نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

في تفسير سورة غافر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ

 شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١) و (٣)

ثمّ لمّا ختمت سورة الزّمر المبدوءة ببيان عظمة القرآن ، والأمر باخلاص الدين لله ، والحكم بخسران المكذّبين بآيات الله واستحقاقهم للعذاب ، والمختتمة ببيان أهوال القيامة ، وقضاء الله فيه بالحقّ ، وحكاية حمد الملائكة الحافّين حول العرش ، نظمت سورة المؤمن البدوءة أيضا ببيان عظمة القرآن وتهديد المكذبين بالآيات ، وبيان استحقاقهم للنار ، وحكاية تحميد الملائكة الحاملين للعرش والمحيطين به ، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة للسورة السابقة ، فبابتدأها بذكر الأسماء المباركات بقوله تعالى :

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ افتتحها بذكر الحروف المقطّعة بقوله : ﴿حم﴾ وقد مرّ أنّ الحرفين رمزان من اسمين من الأسماء الحسنى.

عن الصادق عليه‌السلام : « معناه الحميد المجيد » (١) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه اسم من أسمائه تعالى » (٢) .

وقيل : إنّه اسم للسورة ، وعليه هو مبتدأ وخبره قوله : ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ(٣) .

وإنزال هذا القرآن ﴿مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿الْعَلِيمِ﴾ بكلّ شيء فبقدرته رتّبه من الحروف المتداولة على نحو عجز العاملون عن الاتيان بمثله ، وبعلمه جعله حاويا للعلوم الكثيرة التي لا يحوي عشرها الكتب السماوية.

وقيل : إنّ العزيز بمعنى الذي لا مثل (٤) له في حسن البيان والنّظم والاسلوب ، بحيث لا يدانيه كتاب

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٤.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٤٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ٢٦ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٥٠.

٤٠١

سماويّ فضلا عن غيره ، ويمكن كون النّكتة في توصيف ذاته هنا بالوصفين ، التنبيه على قدرته على إثابة المؤمنين به العاملين بما فيه ، وتعذيب المكذبين المعرضين عنه ، وعلى علمه بأحوال العباد من الكفر والايمان والطاعة والعصيان.

ثمّ أعلن سبحانه بسعة رحمته وشدّة قهره وعذابه بقوله : ﴿غافِرِ الذَّنْبِ﴾ وساتره حتى عن المذنب وإن لم يتب ﴿وَقابِلِ التَّوْبِ﴾ العذر من الذنب والعصيان ، عاف عمّا يتب منه ، وإن كان أكبر الكبائر. ثمّ أعلن بشدّة قهره وعذابه بقوله : ﴿شَدِيدِ الْعِقابِ﴾ على المشركين والعصاة.

ثمّ لمّا كانت رحمته سابقة على غضبه ، عاد إلى ذكر كرمه بقوله : ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ والفضل والاحسان على جميع الخلق في الدنيا وعلى المؤمنين في الآخرة ، فاذا كان ذاته المقدّسة بتلك الصفات الجليلة ، ثبت أنه ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا مستحّق للعبادة في عالم الوجود إلّا ذاته ، فإذن فاعبدوه ولا تعبدوا غيره ، واعلموا أنه ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ والمنقلب بعد خروجكم من الدنيا ، فيجازيكم على عبادتكم إياه ، يعاقبكم على عبادتكم غيره.

﴿ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ

 قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ

 وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٤) و (٥)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان كون القرآن نازلا منه ، ذمّ الكفّار الذين جادلوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه ونسبوه إلى السحر أو الشعر أو الكهانة بقوله تعالى : ﴿ما يُجادِلُ﴾ ولا ينازع ﴿فِي آياتِ اللهِ﴾ المنزلة بالطعن فيها ﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بها لجاجا وعنادا ، واصرّوا على محق الحقّ وتشييد الباطل ، فاذا علمت يا محمد أنّهم كفار مطرودون عن ساحة الرحمة ومستحقّون للعذاب ﴿فَلا يَغْرُرْكَ﴾ ولا يوقفك في توهّم سلامتهم من عذابي إمهالهم و﴿تَقَلُّبُهُمْ﴾ وتصرّفهم ﴿فِي الْبِلادِ﴾ كالشام واليمن للتجارة وكسب المعاش وجمع الأموال ، فانّي وإن امهلهم ولكن سآخذهم وأنتقم منهم ، كما أخذت أمثالهم من الامم الماضية ، فانّ تكذيب الرسول ، والمجادلة في الآيات ، ليس من خصائص قومك ، بل ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوحا ﴿وَالْأَحْزابُ﴾ والامم الذين تحزّبوا على الرّسل وعادوهم ، تبعوا قوم نوح ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ ،﴾ في تكذيب الرسل ، بل بعد التكذيب قصدت ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ﴾ من الامم وطائفة من الطوائف ﴿بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ ويقتلوه أو يحبسوه ﴿وَجادَلُوا﴾ رسولهم وخاصموه ﴿بِالْباطِلِ﴾ وما لا أصل ولا حقيقة له ﴿لِيُدْحِضُوا﴾ ويمحوا ﴿بِهِ الْحَقَ﴾ الذي لا محيد عنه ﴿فَأَخَذْتُهُمْ

٤٠٢

بالعذاب عقوبة على كفرهم وهمّهم بالرسل ﴿فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ ربّك الذي عاقبهم به بعد ما رأيت آثاره من خراب الديار ومحو الآثار عبرة للنظّار ، ألم يكن مهلكا مستأصلا لهم؟

﴿وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ * الَّذِينَ

 يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ

 لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا

 سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ

 وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ

 السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦) و (٩)

ثمّ وعد سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأخذه قومه كما أخذ اولئك الامم بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ العذاب الذي حقّ وثبت على اولئك الامم ﴿حَقَّتْ﴾ ووجبت ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ ووعده بالعذاب ﴿عَلَى﴾ قومك ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بربّهم ، وتحّزبوا عليك ، وجادلوك بالباطل لأجل ﴿أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ﴾ ومستحقّوها أشدّ الاستحقاق.

