نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

١

٢
٣

٤

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ

 الظَّالِمِينَ (٥٧)

ثمّ أردف سبحانه التّهديد والوعيد بالوعد والتّرغيب، بقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيّته، وعبوديّتك ورسالتك ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ التي يكون الالتزام بها من وظائف الإيمان، وداوموا على العبادات والطّاعات ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾ الله، ويكمل لهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ وثواب إيمانهم وأعمالهم، من غير نقص ﴿وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ بل يبغضهم أشدّ البغض. وفيه بيان علّة تعذيبه الكافرين، وتوفيته ثواب المؤمنين.

﴿ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

ثمّ استَدلّ سُبحانه على نُبًوّة خاتَم النّبِيّين بأنّ جميع هذه القضايا مِمّا لا يمكن اطّلاع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عليها إلّا بالوَحي مِن الله، لا بالتّعلّم مِن عالِم، ولا بالقراءة في كِتابٍ، حيثً قال: ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من نَبأ عيسى بَدْواً وخَتْماَ ﴿نَتْلُوهُ﴾ ونقرأه ﴿عَلَيْكَ﴾ بالوَحْيِ، وبتوسَّط جَبْرَئيل، حال كَوْن المتْلُوّ ﴿مِنَ الآيَاتِ﴾ والأدلّة الدّالّة على صِحّة نُبُوّتك، مِن حيثُ إعجاز البَيان، وكَوْنه مِنَ الأخبار المغيبُّات، ﴿وَ  مِن ﴿الذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ والقُرآن المحْكم المصون من تطرّق الخلل إليه ، أو المشتمل على الحكم البالغة في نظمه وتأليفه وكثرة علومه.

﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ

 مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ

 فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ

 نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٥٩) و (٦١)

ثمّ أنّه نقل المفسّرون أنّ وفد نجران لمّا قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله: لمّا سلّمت أنّه لا أب لعيسى من  البشر ، وجب أن يكون أبوه هو الله ، فنزل دفعا لهذه الشّبهة (١)﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى﴾ وشأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي

تقديره وحكمه ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾ ونحْو خلقته العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب ، ولا ينازع فيها  منازع.

__________________

(١) تفسير الرازي ٨: ٧٤.

٥

ثمّ بيّن سبحانه وجه المماثلة بقوله : ﴿خَلَقَهُ﴾ الله بقدرته الكاملة ﴿مِنْ تُرابٍ﴾ وسوّى جسده من طين لازب ﴿ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ﴾ بشرا وحيّا سويّا ، وأراد أن يوجد إنسانا كاملا ﴿فَيَكُونُ﴾ ويوجد كما أراد من غير ريث ، فإن كنتم عجبتم من خلق عيسى بلا آب ، ولذلك قلتم : إنّه ابن الله ، فلا بدّ أن يكون تعجّبكم من خلق آدم أكثر ، وقولكم بأنّه ابن الله أولى.

فذلك البناء من كيفيّة خلق عيسى هو ﴿الْحَقُ﴾ الثابت ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ لا قول النّصارى ﴿فَلا تَكُنْ﴾ بعد وحي الله إليك ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ في كيفيّة خلق عيسى ، والشّاكّين فيها ، مع أنّه لا يمكن في حقّك الامتراء والشّكّ.

﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ في شأن عيسى وأمّه [ و] جادلك ﴿فِيهِ﴾ لجاجا وجهلا بالأقاويل الباطلة والآراء الزّائغة ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ بالحقّ وظهور الصّواب من الآيات البيّنات ، وأقمت الحجج عليهم ، فلم يرتدعوا عمّا هم عليه من الغيّ والضّلال ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿تَعالَوْا﴾ وهلمّوا بالرأي والعزيمة ﴿نَدْعُ﴾ نحن وأنتم ﴿أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ﴾ وتخصيص الأبناء بالذّكر ؛ لأنّهم أعزّ من البنات ﴿وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ﴾ وذكرهنّ لكونهنّ من بعد الأبناء أعزّة الأهل ، ويجعل الإنسان نفسه وقاية لهنّ في المهالك ، ﴿وَ﴾ ندع ﴿وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ إلى المباهلة ، واحضروا حتّى نحمل نفوسنا ، ومن هو بمنزلة الرّوح منّا وألصق بقلوبنا ، على التّوطين للهلاك ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ ونتلاعن ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ﴾ وعذابه ﴿عَلَى الْكاذِبِينَ﴾ منّا ومنكم.

في ( العلل ) : عن الجواد عليه‌السلام قال : « ولو قال : ( تعالوا نبتهل فنجعل لعنت الله عليكم ) لم يجيبوا للمباهلة ، وقد عرف أن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مؤدّ عنه [ رسالته ] وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صادق فيما يقول ، ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه » (١) .

في شرح قضية المباهلة

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أورد الدّلائل على النّصارى ، ثمّ أنّهم أصرّوا على جهلهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك. فلمّا رجعوا قالوا للعاقب (٢) ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى ؟ فقال : والله ، لقد عرفتم يا معشر النّصارى أنّ محمّدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالكلام [ الحقّ ] في أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّا قطّ ، فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لكان الاستئصال ، فإن أبيتم [ إلّا ] الإصرار على دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم.

__________________

(١) علل الشرائع : ١٢٩ / ١ ، عن الإمام الهادي عليه‌السلام.

(٢) العاقب : هو من يخلف سيّد القوم في الرتبة ، وهو صاحب الرأي.

٦

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ قد ] خرج وعليه مرط من شعر أسود - والمرط كساء من صوف - وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله قد احتضن الحسين عليه‌السلام وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ عليه‌السلام خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النّصارى ، إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله [ بها ] ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.

ثمّ قالوا : يا أبا القاسم ، رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرّك على دينك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما على المسلمين » فأبوا ، فقال : « فإنّي أناجزكم القتال » فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك في كلّ عام ألفي حلّة ؛ ألفا في صفر وألفا في رجب ، وثلاثين درعا عاديّة من حديد ، فصالحهم على ذلك ، وقال : « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطّير في رؤوس الشّجر ، ولما حال الحول على النّصارى حتّى يهلكوا » .

أقول : هذا عين ما رواه الفخر الرازي في تفسيره (١) ، وقريب ممّا رواه غيره من المفسّرين (٢) .

وقال البيضاوي بعد نقله : هذا دليل على نبوّته ، وفضل من أتى بهم من أهل بيته (٣) .

وأقول : هذا دليل على أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه (٤) ، وأفضل من سائر البريّة ، وأنّه خليفته.

ثمّ قال الفخر : وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خرج في المرط الأسود فجاء الحسن عليه‌السلام فأدخله ، ثمّ جاء الحسين عليه‌السلام فأدخله ، ثمّ فاطمة ، ثمّ عليّ عليهما‌السلام ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(٥) . ثمّ قال : واعلم أنّ هذه الرّواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التّفسير والحديث (٦) .

في ( العلل ) : عن الكاظم عليه‌السلام : « لم يدّع أحد أنّه أدخله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند مباهلة النّصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهما‌السلام ، فكان تأويل قوله عزوجل : ﴿أَبْناءَنا﴾ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، و﴿نِساءَنا﴾ فاطمة عليها‌السلام و﴿أَنْفُسَنا﴾ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » (٧).

وعن القمي في رواية عن الصادق عليه‌السلام ، بعد ذكر آية ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ﴾ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللّعنة عليكم ، وإن كنت كاذبا أنزلت عليّ » فقالوا : أنصفت. فتواعدوا

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ٨٠.

(٢) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٣ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٤٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٨.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٣.

(٤) أي نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٥) الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ٨٠.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٥ / ٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٨ عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، ولم نجده في العلل.

٧

للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم ، السيّد والعاقب والأهتم : إن باهلنا بقومه باهلناه ، فإنّه ليس نبيا ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله ، فإنّه لا يقدم على أهل بيته إلّا وهو صادق.

فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن ، والحسين عليهم‌السلام ، فقال النّصارى : من هؤلاء ؟ فقيل لهم : إنّ هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب ، وهذه ابنته فاطمة ، وهذان ابناه الحسن والحسين عليهم‌السلام ، ففرقوا وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجزية وانصرفوا (١) .

في أن ابن البنت ابن حقيقة

قال الفخر : هذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول الله ، حيث وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين عليهما‌السلام فوجب أن يكونا ابنيه ، وممّا يؤكّد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام : ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ﴾ إلى قوله : ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى(٢) ومعلوم أنّ عيسى انتسب إلى إبراهيم بالأمّ لا بالأب ، فثبت أنّ ابن البنت قد يسمّى ابنا (٣) .

أقول : عصبيته منعته من أن يقول : فثبت أنّ ابن البنت ابن حقيقة ، وقال : قد يسمّى ابنا.

في أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام أفضل من سائر الأنبياء

ثمّ قال : إنّه كان بالرّي رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي ، وكان معلّم الاثني عشريّة ، وكان يزعم أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : والذي يدلّ عليه قوله تعالى : ﴿وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ وليس المراد بقوله : ﴿أَنْفُسَنا﴾ نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد به غيره ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فدلّت الآية على أنّ نفس عليّ هي نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يمكن أن يكون المراد منه أنّ هذه النّفس هي عين تلك النّفس ، فالمراد أنّ هذه النّفس هي مثل تلك النّفس ، وذلك يقتضي الإستواء في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حقّ النّبوّة وفي حقّ الفضل ، لقيام الدّلائل على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيّا ، وما كان عليّ كذلك ، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أفضل من عليّ عليه‌السلام ، فيبقى فيما وراءه معمولا به ، ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أفضل من سائر الأنبياء ، فيلزم أن يكون عليّ عليه‌السلام أفضل من سائر الأنبياء ، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية (٤) .

ثمّ قال الفخر [ نقلا عن محمود الحمصي المتقدم ] : ويؤيّد الاستدلال بهذه الآية ، الحديث المقبول

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٠٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣١٨.

(٢) الأنعام : ٦ / ٨٤ و٨٥.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٨١.

(٤) وللشيخ المفيد تفصيل في المقام ذكره في كتابه ( تفضيل أمير المؤمنين عليه‌السلام ) المنشور في ج ٧ من مصنفات الشيخ المفيد ، فراجع.

٨

عند الموافق والمخالف ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أراد أن يرى آدم فى علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب » . فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرّقا فيهم ، وذلك يدلّ على أنّ عليّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا سائر الشّيعة فقد كانوا قديما وحديثا يستدلّون بهذه الآية على أن عليّا أفضل من سائر الصّحابة ؛ وذلك لأنّ الآية لمّا دلّت على أنّ نفس عليّ عليه‌السلام (١) مثل نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا فيما خصّه الدّليل ، وكان نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من الصّحابة ، فوجب أن يكون عليّ أفضل أيضا من سائر الصّحابة. هذا تقرير كلام الشّيعة.

في نقل كلام الفخر ورده

ثمّ قال الفخر : والجواب : أنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من عليّ عليه‌السلام ، انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أنّ النبيّ أفضل ممّن ليس بنبيّ ، وأجمعوا على أن عليّا عليه‌السلام لم يكن نبيّا ، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكذلك مخصوص في حقّ سائر الأنبياء. أنتهى كلام الفخر (٢) .

