نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

على قدرة الله وحكمته ﴿لِتَسْتَوُوا﴾ وتستعلوا ﴿عَلى ظُهُورِهِ﴾ وتستقرّوا عليه ، وإفراده الضمير باعتبار اللفظ ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ﴾ عليكم ﴿إِذَا اسْتَوَيْتُمْ﴾ واستعليتم ﴿عَلَيْهِ﴾ وتحمدوه وتشكروه ﴿وَتَقُولُوا﴾ مستعظمين قدرته وإنعامه حين الركوب ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ﴾ وذلّل ﴿لَنا هذا﴾ المركوب بقدرته وإحسانه مع كونه أقوى منّا ﴿وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ومماثلين في القوة والشدّة ، وقادرين على تذليله وضبطه إذا استصعب علينا ﴿وَإِنَّا﴾ حين انقضاء آجالنا ﴿إِلى رَبِّنا﴾ على مركب الخشب ﴿لَمُنْقَلِبُونَ﴾ وراجعون ومسافرون ، كما ينقلب من بلد إلى بلد على هذا المركب ، أو كما جئنا في الدنيا من عند ربّنا وبقدرته في أوّل الأمر ، ننقلب إليه ونرجع.

قيل : لمّا كان ركوب الفلك والدابة تعريض النفس للهلاك بانكسار الفلك وعثار الدابة وشموسها ، أمرنا بتذكّر الموت والانقلاب إلى الله والتوجّه إليه (١) .

في دعاء الركوب والسفر

روى الزمخشري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا وضع رجليه في الرّكاب قال : « بسم الله » فاذا استوى على الدابة قال : « الحمد لله على كلّ حال ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا﴾ إلى قوله : ﴿لَمُنْقَلِبُونَ﴾ » (٢) .

وروى القاضي أبو بكر أنّ الحسن بن علي عليهما‌السلام رأى رجلا ركب الدابة ، وقال : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا﴾ فقال له : « ما بهذا امرت ، امرت أن تقول : الحمد لله الذي هدانا للاسلام ، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحمد الذي جعلنا من خير امّة اخرجت للناس ، ثمّ تقول : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا﴾ » (٣) .

وروى الفخر الرازي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا سافر وركب راحلته كبّر ثلاثا ، ثم يقول : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا﴾ ثمّ قال : اللهمّ إنّي أسألك في سفري هذا البرّ والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر ، وأطوعنا بعد الأرض ، اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة على الأهل ، اللهمّ أصحبنا في سفرنا ، وأخلفنا في أهلنا وكان إذا رجع إلى أهله يقول : « آيبون تائبون ، لربّنا حامدون » (٤) .

في ( الكافي ) عن الرضا عليه‌السلام : « إن ركبت الظهر فقل ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا﴾ الآية»(٥).

وعن أبيه عليه‌السلام : « هي إن خرجت برّا فقل الذي قال الله عزوجل : ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٣٥٦.

(٢) الكشاف ٤ : ٢٣٩ ، تفسير الرازي ٢٧ : ١٩٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ١٩٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ١٩٩.

(٥) الكافي ٥ : ٢٥٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨٥.

٥٠١

الآية ، فانّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه ، فيقع من بعير أو دابّة ، فيصيبه شيء بإذن الله » (١) .

﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ

 بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٥) و (١٦)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أنّه خالق الممكنات والموجودات ، واعتراف المشركين بذلك ، وبّخهم على القول بأنّ الملائكة أولاده بقوله : ﴿وَجَعَلُوا﴾ وأثبتوا ﴿لَهُ﴾ تعالى ﴿مِنْ عِبادِهِ﴾ وهم الملائكة ﴿جُزْءاً﴾ وولدا مع أنّ الولد الذي جزء من والده منفصل عنه ، لا يمكن أن يكون عبده وملكه ، وهذا القول ليس منهم ببعيد وعجيب ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ﴾ بالطبع ﴿لَكَفُورٌ﴾ مبالغ في الكفر و﴿مُبِينٌ﴾ ومظهر لكفره ، ولذا يقول ما يقول.

ثمّ ذمّهم بأنّهم لم يقنعوا بهذا القول الشنيع ، بل أثبتوا له أخسّ الأولاد ، وهو البنات ، وأنكر ذلك عليهم بقوله : ﴿أَمِ اتَّخَذَ﴾ الله واختار لنفسه ﴿مِمَّا يَخْلُقُ﴾ بقدرته يا قريش ﴿بَناتٍ﴾ موهونة عندكم ، مكروهة في طباعكم ﴿وَأَصْفاكُمْ﴾ وآثركم على نفسه بتفضيلكم ﴿بِالْبَنِينَ﴾ الذين هم خير الأولاد وأكملهم وأشرفهم ، وهذا ممّا لا يقول به ذو مسكة ، وإنّما نبّه على حقارة البنات بتنكير اللفظ ، وعلى فخامة البنين بتعريفه ، وإنّما قدّم ذكر نسبة البنات إلى الله ، لكونها أنكر من اصطفائهم البنين ، وفي تلوين الخطاب تأكيد الإلزام وتشديد التوبيخ.

وحاصل المراد والله العالم : حيث إنّكم قلتم : إنّ لله ولدا ، مع وضوح امتناعه واستحالته ، كيف أمكن منكم القول بأنّه اختار لنفسه أخسّ الأولاد ، وآثركم على نفسه بخيرهم وأشرفهم وأفضلهم ، فانّه خلاف بديهة العقل.

﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *

 أَ وَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٧) و (١٨)

ثمّ بيّن شدّة كراهتهم للبنات بقوله : ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ﴾ وأخبر ﴿بِما ضَرَبَ﴾ وجعل ﴿لِلرَّحْمنِ﴾ والإله الفيّاض على الممكنات ﴿مَثَلاً﴾ وشبيها ، فانّ الولد يجانس ويماثل والده ﴿ظَلَ﴾ وصار ﴿وَجْهُهُ﴾ من سوء ما بشّر به وشدّة الغيظ عليه ﴿مُسْوَدًّا﴾ وأسود في الغاية. وقيل : إنّ اسوداد الوجه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٧٢ / ٥ ، عن الرضا عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨٥.

٥٠٢

كناية عن شدّة كراهته (١) لما اخبر به من تولّد البنت له ﴿وَهُوَ﴾ بسبب إخباره لولادة البنت ﴿كَظِيمٌ﴾ ومملوء من الكرب والحزن والغضب ، فاذا نقص البنت بهذه الدرجة ، كيف يختارها الله لنفسه ، وكيف ينسبونها إليه ، وهل يجوز للعاقل إثباتها له ؟

ثمّ بالغ سبحانه في الإنكار والتوبيخ عليهم بنسبة البنات إليه بقوله : ﴿أَ وَمَنْ يُنَشَّؤُا﴾ ويربّى ﴿فِي الْحِلْيَةِ﴾ والزّينة. قيل : إنّ التقدير اجترءوا وجعلوا له تعالى (٢) من شأنه أن يربّى في الزّينة لنقص نفسه و﴿هُوَ﴾ مع ذلك ﴿فِي الْخِصامِ﴾ ومواقع الجدال مع غيره ﴿غَيْرُ مُبِينٍ﴾ وغير قادر على تقرير دعواه ، وتبيين حجّته ، لضعف لسانه ، وقلّة عقله ، وبلادة ذهنه. قيل : قلّما أرادت المرأة أن تتكلّم بحجّتها إلّا تكلّمت بما كان حجّة عليها (٣) .

﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ

 شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ

 عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١٩) و (٢٠)

ثمّ ذمّهم سبحانه بنسبة الانوثة إلى الملائكة الذين هم أشرف المخلوقات بعد الأنبياء والرسل والأولياء بقوله تعالى : ﴿وَجَعَلُوا﴾ وحكموا بأنّ ﴿الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ﴾ وأكمل الخلق وأكرمهم على الله ﴿إِناثاً﴾ والحال أنّه لا يمكن الاطلاع على انوثتهم بإدراك العقول ، بل لا بدّ من أن يكون اطّلاعهم على ذلك بإخبار نبيّ ، وهم لا يقولون به ، أو برؤية خلقة الملائكة ، إذا فاسألوهم أيّها العقلاء ﴿أَ شَهِدُوا﴾ وحضروا ﴿خَلْقَهُمْ﴾ ورأوا انوثتهم حتى يحكموا بها ؟ لا والله ما شهدوا وما رأوا ، بل كان حكمهم بتقليد آبائهم الكاذبين ، ونحن ﴿سَتُكْتَبُ﴾ البتة في ديوان أعمالهم ﴿شَهادَتُهُمْ﴾ هذه ﴿وَيُسْئَلُونَ﴾ يوم القيامة عنها ، ويعذّبون بها ، فعلم من تفسيرنا أنّ السين للتأكيد. وقيل : إنّها للاستقبال والاستعطاف إلى التوبة قبل الكتابة (٤) .

ثمّ حكى سبحانه استدلالهم على صحّة عبادتهم الملائكة الموجب لازدياد كفرهم بقوله تبارك وتعالى : ﴿وَقالُوا﴾ استدلالا على صحّة عبادتهم الملائكة ، وكونها مرضية عند الله ﴿لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ﴾ أن لا نعبد الملائكة ﴿ما عَبَدْناهُمْ﴾ فلمّا عبدناهم علمنا أنّه شاء منّا عبادتهم. ثمّ ردّهم سبحانه بأنّه ﴿ما لَهُمْ بِذلِكَ﴾ التلازم بين فعلهم وإرادة الله التشريعية ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ مستند إلى الدليل

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٣٥٨.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٥٨.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٦٦ ، تفسير الرازي ٢٧ : ٢٠٢.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٠.

٥٠٣

﴿إِنْ هُمْ﴾ وما اولئك الكافرون ﴿إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ويكذبون كذبا مستندا إلى الحدّس الباطل ، لوضوح أنّ الإرادة التكوينية غير الإرادة التشريعية ، وغير مستلزمة لها ، وإلّا لما عذّب المشركين في الدنيا بشركهم.

﴿أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى

 أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ

 قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قالَ أَ وَلَوْ

 جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ

 كافِرُونَ (٢١) و (٢٤)

ثمّ لمّا أبطل سبحانه دليلهم المذكور ، بيّن كون الملائكة بنات الله لا بدّ أن يستند إلى كتاب سماويّ من قبله تعالى ، وأنكره عليهم بقوله : ﴿أَمْ آتَيْناهُمْ﴾ وأنزلنا عليهم ﴿كِتاباً﴾ من السماء ناطقا بأنّ الملائكة بنات الله ، ويجوز عبادتهم ، خلافا للقرآن المبطل لها والناهي عنها ، سابقا على نزول القرآن و﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ وقيل : يعني من قبل [ القرآن أو ] الرسول ، أو من قبل ادعّائهم أنّ الملائكة بنات الله (١)﴿فَهُمْ﴾ في ادّعائهم ذلك ﴿بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ ومستدلّون ، وعليه معتمدون ؟ لا والله ما آتيناهم كتابا ، فلا دليل لهم على مدّعاهم ، لا عقلا ولا نقلا ﴿بَلْ﴾ لا مستمسك لهم إلّا تقليد آبائهم واسلافهم حيث إنّهم ﴿قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا﴾ الأقدمين ثابتين ﴿عَلى أُمَّةٍ﴾ ودين مجتمع عليه ، وهو عبادة الملائكة واعتقاد أنّهم بنات الله ﴿وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ﴾ وسنّتهم وطريقتهم ﴿مُهْتَدُونَ﴾ وفي مواضع أقدامهم سالكون ، ولخطواتهم متّبعون.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ تمسّك الجهّال بالتقليد ليس أمرا بدعيا مختصّا بقومك ، بل كان دأبهم من قديم الدهر بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ القول الصادر من قومك ﴿ما أَرْسَلْنا﴾ في القرون التي مضت ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ وقبل إرسالك ﴿فِي قَرْيَةٍ﴾ من قرى الأرض وبلدة من البلدان ﴿مِنْ﴾ نبيّ ﴿نَذِيرٍ﴾ ومخوّف قومه من العذاب على الشرك ﴿إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها﴾ وجبابرتها ورؤساؤها المتنعمّون الذين أبطرتهم النّعمة ، وصرفتهم إلى التقليد في جواب ذلك الرسول : ﴿إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا﴾ وأسلافنا الذين كانوا أعقل وأعلم منّا ثابتين ﴿عَلى أُمَّةٍ﴾ ودين اتّفقوا على صحّته ﴿وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ﴾ وسنّتهم الباقية منهم ﴿مُقْتَدُونَ﴾ ولهم (٢) مقلّدون ﴿قالَ﴾ كلّ رسول لقومه الذين تمسّكوا بالتقليد ﴿أَ﴾ تقلّدونهم ﴿وَلَوْ جِئْتُكُمْ﴾ من

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦١.

(٢) في النسخة : وبهم.

٥٠٤

قبل الله ﴿بِأَهْدى﴾ وأرشد إلى الحقّ ﴿مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ﴾ من الدين ؟ على فرض كونه هداية ورشادا ، مع أنّه ليس كذلك ﴿قالُوا﴾ عنادا ولجاجا وتعصّبا : يا أيها الرسل ﴿إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ من التوحيد ﴿كافِرُونَ﴾ ومنكرون ، وإن كان أهدى وأرشد ممّا وجدنا عليه آباءنا.

﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ

 وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَها كَلِمَةً

 باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٥) و (٢٨)

فلمّا أعلنوا بالتعصّب والإصرار على دينهم ، وتبعية آبائهم ، وبارزوا الرسل بالتكذيب والاستهزاء ، ويأس الرسل من إيمانهم ﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾ باستئصالهم بالعذاب ، وأهلكناهم بأفظع الهلاك ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمّد ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ أمر الأمم ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ لرسلهم ، وإلى ما صار مآلهم ، فلا تكترث بتكذيب قومك ، فانّ الله سينتقم منهم كما أنتقم من الامم المكذّبة لرسلهم.

ثمّ حكى سبحانه قصّة دعوة إبراهيم الذي كان يفتخر العرب بانتسابهم إليه ، وأنّه تبرّأ من التقليد ، وتمسّك في دينه بالبرهان ، مع كونه أعقل الناس وأعظمهم شانا ، وأمتنهم رأيا ، وأصوبهم طريقة في اعتقاد الكلّ بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ﴾ قيل : إنّ التقدير واذكر يا محمد لقومك وقتا (١) قال ﴿إِبْراهِيمُ﴾ الذي يجب عليكم أيّها العرب اتّباعه ، دعوة إلى التوحيد ، وتنفيرا من الشرك ﴿لِأَبِيهِ﴾ آذر ﴿وَقَوْمِهِ﴾ الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام تقليدا لأبائهم : يا قوم ﴿إِنَّنِي بَراءٌ﴾ ومنزجر قلبا ( من ) عبادة جميع ما ﴿تَعْبُدُونَ﴾ من الكواكب والأصنام وغيرها ، فلا أعبد شيئا ﴿إِلَّا﴾ الله ، لأنّه ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وبدأ خلقي من غير مثال.

قيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى أنّي بري من عبادة الأصنام ، لكن الذي خلقني لا أبرأ من عبادته (٢)﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ ويرشدني إلى معالم دينه ، وكيفية عبادته وطاعته ، ودرجات قربه ، وعليه يكون السين للتأكيد ، وقيل : إنّه للتسويف ، والمعنى سيثبّتني على الهداية ، وسيهديني إلى ما وراء الذي هداني إليه إلى الآن (٣) .

وقيل : إنّ في قوله في سورة الشعراء : ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(٤) وقوله هنا : ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ دلالة على استمرار الهداية في الحال والاستقبال (٥) .

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٣.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٧١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٤٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٣.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٧٨.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٠٨.

٥٠٥

وعلى أيّ تقدير أنّه عليه‌السلام دعا الناس إلى كلمة التوحيد ، وهو قول : لا إله إلّا الله ، المستفاد من تبريّة من جميع ما يعبدون إلّا خالقه ﴿وَجَعَلَها﴾ - بقوله : ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ(١) - ﴿كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ ونسله وذرّيته إلى يوم القيامة ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ بدعوة الموحّدين منهم ﴿يَرْجِعُونَ﴾ من الشرك إلى التوحيد ، فيكون فيهم أبدا من يوحّد الله ويدعو إلى التوحيد ، ويكون إماما وحجّة على الخلق.

عن السجّاد عليه‌السلام قال : « فينا نزلت هذه الآية ﴿وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ والإمامة في عقب الحسين عليه‌السلام باقية إلى يوم القيامة » (٢) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الغدير : « معاشر الناس ، القرآن يعرفكم أنّ الأئمة من بعده ولده ، وإنّي عرّفتكم أنّهم منّي و[ أنا ] منه ، حيث يقول الله عزوجل : ﴿وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ » (٣) .

وفي ( المناقب ) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « الامامة في عقب الحسين عليه‌السلام ، يخرج من صلبه تسعة من الأئمة ، منهم مهدي هذه الامّة » (٤) .

﴿بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جاءَهُمُ

 الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٢٩) و (٣٠)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه مع جعله لإبراهيم كلمة التوحيد باقية في ذرّيته ، لم يؤمن به كلّهم بقوله : ﴿بَلْ مَتَّعْتُ﴾ ونفعت بالنّعم الدنيوية من الصحة وطول العمر ، وكثرة المال والأولاد وغيرها ﴿هؤُلاءِ﴾ المشركين المعاصرين للرسول من أهل مكّة ﴿وَآباءَهُمْ﴾ السابقين ، فمع أنّ حقّ تلك النّعم أن يشكروا المنعم ويوحدّوه ويعبدوه ، انهمكوا في الشهوات ، واغترّوا واشتغلوا بها عن كلمة التوحيد ، واستمرّوا على الشرك ﴿حَتَّى جاءَهُمُ﴾ من قبل الله القرآن الذي هو ﴿الْحَقُ﴾ وعين الصدق ﴿وَرَسُولٌ مُبِينٌ﴾ وظاهر الرسالة بالمعجزات الباهرات ، أو مظهر للتوحيد بالحجج القاهرات ﴿وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ﴾ والقرآن الذي فيه وجوه من الاعجاز ليوقظهم عن نوم الغفلة ، ويرشدهم إلى التوحيد ، عاندوا الحقّ ، وطعنوا في القرآن ، وكونه معجزة ، و﴿قالُوا هذا﴾ القرآن الذي لا نقدر على الإتيان بمثله ﴿سِحْرٌ﴾ لا معجزة ﴿وَإِنَّا بِهِ﴾ وبكونه من جانب الله وكلامه ﴿كافِرُونَ﴾ وعنه معرضون.

﴿وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)

__________________

(١) إبراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٢) كمال الدين : ٣٢٣ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨٧.

(٣) الاحتجاج : ٦٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨٨.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٤٦ ، تفسير الصافي ٤ / ٤٨٨.

٥٠٦

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراض على الرسالة ودعوى نزول القرآن من الله بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ جهلا بملاك الرسالة ، وخطأ في تطبيق العظمة عند الله على العظمة عند الناس : ﴿لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ﴾ إن كان منزلا من الله ﴿عَلى رَجُلٍ مِنَ﴾ أهالي إحدى ﴿الْقَرْيَتَيْنِ﴾ مكة والطائف ﴿عَظِيمٍ﴾ عند الناس بالمال والجاه ، كالوليد بن المغيرة المخزومي الساكن في مكّة ، وعروة بن مسعود الثقفي الساكن في الطائف.

وقيل : إنّ المراد من الرجل خصوص عروة بن مسعود ، فانّه كان يسكن كلتا القريتين ، حيث إنّه كان في الطائف بساتينه وضياعه ، وفي مكة تجارته وأمواله ، ولذا كان يتردّد إليهما (١) ، ويحسب من أهلهما.

وحاصل المراد - والله أعلم - أنّ الرسالة منصب جليل عظيم لا يليق به إلّا العظيم بين الناس ، وهو من له جاه ومال كعروة والوليد ، لا محمد فانّه ليس له مال ورئاسة ، فهو كاذب في دعوى الرسالة ونزول القرآن عليه.

﴿أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

 وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ

 خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)

ثمّ ردّ سبحانه اعتراضهم بإنكار قابليتهم للرأي والتكلّم في المناصب الإليهة من النبوة والامامة بقوله : ﴿أَ هُمْ﴾ مع ضعف عقولهم وغاية عجزهم وقصورهم ﴿يَقْسِمُونَ﴾ بين الناس ﴿رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ وفضله بالنبوة والامامة ، ويضعونها حيث شاءوا ؟ لا والله هم أعجز وأحقر من أن يتصرّفوا في تفضّلاته الدنيوية ، ويقسّموا نعمه الظاهرية ، بأن يفقروا الغني ، ويغنوا الفقير ، ويعزّوا الذليل ، ويذلّوا العزيز ﴿نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ وأرزاقهم ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ومدّة أعمارهم فيها ﴿وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ﴾ في الرزق وسائر النّعم ﴿فَوْقَ بَعْضٍ﴾ إلى ﴿دَرَجاتٍ﴾ كثيرة متفاوتة حسبما تقتضيه الحكمة ، فمن ضعيف وقويّ ، وفقير وغنيّ ، ووضيع وشريف ، وجاهل وعالم ، وغبيّ وذكيّ ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً﴾ في مصالحهم ﴿سُخْرِيًّا﴾ ذليلا ومطيعا ، ولو سوّينا بينهم في جميع الامور لم يصر أحد مسخّرا لغيره ، ولم يخدم أحد غيره ، فيختلّ نظام العالم ، وينتهي إلى خرابه ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ ورسالته ، وما فيه سعادة الدارين ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل لأهلها ﴿مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ الناس من الحطام الدنيوية الزائلة ، وإنّما العظمة المعتبرة في إعطاء تلك الرحمة العظيمة ، هي عظمة النفس بالصفاء والنورانية ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٥.

٥٠٧

والتخلّق بأخلاق الله ، والتنزّه عن الرذائل ، وكمال العقل والذكاء ، والإعراض عن الدنيا وعمّا سوى الله ، والاقبال إلى الله والدار الآخرة. وقليل من تلك المكارم خير من الدنيا بحذافيرها ، ولا يلازم وجود النّعم الدنيوية وجود تلك الكمالات النفسانية وقرب واجدها إلى الله ، بل كثيرا ما لا يجتمعان.

في مخاصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع المشركين

روى في ( الاحتجاج ) أنّ عبد الله بن أبي امية قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجمع سائر قريش : لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا ، لبعث أجلّ من فيما بيننا مالا ، وأحسن حالا ، فهلّا نزّل هذا القرآن الذي تزعم أنّ الله أنزله عليك ، وأنّه بعثك به رسولا ، على رجل من القريتين عظيم ؛ إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة ، وإمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ؟ ثمّ ذكر اشياء اخر.

إلى أن قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وأمّا قولك : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة ، وإمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، فانّ الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ، ولا خطر عنده كما له عندك ، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافرا به شربة ماء ، وليس قسمة الله إليك ، بل الله القاسم للرحمات ، والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه ، وليس هو عزوجل ممّن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله وحاله فعرفته بالنبوّة لذلك ، ولا ممّن يطمع في أحد في ماله وحاله كما تطمع فتخصّه بالنبوّة لذلك ، ولا ممّن يحبّ أحدا محبّة الهوى كما تحبّ أنت فتقدّم من لا يستحقّ التقديم ، وإنّما معاملته بالعدل ، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين وجلاله إلّا الأفضل في طاعته ، والأجدّ في خدمته ، وكذلك لا يؤخّر في مراتب الدين وجلاله إلّا أشدّهم تباطؤا عن طاعته ، وإذا كان هذا صفته ، لم ينظر إلى مال ، ولا إلى حال ، هذا المال والحال من تفضّله ، وليس لأحد من عباده [ عليه ] ضربة لازب (١) .

فلا يقال له : إذا تفضّلت بالمال على عبد ، فلا بدّ أن تتفضّل عليه بالنبوة أيضا ، لأنّه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ، ولا إلزامه تفضلا ، لأنّه تفضّل قبله بنعمة ، ألا ترى - يا عبد الله - كيف أغنى واحدا وأقبح صورته ، وكيف أحسن صورة واحد وأفقره ، وكيف أغنى واحدا ، وكيف شرّف واحدا وأفقره ووضعه؟

ثمّ ليس لهذا الغنيّ أن يقول : هلّا اضيف إلى يساري جمال فلان ؟ ولا للجميل أن يقول : هلّا اضيف إلى جمالي مال فلان ؟ ولا للشريف أن يقول : هلّا اضيف إلى شرفي مال فلان ؟ ولا للوضيع أن يقول : هلّا أعطيتني شرف فلان ؟ ولكن الحكم لله ، يقسم كيف يشاء ، ويفعل كما يشاء ، وهو حكيم في

__________________

(١) صار الأمر ضربة لازب ، أي لازما ثابتا.

٥٠٨

افعاله محمود في أعماله ، وذلك قوله : ﴿وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾.

قال الله تعالى : ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ يا محمد ﴿نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ فأحوجنا بعضا إلى بعض ، أحوج هذا إلى مال ذلك ، وأحوج ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته ، فترى أجلّ الملوك وأغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب ، إمّا سلعة منه ، وإمّا خدمة يصلح لها لا يتهيّأ لذلك الملك أن يستغني إلّا به ، وإمّا باب من العلوم والحكم ، وهو فقير إلى أن يستفيده من ذلك الفقير ، فهذا الفقير يحتاج إلى ذلك الملك الغنيّ ، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير ورأيه أو معرفته ، ثمّ ليس للملك أن يقول : هلّا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير ؟ وليس للفقير أن يقول : هلّا اجتمع إلي رأيي وعلمي وما أتصرّف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنيّ ؟ »  (١).

﴿وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً

 مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ *

 وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ

 لِلْمُتَّقِينَ (٣٣) و (٣٥)

ثمّ بيّن سبحانه حقارة الدنيا وحطامها عنده ، ردّا لمن استعظمها وادّعى أولوية واجدها بالرسالة بقوله تعالى : ﴿وَلَوْ لا﴾ كراهة ﴿أَنْ يَكُونَ النَّاسُ﴾ في الكفر ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ وجماعة متّفقة على الشرك لرغبتهم فيه ، إذا رأوا جميع الكفّار في التنعّم والسّعة ، والله ﴿لَجَعَلْنا﴾ لحقارة الدنيا وهوانها عندنا ﴿لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ﴾ ويشرك به مع كونه شرّ الخلائق وأقلّهم قدرا ، أعني ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ ومساكنهم ﴿سُقُفاً﴾ معمولة ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿فِضَّةٍ﴾ خالصة ﴿وَمَعارِجَ﴾ ومدارج ومصاعد من فضة أيضا ﴿عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ﴾ يعلمون السطوح والقصور ، وجعلنا ﴿لِبُيُوتِهِمْ﴾ ومساكنهم ﴿أَبْواباً﴾ من فضّة ﴿وَسُرُراً﴾ أيضا من فضّة ﴿عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ﴾ ويعتمدون حال الجلوس ﴿وَ﴾ وجعلنا ﴿زُخْرُفاً﴾ وزينة عظيمة من الذهب لهم.

وقيل : إنّ المعنى ونجعل لهم مع ذلك ذهبا كثيرا (٢) . وقيل : إنّه عطف على محلّ ﴿مِنْ فِضَّةٍ﴾ والمعنى سقفا من فضّة وزخرف بمعنى الذهب ، أي سقفا بعضها من فضة وبعضها من ذهب (٣) .

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٠ - ٣٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٨٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١١.

(٣) جوامع الجامع : ٤٣٤.

٥٠٩

عن الصادق عليه‌السلام : « لو فعل الله ذلك بهم لما آمن أحد ، ولكنّه جعل في المؤمنين أغنياء ، وفي الكافرين فقراء ، وجعل في المؤمنين فقراء ، وفي الكافرين أغنياء ، ثمّ امتحنهم بالأمر والنهي ، والصبر والرضا» (١) .

وعن السجاد عليه‌السلام - في رواية - « لو فعل الله ذلك بامّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لحزن المؤمنون وغمّهم ، ولم يناكحوهم ، ولم يوارثوهم » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما كان من ولد آدم مؤمن إلّا فقيرا ولا كان كافر إلّا غنيا ، حتى جاء إبراهيم فقال : ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا(٣) فصيّر الله في هؤلاء أموالا وحاجة ، وفي هؤلاء أموالا وحاجة » (٤).

ثمّ بيّن سبحانه سرعة زوال تلك النّعم بقوله : ﴿وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ﴾ وما جميع هذه النّعم ﴿لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ﴾ وإلّا امور ينتفع بها في مدّة العمر لا بقاء لها ، بل تزول بالموت والخروج من الدنيا ﴿وَالْآخِرَةُ﴾ بما فيها من أنواع النّعم التي لا توصف بالبيان باقية أبدية لا زوال لها ، وهي ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وفي حكمه ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمحترزين عن الكفر والشرك والعصيان ، ولمّا كانت الدنيا دار الامتحان ، ليميز الخبيث من الطيب ، لم يوفّر النّعم على المؤمنين حتى يجتمع الناس على الايمان ، لعدم حصول الامتحان ، وعدم تبيّن المخلص عن المنافق.

﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ

 لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٦) و (٣٧)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ طعن المشركين في القرآن وإعراضهم عن الرسول من تسويل الشياطين وإلقائهم بقوله تبارك وتعالى : ﴿وَمَنْ يَعْشُ﴾ وتعامى ﴿عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ﴾ وكتابه المنزل لوعظ الناس - وهو القرآن - أو عن التوجّه إلى الله ﴿نُقَيِّضْ لَهُ﴾ ونسلّط عليه ، ونضمّ إليه ﴿شَيْطاناً﴾ يغويه ﴿فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ ومصاحب لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ، ويزيّن له العمى على الهدى ، والكفر على الايمان.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أراد الله بعبد شرا ، قيّض له شيطانا قبل موته بسنة ، فلا يرى حسنا إلّا قبّحه عنده حتى لا يعمل به ولا يرى قبيحا إلّا حسّنه حتى يعمل به » (٥) .

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٨٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٠.

(٢) علل الشرائع : ٥٨٩ / ٣٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٠.

(٣) الممتحنة : ٦٠ / ٥.

(٤) الكافي ٢ : ٢٠٢ / ١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩١.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٦٩.

٥١٠

وفي ( الخصال ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام: « من تصدّى بالإثم عمي (١) عن ذكر الله تبارك وتعالى ، ومن ترك الأخذ بمن أمر الله بطاعته ، قيّض له شيطانا فهو له قرين » (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه ضرر الشياطين بقوله تعالى : ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ بتسويلاتهم وإغوائهم لقرنائهم ، والله ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ ويمنعونهم ﴿عَنِ﴾ سلوك ﴿السَّبِيلِ﴾ المودّي إلى الحقّ ، وإلى جميع الخيرات الدنيوية والاخروية ، ﴿وَ﴾ الحال أنّ العاشين ﴿يَحْسَبُونَ﴾ ويتوهّمون في أنفسهم ، لشدة ضلالتهم ﴿أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ إلى الحقّ. قيل : إنّ مرجع الضمير [ إلى ] الشياطين (٣) . والمعنى أنّهم يحسبون أنّ الشياطين الذين اتّبعوهم مهتدون.

﴿حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ

 يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٨) و (٣٩)

ثمّ إنّهم مستمرون على مصاحبة الشياطين وحسبانهم الباطل ﴿حَتَّى إِذا جاءَنا﴾ كلّ واحد منهم مع قرينه يوم القيامة ورأى وخامة عاقبة اتّباعه للشيطان الذي قارنه ﴿قالَ﴾ مخاطبا له : ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ في الدنيا ﴿بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ وفصل ما بينهما.

قيل : إنّ التثنية على التغليب ، والمراد منها المشرق والمغرب (٤) . وقيل : على الحقيقة ، والمراد مشرق الشمس ومشرق الكواكب ، وهو مغرب الشمس. وقيل : مشرق الشمس في الصيف والشتاء ، وبينهما بعد عظيم (٥) .

وعلى أيّ تقدير المقصود تمنّي البعد الذي لا أبعد منه ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ أنت يا شيطان ، ثمّ يقال له من قبل الله تعالى توبيخا وتقريعا : ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ﴾ تمنّي التباعد ﴿إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ أنفسكم ، ولأجل أن عصيتم ربّكم باتّباعكم في الدنيا إياهم في الكفر والطغيان ﴿أَنَّكُمْ﴾ أيّها التابعون والمتبوعون ﴿فِي الْعَذابِ﴾ الأليم ﴿مُشْتَرِكُونَ﴾ كما كنتم في الدنيا مشركين في سببه ، وهو العصيان.

وقيل : إنّ فاعل ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ﴾ قوله : ﴿أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ والمعنى أنّ اشتراككم في العذاب لا ينفعكم في التشفّي ، إذ تقولون ﴿رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ(٦) ولا في التخفيف عنكم ؛ لأنّ شدّة العذاب تذهل كلا عن الآخر.

__________________

(١) في المصدر : صدىء بالاثم عشى.

(٢) الخصال : ٦٣٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩١.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٤٧ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٠.

(٤) تفسير أبي السعود ٨ : ٤٧ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٣.

(٦) تفسير أبي السعود ٨ : ٤٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٠ ، والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٨.

٥١١

فحاصل الآيات أنّ كثرة المال والنّعم الدنيوية تعمي الإنسان عن مطالعة آيات الله وكتابه ، وذلك العمى يجعل الانسان قرينا للشيطان ، وهو يضلّه عن الهدى ، فيشتركان في العذاب ، كما كانا مشتركين في الكفر والعصيان.

عن الباقر عليه‌السلام - في تأويله - « نزلت هاتان الآيتان هكذا : ﴿حَتَّى إِذا جاءَنا﴾ يعني فلانا وفلانا ، يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ فقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل لفلان وفلان وأتباعهما ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ﴾ آل محمد » (١) .

﴿أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ

 بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ

 مُقْتَدِرُونَ (٤٠) و (٤٢)

ثمّ لمّا وصف الله سبحانه المصرّين على الكفر والشرك بالعمى والعشيّ والتعامي ، بالغ في ذمّهم بأن وصفهم بالعمى والصّمم ، فلا يمكن هدايتهم إلى الطريق الحقّ بالدعوة والبيان بقوله : ﴿أَ فَأَنْتَ﴾ يا محمد ﴿تُسْمِعُ الصُّمَ﴾ وفاقدي قوّة السّمع دعوتك وآيات كتابك ﴿أَوْ تَهْدِي﴾ وتدلّ ﴿الْعُمْيَ﴾ وفاقدي قوّة البصر إلى الطريق الحقّ ودين الاسلام ﴿وَ﴾ تدلّ ﴿مَنْ كانَ﴾ غائرا ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وانحراف واضح لجميع العقلاء عن الحقّ وسبيل الخير ؟ لا والله لا تقدر على إسماعهم وهدايتهم مع كمال نبوتك ، وشماخة مقامك ، فلا تتعب نفسك الشريفة في دعوتهم إلى الايمان ، وفيه إشعار بأنّ الوصفين لتمكّنهم في الضلال المفرط.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتعب نفسه في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلّا غيا وتعاميا ممّا يشاهدونه من المعجزات ، وتصامما عما يسمعونه من الآيات ، فنزلت (٢) .

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ من الدنيا إلى جوار رحمتنا قبل أن نريك عذابهم ، ونشفي غليل صدرك وصدر المؤمنين باهلاكهم ﴿فَإِنَّا﴾ لا محالة ﴿مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ في الدنيا والآخرة بعد ذهابك من الدنيا.

روى العلامة في ( نهج الحق ) عن ابن عباس في الآية ، أنّه قال : بعليّ عليه‌السلام (٣) .

وقال القاضي : الرواية عن طريق ابن عباس قد رواها ابن مردويه.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٨٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٢.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧١.

(٣) نهج الحق : ٢٠٥ ، مناقب ابن المغازلي : ٢٧٥ / ٣٢١ ، وشواهد التنزيل ٢ : ١٥٣ / ٨٥٢ ، عن جابر الانصاري.

٥١٢

روت العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اري ما يصيب امّته بعده ، فما رؤي مستبشرا ضاحكا حتى قبض.

وروى القاضي التّستري ، عن الطبرسي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إنّي لأدناهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع بمنى حين قال : « لألقينكم » ثمّ التفت إلى خلفه وقال : « أو علي » ثلاث مرات ، فرأينا أن جبرئيل عمزه ، فأنزل الله تعالى على أثر ذلك : ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ بعلي.

وفي رواية اخرى عنه ، قال : إنّي لادناهم من رسول الله في حجّة الوداع بمنى ، حتى قال : « لألقينكم ترجعون بعدي كفّارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم » ثمّ التفت إلى خلفه فقال : « أو علي » ثلاث مرات ، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه ، فأنزل الله ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ﴾ بعلي بن أبي طالب (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « فإمّا نذهبنّ بك يا محمد من مكّة إلى المدينة ، فانّا رادّوك إليها ، ومنهم منتقمون بعلي بن أبي طالب » (٢) .

﴿أَوْ نُرِيَنَّكَ﴾ قيل : إنّ المعنى أو ان أردنا أن نريك (٣)﴿الَّذِي وَعَدْناهُمْ﴾ من العذاب ﴿فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ لا يفوتوننا ولا يخرجون من سلطاننا.

﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ

 وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٣) و (٤٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في معارضة قومه ، أمره بالثّبات على ما هو عليه بقوله : ﴿فَاسْتَمْسِكْ﴾ يا محمد ﴿بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن الذي لم يوح إلى أحد من الرسل مثله في الفصاحة والبلاغة ، وتضمّن العلوم والحكم والأحكام ، والتزم بما فيه ، ولا تعتن بمعارضة قومك ، وتكذيبهم إيّاه ، وطعنهم فيه ، سواء عجّلنا لك عذابهم ، أو أخّرناه ﴿إِنَّكَ﴾ بلطف ربّك كائن ، أو مارّ ﴿عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق سوّي لا عوج له ، وهو التوحيد ، ودين الاسلام ، وأحكام القرآن ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ﴾ وشرف عظيم ﴿لَكَ﴾ خصوصا ﴿وَلِقَوْمِكَ﴾ وامّتك عموما ، كما روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّ لكلّ شيء شرفا يباهي به ، وإنّ بهاء امّتي وشرفها بالقرآن » (٤).

وقيل : إنّ المراد من قومه خصوص قريش ، حيث يقال : إنّ هذا الكتاب العظيم نزل على رجل من هؤلاء (٥) .

__________________

(١) إحقاق الحق ٣ : ٤٤٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٨٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٢.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٤٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٢.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٣.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٣.

٥١٣

ثمّ جمع سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقومه في الخطاب التهديدي بقوله : ﴿وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ﴾ هل أدّيتم شكر إنعامنا عليكم بإنزال القرآن والذّكر الجميل ، أو هل حفظتموه وعملتم بما فيه من الأحكام ، وأديتموه إلى الناس.

عن الصادق عليه‌السلام : « الذّكر القرآن ، ونحن قومه ، ونحن المسؤولون » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « إيّانا عنّى ، ونحن أهل الذّكر ، ونحن المسؤولون » (٢) .

﴿وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً

 يُعْبَدُونَ (٤٥)

ثمّ لمّا كان معارضة القوم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطعنهم في القرآن ، لتصريحهما ببطلان الشرك والدعوة إلى التوحيد ، بيّن سبحانه أنّه ليس من خواصّك وخواصّ كتابك ، بل جميع الأنبياء والرسل مطبقون على التوحيد وإنكار الشرك بقوله : ﴿وَسْئَلْ﴾ يا محمد ﴿مَنْ أَرْسَلْنا﴾ قيل : إنّ التقدير امم من أرسلنا ﴿مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا﴾ وعلمائهم الذين يقرأون كتبهم (٣) ﴿أَجَعَلْنا﴾ لهم ﴿مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ﴾ وممّا سواه ﴿آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ وهل حكمنا في ملّة من الملل بجواز عبادة غير الله.

روي عن عائشة : لمّا نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أنا بالذي أشكّ ، ولا أنا بالذي أسأل »(٤) .

وقيل : إنّ المراد السؤال من أشخاص الرسل ، لمّا روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا اسري به إلى المسجد الحرام حشر إليه الأنبياء والمرسلون من قبورهم ، ومثّلوا له ، فأذّن جبرئيل وأقام ، وقال : يا محمد ، تقدّم وصلّ بإخوانك الأنبياء والمرسلين ، فلمّا فرغ من صلاته قال له جبرئيل : زعمت قريش أن لله شريكا ، وزعمت اليهود والنصارى أنّ لله ولدا ، سل يا محمد هؤلاء النبيين : هل كان لله شريك ؟ ثمّ قرأ ﴿وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا﴾ إلى آخره فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا أسأل ، وقد اكتفيت ، وليس بشاكّ فيه » فلم يشكّ ولم يسأل(٥).

وقال بعض مفسري العامة : إنّ هذه الآية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ببيت المقدس ليلة المعراج ، فلمّا نزلت وسمعها الأنبياء أقروا لله بالوحدانية وقالوا : بعثنا بالتوحيد (٦) . وعن عطاء ، عن ابن عباس : لمّا اسري به إلى المسجد الأقصى بعث له آدم وجميع المرسلين من ولده فأذّن جبرئيل ثمّ أقام فقال : يا

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٣.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٤٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٤.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٤.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٤.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٤.

٥١٤

محمد ، تقدّم وصلّ بهم. فلمّا فرغ قال له جبرئيل : ﴿وَسْئَلْ﴾ يا محمد ﴿مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا﴾ الآية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا أسأل لأنّي لست شاكّا فيه » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية : من ذا الذي سأله محمد ، وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ، فتلا هذه الآية : ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا(٢) فكان [ من ] الآيات التي أراها الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله له الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين ، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا ، وأقام شفعا ، ثمّ قال في إقامته : حيّ على خير العمل ، ثمّ تقدّم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى بالقوم ، فأنزل الله عليه : ﴿وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا﴾ الآية ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : على ما تشهدون ، وما كنت تعبدون ؟ فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأنّك رسول الله ، أخذت (٣) على ذلك مواثيقنا وعهودنا » (٤) .

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ *

 فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ * وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ

 مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ

 لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ

 يَنْكُثُونَ * وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ

 الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ

 وَلا يَكادُ يُبِينُ (٤٦) و (٥٢)

ثمّ حكى سبحانه إرساله موسى مع كونه عديم المال والجاه ، إلى فرعون الذي كان له ملك مصر وأموال كثيرة ، ردّا على قريش الذين قالوا : ﴿لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ(٥) الآية ، بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى﴾ مع كونه فقيرا ومهينا عند القبط حال كونه مستدلا على صدقه ﴿بِآياتِنا﴾ ومعجزاته التي أعطيناه ﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾ ملك مصر ﴿وَمَلَائِهِ﴾ وأشراف قومه المطاعين عند القبط ﴿فَقالَ﴾ لهم موسى : يا قوم ﴿إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ إليكم ، لأدعوكم إلى توحيده وطاعته ، وجئتكم بآيات ومعجزات من ربّكم ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا﴾ وأراهم المعجزات الدالّة على صدقه ﴿إِذا هُمْ مِنْها

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٦.

(٢) الإسراء : ١٧ / ١.

(٣) في الكافي : أخذ.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٨٥ ، الكافي ٨ : ١٢١ / ٩٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٣.

(٥) الزخرف : ٤٣ / ٣١.

٥١٥

يَضْحَكُونَ﴾ كذبا ، وبها يستهزئون ، فكان يريهم آية بعد آية ، ويأتيهم بمعجزة بعد معجزة ﴿وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾ من الآيات ومعجزة من المعجزات ﴿إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ﴾ وأعظم ﴿مِنْ أُخْتِها﴾ وقرينتها ﴿وَأَخَذْناهُمْ﴾ وابتليناهم بعد أن يستهزئوا بالمعجزات ﴿بِالْعَذابِ﴾ والبلاء من الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والدم ، والطمس ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ بسبب العذاب والبلاء ﴿يَرْجِعُونَ﴾ عما هم عليه من الكفر والطغيان إلى الايمان والتسليم ، فلما اشتد الأمر على فرعون وملئه ، جزعوا ﴿وَقالُوا﴾ تضرعا إلى موسى : ﴿يا أَيُّهَا السَّاحِرُ﴾ في زعم الناس. وقيل : إنهم كانوا يقولون للعالم [ الماهر ] ساحر (١) ، والمعنى : أيها العالم ، إن تك صادقا في دعوى الرسالة ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ الذي أرسلك ليكشف عنا العذاب ﴿بِما عَهِدَ﴾ من النبوة المحفوظة ﴿عِنْدَكَ﴾ أو من استجابة دعوتك ، أو من كشف العذاب عمن آمن بك ، والباء على هذا للسببية ، أو المعنى بحق ما عهد عندك من النبوة ﴿إِنَّنا﴾ على تقدير كشف العذاب ﴿لَمُهْتَدُونَ﴾ ومؤمنون بك.

﴿فَلَمَّا كَشَفْنا﴾ ورفعنا ﴿عَنْهُمُ الْعَذابَ﴾ بدعاء موسى ﴿إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ وينقضون عهدهم بالاهتداء والايمان ، وبادروا إليه من غير ريث ، وأصروا على الكفر والعناد ﴿وَ﴾ كان من نقضهم أنه ﴿نادى فِرْعَوْنُ﴾ بنفسه ، أو بمناد من قبله ﴿فِي﴾ ما بين ﴿قَوْمِهِ﴾ وهم القبط ، ﴿قالَ﴾ تعظما وافتخارا : ﴿يا قَوْمِ﴾ إن كان إله غيري كنت أولى بالرسالة من قبله ﴿أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ؟﴾ وهي على ما قيل أربعون فرسخا في أربعين (٢) . ﴿وَ﴾ أ ليس ﴿هذِهِ الْأَنْهارُ﴾ الأربعة المتشعبة من النيل ، وهي على ما قيل نهر الإسكندرية ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تنيس (٣) . ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ قيل : كانت تلك الأنهار تجري في بستان له فيه قصره. وقيل : يعني تجري من أمري (٤) . ﴿أَ فَلا تُبْصِرُونَ﴾ يا قوم سلطنتي وجاهي وما لي ، يا قوم أموسى خير مني مع ما تبصرون من سلطنتي وعظمتي ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مِنْ هذَا﴾ الرجل ﴿الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ وضعيف وحقير بينكم ؟

وقيل : إن المعنى ﴿أَ فَلا تُبْصِرُونَ﴾ أنا خير منه (٥) . وقيل : ( أنا خير ) لابتداء الكلام ، والمعنى ﴿أَ فَلا تُبْصِرُونَ﴾ أم تبصرون (٦) ما يكون.

ثم قال : ( أنا خير منه ) وقيل : إن كلمة ( أم ) بمعنى بل (٧) . وقيل : بمعنى الاستفهام وبل ، فكأنه قال أثر

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٨.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٧.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٧.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٨.

(٧) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٨.

٥١٦

تعديد موجبات فضله ومبادئ خيريته : يا قوم ، أثبت عندكم ما قلت ؟ بل أنا خير منه (١) . ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿لا يَكادُ يُبِينُ﴾ ويوضح كلامه ، لرتة في لسانه ، فكيف يليق للرسالة ؟ وقيل : إنه قال ذلك بلحاظ اطلاعه على حاله السابق ، وما كان يعلم زوال رتته منه بدعائه. وقيل : إن المراد لا يكاد يبين حجته على رسالته ، لا أنه لا يقدر على الكلام (٢) .

﴿فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ

 قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ

 أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٣) و (٥٦)

ثم قيل : إن عادة القبط كانت جارية بأن من جعلوه رئيسا مطاعا سوروه بسوار من ذهب ، وطوقوه بطوق من ذهب (٣) ، فلذا قال فرعون توبيخا لموسى : ﴿فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ﴾ من قبل ربه ﴿أَسْوِرَةٌ﴾ وأقلبه ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ التي هي مقاليد الملك ، إن كان صادقا في دعوى الرسالة ؟ ﴿أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ﴾ حال كونهم ﴿مُقْتَرِنِينَ﴾ لموسى ومنضمين إليه ، أو منقادين له ؟ كي يعينونه على أمره ، ويصدقونه في دعوى رسالته.

﴿فَاسْتَخَفَ﴾ فرعون بما ذكر من التلبيسات ﴿قَوْمَهُ﴾ وأراد بالتمويهات خفة عقولهم ، وحملهم على الجهل ، كي يطيعوه فيما أراد منهم مما يأباه أرباب العقول السليمة. وقيل : طلب منهم خفة الأبدان ، وهي كناية عن إسراعهم في طاعته ، أو المراد وجد أحلامهم خفيفة ، يغترون بالتسويلات والتمويهات الباطلة (٤) ، أو وجدهم خفافا في أبدانهم وعزائمهم (٥) . ﴿فَأَطاعُوهُ﴾ فيما أمرهم به من معارضة موسى ، والأعراض عنه ، لفرط ضلالهم.

﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ﴾ وخارجين عن حدود العقل وعبودية الله ، فلذلك استعظموا فرعون بماله وملكه ، وسارعوا إلى طاعته ، واستحقروا موسى لفقر وضعفه ، فخالفوه أمنا من ضرره.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ولقد دخل موسى ومعه أخاه هارون على فرعون ، وعليهما مدارع الصوف ، وبأيديهما عصا ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه ، فقال : ألا تعجبون من هذين ، يشترطان لي دوام العز ، وبقاء الملك ، وهما بما ترون من حال الفقر والذل ، فهلا القي عليهما أساور من ذهب ؟ ! إعظاما للذهب وجمعه ، واحتقارا للصوف وللبسه. ولو أراد الله لأنبيائه حيث بعثهم كنوز

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ٥٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٩.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٧٩.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٨٠.

٥١٧

الذهبان ومعادن الأقيان ومغارس الجنان ، وأن يحشر معهم طيور السماء وو حوش الأرضين لفعل ، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء » .

إلى أن قال : « ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم ، وضعفه فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى ، ولو كانت الأنبياأ أهل قوة لا ترام ، وعزة لا تضام ، وملك تمد نحوه أعناق الرجال وتشد إليه عقد الرحال ، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار ، وأبعد لهم عن الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم ، وكانت السيئات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته امورا له خاصة ، لا يشوبها من غيرها شائبة ، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم ، كانت المثوبة والجزاء أجزل » (١) .

﴿فَلَمَّا آسَفُونا﴾ وشددوا عليهم سخطنا بالافراط في الطغيان والعناد للحق ﴿انْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾ وعجلنا في إنزال العذاب عليهم ﴿فَأَغْرَقْناهُمْ﴾ في البحر المطاع والمطيعين ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بحيث لم نترك منهم أحدا.

قيل : لما افتخر فرعون بجريان الماء من تحته ، غرقه الله في الماء (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال في هذه الآية : « إن الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا ، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون ومربوبون ، فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه ، وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه ، والأدلاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك » .

إلى أن قال : « ولو كان يصل إلى الملكوت الأسف والضجر ، وهو الذي أحدثهما وأنشأهما ، لجاز لقائل أن يقول : إن الملكوت يبيد يوما ، لأنه إذا دخله الضجر والأسف ، دخله التغير ، وإذا دخله التغير ، لم يؤمن عليه الإبادة » (٣) الخبر.

وقيل : إن الأسف والغضب من الله إرادة العذاب الذي هو أثر الغضب ، والانتقام هو التعذيب لجرم سابق (٤) .

ثم بين سبحانه أن فائدة إهلاكهم صيرورتهم عبرة لمن بعدهم بقوله : ﴿فَجَعَلْناهُمْ﴾ وصيرناهم ﴿سَلَفاً﴾ وقدوة لمن بعدهم من الكفار الذين يسلكون مسلكهم في استيجاب ما حل به من العذاب ،

__________________

(١) نهج البلاغة : ٢٩١ الخطبة ١٩٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٥.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٣٨١.

(٣) الكافي ١ : ١١٢ / ٦ ، التوحيد : ١٦٨ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ٢١٩.

٥١٨

أو سلفا وقدوة في دخول النار أ ﴿وَمَثَلاً﴾ وعظة ﴿لِلْآخِرِينَ﴾ من الناس ، لئلا يسلكوا مسلكهم.

﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧)

ثم إنه تعالى بعد حكاية جدال قريش مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولهم : ﴿لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(١) حكى جدالهم الآخر بقوله : ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ﴾ وجعل عيسى ﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ في إبطال قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿مَثَلاً﴾ ومقياسا ؛ روي أنه لما نزل : ﴿إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ(٢) قرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على قريش ، فامتعضوا وغضبوا غضبا شديدا ، وشق عليهم ذلك ، فقال عبد الله بن الزبعرى بطريق الجدال : هذا لنا ولآلهتنا ، أو لجميع الامم ؟ فقال : « هو لكم ولا لهتكم ولجميع الامم » فقال : خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح ، وأنت تزعم أنه نبي وتثني عليه وعلى امه ، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما ، واليهود يعبدون عزيزا ، وبنو المليح يعبدون الملائكة ، فان كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت (٣) .

ولما ضرب ابن مريم مثلا ﴿إِذا قَوْمُكَ﴾ قريش يا محمد ، لما سمعوا المثل ﴿مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ ويضجون ، ويرفعون أصواتهم فزعا وسرورا لظنهم أنك صرت ملزما بذلك المثل.

وعن ( المعاني ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في الآية « الصدود في العربية الضحك » (٤) .

وفي روآية فضل بن روزبهان : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في جواب ابن الزبعرى : « ما أجهلك بلسان قومك ! » (٥) فان ( ما ) لا يراد به ذوو العقول ، وعيسى من ذوي العقول ، فأنزل الله : ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً﴾ إلى آخره.

في فضيلة أمير المؤمنين عليه‌السلام

وروى العلامة في ( نهج الحق ) عن العامة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : « أن فيك مثلا من عيسى ، أحبه قوم فهلكوا فيه » ، وأبغضه قوم فهلكوا فيه فقال المنافقون : أما ترى له مثلا إلا عيسى ابن مريم ؟ فنزلت هذه الآية (٦) .

وقال القاضي نور الله : قد روى أحمد بن حنبل في مسنده ما في الحديث الذكور من طرق ثمانية ، منها : ما رواه مسندا إلى علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا علي ، إن فيك مثلا من عيسى ، أبغضه اليهود حتى بهتوا امه ، وأحبه النصارى حتى أنزلوه المنزل الذي ليس له » . قال : قال علي عليه‌السلام : « يهلك

__________________

(١) الزخرف : ٤٣ / ٣١.

(٢) الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٢١ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٨١.

(٤) معاني الأخبار : ٢٢٠ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٩٦.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٣٨٢ ، وليست عن ابن روزبهان.

(٦) نهج الحق : ٢٠٢ / ٦٢.

٥١٩

في رجلان : محب يفرطني بما ليس في ، ومبغض شنأني على أن يبهتني » .

وكذا ابن المغازلي في كتاب ( المناقب ) ، ومحمد بن عبد الواحد في ( جواهر الكلام ) ، وابن عبد ربه في ( العقد ) ذكروا ما في معناه (١) . وقريب من هذا المضمون روآيات عديدة بطرق أصحابنا.

﴿وَقالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)

واحتمل الفخر الرازي أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى ، قالوا : إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة (٢) . فحكى سبحانه قولهم بقوله : ﴿وَقالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ﴾ من عيسى ﴿أَمْ هُوَ﴾ خير من آلهتنا ؟ وما قالوا ذلك المثل و﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ﴾ يا محمد لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا جَدَلاً﴾ ولأجل الخصام والغلبة عليك ، لا لطلب الحق حتى يذعنوا له عند ظهوره ببيانك ﴿بَلْ هُمْ﴾ وما اولئك المجادلون إلا ﴿قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ومصرون على الجدال ، ومبالغون في الخصومة.

ثم بين سبحانه منزلة عيسى ردا على من قال بألوهيته بقوله : ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ﴾ من عبادنا مربوب بتربيتنا ﴿أَنْعَمْنا عَلَيْهِ﴾ بنعمة النبوة ، وتفضلنا عليه بفضيلة الرسالة ، لا هو ابننا ولا شريكنا في الالوهية واستحقاق العبادة ﴿وَجَعَلْناهُ مَثَلاً﴾ وعبرة عجيبة حقيقة بكونها كالمثل السائر ﴿لِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾ يعتبرون به ، إنا خلقناه من غير أب ، كما خلقنا آدم ، وآتيناه معجزات كثيرة.

ثم لما ذكر سبحانه كون عيسى عبرة وآية من حيث تولده من غير أب ، بين كمال قدرته في أمر الو لا دة بقوله : ﴿وَلَوْ نَشاءُ﴾ والله ﴿لَجَعَلْنا﴾ ولخلقنا بطريق الو لا دة ﴿مِنْكُمْ﴾ مع أنكم رجال من الإنس ليس من شأنكم الو لا دة ﴿مَلائِكَةً﴾ مستقرين ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أمثال أولادكم ﴿يَخْلُفُونَ﴾ كم ، ويقومون مقامكم في مباشرة أعمالكم التي تباشرونها ، كما خلقناهم بطريق الابداع ، وأسكناهم في السماوات يسبحون ويقدسون ، ومن الواضح أن توليد الملائكة من رجال الانس أبدع من توليد عيسى من الانثى الإنسية من غير أب ، وفيه تنبيه على أنهم غير أهلين للعبادة ، لأنهم مخلوقون مربوبون.

في ( الكافي ) عن أبي بصير ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم جالس ، إذ أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام ،

__________________

(١) إحقاق الحق ٣ : ٤٠٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٢٠.

٥٢٠