وقيل : إنّ المراد مثل وجوب العذاب الدنيوي على الامم السابقة ، وجبت كلمة ربّك على اولئك الكفرة ، وهي كونهم أصحاب النار في الآخرة (١) .

ثمّ لمّا حكى سبحانه شدّة استنكاف المشركين عن التوحيد ، وعداوتهم للموحّدين ، بيّن رأفة الملائكة بالموحّدين ، وشفقتهم عليهم من أن يبتلوا بعذاب النار ، ورحمتهم عليهم بقوله : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ والجسم المحيط بعالم الوجود ، منه ينزل قضاء الله وقدره ، واولئك الحملة في الدنيا أربعة على قول (٢) ، وثمانية على آخر (٣) ، وفي الآخرة ثمانية بالاتّفاق (٤)﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ وفي جوانبه من الملائكة المكرمين. قيل : هم سبعون ألف صفّ من مائة ألف صفّ ، قد وضعوا أيمانهم على شمائلهم (٥)﴿يُسَبِّحُونَ﴾ الله وينزّهونه من كلّ ما لا يليق بشأنه الجليل مقرنين تسبيحهم ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ على نعمائه التي لا تتناهى. قيل : كلّ يسبّح بما لا يسبّح به الآخر(٦)﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ إيمانا حقيقا بحالهم ومقامهم ، وإنّما صرّح بايمانهم مع كفاية تسبيحهم وتحميدهم عنه ، إظهارا لفضيلة الايمان

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ : ٣٠.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٣١.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ٣١ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٥٥.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٦.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٦.

٤٠٣

وشرف أهله ، وتنبيها على أنّ الله تعالى لا يكون حاضرا في العرش مشاهدا لهم ، بل هم كغيرهم مؤمنون به وممدوحون بايمانهم به ، ولو كانوا مشاهدين إيّاه لم يمدحوا بايمانهم ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ من البشر شفقة عليهم. قيل : كمال السعادة في تعظيم الله والشّفقة على خلق الله (١) .

عن الرضا عليه‌السلام : « للذين آمنوا بولايتنا » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ لله ملائكة يسقطون عن ظهور شيعتنا الذنوب ، كما يسقط الريح الورق في أوان سقوطه ، وذلك قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ » الآية (٣) .

ويقولون : ﴿رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وأحطت بكلّ شيء ﴿رَحْمَةً وَعِلْماً﴾ قيل : يعني ملأ كلّ شيء نعمتك وعلمك (٤) ، فإذا كنت واسع الرحمة ﴿فَاغْفِرْ﴾ برحمتك ﴿لِلَّذِينَ تابُوا﴾ وندموا من الشرك والعصيان ، ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ وعملوا بدينك وأحكامك وما فيه رضاك ﴿وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ﴾ واحفظهم منه ، وهو تأكيد لطلب المغفرة التي بها النجاة من العذاب ، ويقولون بعد طلبهم النجاة من العذاب للمؤمنين ﴿رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وبساتين إقامة ، أو بساتين اسمها جنّات عدن ﴿الَّتِي وَعَدْتَهُمْ﴾ على لسان أنبيائك على الايمان بك ﴿وَ﴾ أدخل معهم ﴿مَنْ صَلَحَ﴾ لدخول الجنة ﴿مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ ليتمّ سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ بالخصوص ﴿الْعَزِيزُ﴾ والقادر على إنجاز وعدك وإجابة دعاء كلّ داع ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يمتنع منه خلف الوعد الذي هو من القبائح.

عن سعيد بن جبير ، قال : يدخل المؤمن الجنّة فيقول : أين أبي ، أين ولدي ، أين زوجي ؟ فيقال لهم : إنّهم لم يعملوا مثل عملك. فيقول : إنّي كنت أعمل لي ولهم ؟ فيقال : أدخلوهم الجنة (٥) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا كان يوم القيامة نودي في أطفال المسلمين أن أخرجوا من قبوركم ، فيخرجون من قبورهم ، فينادى : أن امضوا إلى الجنّة » (٦) الخبر.

﴿وَقِهِمُ﴾ يا ربّ ﴿السَّيِّئاتِ وَ﴾ احفظهم من جميع مكاره القيامة وأهوالها ﴿مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ﴾ وتحفظه منها ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك اليوم العظيم الشديد الأهوال ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ وتفضّلت عليه غاية الرحمة والتفضّل.

قيل : إنّ المراد بالسيئات المعاصي في الدنيا ، والمعنى : وقهم المعاصي في الدنيا ، ومن تقيه من

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٢ / ٢٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٥.

(٣) الكافي ٨ : ٣٠٤ / ٤٧٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٥.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٧.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٨.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٨.

٤٠٤

المعاصي فيها فقد رحمته في الآخرة (١) . ﴿وَذلِكَ﴾ المذكور من الوقاية والرحمة ﴿هُوَ﴾ فقط ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظّفر بأعلى المقاصد ، أو أهمّ المطالب الذي ليس وراءه مطمع لطامع.