وفيه : أنّ دعوى الإجماع على أنّ كلّ نبيّ أفضل من غير النبي ، في غاية البطلان ، بل الإجماع على خلافه ، لوضوح أنّ مريم كانت أفضل من أنبياء بني إسرائيل ، ولم يكن في كمالاتها النّفسانيّة قصور عن أهليّتها لمنصب النّبوّة ، غير أنّ صفة الأنوثية منعتها عن نيله ، والشّاهد على ذلك أنّها كانت تحدّث الملائكة مشافهة ، وزكريّا مع كونه نبيّا ، لم يعلم أنّه رأى ملكا ، وإنّما كان يسمع النّداء.

وكذلك لم يكن في كمالات عليّ عليه‌السلام قصور عن قابليّة رتبة النّبوّة ، ولو لا ختم النّبوّة بوجود خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله لكان عليّ عليه‌السلام نبيّا.

في إثبات أفضلية الصديقة الطاهرة على غير أبيها من الأنبياء

بل اعتقاد الإماميّة أنّ فاطمة عليها‌السلام ؛ التي كانت دون عليّ عليه‌السلام في الفضل ، كانت أفضل من سائر الأنبياء ، حيث قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة روحي التي بين جنبي » (٣) . وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : « لولا عليّ لما كان لفاطمة كفؤ ، آدم ومن دونه » (٤) .

وهذا الحديث والحديث السّابق المتّفق عليه صريحان في أفضليّة علي عليه‌السلام من سائر الأنبياء ، نعم الإجماع منعقد على أنّ كلّ نبيّ أفضل من أمّته وممّن هو تحت تبعيّته وحكمه ، لا أنّه لا بدّ أن يكون

__________________

(١) ( أفضل من سائر ... عليّ عليه‌السلام ) ليس في المصدر.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٨١.

(٣) أمالي الصدوق : ١٧٥ / ٢.

(٤) الكافي ١ : ٣٨٣ / ١٠ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٤٩ / ١١٨٣ ، التهذيب ٧ : ٤٧٠ / ١٨٨٢ ، الفردوس ٣ : ٣٧٣ / ٥١٣٠ ، مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي ١ : ٦٦.

٩

أفضل من كلّ من لا يكون نبيّا ، ولو من سائر الأمم حتّى أوصياء خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحاصل : أنّ القائل بأفضليّة عليّ عليه‌السلام لم يكن منحصرا بذلك الفاضل الحمصي ، بل هو قول جميع علماء الإماميّة ، بل يمكن دعوى كونه من ضروريّات مذهبهم.

ثمّ أنّ في واقعة المباهلة دلالة واضحة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصحّة نبوّته ، لوضوح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أعقل النّاس ، وأنّه أقدم على المباهلة وخوّف النّصارى بنزول العذاب عليهم بدعائه ، فلو لم يكن قاطعا بنبوّته ، لكان ذلك منه سعيا في ظهور كذبه ، ونقض غرضه ، وإهلاك نفسه ، حيث إنّ النّصارى إن كانوا أقدموا على المباهلة ورأوا أنّه لم ينزل عليهم العذاب ، كان يتّضح عندهم كذبه صلى‌الله‌عليه‌وآله وفضاحته بين النّاس ، مع أنّه لا شبهة أنّ القوم تركوا مباهلته ، فلو لم يظهر لهم نبوّته ، لم يمكن عادة امتناعهم عن مباهلته ، مع شدّة إصرارهم على تكذيبه ، وإبطال دعواه.

﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٢) و(٦٣)

ثمّ أكّد الله سبحانه الحجج التي أقامها على النّصارى بقوله : ﴿إِنَّ هذا﴾ المذكور من نبأ عيسى وأمّه ، وكونهما مخلوقين لله وعبديه ، ومن الأدلّة المفصّلة عليها ﴿لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ﴾ والبيانات المقرونة بالصّدق والصّواب التي نتيجتها قوله : ﴿وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ﴾ وحده لا شريك له ، ولا ولد ﴿وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب على كلّ شيء ، القادر على جميع ما يريد ﴿الْحَكِيمُ﴾ العالم بجميع الأمور وعواقبها ، وبحكم كافّة الأشياء ومصالحها ، لا يشابهه غيره في القدرة والحكمة حتّى يشاركة في الألوهيّة.

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن قبول الإسلام ، واستنكفوا عن الاعتراف بتوحيد الله ورسالتك ، فاعلم أنّه ليس ذلك التّولّي إلّا عن العناد وإرادة الفساد ، فإذن لا تبال بهم ، ولا تحزن عليهم ، وأعرض عنهم ، واقطع الكلام معهم ، وفوّض أمرهم إلى الله ﴿فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ مطّلع على خبث ذاتهم وسوء نيّاتهم ، خبير بأهوائهم الزّائغة وأغراضهم الفاسدة ، قادر على مجازاتهم بأسوأ الجزاء. وفي ذكر اسم الجلالة ، تربية الرّوعة والمهابة.

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا

 نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا

 اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)

١٠

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بمباهلة أهل الكتاب ، وإعراضه عن مجادلتهم - مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله حريصا في إيمانهم ، ومصرّا على هدايتهم - أمره بأن يعدل في دعوتهم عن طريق المجادلة والمحاجّة إلى نهج يشهد كلّ عقل سليم أنّه عدل وإنصاف ، ليس فيه شائبة التّعصّب ، بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد للنّصارى :﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا﴾ وهلمّوا بالتّصميم وتوطين النّفس ﴿إِلى كَلِمَةٍ﴾ ذات ﴿سَواءٍ﴾ وقول فيه عدل وإنصاف ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ﴾ لا يتصوّر فيها لأحد جور وميل على صاحبه ؛ وهي تواطئنا على ﴿أَلَّا نَعْبُدَ﴾ أحدا من الخلق ، وشيئا من الموجودات ﴿إِلَّا اللهَ﴾ المستحقّ بالذّات للالوهيّة والعبادة ﴿وَلا نُشْرِكَ بِهِ﴾ في عبادتنا ﴿شَيْئاً﴾ من مخلوقاته مسيحا كان ، أو صنما ، أو غيرهما ﴿وَلا يَتَّخِذَ﴾ ولا يختار ﴿بَعْضُنا بَعْضاً﴾ آخر من الأحبار والرّهبان ﴿أَرْباباً﴾ ومطاعين في تحليل الأشياء وتحريمها ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه.

في بيان المراد من الأقانيم

فإنّ جميع هذه الأمور الثّلاثة (١) ممّا تسالمت عليها العقول السّليمة والطّباع المستقيمة ، واتّفقت عليها الرّسل والكتب المنزلة ، ومع ذلك خالفت النّصارى كلّها ، إذ كان بعضهم يقولون بالوهيّة عيسى عليه‌السلام وحده ويعبدونه ، وبعضهم يشركون بالله غيره ، ويقولون بالأقانيم الثّلاثة : أب ، وابن ، وروح القدس ، حيث قالوا : إنّ اقنوم الكلمة تدرّعت بناسوت المسيح ، واقنوم روح القدس بناسوت مريم ، ولولا [ كون ] هذين الاقنومين ذاتين مستقلّتين ، لما جازت عليها مفارقة ذات الأب والتّدرّع بناسوت عيسى ومريم عليهما‌السلام ، فلذا أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلّة ، وكذا اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ، حيث كانوا يطيعونهم في التّحليل والتّحريم ، ويسجدون لهم.

روي أنّه لمّا نزلت ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ(٢) قال عديّ بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أ ليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون ، فتأخذون بقولهم ؟ » قال : نعم ، قال : « هو ذلك » (٣) .

قيل : إنّ من مذهبهم أنّ من صار كاملا في الرّياضة والمجاهدة يظهر منه (٤) أثر حلول اللّاهوت ، فيقدر على إحياء الأموات ، وإبراء الأكمه والأبرص. فإنّهم وإن لم يطلقوا عليه اسم الرّبّ ، إلّا أنّهم أثبتوا فيه (٥) معنى الرّبوبيّة (٦) .

وروي أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما تريد إلّا أن نتّخذك ربّا كما اتّخذت النّصارى عيسى ، وقالت

__________________

(١) أي الواردة في الآية.

(٢) التوبة : ٩ / ٣١.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٤٧.

(٤) في تفسير الرازي : فيه.

(٥) في تفسير الرازي : في حقه.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ٨٦.

١١

النّصارى : يا محمّد ، ما تريد إلّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ، فأنزل الله هذه الآية (١) . وعليها يكون الخطاب لأهل الكتابين.

ثمّ قال تعالى : ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن سلوك طريق الإنصاف واتّباع العقل ، واستنكفوا عن قبول ما دعوتهم إليه من التّوحيد وترك الإشراك ﴿فَقُولُوا﴾ أيّها الموحّدون لأهل الكتابين : ﴿اشْهَدُوا﴾ واعترفوا بعدما لزمتكم الحجّة ﴿بِأَنَّا﴾ خاصّة ﴿مُسْلِمُونَ﴾ لله منقادون لما دعانا إليه من التّوحيد ، وعدم الإشراك في العبادة ؛ ببيان العقل ، ولسان الرّسل. وفيه دلالة ظاهرة على أنّ أصل جميع الدّيانات هو التّوحيد ، والإخلاص في العبادة.

في توقيع سيد الرسل إلى قيصر الروم

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إلى قيصر الرّوم : « من محمّد رسول الله ، إلى هرقل عظيم الرّوم ، سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد : فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين ، وإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأوليين (٢) ، و﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾ إلى قوله : ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٣) .

روي أنّ هرقل سأل عن حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفها ممّن جاء بكتابه ، فقال هرقل : لو كنت عنده لقبّلت قدميه ؛ لمعرفته صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة ، لكن خاف من ذهاب الرّئاسة.

ثمّ أنّه كتب جواب كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنا نشهد أنّك نبيّ ، ولكنّا لا نستطيع أن نترك الدّين القديم الذي اصطفاه الله لعيسى. فعجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « لقد ثبت ملكهم إلى يوم القيامة أبدا » .

وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزّق كتابه ، ورجع الرّسول بعدما أراد قتله ، فدعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « خرّق الله ملكهم ، فلا ملك لهم أبدا » ، فكان كذلك (٤) .

فى مبالغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوة النصارى وحسن التدّرج في الحجاج

قال بعض : انظر ما روي في هذه القضيّة من المبالغة في الإرشاد ، وحسن التّدرّج في الحجاج بيّن أوّلا أحوال عيسى ، وما تعاور (٥) عليه من الأطوار المنافية للإلاهيّة ، ثمّ ذكر كيفيّة دعوته للنّاس إلى التّوحيد والإسلام ، ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم ، ويزيح شبهتهم ، فلمّا ظهر عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ، ثمّ لمّا

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ٨٥.

(٢) في تفسير روح البيان : الاريسيّين ، وهم الخدم والخول ، أو هم عبدة النار ، أو الملوك والعشارون. انظر : مكاتيب الرسول : ١٠٥ - ١٠٧.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦.

(٥) تعاور : أي تداول عليه.

١٢

أعرضوا وانقادوا بعض الانقياد ، عاد عليهم بالإرشاد ، وسلك طريقا أسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ، ثمّ لمّا ظهر عدم إجدائه ، وعلم أنّ الآيات والنّذر لا تغن عنهم ، أعرض عن ذلك بقوله : ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ .

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ

 بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)

ثمّ أنّه - لمّا كان كلّ من اليهود والنّصارى يدّعون أنّ إبراهيم كان على دينهم ، ويستدلّون بذلك على صحّة ملّتهم ، لتسالم جميع الفرق على علوّ مقام إبراهيم عليه‌السلام ، واستقامة طريقته ، وحسن سيرته ، وصحّة عقيدته - ردّ الله عليهم بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنّصارى ﴿لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ وتنازعون ﴿فِي﴾ دين ﴿إِبْراهِيمَ﴾ أنّه يهوديّ أو نصرانيّ ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ﴾ اللذين بهما حدث الدّينان ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ﴾ بقرون كثيرة ، ولم يكونا في زمانه ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ أنّ هذه الدّعوى واضحة البطلان ؟ وكيف لا تفهمون أنّ هذا القول من الفساد بمكان.

قيل : إنّ بين إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ونزول التّوراة ألف سنة ، وبين موسى وعيسى عليهما‌السلام ونزول الإنجيل ألفا سنة (١) .

وهم ودفع

إن قيل : إنّ المسلمين أيضا يدّعون أنّ إبراهيم كان مسلما ، وهذه الدّعوى كدعوى أهل الكتابين من المحالات ، حيث إنّه ما أنزل القرآن والإسلام إلّا من بعده ، فكلّ ما يقول المسلمون في توجيه دعواهم ، تقول الطّائفتان أيضا.

قلنا : المراد من الإسلام : هو التّوحيد الخالص ، وتنزيهه تعالى عن التّجسّم والولد والحاجة. وهذ الدّين كان من أوّل الدّنيا ، ويكون إلى يوم القيامة. والمراد باليهوديّة : هو القول بالشّرك ، والتّجسّم ، وإثبات الولد له تعالى. وكذا النّصرانيّة.

وهذه العقائد الفاسدة كانت عندهم منسوبة إلى الكتابين ، أو حدثت في اعتقادهم بعد الكتابين ؛ لأنّ اليهود ذهبوا إلى القول بأنّ العزير ابن الله لتلاوته التّوراة بعد ذهابها من بين النّاس عن ظهر القلب ، والنّصارى قالوا : إنّ المسيح الجائي بالإنجيل كان هو الله أو شريكه أو ولده ؛ لأنّه كان بلا أب ، أو كان عيسى عليه‌السلام يعبّر في الإنجيل عن الله بالأب.

وأمّا العقائد الإسلاميّة فلم يكن حدوثها بنزول القرآن ، بل أخبر القرآن بأنّها كانت من لدن آدم

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٤٨ ، تفسير روح البيان ٢ : ٤٨.

١٣

وقبله.

﴿ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ

 وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ

 حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) و (٦٦)

ثمّ إنّه سبحانه وبّخ أهل الكتاب على دعواهم الفاسدة بقوله : ﴿ها﴾ تنبّهوا يا أهل الكتاب ﴿أَنْتُمْ هؤُلاءِ﴾ الحمقاء ، البعيدون عن العقل ، الممتازون بغاية السّفاهة ، حيث إنّكم ﴿حاجَجْتُمْ﴾ وجادلتم في كثير من الدّعاوى الباطلة ، متمسّكين بالتّوراة والإنجيل المحّرفين ، كدعوى كون كثير من أحكامهما مخالفا لدين الإسلام ، وتدّعون أنّ جدالكم فيه جدال ﴿فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ لوجود هذه المخالفة في الكتاب الذي تسمّونه بالتّوراة والإنجيل ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ﴾ وتجادلون ﴿فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ من دين إبراهيم عليه‌السلام أنّه كان يهوديّا ، أو نصرانيّا ، أو مسلما ، لعدم تعيينه في الكتابين المحرّفين ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ﴾ جميع الأمور ، منها دين إبراهيم ﴿وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ شيئا إلّا ما علّمكم الله.

فإن أردتم أن تعلموا دين إبراهيم فاعلموا أنّه ﴿ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا﴾ فإنّ مقامه أرفع من التّديّن بالدّينين الباطلين ﴿وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً﴾ ومائلا عن جميع العقائد الباطلة و﴿مُسْلِماً﴾ منقادا لله وحده ﴿وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وفيه تعريض بأنّهم مشركون ، وردّ على مشركي العرب ؛ حيث كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه‌السلام.

﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ

 الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)

ثمّ أنّه تعالى عرّف الذين هم على دين إبراهيم عليه‌السلام بقوله : ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ﴾ وأحقّهم بالاتّصال ﴿بِإِبْراهِيمَ﴾ برابط الدّين ، فريقان : الأوّل : ﴿لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ في زمانه والأعصار بعده ، في التّوحيد الخالص ، والانقياد لله ، ﴿وَ﴾ الثاني : ﴿هذَا النَّبِيُ﴾ المعظّم ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ من المسلمين ﴿وَاللهُ وَلِيُ﴾ اولئك ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ فينصرهم على مخالفيهم ، ويؤيّدهم بالحجّة ، ويوفّقهم لكلّ خير في الدّنيا ، ويجازيهم بأحسن الجزاء في الآخرة.

﴿وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما

 يَشْعُرُونَ (٦٩)

١٤

ثمّ أنّه تعالى - لمّا بيّن أنّ المؤمنين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هم الذين يكونون على ملّة إبراهيم ، دون اليهود والنّصارى - بيّن أنّهم لا يقتصرون على ضلالة أنفسهم عن نهج الحقّ ، بل يريدون إضلال المؤمنين ، بقوله : ﴿وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ وتمنّوا ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون عن دينكم الحقّ مع غاية ثباتكم عليه ، والحال أنّهم ﴿وَما يُضِلُّونَ﴾ عن سبيل الهداية وطريق الجنّة ﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ لرسوخ الإيمان في قلوبكم ، وعدم تخطّيهم الضّلال ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ باختصاصهم به ، ورجوع وبال ذلك الضّلال إليهم.

قيل : نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة [ لمّا ] دعاهم اليهود إلى دينهم (١) .

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)

ثمّ وجّه سبحانه الخطاب التّوبيخي إليهم بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ الناطقة بصحّة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ على أنّها آيات الله في خلواتكم ، وقيل : المراد : لم تنكرون القرآن وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا (٢) .

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ

 تَعْلَمُونَ (٧١)

ثمّ وبّخهم ثانيا بقوله : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ وتخلطون ﴿الْحَقَّ بِالْباطِلِ﴾ وتجتهدون في إلقاء الشّبهات ، حتّى لا يتميّز الرّشد من الغيّ ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ﴾ وتخفون دلائله الواضحة ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بها وبدلالتها ، وقبح الكتمان والتّلبيس وبعقابهما الاخرويّ.

﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ

 وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى

 هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ

 بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ(٧٢) و ( ٧٣)

ثمّ بيّن الله أحد أنواع تلبيساتهم بقوله : ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ﴾ رؤساء ﴿أَهْلِ الْكِتابِ﴾ لأتباعهم - قيل : إنّها كانت كعب بن أشرف ومالك بن الصيف من رؤساء اليهود ، لأتباعهما وأصحابهما ، لمّا

__________________

(١) جوامع الجامع : ٦١.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٩٢.

١٥

تحوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة - : ﴿آمِنُوا﴾ في الظّاهر بألسنتكم ﴿بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمّد ، من تحويل القبلة ، وقولوا بأفواهكم : إنّه الحقّ ، وصلّوا إليها ﴿وَجْهَ النَّهارِ﴾ وفي أوّله.

وعن العيّاشي : وهو صلاة الصّبح (١) ، حتّى يعتقد المؤمنون أنّكم اعتقدتم عن صميم القلب ﴿وَاكْفُرُوا﴾ به وتجاهروا بإنكاره وصلّوا إلى الصّخرة ﴿آخِرَهُ

عبّاس (٢) - كي يكون ذلك سببا لوقوع الشّبهة في قلوبهم بأن يقولوا في أنفسهم : إنّ اليهود أعلم منّا ، فآمنوا بالتّحويل من غير تأمّل وغرض ، ثمّ بعد التّامّل والتّفكّر ظهر لهم بطلانه فرجعوا ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ بهذه الشّبهة ﴿يَرْجِعُونَ﴾ عن الإيمان بمحمّد ، وبتحويل القبلة.

وقيل : كانت الطّائفة اثني عشر رجلا من أحبار خيبر ، حيث تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أوّل النّهار ، ويقولوا آخره : نظرنا في كتابنا ، وشاورنا علماءنا ، فلم نجد محمّدا بالنّعت الذي ورد في التّوراة ، لعلّ أصحابه يشكّون فيه (٣) .

﴿وَ﴾ قالوا لأتباعهم ، ووصّوا إليهم بأن ﴿لا تُؤْمِنُوا﴾ إيمانا واقعيّا ، ولا تصدّقوا عن صميم القلب لأحد ﴿إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ من اليهود ، لا لمن تبع دين محمّد من المسلمين.

قيل : إنّ المراد : لا تظهروا الإيمان وجه النّهار إلّا للمسلمين الّذين كانوا على دينكم من قبل ، فإنّ رجوعهم أرجى وأهمّ (٤) .

وفي الإخبار بهذه الأسرار الخفيّة معجزة ظاهرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحفظ قلوب المؤمنين عن الشّكّ ، وردع المنافقين عن السّعي في إلقاء الشّبهات.

ثمّ لما سمّوا طريقتهم الباطلة بالدّين والهداية ردّهم الله بقوله : ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدى﴾ والدّين ﴿هُدَى اللهِ﴾ ودينه ، لا مذهب اليهوديّة. أو المراد : قل لهم إنّ الهداية والتّوفيق هداية الله وتوفيقه ، يهدي بها من يشاء إلى الإيمان ، ويثيبه عليه ، ولا يضرّه كيدكم وحيلكم.

ثمّ إنّ الأظهر أنّه تعالى - بعد الجملة الاعتراضيّة التي جاء بها ، لشدّة الاهتمام بالتّنبيه بها - عاد إلى حكاية بقيّة كلام الرؤساء لاتباعهم ، وكأنّهم قالوا لهم : ولا تؤمنوا ﴿أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ﴾ من العرب أو غيرهم ﴿مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ﴾ من المعجزات ، والكتاب ، والأحكام ، والعلوم ، فإنّ ذلك من المحالات غير

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ٩٤ عن ابن عبّاس ، ولم نعثر عليه في تفسير العياشي.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ٩٤.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٥ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٤٩.

(٤) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٥ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٤٩.

١٦

القابلة للتّصديق ﴿أَوْ﴾ أنّ المسلمين ﴿يُحاجُّوكُمْ﴾ ويغلبوا عليكم ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ يوم القيامة ، فاثبتوا بغاية الثّبات على دينكم ، فإنّه غير منسوخ. وفي الآية احتمالات اخر يكون التكلّف فيها أكثر.

ثمّ رد الله عليهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿إِنَّ الْفَضْلَ﴾ من النّبوّة ، والعلم ، والكتاب ، والهداية ، والتّوفيق أمره ﴿بِيَدِ اللهِ﴾ وإرادته ومشيئته وقدرته ﴿يُؤْتِيهِ﴾ ويصيب به ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ من عباده على حسب قابليّته وكمال وجوده ، ولا يختصّ بطائفة خاصّة وأشخاص مخصوصة ﴿وَاللهُ واسِعٌ﴾ قدرة ورحمة وفضلا ﴿عَلِيمٌ﴾ باستحقاقات الخلائق وقابليّاتهم ، ومطّلع على جميع مصالح الأمور ومفاسدها.

﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)

ثمّ أكّد سبحانه سعة قدرته وفضله بقوله : ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ﴾ من نعمه وكرامته ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ إنعامه وإكرامه ، قيل : إنّ الرّحمة أعلى من الفضل ﴿وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ بحيث لا نفاد لفضله ، ولا نهاية لكرمه.

﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ

 لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ

 سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)

ثمّ لمّا كان أهل الكتاب مدّعين أولويّتهم بمنصب النّبوة من غيرهم من العرب ، نفى الله أهليتهم له ، بكون غير المسلمين منهم خائنين في أموال النّاس ، بقوله : ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ كعبد الله بن سلام ، وأضرابه من المؤمنين منهم ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ﴾ قيل : هو كناية عن المال الكثير ﴿يُؤَدِّهِ﴾ ويردّه ﴿إِلَيْكَ﴾ ولا يخونه (١) شيئا.

عن ابن عبّاس : أودع رجل عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقيّة ذهبا ، فأدّاه إليه (٢) .

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ﴾ قيل : هو كناية عن المال القليل ﴿لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ ويخونك فيه ، في أي وقت من الأوقات ، وأي حال من الأحوال ﴿إِلَّا ما دُمْتَ﴾ من حين التّأمين ﴿عَلَيْهِ قائِماً﴾ وله ملازما ، لا تفارقه في وقت أو حال. قيل : هو كناية عن المبالغة في المطالبة والتّشديد فيها.

عن ابن عبّاس : أنّ فنخاص بن عازورا استودعه رجل قرشيّ دينارا فجحده (٣) .

__________________

(١) خان المال : نقصه.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٠٠.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٠٠ ، تفسير البيضاوي ١ : ١٦٦ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٥٠.

١٧

وقيل : إنّ المراد من المأمونين : النّصارى ، ومن الخائنين : اليهود ، لكون الغالب فيهم الخيانة (١).

ثمّ ذكر سبحانه علّة خيانتهم بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ العمل القبيح من الخيانة ، وترك أداء الأمانة وشيوعه فيهم ، معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ قالُوا﴾ تعصّبا وعنادا وغرورا : ﴿لَيْسَ عَلَيْنا فِي﴾ شأن ﴿الْأُمِّيِّينَ﴾ والعرب الذين ليسوا من أهل العلم والكتاب ﴿سَبِيلٌ﴾ ومؤاخذة وعتاب من الله. روي أنّ اليهود بايعوا رجالا في الجاهليّة ، فلمّا أسلموا طالبوهم بالأموال ، فقالوا : ليس لكم علينا حقّ ؛ لأنّكم تركتم دينكم (٢).

﴿وَ﴾ هم لخبث ذاتهم ﴿يَقُولُونَ﴾ ويفترون ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ حيث إنّهم كانوا ينسبون هذا القول الباطل إلى التوراة ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّ هذا القول والنّسبة كذب وفرية.

في وجوب ردّ الأمانة ولو إلى الكافر

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهليّة إلّا وهو تحت قدمي ، إلّا الأمانة فإنّها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر » (٣) .

أقول : فيه دلالة على وجوب ردّ الأمانة ، ولو إلى الكافر الحربي غير المحترم المال.

ويعاضده روايات أخر ، وقد عمل بها الأصحاب ، وادّعي عليه الشّهرة ، ونسب قول أبي الصّلاح - القائل بعدم الوجوب - إلى الشّذود (٤) .

﴿بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)

ثمّ لمّا كان هذا الافتراء مبنيّا على ادّعائهم أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، ردّ الله عليهم بقوله : ﴿بَلى﴾ عليكم في الأمّيين سبيل ، ولستم أحبّاء الله ، إنّما أحبّاؤه كلّ ﴿مَنْ أَوْفى﴾ وعمل ﴿بِعَهْدِهِ﴾ وتكاليفه وأحكامه ﴿وَاتَّقى﴾ الشّرك والخيانة في الأمانة ﴿فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ويثيب المتحرّزين عن الخيانة ونقض العهود.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق ، حتّى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، [ وإذا خاصم فجر ] » (٥) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي

 الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٥٠.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٠٢.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٠٢.

(٤) راجع مفتاح الكرامة ٦ : ٤٠ ، جواهر الكلام ٢٧ : ١٢٤.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ٥٢.

١٨

أَلِيمٌ (٧٧)

ثمّ لمّا كانت الخيانة نقض عهد الله ، وإنكار أخذ الأمانة مستلزما للأيمان الكاذبة غالبا ، هدد الله عليهما بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ ويستبدلون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ وميثاقه ، [ سواء ] كان على الإيمان بالرّسول أو الوفاء بالأمانات أو غيرهما ﴿وَأَيْمانِهِمْ﴾ الكاذبة ، سواء كانت على إنكار أخذ الأمانة ، أو على أنّهم يؤمنون بالرّسول وينصرونه. ويأخذون بعوض الوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وبرّ اليمين ﴿ثَمَناً﴾ وبدلا ﴿قَلِيلاً﴾ من متاع الدّنيا ، والرّئاسات الباطلة.

﴿أُولئِكَ﴾ المتخلّقون بتلك الأخلاق الذّميمة ، المتّصفون بتلك الصّفات القبيحة ﴿لا خَلاقَ﴾ ولا نصيب ﴿لَهُمْ﴾ من النّعم والرّحمة ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ والدار الباقية ﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ﴾ بما يسرّهم ، أو بكلام أصلا ، وإنّما يقع ما يقع من السّؤال والتقريع والتّوبيخ في أثناء الحساب ، من الملائكة.

وقيل : إنّ المراد أنّهم لا ينتفعون بكلمات الله وألطافه ، وقيل : إنّ الجملة كناية عن شدّة الغضب والسّخط (١) .

﴿وَلا يَنْظُرُ﴾ الله ﴿إِلَيْهِمْ﴾ بنظر الرّحمة والرّأفة ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ لغاية سقوطهم وهوانهم ﴿وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا يطهّرهم من أوساخ الأوزار ، ودنس الذّنوب ، كما يطهّر المذنبين من المؤمنين ﴿وَلَهُمْ﴾ بحسب الاستحقاق ﴿عَذابٌ﴾ بالنّار ﴿أَلِيمٌ﴾ وموجع في الغاية.

روي أنّها نزلت في أبي رافع ، ولبابة بن الحقيق ، وحيي بن أخطب ، حرّفوا التّوراة ، وبدّلوا نعت الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذوا الرّشوة على ذلك (٢) .

وقيل : نزلت في الأشعث بن قيس ، حيث كان بينه وبين رجل نزاع في بئر ، فاختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : « شاهداك ، أو يمينه » فقال الأشعث : إذن يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من حلف على يمين يستحق بها مالا ، هو فيها فاجر ، لقي الله وهو عليه غضبان » (٣) .

وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السّوق ، فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به (٤) .

والجمع بين الرّوايات أنّ جميع الوقائع لاقترانها كان شأن النّزول.

﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ

 الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ

 الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٠٥.

( ٢ و٣ و٤ ) . تفسير أبي السعود ٢ : ٥١.

١٩

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنّهم نقضوا عهد الله بخيانتهم في أموال النّاس ، ذكر أنّهم نقضوا عهده بخيانتهم في التّوراة التي هي أعظم ودائع الله في خلقه ، وتحريفهم إيّاها ، بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً﴾ وطائفة ككعب بن أشرف وحيي بن أخطب وأضرابهما ﴿يَلْوُونَ﴾ ويفتلون ﴿أَلْسِنَتَهُمْ﴾ عند التّلفّظ ﴿بِالْكِتابِ﴾ المنزل عليهم ، وحين قراءة آياته الدّالّة على نعوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتغيير الحركات والإعراب ، وكيفيّة تأدية الحروف بحيث يوجب تحريف كلام الله ، وتغيير مدلوله المنزل إلى المحرّف ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ وتتوهّموه أنّه بالنّحو الذي يقرأونه ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْكِتابِ﴾ المنزل ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما هُوَ مِنَ﴾ جملة ذلك ﴿الْكِتابِ﴾ في نفس الأمر ، وفي اعتقادهم ، ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿يَقُولُونَ﴾ بالصّراحة ، لا بالكناية والتّعريض لمحرّفهم : ﴿هُوَ﴾ الكتاب المنزل ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ حتّى في اعتقادهم ﴿وَيَقُولُونَ﴾ بهذه النّسبة ﴿عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ والافتراء تجرّيا وغرورا ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أنّهم كاذبون مفترون ، وفيه تسجيل عليهم بالتعمّد في الكذب.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ النّفر الّذين لا يكلّمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، كتبوا كتابا شوّشوا فيه نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قالوا : هذا من عند الله (١) .

﴿ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا

 عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ

 تَدْرُسُونَ  وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ

 بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٧٩) و (٨٠)

ثمّ لمّا كان كذب أهل الكتاب غير مختصّ بالله وتحريفهم بنعوت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كانوا يكذبون ويفترون على أنبيائهم ويحرّفون كلماتهم ، كافتراء النّصارى على عيسى بأنّه كان يدّعي الالوهيّة ، ويأمر النّاس بعبادة نفسه ، نزّه الله تعالى أنبياءه عن هذه الأباطيل ، ردّا على المفترين ، بقوله : ﴿ما كانَ﴾ صالحا ﴿لِبَشَرٍ﴾ بلغ في كمال القوّة النظريّة والعمليّة إلى ﴿أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ﴾ ويهبه ﴿الْكِتابَ﴾ الناطق بالحقّ ، الآمر بالتّوحيد ، النّاهي عن الشّرك ﴿وَ﴾ أن يؤتيه ﴿الْحُكْمَ﴾ قيل : هو كناية عن الفهم والعلم والسّنن ، ﴿وَ﴾ أن يهبه ﴿النُّبُوَّةَ﴾ الّتي هي منصب إلهي للنفوس الكاملة الطّيّبة الزّكيّة كي يقوموا بهداية الخلق وتعليمهم وتربيتهم ﴿ثُمَّ يَقُولَ﴾ ذلك البشر ، مع كونه في مرتبة البشريّة المنافية للالوهيّة ، وبعد ما شرّفه الله بما ذكر من التّشريفات ، وعرّفه الحقّ ، وأطلعه على شؤونه العالية ﴿لِلنَّاسِ كُونُوا

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٠٧.

٢٠