نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

والحال أنّه يمتنع أن يكون له ندّا وضدّا ﴿ذلِكَ﴾ الاله القادر الحكيم هو ﴿رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ وخالق الموجودات ومربّيها ، فكيف يتصوّر أن يكون أخسّ مخلوقاته ندا له وشريكا ﴿وَجَعَلَ فِيها﴾ جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت ﴿مِنْ فَوْقِها﴾ لتمنعها من الميلان ، ولتكون منافعها ظاهرة.

في بيان بدو خلق السماء والأرض ، وما فيهما ، وعدد الجبال

عن ابن عباس رضى الله عنه : أوّل ما خلق الله من شي القلم ، وقال له : اكتب - إلى أن قال - ثمّ بسط الأرض على ظهر النون ، وفاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأوتدت بالجبال (١) .

قيل : إنّ الله تعالى طوّق الأرض بجبل محيط بها ، وهو من صخرة خضراء (٢) .

وقيل : أوّل جبل نصب على وجه الأرض جبل أبو قبيس (٣) ، وإنّ مجموع الجبال التي عرفت في الاقاليم السبعة مائة وثمانية وسبعون جبلا (٤) . وقيل : عددها ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلا سوى التّلول (٥) .

﴿وَبارَكَ﴾ سبحانه في الأرض وأكثر الخير ﴿فِيها﴾ بخلق أنواع الحيوانات والنباتات التي منها معايش الانسان ﴿وَقَدَّرَ﴾ في الارض ، وقسّم لمن يحتاج إلى القوت ﴿فِيها﴾ بقدرته وحكمته ﴿أَقْواتَها﴾ والأرزاق التي تتولّد منها وتوجد فيها من البرّ والشعير وغيرهما.

وقيل : إنّ المراد أقوات نفسها من المطر حيث إنّ الله قدّر لكلّ أرض حظّها من المطر(٦). وقيل : يعني الأقوات التي اختصّ حدوثها بأرض خاصة حيث إنّ الله جعل كلّ بلد معدنا لنوع من الأشياء المطلوبة لرغبة الناس في التجارة والضرب في الأرض لكسب الأموال (٧) ، كل ذلك ﴿فِي﴾ تتمّة ﴿أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ كاملة من أيام الدنيا ، وتلك الأيام استوت ﴿سَواءً﴾ بلا زيادة ونقصان.

القمي : يعني في أربعة أوقات ، وهي التي تخرج فيها أقوات العالم من الناس والبهائم - إلى أن قال - : وهو الربيع ، والصيف ، والخريف ، والشتاء - إلى أن قال - : وجعل الله هذه الأقوات في أربعة أوقات في الشتاء ، والربيع ، والصيف ، والخريف ، وقام به العالم واستوى وبقي ، وسمّى الله هذه الأوقات أياما ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ يعني المحتاجين ؛ لأنّ كلّ محتاج سائل ، وفي العالم من خلق الله من لا يسأل ولا يقدر على السؤال من الحيوان ، فهم سائلون وإن لم يسألوا (٨) .

وقيل : إنّ المراد أنّ الحصر في أربعة للسائلين عن مدّة خلق الأرض وما فيها (٩) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٢.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٢.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٣.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٢.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٣.

(٦) تفسير الرازي ٢٧ : ١٠٢.

(٧) تفسير الرازي ٢٧ : ١٠٣.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٢٦٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٣.

(٩) تفسير أبي السعود ٨ : ٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٤.

٤٤١

عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله وأنا رديفة يقول : « خلق الله الأرواح قبل الأجسام بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وأنا من الذين لم يسألوا ، ومن سأل جهل » (١) .

أقول : فيه دلالة على أنّ لام السائلين متعلقة بسواء.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث - : « الرزق أشدّ طلبا لصاحبه من صاحبه له » (٢).

﴿ثُمَ﴾ بعد خلق الأرض ﴿اسْتَوى﴾ سبحانه ، وتوجّه ﴿إِلَى﴾ خلق ﴿السَّماءِ﴾ وقصد نحوها بإرادته ومشيئته ﴿وَهِيَ﴾ في النظر ﴿دُخانٌ﴾ وأجزاء أرضية لطيفة متصاعدة في الهواء مع الحرارة ، وفي الواقع مادة ظلمانية. قيل : اريد به الأجزاء التي لا تتجزأ ، ومن ظلمتها إبهامها (٣) . وقيل : إنّ المراد من الدخان البخار المرتفع من الماء تشبيها له به (٤).

عن ابن عباس في جواب نافع بن الأزرق الحروري : أنّ أول ما خلق الله العرش على الماء ، والماء من جوهرة خضراء أذابها الله ، ثمّ ألقى فيها نارا ، فصار الماء يقذف بالغثاء والزّبد ، فخلق الأرض من الغثاء ، ثمّ استوى إلى الدّخان الذي صار من الماء ، فسمكه سماء ، ثمّ بسط الأرض ، فكان خلق الأرض قبل خلق السماء ، وبسط الأرض ، وأرسى الجبال ، وتقدير الأرزاق ، وخلق الأشجار والدوابّ والبحار والأنهار بعد خلق السماء (٥).

﴿فَقالَ﴾ الله ﴿لَها وَلِلْأَرْضِ﴾ حين اقتضاء الحكمة إيجادهما : ﴿ائْتِيا﴾ من زاوية العدم إلى عالم الوجود ، وكونا على ما ينبغي أن تأتيا وتكونا عليه من الشكل والوصف ، من كون الأرض مدحوّة وقرارا ومهادا ، والسماء مقيية وسقفا ، سواء كان إتيانكما وتكوّنكما ﴿طَوْعاً﴾ ورغبة إلى طاعة أمري ﴿أَوْ كَرْهاً﴾ وبغير رغبة ﴿قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾ منقادين غير كارهين ، وهذا تمثيل لتأثير قدرته ونفوذ إرادته في إيجادهما ، وتشبيه له بالسلطان القاهر الذي يقول لأدنى رعيّته : لا بدّ لك من أن تفعل هذا شئت أم لم تشأ : فيقول : سمعا وطاعة.

ثمّ لا يخفى أنّ الآية مسوقة لبيان خلق السماء بعد خلق الأرض ، ولكن لمّا لم يبن كيفية خلق الأرض مع كمال عظمتها ، قرنه ببيان كيفية خلق السماء التي هي أعظم منها ، وفي بعض الروايات دلالة على أنّ الخطاب إلى السماء والأرض بعد خلقهما.

في حديث : « أنّ موسى قال : يا ربّ لو أنّ السماوات والأرض حيث قلت لهما : ائتينا طوعا أو كرها

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٤.

(٢-٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٥.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٥.

٤٤٢

عصياك ، ما كنت صانعا بهما ؟ قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبلعهما » (١) .

القمي رحمه‌الله : سئل الرضا عليه‌السلام عمّن كلّم (٢) الله لا من الجنّ ولا من الإنس ؟ فقال : « السماوات والأرض في قوله : ﴿ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾ » (٣) .

أقول : عليه يكون المراد من إتيانهما طاعتهما إياه في الحركات والسكنات وغيرهما.

ثمّ قيل : إنّ أول ما أجاب الله تعالى من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض حتى كانت كعبة الاسلام وقبلة للأنام (٤) .

﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ

 الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)

ثمّ بيّن سبحانه ما أوجده بإرادته النافذة بقوله : ﴿فَقَضاهُنَ﴾ وأتمّ خلقهنّ حال كونهن ، أو كان قضاهن ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ طباق عظام بحيث تكون الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كنسبة حصاة صغيرة إلى الفلاة الواسعة ، وكذا السماء الاولى بالنسبة إلى الثانية ، وهكذا إلى السابعة ﴿فِي﴾ مقدار ﴿يَوْمَيْنِ﴾ من أيام الدنيا من الزمان.

قيل : خلق سبحانه ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، والسماوات وما فيهنّ في يوم الخميس إلى آخر ساعة من يوم الجمعة ، وفي الساعة الآخرة منها خلق آدم ، وهي الساعة التي فيها القيامة (٥) .

﴿وَأَوْحى﴾ الله تعالى ﴿فِي كُلِّ سَماءٍ﴾ بعد خلقهن ﴿أَمْرَها﴾ قيل : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ، وخلق في كلّ منها ما فيها من الملائكة وجبال البرد والبحار (٦) .

وقيل : يعني حكم في كلّ منها بما أراد ، فانّ له تعالى على أهل كلّ سماء تكليفا خاصّا بأهلها ، منهم قيام لا يقعدون ، ومنهم ركوع لا ينتصبون ، ومنهم سجود لا يرفعون رؤوسهم إلى غير ذلك (٧) ، وإضافة الأمر إلى نفس السماء للملابسة (٨) .

﴿وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا﴾ والقريبة من الأرض بكواكب متلألئة تشبّه ﴿بِمَصابِيحَ﴾ مضيئة ، بعضها ثوابت ، وبعضها سيّارات ، ﴿وَ﴾ حفظناها ﴿حِفْظاً﴾ بديعا من الآفات ، وصعود الشياطين إليها ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٦.

(٢) في النسخة : تكلم.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٦٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥٤.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ١٠٧ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٦ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٩.

(٦) تفسير روح البيان ٢٧ : ١٠٧.

(٧) تفسير الرازي ٢٧ : ١٠٧ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٨.

(٨) تفسير روح البيان ٨ : ٢٣٨.

٤٤٣

واستراق السمع منها ، بالشّهب المنفصلة من الكواكب.

في فضيلة أهل البيت عليهم‌السلام

في ( الإكمال ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النجوم أمان لأهل السماء ، فاذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض » (١) .

﴿ذلِكَ﴾ المذكور المفصّل من بدائع الخلق ﴿تَقْدِيرُ﴾ الإله ﴿الْعَزِيزِ﴾ والقدير الذي لا تناهي لقدرته ﴿الْعَلِيمِ﴾ الذي لا نهاية لعلمه ، فيفعل ما يشاء ، ويعلم مصالح الامور.

﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جاءَتْهُمُ

 الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ

 مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٣) و (١٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديد المشركين بقوله : ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾ عن الايمان بالله وبتوحيده ، ولم يتفكّروا فيما خلقه الله إبداعا من الموجودات العلوية والسّفلية ﴿فَقُلْ﴾ لهم يا محمّد : إنّي ﴿أَنْذَرْتُكُمْ﴾ وخوّفتكم من أن ينزل الله عليكم ﴿صاعِقَةً﴾ من السماء وعذابا شديدا ، يكون ﴿مِثْلَ صاعِقَةِ﴾ قوم ﴿عادٍ وَ﴾ قوم ﴿ثَمُودَ﴾ والعذاب النازل عليهم ، لأنّكم إذن كالحطب اليابس الذي لا يليق إلّا للاحراق بالنار ، وإنّما خصّ سبحانه القبيلتين بالذكر لأنّ أهل مكّة كانوا كثيرا يمرّون في أسفارهم إلى الشام واليمن على ديارهم ، ويرون آثار العذاب فيها ﴿إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾ الذين أرسلوا إليهم ، وحين دعوهم إلى الايمان بالتوحيد والمعاد ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ واجتهدوا في إرشادهم من جميع الجهات والجوانب.

قيل : هو كناية عن انحاء النصح من الرفق والعنف والترغيب والترهيب (٢) ، ويحتمل كونه كناية عن شدّة إصرارهم على دعوتهم ، وتبليغ ما ارسلوا به ، وهو ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ أيّها القوم ﴿إِلَّا اللهَ﴾ وحده ، فاجابهم قومهم و﴿قالُوا﴾ استخفافا بهم وتكذيبا لهم ﴿لَوْ شاءَ رَبُّنا﴾ إرسال رسول من قبله إلينا ﴿لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ برسالته حتى لا نشكّ في صدقهم ، ونسارع إلى الايمان بهم ، فلمّا لم تكونوا ملائكة ، بل تكونون بشرا مثلنا ، لا فضيلة لكم علينا ﴿فَإِنَّا﴾ برسالتكم و﴿بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ من التوحيد على زعمكم ﴿كافِرُونَ﴾ وجاحدون.

روي أنّ ابا جهل قال يوما في ملأ من قريش : التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما

__________________

(١) كمال الدين : ٢٠٥ / ١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٤.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٢.

٤٤٤

بالشعر والسّحر والكهانة فكلّمه ، ثمّ أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد سمعت السحر والشعر والكهانة ، وعلمت من ذلك علما ، وما يخفى عليّ. فأتاه فقال : يا محمد ، أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد الله ؟ لم تشتم آلهتنا وتضلّلنا ؟ فان كنت تريد الرئاسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ، وإن يكن بك الباء زوّجناك عشر نسوة تختارهنّ ، أيّ بنات شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ساكت. فلمّا فرغ عتبة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إلى قوله : ﴿صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ(١) .

فأمسك عتبة على فيه ، وناشده بالرّحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلمّا احتبس عنهم قالوا : لا نرى عتبة إلّا قد صبا ، فانطلقوا إليه ، وقالوا : يا عتبة ، ما حبسك عنّا إلّا أنّك قد صبأت. فغضب وأقسم أنّه لا يكلّم محمدا أبدا ، ثمّ قال : والله لقد كلّمته فأجابني بشيء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة. فلمّا بلغ ﴿صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ﴾ أمسكت بفي وناشدته بالرّحم ، ولقد علمت أنّ محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب (٢) .

﴿فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَلَمْ يَرَوْا

 أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنا

 عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ

 الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ

 فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا

 يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٥) و (١٨)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه كفر عاد وثمود ، بيّن طغيانهم بقوله : ﴿فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا في أنفسهم ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ التي كانوا فيها ﴿بِغَيْرِ الْحَقِ﴾ وبلا استحقاق للكبر والتعظّم ، وإنّما رأوا عظم أجسامهم وشدّة قوّتهم ﴿وَقالُوا﴾ اغترارا بها ﴿مَنْ﴾ هو ﴿أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟

ثمّ ردّهم سبحانه ووبّخهم على اغترارهم بقوله : ﴿أَ وَلَمْ يَرَوْا﴾ لم يعلموا اولئك المغرورون ﴿أَنَّ اللهَ﴾ القادر ﴿الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ وأعطاهم تلك القوة ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وأكثر منهم قدرة ، إذ من الواضح أنّ قوة المخلوق من عطاء الخالق وكمال قوته وقدرته ﴿وَكانُوا﴾ من غاية عتوّهم

__________________

(١) فصلت ٤١ / ١ - ١٣.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ١١١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٢.