القمي رحمه‌الله ، قال في تأويل الآية : ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء عليهم‌السلام من بعده ، يحملون علم الله عزوجل ﴿وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ يعني الملائكة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا*﴾ يعني شيعة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لِلَّذِينَ تابُوا﴾ يعني من ولاية فلان وفلان وبني امية ﴿وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ أي ولاية وليّ الله ﴿وَمَنْ صَلَحَ﴾ يعني تولّى عليا عليه‌السلام ، وذلك صلاحهم ﴿فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ يعني يوم القيامة ﴿وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ لمن نجّاه الله من ولاية فلان وفلان (٢) .

وروى الكلينى رحمه‌الله : « أنّ الله تعالى أعطى النائبين ثلاث خصال ، لو اعطي كلّ خصلة منها أهل السماوات والأرض لنجوا بها » ثمّ تلا الآية (٣).

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى

 الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ * قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا

 فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ

 تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٠) و (١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان رأفة الملائكة المقرّبين بالمؤمنين ، ودعائهم في حقّهم ، حكى سبحانه غضبهم على الكافرين ونداءهم إيّاهم بما فيه توبيخهم وتقريعهم وتهويلهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بآيات الله ورسله والدار الآخرة ﴿يُنادَوْنَ﴾ يوم القيامة بعد دخولهم في جهنّم ومقتهم وغيظهم على أنفسهم الأمّارة بالسوء ، والمنادي الملائكة الذين هم خزنة جهنّم : أيّها الكفرة والله ﴿لَمَقْتُ اللهِ﴾ وسخطه عليكم في الدنيا ﴿أَكْبَرُ﴾ وأشدّ ﴿مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ وسخطكم عليكم في هذا اليوم ، وإنّما كان مقت الله وسخطه عليكم ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ وحين تنادون من جهة الأنبياء ﴿إِلَى الْإِيمانِ﴾ بتوحيد الله ورسالة رسله ﴿فَتَكْفُرُونَ﴾ وتأبون من إجابتهم استكبارا عليهم واتّباعا لهوى أنفسكم.

قيل : إنّ كلمة ( إذا ) متعلّقة باذكروا المقدّر (٤) .

ثمّ حكى سبحانه عنهم الاعتراف بالذنب واستحقاقهم العذاب بقوله : ﴿قالُوا﴾ حين تقريع خزنة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٥٩.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٥٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٥.

(٣) الكافي ٢ : ٣١٥ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٦.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٠.

٤٠٥

جهنّم إياهم ﴿رَبَّنا﴾ إنّا شاهدنا أنّك ﴿أَمَتَّنَا﴾ إماتتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾ إحداهما حين انقضاء آجالنا في الدنيا ، والاخرى بعد إحيائنا في القبور لسؤال منكر ونكير ﴿وَأَحْيَيْتَنَا﴾ احياءتين ﴿اثْنَتَيْنِ﴾ إحداهما في القبور للسؤال والتعذيب ، والاخرى في القيامة ، وكنّا ننكر جميعها.

وعن الصادق عليه‌السلام : « ذلك في الرجعة » (١) .

﴿فَاعْتَرَفْنا﴾ لمّا شاهدناها ﴿بِذُنُوبِنا﴾ التي منها تكذيب الأنبياء ، وإنكار الحياة بعد الموت ، ودار الآخرة ، والثواب والعقاب ﴿فَهَلْ﴾ بعد اعترافنا هذا ﴿إِلى خُرُوجٍ﴾ سريع أو بطيء من النار ، أو ﴿مِنْ﴾ هذه الدار إلى دار الدنيا والعمل ﴿سَبِيلٍ﴾ وطريق فنسلكه ونخلص من العذاب ، أو نعمل غير الذي كنّا نعمل ؟ فيقال لهم : لا سبيل إلى ذلك ﴿ذلِكُمْ﴾ العذاب الذي أنتم فيه وابتليتم به معلّل ﴿بِأَنَّهُ﴾ كان حالكم في الدنيا أنّه ﴿إِذا دُعِيَ اللهُ﴾ وذكر ، أو عبد ﴿وَحْدَهُ﴾ وبلا شريك ومنزّها عنه ﴿كَفَرْتُمْ﴾ بتوحيده ، واشمأزّت منه قلوبكم ﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ﴾ ويجعل له ندّ أو ولد ﴿تُؤْمِنُوا﴾ بالإشراك به ، ولو رجعتم إلى الدنيا ثانيا ﴿فَالْحُكْمُ﴾ بأنّه لا غفران للمشرك ولا نجاة له من النار ﴿لِلَّهِ﴾ الحاكم بالحقّ ﴿الْعَلِيِ﴾ من أن يكون له شريك ، المتعالي من أخذ الندّ والصاحبة والولد ، ومن خلف الوعد ، الحكيم ﴿الْكَبِيرِ﴾ الذي ليس كمثله شيء.

﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ *

 فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ

 يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٣) و (١٥)

ثمّ إنّه تعالى بعد تهديد المشركين بالعقوبة ، أعلن بلطفه ومنّته على الناس بنصب الأدلّة القاطعة على توحيده المحيى للقلوب ، وبإنزال المطر الموجب لحياة الأبدان ، ترغيبا لهم إلى الايمان به بقوله تعالى : ﴿هُوَ﴾ الله وحده اللطيف ﴿الَّذِي يُرِيكُمْ﴾ بلطفه ﴿آياتِهِ﴾ الدالة على وحدانيته وكمال ذاته وصفاته ، وليحيى بالتفكّر فيها قلوبكم ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ﴾ الأمطار النافعة ليوجد بها ﴿رِزْقاً﴾ ومعاشا ، فيحيي به أبدانكم ﴿وَما يَتَذَكَّرُ﴾ وما يتنبّه بتلك الآيات ، وما يتّعظ بها ﴿إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ ويرجع إلى ربّه بالتفكّر فيها ، فيعرف نعمه الظاهرة والباطنة ، فاذا كان الأمر كذلك ﴿فَادْعُوا اللهَ﴾ وأعبدوه أيّها المؤمنون حال كونكم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ومخصّصين به العبادة والدعاء ﴿وَلَوْ كَرِهَ﴾ توحيدكم وإخلاصكم ﴿الْكافِرُونَ﴾ فانّه لا ينبغي أن يصدّكم عن التوحيد والاخلاص له

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٥٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٦.

٤٠٦

غيظهم وغضبهم عليكم ، لكونهم فيكم رفيعي المنزلة وعالي المقام ، فانّ الله تعالى ﴿رَفِيعُ الدَّرَجاتِ﴾ في الكمال ، وأعلى الموجودات في صفات الجمال والجلال.

قيل : إن الموجودات من العقل والنفس الكلّيين والطبيعة الكلّية والعرش والكرسي والسماوات والكرات والحيوانات والنباتات والمعادن ، كلّها [ من ] الدرجات والمراتب الرحمانية ، التي هو تعالى أعلى وأرفع من جميعها (١) .

وقيل : إن المراد رافع درجات الأنبياء والعلماء والأولياء والمؤمنين في الجنّة (٢) ، أو رافع درجة كلّ موجود من الموجودات في العالم ، حيث إنّ للأنبياء درجة ، ولكلّ من الملائكة درجة ، ولكلّ من العلماء درجة ، ولكلّ من الأجسام درجة ، ولكلّ فرد من الانسان درجة في العلم والرزق والأجل والسعادة والشقاوة (٣) . والحاصل أنّ لكلّ شيء يكون له فضيلة ومنقبة ، فهو بايجاده تعالى وإعطائه.

وهو تعالى ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ العظيم ، الذي له على ما قيل أربعمائة ركن ، ما بين كلّ ركن إلى ركن أربعمائة ألف سنة ، وهو فوق جميع الموجودات من الكرسيّ والسماوات ، خلقه سبحانه إظهارا لعظمته وقدرته ، لا مكانا لذاته ، وجعله محلّ نزول بركاته ورحمته ، ومطافا لملائكته ، وقبلة لدعائه ، ومعراجا لخاتم أنبيائه ، وظلّة يوم الحشر لأوليائه (٤) .

وقيل : إنّ المراد من العرش هنا الملك العظيم ، ذكره إظهارا لهيبته ، ونفاذ قدرته ، واستيلائه على جميع مخلوقاته (٥) .

وهو سبحانه ﴿يُلْقِي﴾ وينزل ﴿الرُّوحَ﴾ والوحي الذي به حياة القلوب ، أو الملك المسمّى بالروح ، وهو الخاصّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام على رواية القمي (٦) ، أو المسمى بجبرئيل كما عن بعض (٧) ، حال كون إنزاله ناشئا ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ تعالى وإرادته ﴿عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ﴾ المصطفين للرسالة وتبليغ الوحي ﴿لِيُنْذِرَ﴾ ذلك الرسول الموحى إليه الناس ﴿يَوْمَ التَّلاقِ﴾ والحشر الذي تتلاقى فيه الأرواح والأبدان ، أو الأولون والآخرون ، أو أهل السماوات وأهل الأرض ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٨) ، أو العاملون والأعمال ، أو الظالمونن والمظلومون ، أو أهل النار والزبانية ، ويخوّفهم من أهواله وشدائده.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٥.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٤.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٤ ، تفسير الرازي ٢٧ : ٤٣.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٥.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٦.

(٦) تفسير القمي ٢ : ٢٥٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٧.

(٧) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٦.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٢٥٦ ، معاني الأخبار : ١٥٦ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٧.

٤٠٧

﴿يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ

 الْقَهَّارِ (١٦)

ثمّ عرّف سبحانه ذلك ببيان ما فيه من الأهوال والشدائد بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ يحشر الناس و﴿هُمْ بارِزُونَ﴾ وظاهرون ، ولا يسترهم جبل ولا أكمة ولا بناء ، لكون الأرض مستوية ، ولا ثياب لكونهم عراة ، كما في الحديث : « يحشرون حفاة عراة ، أو المراد هم بارزون وخارجون من قبورهم » (١) .

وقيل : بروزهم كناية عن ظهور أعمالهم وأسرارهم (٢) .

﴿لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ﴾ مع كثرتهم ﴿شَيْءٌ﴾ من أعيانهم وأعمالهم الجليّة والخفية السابقة واللاحقة ، فينادي مناد حين ظهورهم وظهور أعمالهم : يا أهل المحشر ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ﴾ والسّلطنة المطلقة ﴿الْيَوْمَ﴾ ثمّ يقول ذلك المنادي على قول (٣) ، أو أهل المحشر على قول (٤) ، أو الله تعالى على قول (٥) : الملك اليوم ﴿لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ﴾.

قيل : يقول المؤمنون ذلك تلذّذا حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة ، ويقوله الكفّار تحسّرا وندامة على فوت هذا الذّكر منهم في الدنيا (٦).

وقيل : إنّ المجيب هو إدريس النبيّ ، كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٧) ، وفي رواية قال : « ويقول الله : ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ ثمّ تنطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون : ﴿لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (٨).

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث إماتة الله أهل الأرض وأهل السماء والملائكة - قال : « ثمّ لبث مثل ما خلق الله الخلق ، ومثل ذلك كلّه ، وأضعاف ذلك ، ثمّ يقول الله تعالى : ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟﴾ ثمّ يردّ على نفسه : لله الواحد القهار. أين الجبّارون ، أين الذين ادّعوا معي إلها آخر ، أين التكبّرون ونخوتهمّ ثمّ يبعث الخلق »(٩) الخبر.

قيل : إنّما خصّ النداء بيوم القيامة مع أنّ ملك الوجود له تعالى من الأزل إلى الأبد ، وأنّه قاهر الممكنات تحت إرادته من بدو الخلق إلى آخر الدهر ، ونداء ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ﴾ منه تعالى باق في المعنى في الدنيا والآخرة ؛ لأنّ الدنيا دار الأسباب ، ولو لا الأسباب لما ارتاب المرتاب ، وفي القيامة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٤٥.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٧.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٧.

(٥) تفسير الرازي ٢٧ : ٤٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٧ : ٤٦.

(٧) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٧ ، ولم نسبه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٨) التوحيد : ٢٣ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٧.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٢٥٦ و٢٥٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٧.

٤٠٨

تزول الأسباب ، وتنعزل الارباب ، ولا يبقى غير حكم مسبّب الأسباب (١).

﴿الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ *

 وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ

 حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٧) و (١٨)

ثمّ أعلن سبحانه بعدله في المجازات بقوله : ﴿الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس ﴿بِما كَسَبَتْ﴾ وعملت في الدنيا خيرا أو شرا ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ بوجه من الوجوه على أحد ، لا بزيادة العقاب ، ولا بنقص الثواب ﴿إِنَّ اللهَ﴾ تعالى مع كثرة الخلق ﴿سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ بحيث يحاسب جميعهم في أقرب زمان ، إذ لا يشغله شأن عن شأن.

عن ابن عباس رضى الله عنه : إذا أخذ الله في حسابهم ، لم يقل أهل الجنّة إلّا فيها ، ولا أهل النار إلّا فيها (٢).

ثمّ بالغ سبحانه في تخويف الكفّار من أهوال القيامة بقوله : ﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ يا محمّد ﴿يَوْمَ﴾ القيامة ﴿الْآزِفَةِ﴾ والقريبة الوقوع ؛ لأنّ كلّ آت قريب ﴿إِذِ الْقُلُوبُ﴾ فيه ترتفع من مكانها من شدّة الخوف والفزع وتقف ﴿لَدَى الْحَناجِرِ﴾ وتلتصق بالحلقوم ، فلا تعود فيتنفّسوا أو يستروحوا ، ولا تخرج فيموتوا ، قيل : تنتفح الرّئة من الفزع ، فيرتفع القلب إلى الحنجرة (٣) ، حال كون أصحاب القلوب ﴿كاظِمِينَ﴾ وحابسين غيظهم في أنفسهم بالصبر ، وساكتين حال امتلائهم بالغمّ والكرب ، وعاجزين عن إظهارهما والنّطق بهما من شدّة غلبتهما عليهم ، وعظم اضطرابهم من أهوال ذلك اليوم ، ورؤية العذاب المعدّ لهم و﴿ما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم في الدنيا بالكفر والطغيان ما به نجاتهم منه ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ وقريب مشفق يدفع عنهم العذاب ببذل النفس والمال ﴿وَلا﴾ لهم في ذلك اليوم من ﴿شَفِيعٍ﴾ يشفع لهم و﴿يُطاعُ﴾ في شفاعته ، ويقبل قولهم والتماسهم النجاة لهم. وفيه ردّ على المشركين الزاعمين أنّ الأصنام شفعائهم عند الله ، ويقبل شفاعتهم البتة.

﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ

 مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١٩) و (٢٠)

ثمّ إنّه تعالى بعد ذكر أعظم موجبات الخوف ، بيّن علمه بجميع أعمال العباد وذنوبهم ، بحيث لا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٧ : ٤٧ قطعة منه.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٦٩.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٠.

٤٠٩

يخفى عن علمه مثقال ذرّة بقوله : ﴿يَعْلَمُ﴾ الله ﴿خائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ واستراق النظر إلى ما لا يحلّ ، مع كونه أخفى أعمال الجوارح ، فكيف بغيره ﴿وَ﴾ يعلم ﴿ما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ وتضمره القلوب من الخطرات والنيّات السوء ، والعقائد الفاسدة ، وحبّ الأصنام والمعاصي ، وبغض التوحيد والاخلاص وأهلهما ﴿وَاللهُ﴾ الحكيم ﴿يَقْضِي﴾ ويحكم في عباده ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل في كلّ ما دقّ وجلّ ، ولا يغمض عنه بالهوى والرّشاء. وفيه أعظم التخويف والتهويل.

ثمّ قطع رجاء المشركين من أصنامهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ويعبدون هؤلاء المشركون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ، وممّا سواه من الأصنام وغيرها ﴿لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ فكيف يرجون شفاعتهم ؟ ! ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لمقالات المشركين من ثناء آلهتهم وطعنهم في التوحيد و﴿الْبَصِيرُ﴾ الذي يبصر خضوعهم لها وعبادتهم إياها.

﴿أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا

 هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ

 اللهِ مِنْ واقٍ * ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ

إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١) و (٢٢)

ثمّ إنّه تعالى بعد الابلاغ في تخويف المشركين بأهوال القيامة وعذابها ، هدّدهم بعذاب الدنيا بقوله: ﴿أَ وَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ولم يسافروا للتجارة وغيرها ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي تكون فيها طريقهم إلى الشام واليمن ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ الامم ﴿الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ،﴾ ومآل أمر القرون السابقة عليهم من الأحزاب المكذّبة للرسل ، المهلكة بسبب شركهم ومعارضتهم للحقّ ، كعاد وثمود وقوم لوط ﴿كانُوا هُمْ﴾ في عصرهم أعظم جثة من هؤلاء المشركين و﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ﴾ أكثر ﴿آثاراً﴾ وأحكمها ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كالقلاع الحصينة ، والقصور الرفيعة ، والمدن المتينة ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ وعاقبهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ وأهلكهم بمعاصيهم من الكفر وتكذيب الرسل ﴿وَما كانَ لَهُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ مِنْ واقٍ﴾ وحافظ يقيهم ويحفظهم ﴿ذلِكَ﴾ الأخذ والعذاب إنّما كان معلّلا ﴿بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ﴾ من قبل الله ﴿رُسُلُهُمْ﴾ مستدلّين على صدقهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ، أو مصاحبين للأحكام الظاهرات ﴿فَكَفَرُوا﴾ بها وكذّبوا الرسل وعارضوهم ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ أخذا شديدا عاجلا ، وأهلكهم إهلاكا فظيعا ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿قَوِيٌ﴾ وقادر على إنفاذ إرادته ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ على من كفر وعصاه.

٤١٠

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ * إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ

 فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ

 آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ * وَقالَ فِرْعَوْنُ

 ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي

 الْأَرْضِ الْفَسادَ * وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ

بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٣) و (٢٧)

ثمّ ذكر سبحانه من الرسل الذين أتوا قومهم بالبينات موسى بن عمران عليه‌السلام ، الذي كان عظيم الشأن ، كثير المعجزات تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى﴾ بن عمران عليه‌السلام متمسّكا ومستدلا على صدقه في دعوى الرسالة والتوحيد ﴿بِآياتِنا﴾ الباهرات والمعجزات الظاهرات ﴿وَسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ وحجّة عقلية واضحة.

وقيل : إنّ المراد به معجزة العصا خصّها بالذكر مع كونها من جملة الآيات تفخيما لشأنها (١)﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾ سلطان مصر ﴿وَهامانَ﴾ وزيره ﴿وَقارُونَ﴾ الاسرائيلي الذي ارتدّ بعد إيمانه بموسى وحفظه التوراة ، وأتباعهم من القبط وغيرهم ، فدعاهم إلى الإيمان بالتوحيد ورسالته ، وأظهر لهم المعجزات ﴿فَقالُوا﴾ عنادا ولجاجا : هو ﴿ساحِرٌ﴾ يظهر خوارق العادة بالسّحر ﴿كَذَّابٌ﴾ في دعوى توحيد الإله ورسالة نفسه من قبله ، وإنّما أتى بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة لتكرّر الدعوة منه ، ولم يبالغوا في نسبة السحر إليه لعدم تكرّره منه ، ولزعمهم أنّ سحرتهم أسحر منه ، ولذا قالوا في حقّهم : سحّار عليم.

ثمّ بيّن سبحانه شدّة عناد القوم له بقوله : ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ﴾ وأظهر لهم المعجزات التي كانت له ﴿مِنْ عِنْدِنا﴾ وبأقدارنا ﴿قالُوا﴾ أيّها القبط : ﴿اقْتُلُوا أَبْناءَ﴾ بني إسرائيل ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بموسى ويكونون ﴿مَعَهُ﴾ في الايمان بالتوحيد ، لئلا ينشأوا على دين موسى ويعينوه عليه ﴿وَاسْتَحْيُوا﴾ وأبقوا ﴿نِساءَهُمْ﴾ وبناتهم ليخدمنكم ، كما تفعلون ذلك من قبل ﴿وَما كَيْدُ﴾ هؤلاء ﴿الْكافِرِينَ﴾ ومكرهم وسوء صنيعهم ﴿إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ وضياع وبطلان ، لا يفوزون به إلى مقصودهم ، ولا يمنعون به عن نفوذ إرادة الله وجريان قضائه. وقيل : يعني ما كيدهم إلّا في ازدياد ضلالهم (٢) .

﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ﴾ لملئه ﴿ذَرُونِي﴾ ودعوني ﴿أَقْتُلْ مُوسى وَ﴾ خلّوه ﴿لْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ الذي يدّعي أنّه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٣.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٤.

٤١١

أرسله حتى يخلّصه من القتل ، فانّي أرى صلاح مملكتي في قتله ﴿إِنِّي أَخافُ﴾ إن لم أقتله من ﴿أَنْ يُبَدِّلَ﴾ ويغيّر ﴿دِينَكُمْ﴾ الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام ﴿أَوْ أَنْ﴾ يفسد ديناكم و﴿يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ﴾ التي تسكنونها ، والمملكة التي تعيشون فيها ﴿الْفَسادَ﴾ ولا اختلاف بأن يجتمع عليه قومه ، فيقع القتال والخصومات ، وتثار (١) الفتن.

قيل : إنّ ملأ فرعون كانوا يمنعونه من قتل موسى ، ويقولون : لا تقتله إنّه ساحر ضعيف ، لا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته دخلت الشّبهة على الناس ، وقالوا : إنّه كان محقّا ، وهم عجزوا عن جوابه (٢) .

وقيل : إنّه لم يمنعه أحد من قتله ، وأوهم اللعين أنّهم كفّوه عن قتله ، ولولاهم لقتله ، وما منعه عنه إلّا ما في نفسه من الفزع الهائل العاجل إن همّ بقتله ، لعلمه بنبوته (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن (٤) هذه الآية : ما منعه ؟ قال : « منعته رشدته ، ولا يقتل الأنبياء ولا أولاد الأنبياء إلّا أولاد الزّنا » (٥) .

﴿وَقالَ مُوسى﴾ لقومه بعد ما سمع حديث قتله : يا قوم ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ والتجأت إليه ، وامتنع بحصنه المنيع ﴿مِنْ﴾ شرّ ﴿كُلِ﴾ شخص ﴿مُتَكَبِّرٍ﴾ ومتعظّم عن التسليم لله ولرسوله ، والايمان بهما و﴿لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ﴾ فانّ المتكبّر المؤمن بالمعاد قد يرتدع من المعاصي العظام ، لخوف المعاد ، بخلاف المتكبر غير المؤمن فانّه لا يبالي من شيء ، وإنّما لم يسمّ فرعون لتعميم الاستعاذة ، وللتنبيه على علّة القساوة والجرأة على الله ، ولرعاية حقّ التربية التي كانت لفرعون عليه.

﴿وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ

 وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً

يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يا قَوْمِ

 لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ

 فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ * وَقالَ الَّذِي آمَنَ

 يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ

 وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ

__________________

(١) في النسخة : وتثير.

(٢) تفسير الرازي ٢٧ : ٥٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٧٤.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٥.

(٤) في النسخة : في.

(٥) علل الشرائع : ٥٧ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٣٩.

٤١٢

عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ

 اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٨) و (٣٣)

فلمّا استعاذ موسى بربّه من شرّ فرعون ، وانتشر همّه بقتل موسى ، حكى سبحانه دفعه القتل عنه ببعث رجل يردّ عنه بقوله تعالى : ﴿وَقالَ﴾ إذن ﴿رَجُلٌ﴾ كامل في صفات الرجولية ﴿مُؤْمِنٌ﴾ بالله وبموسى في نفسه ، كائن ﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وأقاربه. قيل : كان ابن عمّه ، يقال له شمعان (١) . وقيل : جبر (٢) . وقيل : حبيب وهو النجّار الذي عمل التابوت الذي وضعت فيه امّ موسى وألقته (٣) في البحر(٤) . وقيل : حزقيل (٥) بن نوحائيل (٦) . وقيل : حزقيل (٧) .

ذكر سبّاق الامم

فانّه روى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :« سبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : حزقيل : مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب يس،وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام،وهو أفضلهم » (٨).

وعلى أيّ حال كان ﴿يَكْتُمُ إِيمانَهُ﴾ بالله وبموسى ويستره من فرعون وقومه ، لكون قوله مقبولا عندهم ، وكان إيمانه بعد بعثه موسى ، وقيل : قبله بمائة سنة (٩).

وعن الصادق عليه‌السلام : « التقية ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيه له ، والتقية ترس المؤمن (١٠) ، فانّ مؤمن آل فرعون لو أظهر إيمانه (١١) لقتل » (١٢).

يا قوم ﴿أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً﴾ لأجل ﴿أَنْ يَقُولَ﴾ أو كراهة قوله : ﴿رَبِّيَ اللهُ﴾ الذي خلقني وخلق السماوات والأرض وما بينهما لا غيره ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿قَدْ جاءَكُمْ﴾ وأتاكم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الظاهرات ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وخالقكم اللطيف بكم.

ثمّ إنّه بعد القطع بكون موسى نبيا بالبينات والمعجزات ، احتجّ على قبح قتله باحتمال الضرر في قتله بقوله : ﴿وَإِنْ يَكُ﴾ موسى ﴿كاذِباً﴾ في دعواه ﴿فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ ووبال افترائه وضرره ، لا يتعدّى إلى غيره تحتاج في دفعه إلى قتله ﴿وَإِنْ يَكُ صادِقاً﴾ فيما يدّعيه من التوحيد والوعد بالعذاب على إنكاره ومخالفة قوله ، فكذّبتموه وقصدتموه بسوء ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ به ان لم يصبكم

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٦.

(٣) في النسخة : وألقاه.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٦.

(٥) في النسخة : خربيل.

(٦و٧) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٦.

(٨) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٦.

(٩) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٦.

(١٠) في مجمع البيان وتفسير الصافي : ترس الله في الأرض.

(١١) في مجمع البيان وتفسير الصافي : الإسلام.

(١٢) مجمع البيان ٨ : ٨١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٠.

٤١٣

كلّه ، فانّ في إصابتكم البعض كفاية في هلاككم.

وقيل : ان البعض هنا بعنى الكلّ ، أو المراد من البعض العذاب الدنيوي ، الذي هو بعض ما يعدهم ؛ لأنّه كان يعدهم بالعذاب الدنيوي والاخروي (١) .

﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ ولا يوصل إلى الخير والمقصود ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ ومتجاوز عن الحدّ في العصيان ، ومن هو ﴿كَذَّابٌ﴾ على الله وكثير الافتراء عليه. قيل : هو احتجاج آخر عليهم ، والمراد أنّه لو كان مسرفا كذّابا لما هداه الله إلى المعجزات القاهرة التي أظهرها لكم ، أو المراد أنّه لو كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة إلى قتله (٢). ثمّ قال المؤمن : ﴿يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ﴾ والسّلطنة ﴿الْيَوْمَ﴾ حال كونكم ﴿ظاهِرِينَ﴾ وغاليين على بني إسرائيل ، أو على سائر الناس ﴿فِي﴾ هذه ﴿الْأَرْضِ﴾ وتلك المملكة ، وهي مملكة مصر ، لا يقاومكم في هذا الوقت أحد ، ومع ذلك الاقتدار الذي يكون لكم ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ﴾ وأخذه ، ومن يدفع عنّا عذابه ﴿إِنْ جاءَنا﴾ فلا تتعرّضوا لقتله بعد ما علمتم أنّه إن جاءنا لا يمنعنا منه أحد ، وإنّما نسب ما يسترهم من الملك والغلبة إليهم لتطيب قلوبهم ، وأدخل نفسه فيهم في الابتلاء بالعذاب ليؤذن بأنّه ناصح لهم ، سارع في دفع ما يرديهم كسعيه في نفسه ، ليقبلوا نصحه ﴿قالَ فِرْعَوْنُ﴾ بعد ما سمع نصح المؤمن : يا قوم ﴿ما أَراكُمْ﴾ وما اشير عليكم ﴿إِلَّا ما أَرى﴾ وأعتقد صلاحه ، وهو قتله ، لتنحسم مادة الفساد والفتنة ﴿وَما أَهْدِيكُمْ﴾ بهذا الرأي ، وما أرشدكم ﴿إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ والصواب.

قيل : كان كاذبا في إظهار الجلادة ، لأنّه كان في غاية الخوف من موسى ، ولولاه لما استشار في قتله أحدا (٣) .

في نصائح مؤمن آل فرعون

﴿وَقالَ :﴾ الرجل ﴿الَّذِي آمَنَ﴾ من آل فرعون نصحا لقومه : ﴿يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾ من أن ترون يوما يكون ﴿مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ﴾ السالفة والامم الماضية والطوائف المختلفة المهلكة بالعذاب على تكذيب الرسل في الأزمنة السابقة ، أعني ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ وحالهم ﴿وَ﴾ قوم ﴿عادٍ وَ﴾ قوم ﴿ثَمُودَ﴾ حيث أهلكوا بالطّوفان والريح الصّرصر والصّيحة ﴿وَ﴾ حال ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ كقوم لوط وأضرابهم ، وإنّما كان هلاكهم باستحقاقهم له ﴿وَمَا اللهُ﴾ الحكيم العادل ﴿يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾ بأن يعذّبهم قبل إتمام الحجّة ، أو بغير ذنب.

ثمّ لمّا رأى إصرار فرعون على قتل موسى بقوله : ﴿ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى﴾ أظهر إيمانه بموسى ،

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٧٨.

(٣) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٧٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٧٩.

٤١٤

وخوّفهم أولا بعذاب الدنيا ، ثمّ خوّفهم بعذاب الآخرة ، بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾ من عذاب الله تعالى ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ والتصايح بالويل والثّبور ، أو يوم ينادي بعضكم بعضا للاستغاثة كقولهم : ﴿فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا(١) أو ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنّة ، وعلى أي تقدير المراد يوم القيامة ، أعني ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ﴾ وتردّون من موقف الحساب حال كونكم ﴿مُدْبِرِينَ﴾ ومنصرفين عنه إلى النار ، أو فارين من النار ، والحال أنّه ﴿ما لَكُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ وبأسه ﴿مِنْ عاصِمٍ﴾ وحافظ يعصمكم ويحفظكم منه ، فان قبلتم نصحى فقد هديتم إلى خيركم ، وإن لم تقبلوه فقد أضلّكم الله وخذلكم ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ ويخذله ﴿فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾ يهديه إلى ما فيه رشده وصلاحه.

﴿وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى

 إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ

 مُرْتابٌ * الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ

 وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٤) و (٣٥)

ثمّ بيّن المؤمن غاية ضلالهم واتّباعهم الهوى بقوله : ﴿وَلَقَدْ جاءَكُمْ﴾ يا أهل مصر ﴿يُوسُفُ﴾ بن يعقوب ، وقيل : يعني يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب (٢)﴿مِنْ قَبْلُ﴾ بالرسالة من قبل الله مستدلا على دعوته إلى التوحيد والرسالة ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الظاهرات القاهرات ﴿فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍ﴾ وترديد ﴿مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ﴾ من الدين الحقّ ودمتم عليه ﴿حَتَّى إِذا هَلَكَ﴾ ومات ﴿قُلْتُمْ﴾ تشهيّا وتكذيبا للرسل الذين بعده أيضا : ﴿لَنْ يَبْعَثَ اللهُ﴾ أبدا ﴿مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ قيل : إنّ مقصودهم أنّه لمّا لم نطع يوسف لن يجرأ أحد على دعوى الرسالة بعده (٣)﴿كَذلِكَ﴾ الضلال الفظيع ﴿يُضِلُّ اللهُ﴾ ويحرف عن طريق الحقّ بخذلانه ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ ومتجاوز عن الحدّ في العصيان ﴿مُرْتابٌ﴾ وشاكّ في رسالة الرسل ومعجزاتهم ، لغلبة الهوى وعدم التفكّر في العواقب.

ثمّ عرّف المسرف المرتاب بقوله : ﴿الَّذِينَ يُجادِلُونَ﴾ وينازعون المؤمنين ﴿فِي آياتِ﴾ توحيد ﴿اللهِ﴾ ويطعنون فيها ﴿بِغَيْرِ سُلْطانٍ﴾ وحجّة وبرهان ﴿أَتاهُمْ﴾ من قبل الله يصحّ التمسّك به ﴿كَبُرَ﴾ وعظم الجدال في آيات الله ﴿مَقْتاً﴾ ومن جهة البغض والنفور ﴿عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٥٣.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٨١.

٤١٥

عن ابن عباس : يمقتهم الذين آمنوا بذلك الجدال (١) ، وليس هذا الجدال إلّا من طبع القلب و﴿كَذلِكَ﴾ الطبع الفظيع ