستهزئات بهنّ (٢) أفضل من الساخرات والمهزّئات (٣) و﴿خَيْراً مِنْهُنَ﴾ عند الله ، فانّ ملاك القرب والبعد عند الله مستور عنكم ، ليس ممّا يظهر من الأشكال والصّور ، ولا الأوضاع ولا الأطوار التي يدور عليها أمر السّخرية غالبا ، فليس لأحد أن يحقّر أحدا ، فيكون قد حقّر من عظّمة الله ، وأهان من وقره الله ، كإبليس الذي حقّر آدم فحقّره الله وطرده من رحمته ، ولذا روي : أنّ الله تعالى قال : « أوليائي تحت قبابي ، لا يعرفهم غيري » (٤) .

وإنّما لم يذكر سبحانه سخرية الرجال للنساء وبالعكس ، لأنّهما نادران (٥) ويحتمل أنّه تعالى أراد من ( يكون ) معنى ( يصير ) فالمعنى : أن يصيروا خيرا منهم ، ويصرن خير منهنّ ، فانّ الغنيّ الذي يستهزئ بالفقير لفقره ، يحتمل ان يصير الغني المهزّئ (٦) فقير ، ويصير الفقير المهزّأ به (٧) غنيا ، وهكذا.

عن ابن عباس : أنّ الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، كان في اذنه وقرأ ، فكان إذا أتى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسّعوا له حتى يجلس إلى جنبه ، يسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر ، فلمّا انصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصلاة اقبل نحو رسول الله يتخطّى رقاب الناس وهو يقول : تفسّحوا تفسّحوا ، فجعلوا يتفسّحون حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبينه رجل ، فقال له : تفسّح ، فلم يفعل ، فقال : من هذا ؟ فقال له الرجل : إنا فلان بن فلان ؟ فقال : بل أنت ابن فلانة ، يريد أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية ، فخجل الرجل ، ونكّس رأسه ، فأنزل الله هذه الآية (٨) .

وروي أنّ عائشة قالت : إنّ امّ سلمة جميلة لو لا أنّها قصيرة (٩) .

وعن القمي : أنّها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها ، وتقولان لها : يا بنت اليهودية ، فشكت ذلك إلى رسول الله ، فقال : « ألا تجيبيهما ؟ » فقالت : بماذا يا رسول الله ؟ قال : قولي إنّ أبي هارون نبي الله ، وعمّي موسى كليم الله ، وزوجي محمد رسول الله ، فما تنكران منّي ؟ ! » فقالت لهما ، فقالتا : هذا ما علّمك رسول الله. فأنزل الله

__________________

(١) كذا ، والصواب : المسخور منهم ، والمستهزأ بهم.

(٢) كذا ، والصواب : المسخور منهنّ ، والمستهزأ بهنّ.

(٣) كذا ، والصواب : المستهزئات.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٨٠.

(٥) في النسخة : نادر.

(٦) كذا ، والصواب : المستهزئ.

(٧) كذا ، والصواب : المستهزأ به.

(٨و٩) تفسير روح البيان ٩ : ٨٠.

١٥

في ذلك : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ﴾ ... الآية (١) .

﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ

 وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)

ثمّ نهى سبحانه عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بالقول بقوله : ﴿وَلا تَلْمِزُوا﴾ ولا تعيبوا غيركم من المؤمنين ، أو لا تطعنوهم فكأنّهم تعيبون ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنّ المؤمنين كنفس واحدة ، فما يصيب واحدا منهم كأنّه يصيب جميعهم.

وقيل : إنّ المعنى لا تعيبوا غيركم ، فانّه يكون سببا لأن يبحث من عبتموه عن عيوبكم فيعيبكم ، فبالتعييب عبتم أنفسكم (٢) .

وقيل : إنّ المراد لا تفعلوا ما تعيبون به ، فكأنّكم تعيبون أنفسكم (٣) .

﴿وَلا تَنابَزُوا﴾ ولا يدعوا غيركم من المؤمنين ﴿بِالْأَلْقابِ﴾ السوء ﴿بِئْسَ الِاسْمُ﴾ وساء الذكر المرتفع بين الناس ﴿الْفُسُوقُ﴾ والذكر الذي يخرج المذكور من الايمان ﴿بَعْدَ﴾ كونهم داخلين في ﴿الْإِيمانِ﴾.

في ذكر بعض مطاعن عائشة وحفصة

روت العامة أنّ الآية نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باكية ، فقالت : إنّ عائشة قالت لي : يا يهودية بنت اليهوديين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هلا قلت إن أبي هارون ، وعمّي موسى ، وزوجي محمد ؟ ! » (٤) .

أقول : انظروا إلى هذه البذيّة ، كيف يطهّرها العامة من الذنوب والعيوب ، ويفضّلونها على فاطمة المعصومة ، ليت الرسول علّمها أن تقول لها : يا مشركة بنت المشركين ، وفي الحديث « من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه » كان حقا على الله أن يبتليه به ، ويفضحه بين الناس » (٥) .

أقول : قد حقّق مضمون الحديث في عائشة ، فانّها عيّرت صفية بكفرها ، فابتلاها الله بالقتال مع عليّ عليه‌السلام الذي كان نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كفر ، أو بمنزلة الكفر.

ثمّ حثّ سبحانه الناس على التوبة من تلك المنهيات التي كلّها ظلم على المؤمنين بقوله : ﴿وَمَنْ﴾ ارتكب تلك المعاصي و﴿لَمْ يَتُبْ﴾ إلى الله تعالى منها ﴿فَأُولئِكَ﴾ العصاة ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ على ربّهم بخروجهم عن طاعته ، وكفران نعمته ، وتضييع حقوقه ، وعلى أنفسهم بتعريضها للهلاك

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٨١.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٨٢.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٨٢.

١٦

والعذاب.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا

 وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ

 وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)

ثمّ علّم سبحانه المؤمنين أدب العشرة بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا﴾ واحترزوا ﴿كَثِيراً مِنَ الظَّنِ﴾ بالرسول وبالمؤمنين ، وابعدوا أنفسكم من الحسبان السوء ، والحسبان الذي لا تعلمون أنه حسن أو سيء ، وهو كثير ، وفي مقابلة الظنّ الذي تعلمون أنّه حسن ، وهو بالنسبة إلى غيره قليل ، وذلك ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ﴾ بهم ، وهو ظنّ السوء ﴿إِثْمٌ﴾ وحرام تتبعه عقوبة وعذاب ، فعليكم الاحتياط والتروّي حتى تعلموا من أي القبيل من الظنّ سوء أو حسن.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال « ظنّوا بالمؤمن خيرا » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك (٢) منه ، ولا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا ، وأنت تجد لها في الخير محملا » (٣) .

﴿وَلا تَجَسَّسُوا﴾ ولا تفتّشوا عن معايبهم المستورة ، وزلّاتهم الخفية ، ولا تبحثوا عن عوراتهم.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تطلبوا عثرات المؤمنين ، فانّه من تتبّع عثرات أخيه تتبّع الله عثرته ، ومن تتبّع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته » (٤) . ورواه بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله(٥) .

ورووا أن جبرئيل قال : يا محمد ، لو كانت عبادتنا على وجه الأرض ، لعملنا ثلاث خصال : سقي الماء للمسلمين ، وإعانة أصحاب القتال ، وستر الذنوب على المسلمين (٦) .

في ذكر بعض مطاعن عمر

وروى بعض العامة أنّ عمر يعسّ ذات ليلة ، فنظر إلى مصباح من خلل باب ، فاطّلع فاذا قوم على شراب لهم ، لم يدر كيف يصنع ، فدخل المسجد ، فأخرج عبد الرحمن بن عوف ، فجاء به إلى الباب ، فنظر وقال له : كيف ترى أن نعمل ؟ فقال : أرى والله أنّا قد أتينا إلى ما نهانا الله عنه ، لأنّا تجسّسنا واطّلعنا على عورة قوم ستروا دوننا ، وما كان لنا أن نكشف ستر الله. فقال عمر : ما أراك إلّا وقد صدقت ، فانصرفا (٧) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٨ : ١٣٤.

(٢) في الكافي : يغلبك.

(٣) الكافي ٢ : ٣٦٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٣.

(٤) الكافي ٢ : ٢٦٥ / ٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٣.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٨٦.

(٦) تفسير روح البيان ٩ : ٨٦.

(٧) تفسير روح البيان ٩ : ٨٧.

١٧

أقول : فيه طعن عظيم على عمر ، حيث دلّ على أنّه أجهل الناس بأحكام الكتاب ، وتكليف نفسه ، وأرتكب كثيرا من المعاصي ، وليس ذلك ببعيد ممّن قال : كلّ الناس افقه من عمر حتى المخدّرات في الحجال.

﴿وَلا يَغْتَبْ﴾ أيّها المؤمنون ، ولا يذكر بالسوء ﴿بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ في غيابه.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن الغيبة ، فقال : « أن تذكر أخاك بما يكره ، فان كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه » (١) .

في حرمة الغيبة وأحكامها

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الغيبة ، فقال : « هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ أمرا ستره الله عليه ، لم يقم عليه فيه الحدّ » (٢) .

وفي رواية : « وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه ، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته » (٤) .

وروت العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إياكم والغيبة ، فانّ الغيبة أشدّ من الزنا » .

ثمّ قال : « إن الرجل يزني ويتوب ، فيتوب الله عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا أن يغفر له صاحبه » . وعن ابن عباس : الغيبة أدام كلاب النار (٥) .

وروي « أنّ المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنّة ، وإن لم يتب أول من يدخل النار » (٦) . إلى غير ذلك من الأخبار.

ثمّ شبّه سبحانه تناول عرض المؤمن بأكل لحمه بعد موته مبالغة في الزجر عنه بقوله : ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ ويرغب في ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ﴾ جسد ﴿أَخِيهِ﴾ النسبي

حال كونه ﴿مَيْتاً﴾ وجيفة ، ومن الواضح أنكم إذا ابتليتم بأكل هذا اللحم ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ وتنفر منه طباعكم ، واشمأزّت منه نفوسكم ، وحكم بقبحه عقولكم ، فكذا تناول عرض المؤمن الذي هو أخوكم في الايمان حال غيبته.

قيل : لمّا كان مجال توهّم أنّ اللّمز والنّبز حرامان ، لاطلاع المؤمن عليهما وتألّمه بهما غايته ، وأمّا الغيبة فلا وجه لحرمتها وقبحها ، لعدم تألم المغتاب منها ؛ لأنّه لا يطّلع عليها ، دفعه سبحانه بأن أكل

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٨٧.

(٢) الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٣.

(٣) الكافي ٢ : ٢٦٧ / ٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٣.

(٤) الكافي ٢ : ٢٦٦ / ٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٣.

(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٨٩.

(٦) مصباح الشريعة : ٢٠٥.

١٨

لحم الأخ الميت لا يؤلمه أيضا ، مع أنّه في غاية القبح (١) ، لكونه في غاية البعد عن رعاية حقّ الأخوة(٢).

وفي الآية والروايات دلالة واضحة على كونها من الكبائر ، ولذا أكّد سبحانه حرمتها بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ واحذروا عقابه في ارتكابها.

ثمّ حثّ سبحانه على التوبة منها بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ﴾ سريع القبول لتوبة التائبين ممّا فرط منهم ﴿رَحِيمٌ﴾ بمن اتقّى ما نهى عنه ، ومتفضّل عليه بالثواب.

روى بعض العامة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا عزا أو سافر ، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّمهما إلى المنزل ، فيهييء لهما طعامهما وشرابهما ، فضّم سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدّم سلمان إلى المنزل ، فغلبته عيناه ، فلم يهيّىء لهما شيئا ، فلمّا قدما قالا له : ما صنعت شيئا ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي. قالا له : انطلق إلى رسول الله واسأله طعاما. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « انطلق إلى اسامة بن زيد ، وقل له إن كان عنده فضل من الطعام فليعطك » وكان اسامة خازن رسول الله على رحله وطعامه ، فأتاه فقال له اسامة : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إلى الرجلين فأخبرهما ، فقالا : كان عند اسامة شيء ، ولكن بخل به ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئا ، فلمّا رجع قالوا : لو بعثناه إلى بئر سميحة (٣) لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى اسامة يتجسّسان هل عنده ما أمر لهما به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الطعام ، فلمّا جاءا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهما : « ما لي أرى خرة اللحم في أفواهكما ؟ » قالوا : والله يا رسول الله ، ما تناولنا يومنا هذا لحما ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ظللتما تأكلان لحم اسامة وسلمان » فأنزل الله الآية (٤) .

وقد عيّن الرجلين في رواية ( الجوامع ) فانّه روى أنّ أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأتي لهما بطعام ، فبعثه إلى اسامة بن زيد ، وكان خازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رحله ، فقال : ما عندي فعاد إليهما فقالا : بخل اسامة ، ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثمّ انطلقا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهما : « ما لي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما » قالا : يا رسول الله ، ما تناولنا اليوم لحما. قال : « ظللتم تفكّهون لحم سلمان واسامة » فنزلت (٥) .

وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال : هم الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في

__________________

(١) في النسخة : الفتح.

(٢) تفسير الرازي ٢٨ / ١٣٥.

(٣) سميحة : بئر بالمدينة غزيرة الماء.

(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٨٨.

(٥) جوامع الجامع : ٤٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ٥٤.

١٩

أعراضهم » (١) فظهر من ذلك أنّه لا يحرم ذكر مساوئ غير المؤمن وغير المميّز ، بل غير البالغين ، لانصراف الأخ في الآية والأخبار إليهم ، وإن الاحتراز أحوط ، وكذا غير المتستّرين ، فمن كان عيبه ظاهرا ، أو بفسقه متجاهرا فلا غيبة له في عيوبه الظاهرة ، وما تجاهر به لتوصيف المذكور بما ستره الله عليه ، ولمّا روي « أنّ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له » (٢) . بل إطلاق الرواية تدلّ على جواز غيبة المتجاهر بفسق في غير ما تجاهر به.

وكما أنّه تحرم الغيبة يحرم استماعها ، لما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « المغتاب والمستمع شريكان في الاثم » (٣) .

والظاهر منه ومن غيره من الأخبار أنّ ذكر عيب شخص لا يكون غيبة إذا لم يكن له مستمع ، فانّ الظاهر من الأدلة حرمة كشف العورة وهتك ما ستره الله ، ومنه يظهر اشتراط كون المغتاب بالفتح معروفا عند المستمع ، فانّ ذكر عيبه لا يكون كشفا للمستور ، إلّا إذا كان معروفا بالتفصيل أو بالاجمال في المحصورين كالاثنين والثلاث ونظائرهما ، وكذا عدم اختصاصه بالذكر باللسان ، بل يعم ذلك والكتابة والاشارة ، ولا بالتصريح بل تعمّ التعريض والكناية ، ولا يعتبر في حرمتها قصد الازراء والتنقيص والذمّ. نعم ، إذا صدرت بتلك المقصود ، كانت حرمتها أشدّ وآكد ، وكذا لا فرق بين كون العيب المذكور في بدنه أو خلقه أو نسبه أو فعله أو قوله أو دينه أو امور دنياه حتى ثوبه أو داره ، كلّ ذلك إذا لم يكن ظاهرا مكشوفا لمن رأه ، أو للمستمع.

وإذا احتمل المستمع جواز الغيبة في حقّ المغتاب بالكسر ، لظهور العيب أو للتجاهر أو لكونه مظلوما أو غير ذلك ، كان عليه حمل فعله على الصحة والجواز ، فلا يحرم عليه استماعها ، لتلازم جواز الغيبة وجواز استماعها ، وكذا العكس ، وإنّما صدّر الآية بالخطاب للمؤمنين تنبيها على أنّ امتثال الأحكام المذكورة من لوازم الايمان.

ثمّ لمّا نهى سبحانه عن سوء الظّن بالمؤمنين وتنقيصهم بالظّن فضلا عن الشكّ والترديد ، وكان مجال أن يقول أحد : إذا ظننّا بهم سوء ان نتفحّص عن واقع أمرهم حتى نتيقّن بما ظننّا ، ثمّ نقول فيهم باليقين ، نهى سبحانه عن التجسّس والتفحّص عن معايبهم وزلّاتهم ، وتحصيل العلم بها ، ثمّ نهى عن ذكر ما علم اتفاقا أو حصّله عصيانا.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٩ : ٨٩.

(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٩٠.

(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٨٩.

٢٠