٤٤٥

واستكبارهم ﴿بِآياتِنا﴾ المنزلة على الرسل ، أو دلائل توحيدنا وقدرتنا ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وينكرون عنادا ولجاجا ، فلمّا جمعوا بين التكبّر والغرور وإنكار الآيات ، صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال ﴿فَأَرْسَلْنا﴾ غضبا ﴿عَلَيْهِمْ رِيحاً﴾ عقيما ﴿صَرْصَراً﴾ وباردا كما عن الباقر عليه‌السلام (١) ، لها صوت شديد هائل في هبوبها ﴿فِي أَيَّامٍ﴾ وليال ﴿نَحِساتٍ﴾ ومشؤومات ، ليس فيها خير - على ما قيل - من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء ، الذي كان آخر الشهر (٢) . قيل : ما عذّب قوم إلّا في الأربعاء (٣) .

قيل : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت عليهم الرياح من غير مطر (٤) .

عن جابر بن عبد الله : إذا أراد الله بقوم خيرا أرسل عليهم المطر ، وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرّا حبس عنهم المطر ، وسلّط عليهم كثرة الرياح (٥) .

وعلى أيّ حال كان إرسال الريح عليهم ﴿لِنُذِيقَهُمْ﴾ الله بها ﴿عَذابَ﴾ الاستئصال الذي كان سبب ﴿الْخِزْيِ﴾ والذّلّ لهم ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ قبل عذاب الآخرة ﴿وَ﴾ والله ﴿وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ﴾ الذي أعدّ لهم في القيامة ﴿أَخْزى﴾ وأكثر إذلالا لهم وافتضاحا حال كونه في مشهد خلق الأولين والآخرين ﴿وَهُمْ﴾ حين ابتلائهم لا يعاونون على دفعه و﴿لا يُنْصَرُونَ﴾ من أحد بوجه من الوجوه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وإنّما عذّبهم الله بالريح لأنّهم اغترّوا بعظم أجسادهم وشدّة قوّتهم ، حتى ظنّوا أن شيئا لا يقاومهم ، فسلّط الله عليهم الريح ، لينبهّهم أنّهم لا يقاومون الريح التي هي أخفّ وألطف من سائر الأشياء ، فكيف بأجسام هي أثقل وأقوى منها ؟ فصارت تلك الأجسام العظيمة كريشة طير أو تبن في الهواء.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجثو على ركبتيه عند هبوب الرياح ، ويقول : « اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا ، اللهمّ اجعلها لنا رياحا ولا تجعلها ريحا » (٦) .

أقول : الظاهر أنّ ( الرياح ) إشارة إلى قوله تعالى : ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ(٧) وإلى قوله : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ(٨) و﴿يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ(٩) وقوله : ﴿رِيحاً﴾ إشارة إلى قوله تعالى : ﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾.

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ﴾ إلى الحقّ وإلى طريق الجنّة والراحة الأبدية ، بارسال الرسول ونصب

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٦٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٥.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٤.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٥١ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٤.

(٤ و٥) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٤.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٥.

(٧) الحجر : ١٥ / ٢٢.

(٨) الفرقان : ٢٥ / ٤٨.

(٩) الروم : ٣٠ / ٤٦.

٤٤٦

الدلائل عليه ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى﴾ والضلال وعدم البصيرة ، وآثروه ﴿عَلَى الْهُدى﴾ والبصيرة ، واختاروا الكفر ورجّحوه على الايمان.

عن الصادق عليه‌السلام : « عرّفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون » (١).

وعنه عليه‌السلام : « عرّفناهم وجوب الطاعة ، وتحريم المعاصي ، وهم يعرفون » (٢).

﴿فَأَخَذَتْهُمْ﴾ عقوبتنا على كفرهم وطغيانهم ﴿صاعِقَةُ الْعَذابِ﴾ والداهية التي هي في إفادتها لهوانهم بلغت إلى مرتبة يصحّ أن يقال هي عين ﴿الْهُونِ﴾ والذّلّ ، وذلك الأخذ معلّل ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ويعملون من ترجيح الضلالة على الهدى ، واختيار الكفر والعصيان على الايمان والطاعة ﴿وَنَجَّيْنَا﴾ من ذلك العذاب ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبرسوله صالح ﴿وَكانُوا يَتَّقُونَ﴾ الشّرك والعصيان.

﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ

 عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ

 شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

 وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٩) و (٢١)

ثمّ إنّه تعالى بعد حكاية عذابهم الدنيوي ، أخبر عن عذابهم الاخروي بقوله : ﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ﴾ والتقدير واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر ويجمع الأقوام المذكورون الذين هم ﴿أَعْداءُ اللهِ﴾ ويساقون ﴿إِلَى﴾ شفير ﴿النَّارِ﴾ وباب من أبواب جهنّم ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ ويحبسون في الطريق ليتلاحقوا.

عن الباقر عليه‌السلام : « يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا »(٣) فهم كذلك ﴿حَتَّى إِذا ما﴾ حضروا النار ، و﴿جاؤُها﴾ أنكروا صدور الأعمال القبيحة منهم ، واستحقاقهم النار ، فعند ذلك ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ﴾ على رؤوس الأشهاد ﴿سَمْعُهُمْ﴾ واذنهم بما سمعت من الأقوال والأصوات المحرّمة ﴿وَأَبْصارُهُمْ﴾ بما بصرت من المحرمات ﴿وَجُلُودُهُمْ﴾ وقشور أبدانهم بما لا مست من المحرّمات و﴿بِما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الجرائم والشرور.

قيل : إنّ المراد بالجلود سائر الجوارح والأعضاء (٤) ، فتخبر كلّ جارحة بما صدر من الأعمال السيئة

__________________

(١) التوحيد : ٤١١ / ٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٥.

(٢) اعتقادات الصدوق : ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٥.

(٣) تفسير الصافي ٤ : ٣٥٦ ، مجمع البيان ٩ : ١٢ ، وتفسير أبي السعود ٨ : ٩ ، لم ينسباه إلى أحد.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٧.

٤٤٧

من صاحبها روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضحك يوما حتى بدت نواجذه ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا تسألون ممّ ضحكت ؟ » قالوا : ممّ ضحكت يا رسول الله ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة ، قال : يقول : يا رب ، أ ليس قد وعدتني أن لا تظلمني ؟ قال : فانّ لك ذلك. قال : فإنّي لا أقبل شاهدا إلّا من نفسي. قال الله تعالى : أو ليس كفى بي شهيدا ، أو بالملائكة الكرام الكاتبين ؟ فيقول : أي ربّ ، أجرني من الظّلم ، فلن أقبل شاهدا إلّا من نفسي. فيختم على فيه ، وتتكلّم الأركان بما [ كان ] يعمل ، قال : فيقول : بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ ، كنت اجادل » (١) . وقد مرّ ما يقرب منه في سورة يس.

عن القمي : نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها ، ويقولون : ما عملنا شيئا منها فأشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : « فيقولون لله : يا ربّ ، هؤلاء ملائكتك يشهدون لك. ثمّ يحلفون الله ما فعلوا من ذلك شيئا - إلى أن قال - فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم ، وينطق جوارحهم ، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم الله ، ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم الله عزوجل ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرّم الله عزوجل ، ويشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم الله» الخبر (٢) .

﴿وَقالُوا﴾ توبيخا ﴿لِجُلُودِهِمْ﴾ وأعضائهم ، أو خصوص قشورهم : أيّها الجلود ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ مع أنّا كنّا ندافع عنكم ؟ قيل : إنّ تخصيص الجلود بالتوبيخ ، لكونها بمرأى منه ، أو أبعد من الشهادة ، لعدم كون شأن الإدراك اللازم في الشهادة ، وهو الادراك بالرؤية والسمع (٣) .

أقول : فيه ما فيه.

وعن ابن عباس : المراد بشهادة الجلود شهادة الفروج ، لأنّها لا تخلو من الجلود ، والله حيّي يكنّي(٤) .

وعن الصدوق ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « يعني بالجلود الفروج » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام « يعني بالجلود الفروج والأفخاذ » (٦).

وإنّما خصّ الأعضاء الثلاثة بالشهادة بناء على إرادة القشور أو الفروج من الجلود ، لكون المعاصي الصادرة بها أكبر وأعظم من المعاصي الصادرة بالشمّ والذوق ، بل ما يصدر بالذوق داخل في معاصي الجلود.

﴿قالُوا﴾ لأصحابهم ببيان لائق بهم ، كما أنّ لكلّ شيء نطقا وبيانا مناسبا لشأنه : ﴿أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٨.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٦٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٦.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ١١٦ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٨.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٨١ / ١٦٢٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٦.

(٦) الكافي ٢ : ٣٠ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٦.

٤٤٨

أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ بتسبيحه وغيره ، فمع قدرتنا على النّطق ، لم يكن لنا أن نكتم الشهادة عند الله بما عملتم بواسطتنا من القبائح ﴿وَهُوَ﴾ القادر الذي ﴿خَلَقَكُمْ﴾ وأوجدكم ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ في الدنيا ﴿وَإِلَيْهِ﴾ بعد خروجكم منها ﴿تُرْجَعُونَ﴾ فكيف يستبعد منه إنطاق جوارحكم وأعضائكم.

وقيل : إنّه ابتداء كلام الله لا كلام الجلود (١) .

﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ

 ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ

 أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ

 يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ * وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

 وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ

 إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٢) و (٢٥)

ثمّ قرّر سبحانه كلام الجلود بتوبيخ أعدائه وتقريعهم في ذلك اليوم بقوله : ﴿وَما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَسْتَتِرُونَ﴾ أعمالكم مخافة ﴿أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ﴾ في هذا اليوم ﴿سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ﴾ على قبائح أعمالكم عند الله ، لعدم اعتقادكم بالبعث وجزاء الأعمال ، وعدم تصوركم إمكان شهادتها عليكم ﴿وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ﴾ وتوهّمتم حين استتاركم ﴿أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من القبائح خفية وسرا ، فلا يؤاخذكم بها في الآخرة على تقدير وقوعها وفرض إمكانها ، ولذلك أجترأتم على ما فعلتم خفية.

عن ابن مسعود ، قال : كنت مستترا باستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر : ثقفيان وقرشي ، أو قرشيان وثقفي ، كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم. فقال أحدهم : أترون أنّ الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا. فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى : ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ﴾ الآية (٢).

﴿وَذلِكُمْ﴾ الظنّ يا أعداء الله ﴿ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ المحيط بكم وبأعمالكم الخفية والجلية ﴿أَرْداكُمْ﴾ وأهلككم ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ وصرتم بسببه ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْخاسِرِينَ﴾ والمتضررين بأعظم الضرر في الآخرة ، حيث ضيّعوا أعمارهم وعقولهم وجوارحهم التي سببا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٨.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ١١٧ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٤٩.

٤٤٩

لتحصيل سعادة الدارين ، وحصّلوا بها شقاوة النشأتين ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا﴾ على ألم النار ، ولم يجزعوا ، ولم يستغيثوا إلى أحد برجاء الفرج ﴿فَالنَّارُ﴾ الموقدة ﴿مَثْوىً﴾ ومأوى ﴿لَهُمْ﴾ أبدا ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا﴾ ويطلبوا رضا ربّهم ويسألوا منه النجاة ﴿فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ والمجابين إلى مسؤولهم ، فيكون صبرهم وجزعهم سواء ، لا يفيد شيء منهما خلاصهم من النار ونجاتهم من العذاب.

ثمّ إنّه تعالى بيّن سبب ابتلائهم بالكفر بقوله : ﴿وَقَيَّضْنا﴾ وقدّرنا ﴿لَهُمْ﴾ في الدنيا ﴿قُرَناءَ﴾ وأصدقاء من شياطين الإنس والجنّ بأن خلّينا بينهم وبين هؤلاء المعاندين ، وسلبنا عنهم التوفيق ﴿فَزَيَّنُوا﴾ هؤلاء الشياطين القرناء ﴿لَهُمْ﴾ وحسّنوا في نظرهم ﴿ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ من امور الدنيا ﴿وَما خَلْفَهُمْ﴾ من امور الآخرة ، بأن أروهم أن لا بعث ولا حساب.

وقيل : لمّا كان كلّ أحد مقبلا إلى الآخرة ، كان ما بين أيديهم امور الآخرة ، وما خلفهم نسيان الذنوب (١).

﴿وَحَقَ﴾ وثبت ﴿عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾ والوعد بالعذاب ﴿فِي أُمَمٍ﴾ وقرون ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت من الدنيا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ على الكفر والطّغيان.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أن الظانّين بالله ظنّ السوء من جملة الخاسرين ، وفي زمرة الامم الماضية المهلكة ، قال : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ﴾ الذين اولئك الظانّون من جملتهم وفي زمرتهم.

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ

 الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ * ذلِكَ جَزاءُ

 أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * وَقالَ

 الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ

أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٦) و (٢٩)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان سوء عاقبة أعدائه ، وشدّة عذابهم في الآخرة ، بيّن شدّة عداوة قريش لله ولرسوله ، وسعيهم في صرف الناس عن استماع القرآن والايمان به بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من رؤساء المشركين لأبتاعهم وضعفائهم ، أو بعضهم لبعض : ﴿لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ﴾ إذا قرأ به محمد أو أحد من المؤمنين به ﴿وَالْغَوْا فِيهِ﴾ واشتغلوا حين قراءته بالأباطيل كقصص رستم وإسفنديار ، والتصفيق والصّفير والرّقص ، على ما قيل (٢)﴿لَعَلَّكُمْ﴾ بهذه الأفعال والأقوال ﴿تَغْلِبُونَ﴾ على قراءته ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥١.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٢.

٤٥٠

فلا يتمكّن القارئ من القراءة ، ولا المستمع من الاستماع ، لتشتّت حواسّهم والتشويش والتلبيس عليهم.

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله : ﴿فَلَنُذِيقَنَ﴾ هؤلاء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وسعوا في تلبيس الحقّ بالباطل ، ولغوا في القرآن ﴿عَذاباً شَدِيداً﴾ لا يقادر قدره ، ولا يمكن في هذا العالم وصفه ﴿وَ﴾ والله ﴿لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ﴾ الجزاء ﴿الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

عن ابن عباس : عذابا شديدا يوم بدر ، واسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة (١).

﴿ذلِكَ﴾ الجزاء الأسوأ هو ﴿جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ﴾ وهي ﴿النَّارُ﴾ وقيل : إنّ النار مبتدأ وخبره قوله : ﴿لَهُمْ ،﴾ وعلى الوجه الأوّل من كون النار بيانا للجزاء ، يكون المعنى ﴿لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ﴾ ومنزل الإقامة الأبدية (٢).

وقيل : إنّ المراد أنّ لهم في النار المشتملة على الدركات دارا مخصوصة يخلّدون فيها (٣) ، أو اسمها دار الخلد.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ ذلك الجزاء هو مقتضى العدل بقوله : ﴿جَزاءً بِما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿بِآياتِنا﴾ المنزلة تصديقا لرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهداية إلى الدين الحقّ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ ويلغون فيها بسبب جحودهم إياها. قيل : إنّ التقدير يجزون جزاء (٤) ، ويحتمل كون ( جزاء ) مفعولا لأجله ، والمعنى أنّ الخلود في النّار لأجل كونه جزاء بعوض جحودهم الآيات ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حين دخولهم في النار ، وتقلّبهم في العذاب ﴿رَبَّنا أَرِنَا﴾ وعرّفنا الشياطين ﴿الَّذَيْنِ أَضَلَّانا﴾ وحرفانا عن صراط دينك ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ بالتسويل والتزيين.

وقيل : إنّ المراد من الإنس قابيل الذي سنّ القتل ظلما ، ومن الجنّ الشيطان الذي سنّ الكفر(٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعنون إبليس الأبالسة ، وقابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية »(٦).

وعن السجاد عليه‌السلام : « تأويل الإنس بفلان » (٧).

وعن الصادق عليه‌السلام : « تأويلهما بهما » (٨).

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٢.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٢.

(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٣.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٨ : ١٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٣.

(٦) مجمع البيان ٩ : ١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٨.

(٧) تفسير نور الثقلين ج ٤ : ٥٤٥.

(٨) الكافي ٨ : ٣٣٤ / ٥٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٨ ، وفيهما : قال : هما ، ثم قال : فلان شيطانا.

٤٥١

﴿نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا﴾ ندوسهما (١) بها ﴿لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ﴾ والأذلّين أو الأنزلين منّا مكانا ، والأشدّين منّا عذابا ، تشفيّا منهما بذلك ، أو نجعلها في الدّرك الأسفل من النار.

﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا

 تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)

ثمّ لمّا بالغ سبحانه في وعيد أعدائه والمشركين ، وأطنب في تهديدهم ، بيّن لطفه بالموحّدين وإحسانه باوليائه المؤمنين بقوله : ﴿إِنَ﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ قالُوا﴾ بألسنتهم وقلوبهم : ﴿رَبُّنَا اللهُ﴾ وحده لا شريك له في الوهيته وربوبيته ﴿ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ على التوحيد ، وثبتوا على ذلك الاعتقاد والقول ، لم يزلّ قدمهم عن صراط عبوديته ، وأخلصوا دينهم له ، وأعرضوا عمّا سواه ، وعملوا بمقتضاه من اجتناب الكبائر ، وأداء الفرائض إلى أن خرجوا من الدنيا.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « إنّي متكلّم بعدّة الله وحجّته ، قال الله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ الآية » . ثمّ قال : « فاستقيموا على كتابه ، وعلى منهاج أمره ، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، لا تمرقون منها ، ولا تبتدعون فيها ، ولا تتخلّفون عنها » (٢).

وعن القمي : استقاموا على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، أنّه سئل ما الاستقامة ؟ قال : « هي والله ما أنتم عليه » (٤) .

﴿تَتَنَزَّلُ﴾ من قبل الله ﴿عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾ عند الموت - كما عن القمي (٥) - بالبشارة ، وهي ﴿أَلَّا تَخافُوا﴾ أيّها الموحّدون من إصابة مكروه بعد الموت وبعد اليوم ﴿وَلا تَحْزَنُوا﴾ على ما فاتكم من نعم الدنيا ومفارقة ما خلّفتم من الأهل والأولاد والأحبّة ﴿وَأَبْشِرُوا﴾ وافرحوا ﴿بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تُوعَدُونَ﴾ بها على إيمانكم وأعمالكم الصالحة في كتاب الله وعلى لسان رسوله.

عن العسكري عليه‌السلام - في حديث يذكر حضور ملك الموت عند المؤمن حين نزعه - قال :« فيقول ملك الموت : فانظر فوقك ، فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها التي تقصر عندها الأماني ، فيقول ملك الموت : تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ، ومن كان من أهلك هاهنا وذرّيتك صالحا فهم هنالك معك ، أفترضى بهم بدلا ممّا هاهنا ؟ فيقول : بلى والله. ثمّ يقول : انظر فينظر فيرى محمدا وعليا صلوات الله عليهما والطيّبين من آلهما في أعلى علّيين. فيقول : أتراهم هؤلاء ساداتك

__________________

(١) في النسخة : ندسهما.

(٢) نهج البلاغة : ٢٥٣ / ١٧٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٢٦٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٨.

(٤) مجمع البيان ٩ : ١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٩.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٦٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٥٨.

٤٥٢

وأئمّتك ؟ هم هنالك حلّاسك وانّاسك ، أفما ترضى بهم بدلا ممّا تفارق هنا. فيقول : بلى وربّي ، فذلك ما قال الله عزوجل : ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ إلى قوله : ﴿أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ فما أمامكم من الأهوال قد كفيتموها ولا تحزنوا على ما تخلفونه من الذراري والعيال ، فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدلا منهم ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ هذه منازلكم ، وهؤلاء ساداتكم وأنّاسكم وجلاسكم »(١).

وقيل : إنّ البشارة في المواقف الثلاثة عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث إلى القيامة » (٢).

﴿نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ

 وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى

 اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣١) و (٣٣)

ثمّ لمّا أخبر سبحانه عن كون شياطين الإنس والجنّ قرناء الكفّار والمشركين ، بشّر بأنّ الملائكة أولياء الموحّدين المؤمنين ، حيث حكى عن الملائكة أنّهم يقولون للمؤمن : ﴿نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ﴾ وأصدقائكم ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ومدّة أعماركم فيها ، وأعوانكم في امور دينكم ، بالهامكم الحقّ وإرشادكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم ، ويحفظكم من الزّلات بدل وساوس الشياطين وتسويلاتهم في قلوب الكفّار وإضلالهم إياهم.

روى بعض العامة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض ، كانت الملائكة أولياءه ، ومن عملها على مشاهدته تعالى فهو وليّه لأنّه يقول : ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا(٣).

﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ بتبشيركم بالجنّة ، وشفاعتكم ، وتلقّيكم بالسلام والتحية والإكرام ، وهدايتكم إلى الجنّة ﴿وَلَكُمْ فِيها﴾ من النّعم الجسمانية ﴿ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ﴾ وتلذّ أعينكم ﴿وَلَكُمْ فِيها﴾ من الحظوظ الروحانية ﴿ما تَدَّعُونَ﴾ وما تتمنّون ، كما عن ابن عباس (٤). وفي تكرار ﴿لَكُمْ فِيها﴾ وعدم الاقتصار بعطف ( ما تدعون ) على ( ما تشهى ) إيذان باستقلال كلّ منهما بالبشارة حال كونهما ﴿نُزُلاً﴾ ورزقا مهيئا للضيف ﴿مِنْ﴾ قبل إله ﴿غَفُورٍ﴾ للذنوب ، ومبدّل للسيئات بالحسنات ﴿رَحِيمٍ﴾ بالمؤمنين الصالحين باعلاء درجاتهم ، وفنون إكراماتهم ، وفي التعبير - كما ذكر - بالنّزل وتقديمه

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٣٩ / ١١٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٦٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ١٢٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٥.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ١٢٣.

٤٥٣

الضيف ، دلالة على أن ما أعدّ لهم بعد ذلك من عظائم الامور بالنسبة إلى ما ذكر أكثر بمراتب (١).

ثمّ لمّا حكى سبحانه الأقوال السيئة عن الكفّار ، كقولهم : ﴿قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ﴾ ... ﴿وَفِي آذانِنا وَقْرٌ(٢) وقولهم : ﴿لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ(٣) أخبر بأنّ أقوال المسلمين أحسن الأقوال بقوله : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً﴾ من أطيب كلاما ﴿مِمَّنْ دَعا﴾ الناس ﴿إِلَى اللهِ﴾ وإلى توحيده ، ومعرفة صفاته الكمالية ، وطاعته وعبادته ﴿وَعَمِلَ﴾ نفسه عملا ﴿صالِحاً﴾ فانّ أعظم الطاعات دعوة الخلق إلى الحقّ ، مع كون عمله موافقا لقوله ، واختار دين الاسلام الذي هو الدين المرضيّ عند الله ﴿وَقالَ﴾ ابتهاجا به : ﴿إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.

قيل : إنّ المراد من الداعي إلى الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) . وقيل : هم المؤذّنون (٥) ، قيل : كان بلال يؤذّن ويقول اليهود : غراب أسود يدعو إلى الصلاة ! فنزلت الآية (٦) .

وعن العياشي : أنّها في عليّ عليه‌السلام (٧) . وقيل : إنّ المراد هو العموم (٨) .

أقول : من المعلوم أنّ أكمل مصاديق الداعي هو النبيّ والوصيّ صلوات الله عليهما والكمّلون من أصحابهما.

﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ

 عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)

ثمّ رغّب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدعوة إلى الحقّ بعد بيان كونها أحسن الأقوال بقوله : ﴿وَلا تَسْتَوِي﴾ الأقوال ﴿الْحَسَنَةُ﴾ التي منها دعوتك إلى الدين الحقّ ، والصبر على أذى قومك ﴿وَلا﴾ الأقوال ﴿السَّيِّئَةُ﴾ والتي منها الصادرة من المشركين المعاندين للحقّ ، كقولهم : ﴿قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ﴾ ونظائره في الجزاء والعاقبة ، فانّ أقوالك الحسنة موجبة لعظمتك في الدنيا وعلوّ درجاتك في الآخرة ، والأقوال السيئة من أعدائك موجبة لانحطاطهم وعقوبتهم في الدارين ، فلا يفتّرك سيئات أقوالهم وأعمالهم في اجتهادك في الدعوة ، بل عليك بالجدّ والصبر على أذاهم و﴿ادْفَعْ﴾ سيئتهم التي اعترضتك ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ والطرق في دفعها ، وهي الرفق والمداراة ومقابلة إساءتهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٧.

(٢) فصلت : ٤١ / ٥.

(٣) فصلت : ٤١ / ٢٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ١٢٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٧.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ١٢٥ ، تفسير أبي السعود ٨ : ١٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٧ ، وفي النسخة : هو المؤذنون.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ٢٥٩.

(٧) تفسير الصافي ٤ : ٣٦١.

(٨) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤.

٤٥٤

بالاحسان ، وسفاهتهم وسوء صنيعهم بالصبر والحلم وحسن البشر ولين الكلام ﴿فَإِذَا﴾ قابلت إساءتهم بالاحسان ، وخرقهم بالرّفق ، وسفاهتهم بالحلم ، وافعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة ، يستحي منك العدوّ ، ويترك أفعاله القبيحة ، وانقلب من البغضة إلى المحبة ، ويصير ﴿الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ﴾ كأبي سفيان وأضرابه ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ وصديق قريب.

روى بعض العامة أنّها نزلت في أبي سفيان ، وذلك أنّه لان للمسلمين بعد الشدّة بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله، ثمّ أسلم فصار وليا بالاسلام ، حميما بالقرابة » (١) .

عن الصادق عليه‌السلام - في الآية - قال : « الحسنة التقية ، والسيئة الإذاعة » (٢) الخبر.

﴿وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ

 الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ

 وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ

 إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٥) و (٣٧)

ثمّ عظّم سبحانه تلك السجية بقوله : ﴿وَما يُلَقَّاها﴾ ولا ينالها ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على المكاره والشدائد ، وحبسوا أنفسهم عن إظهار الغضب ، ولا يعطى تلك الخصلة والسّجية ، أو خصلة الصبر ﴿وَما يُلَقَّاها﴾ من قبل الله ﴿إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ من كمال النفس وحسن الأخلاق وفضائل الانسانية ، أو ذو حظّ عظيم من المثوبات الآخروية ، أو من الجميع.

عن الصادق عليه‌السلام : ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ في الدنيا على الأذى (٣)﴿وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ من الخير وكمال النفس .

ثمّ لمّا كان الغضب والخرق من الشيطان ، ذكر سبحانه طريق دفعه بقوله : ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ﴾ ويهيّجنك إلى مقابلة الاساءة بالاساءة ، والإقدام على الانتقام ﴿مِنَ﴾ قبل ﴿الشَّيْطانِ﴾ الموسوس ﴿نَزْغٌ﴾ ومهيّج ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ من شرّه ووسوسته ، واسأل الله حفظك من تسويلاته ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى وحده ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لاستعاذتك ، والمجيب لدعائك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بخلوص نيّتك ، وصميمية دعائك.

القمي ، قال : المخاطبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى للناس (٤) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٦٢.

(٢) الكافي ٢ : ١٧٣ / ٦ ، مجمع البيان ٩ : ٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٦١.

(٣) مجمع البيان ٩ : ٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٦١.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٦٥.

٤٥٥

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « إذا غضبت وكنت قائما فاقعد ، وإن كنت قاعدا فقم ، واستعذ بالله من الشيطان » (١) .

ثمّ لما مدح سبحانه الدعوة إلى الله وإلى توحيده ، شرع في بيان أدلّة توحيده وقدرته وحكمته بقوله : ﴿وَمِنْ﴾ أدلّة توحيده و﴿آياتِهِ﴾ الدالّة على قدرته وحكمته ﴿اللَّيْلُ وَالنَّهارُ﴾ وتعاقبهما ، وقد مرّ نكتة تقديم الليل.

ثمّ لمّا كان جمع من المشركين عبدة الشمس والقمر ، ذكرهما لمناسبة الليل والنهار بقوله : ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ دائبان بأمره ، ثمّ نهى عن عبادتهما بقوله تعالى : ﴿لا تَسْجُدُوا﴾ أيّها الناس ﴿لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ لأنّهما حادثان مربوبان مسخّران تحت أمر خالقهما ﴿وَاسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ القادر ﴿الَّذِي خَلَقَهُنَ﴾ بقدرته لنظام العالم ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ بالسجود لهما لله تسجدون و﴿إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ فانّ السجود خضوع خاصّ بمقام الربوبية والالوهية ، لا يجوز لغير الله.

قيل : إنّ الصابئين كانوا يسجدون للنّيّرين (٢) ويقولون : إنّا نسجد لها ، ونقصد به السجود لله ، فنهوا عن عبادته بتلك الواسطة (٣) .

أقول : يمكن أن يقال : علّة سجودهم للنّيّران (٤) أوّل ابتداعه ذلك ، إلّا أنّه انتهى الأمر إلى الاعتقاد بخالقيتهما.

﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ *

وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ

 الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٨) و (٣٩)

ثمّ لمّا كان السجود لهما بهذا الاعتقاد من باب الاشتباه في المصداق ، حيث إنّهم كانوا يعتقدون أنّ مصداق الخالق هو الشمس مثلا ، والحال أنّه هو الله ، ففي الحقيقة كان سجودهم لله ، فيكون المراد إن كنتم تعبدون الخالق الذي هو الله في الواقع ، لا تسجدوا للشمس ، بل اسجدوا لله الذي هو تكوّن الشمس من مخلوقاته ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا﴾ وتعظّموا عن عبادة الله الذي تقول بألوهيته ، فانّه غنيّ عن عبادتهم وسجودهم له ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ من الملائكة المقرّبين يعبدونه دائما و﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ وينزّهونه عن الشريك ﴿وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ ولا يملّون عن عبادته وتسبيحه.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٦٥.

(٢) النّيّرين : الشمس والقمر.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٦٦.

(٤) في النسخة : لينروان.

٤٥٦

قيل : إنّ المراد إن استكبروا عن إطاعة أمرك ، ولم يسجدوا لله ، لا يقلّ بذلك عدد من يخلص عبادته لله (١) ، فانّ الملائكة المقرّبين مع كثرتهم وقربهم للشمس والقمر ، يعبدون الله ، ويسبّحونه دائما ، ولا يسجدون لهما.

ثمّ إنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات الفلكية ، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله : ﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ﴾ أيّها الانسان الشاعر البصير ﴿تَرَى الْأَرْضَ﴾ قبل نزول المطر عليها ﴿خاشِعَةً﴾ ومنحطّة يابسة لا نبات فيها ولا بركة ﴿فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ﴾ بالأمطار ﴿اهْتَزَّتْ﴾ وتحرّكت بالنبات والزّرع ﴿وَرَبَتْ﴾ وانتفخت بسبب انتشار اصول الحشائش والزروع فيها ، فتكون كالميت الذي نفخ فيه الروح فيحيي.

ثمّ استدلّ سبحانه على المعاد بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْياها﴾ بقدرته ﴿لَمُحْيِ الْمَوْتى﴾ من الأولين والآخرين يوم البعث ﴿إِنَّهُ﴾ من الأشياء من الإبداء والاعادة ﴿قَدِيرٌ﴾ لا تناهي لقدرته.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ

 يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

 بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ

 خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ

 رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٠) و (٤٣)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض آيات التوحيد ، هدّد المجادلين فيها بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ ويحرفون عن سبيل الحقّ بالطعن ﴿فِي آياتِنا﴾ وإلقاء الشّبهات فيها ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ ولا يسترون منّا ، ولا يغيبون عنا ، فنسوقهم يوم القيامة إلى النار ، ونلقيهم فيها ، إذن فانظروا أيّها العقلاء ﴿أَ فَمَنْ يُلْقى﴾ بالعنف ﴿فِي النَّارِ﴾ على وجهه ﴿خَيْرٌ﴾ مألا وأحسن حالا ﴿أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً﴾ من كلّ مكروه ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ويدخل في جنّة عدن ، لا شكّ أنّ الثاني خير.

ثمّ بالغ في التهديد بقوله : ﴿اعْمَلُوا﴾ أيّها الكفّار ﴿ما شِئْتُمْ﴾ من القبائح والفواحش ، فانّكم لا تخرجون من سلطان الله ، ﴿إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمالكم ، فيجازيكم عليها أسوأ الجزاء ، ولم يمنع استعجاله في العذاب إلا الحكمة ، فانّها اقتضت إمهالكم ، ولا يخاف الفوت.

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الملحدين في آياته ازديادا لإرعاب قلوبهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٢٦٦.

٤٥٧

بِالذِّكْرِ﴾ وألحدوا في القرآن ﴿لَمَّا جاءَهُمْ﴾ وحين قرى عليهم من غير تفكّر وتدبّر فيه من وجوه الإعجاز ، سيعذّبون بكفرهم وإلحادهم أشدّ العذاب ، وكيف يكفرون به ﴿وَ﴾ الحال ﴿إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ وقاهر بالحجّة على سائر الكتب ، ومهيمن عليه ، أو كثير النفع لعامة الناس ، أو بلا نظير وشبيه لعدم كون كتاب معجزا إلّا هو ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ﴾ ولا يتطرّق إليه المعارض ﴿مِنْ﴾ الكتب التي ﴿بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ ومن قبله ﴿وَلا﴾ من الكتب والدفاتر التي ﴿مِنْ خَلْفِهِ﴾ ومن بعده ، وإنّما اطلق الباطل على المعارض ، تنبيها على أنّ كلّ معارض له باطل وفاسد.

قيل : إنّ المراد بالباطل الذي بين يديه النقيصة ، والذي من خلفه الزيادة (١) .

وقيل : إنّ المعنى لا يجد الباطل إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل به (٢) ، فعبّر عن جميع الجهات بأظهرها ، وهو القدّام والخلف ، أو المراد لا يأتيه الباطل فيما أخبر به عمّا مضى ، ولا فيما أخبر به عمّا يأتى (٣) .

وعنهما عليهما‌السلام : « ليس في إخباره عمّا باطل ، ولا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلّها موافقه لمخبراتها »(٤) كلّ لأنّه ﴿تَنْزِيلٌ﴾ وكتاب منزل ﴿مِنْ﴾ إله ﴿حَكِيمٍ﴾ وعالم بحقائق الامور ومصالح الأشياء ، لا يفعل ولا يقول شيئا إلّا بالحكم الكثيرة ، ولا ينزل كتابا على من يشاء إلّا بمصالح وفيرة ﴿حَمِيدٍ﴾ في أحكامه وأفعاله ، محمود على نعمه الجسمانية والروحانية ، التي منها هذا الكتاب العظيم.

روى بعض العامة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ألا إنّها ستكون فتنة. فقلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق من كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجنّ حتى قالوا : ﴿إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم » (٥) .

ومن العجب أنّه مع عظمة هذا القرآن ، وظهور كونه معجزا نازلا إليك يا محمد ﴿ما يُقالُ لَكَ﴾ من

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ : ١٣١.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ١٣٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٧٠.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٧٠.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٦٢.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٢٧٠.

٤٥٨

جهة كفّار قومك في شأنك وشأن كتابك ﴿إِلَّا ما قَدْ قِيلَ﴾ من جهة الامم الماضية ﴿لِلرُّسُلِ﴾ العظام الذين كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ في حقّهم من أنّهم سحرة ، أو كهنة ، أو مجانين. وفي حقّ الكتب السماوية المنزلة عليهم من أنّها أساطير ونحوها.

وقيل : يعني ما يقال لك من قبل الله إلّا ما قيل من قبله للرسل (١) من الأمر بالصبر على سفاهة القوم وأذاهم.

و﴿إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لأوليائه المؤمنين بك وبهم ﴿وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ﴾ لأعدائه الكافرين بك وبهم ، المكذّبين لكتابك وكتبهم ، فاسع أنت يا حبيبي في التبليغ والدعوة إلى الحقّ ، ثمّ فوّض أمر الناس إليّ ، فانّي اعاملهم على حسب استحقاقهم.

﴿وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ

 لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

 أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذر العرب في الايمان بالقرآن بقوله : ﴿وَلَوْ﴾ أنزلنا القرآن و﴿جَعَلْناهُ قُرْآناً﴾ وكتابا ﴿أَعْجَمِيًّا﴾ ومنّظما بلغة العجم ﴿لَقالُوا﴾ اعتراضا عليك وتوبيخا لك : ﴿لَوْ لا فُصِّلَتْ﴾ وهلّا بيّنت ﴿آياتُهُ﴾ بلسان نفهمه ﴿ءَ﴾ كلام ، أو كتاب ﴿أَعْجَمِيٌ﴾ يوتى إلينا ﴿وَ﴾ نحن قوم ﴿عَرَبِيٌ﴾ لا نفهم شيئا منه ؟ وهذا من الغرائب الدالة على كذب كتابك.

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أنه ليس لمشركي العرب الاعتذار من عدم إيمانهم بعدم فهمهم القرآن ، وكونه بغير لسانهم ، أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيّن لهم علّة عدم إيمانهم ، وكون قلوبهم منصرفة عنه ، وعدم سماعهم آياته ، كما قالوا : ﴿قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ﴾ ... ﴿وَفِي آذانِنا وَقْرٌ(٢) بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : ﴿هُوَ لِلَّذِينَ﴾ لم يكن في قلوبهم تعصّب وعناد ولجاج و﴿آمَنُوا﴾ بالطوع والرغبة وطلبا للحقّ ﴿هُدىً﴾ من الضلال ورشاد إلى الحقّ وجميع الخيرات الدنيوية والاخروية ﴿وَشِفاءٌ﴾ من الأمراض الباطنية كالشكّ والأخلاق الرذيلة ﴿وَالَّذِينَ﴾ يستكبرون عن قبول الحقّ ، ويصرّون على تقليد الآباء والكبراء و﴿لا يُؤْمِنُونَ عنادا ولجاجا ، كأنّه ﴿فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ﴾ وثقل وصمم ، لا يسمعون القرآن ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ وموجب لذهاب بصرهم وبصيرتهم ، بحيث لا يرون ما فيه من الإعجاز ، وما في الرسول من دلائل الصدق ، كما قالوا : ﴿بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ(٣) بل ﴿أُولئِكَ﴾ البعداء عن ساحة

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٥.

(٢) فصلت : ٤١ / ٥.

(٣) فصلت : ٤١ / ٥.

٤٥٩

رحمة الله وسعادة الدارين ، إذا تليت عليهم الآيات ، أو ذكرت عندهم المواعظ والعبر ، كأنّهم ﴿يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ عنهم غايته ، بحيث لا يكاد يسمع منه الكلام ، بل إنّما يسمع النداء والصوت.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ

 بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها

 وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)

ثمّ لمّا كان عناد المشركين وإنكارهم صدق القرآن وطعنهم فيه سببا لايذاء قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سلّاه سبحانه بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى﴾ بن عمران التوراة ، وأنزلنا إليه ذلك ﴿الْكِتابَ﴾ لهداية قومه ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر ، كما اختلف قومك في كتابك ، فمنهم من صدّقه ، ومنهم من كذّبه ، فليس اختلاف قومك في صدق كتابك أمرا بديعا مختصا بقومك ، بل هي عادة قديمة للامم ﴿وَلَوْ لا كَلِمَةٌ﴾ وعدة ﴿سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ في حقّ امّتك المكذّبة بالإمهال وعدم استئصالهم بالعذاب في الدنيا بقوله : ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ(١) وقوله : ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ(٢) تالله ﴿لَقُضِيَ﴾ وحكم ﴿بَيْنَهُمْ﴾ باستئصال المكذّبين بالعذاب ، كما فعل بمكذبي الامم السابقة ﴿وَإِنَّهُمْ﴾ ليسوا بقاطعين بكذب كتابك ، بل هم والله ﴿لَفِي شَكٍ﴾ من صدق كتابك وترديد ﴿مِنْهُ﴾ ترديد ﴿مُرِيبٍ﴾ وموقع قلبهم في الغلق والاضطراب ، فلا تستعظم استيحاشك من تكذيبهم ، واعلم أنّه ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً﴾ من الايمان بكتابك وتعظيمه ، والتمسّك به ، والعمل بأحكامه ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ نفعه لا يتعدّى إلى غيره ﴿وَمَنْ أَساءَ﴾ وأعرض عنه ، وكفر به وطعن فيه ﴿فَعَلَيْها﴾ ضرره لا عليك ولا على أحد غيره.

ثمّ قرّر ذلك سبحانه بقوله : ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ بل هو العادل الذي لا يمكن منه الجور ، فلا يعذّب غير المسيء ، ولا المسيء زائدا على استحقاقه ، ولا يضيع أجر المحسنين ، ولا ينقص منه. قيل : من ظلم وعلم أنّه ظلم فهو ظلّام. وقيل : إنّ صيغة المبالغة باعتبار كثرة العبيد ، لا باعتبار كثرة الظلم. وقيل : إنّ اصله : وما ربك بظالم ، ثمّ نقل مع نفيه إلى صيغة المبالغة ، فكانت المبالغة راجعة إلى النفي ، والمعنى أنّ الظلم منفيّ عنه نفيا موكّدا مضاعفا (٣) .

__________________

(١) القمر : ٥٤ / ٤٦.

(٢) الأنفال : ٨ / ٣٣.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٧٤.

٤٦٠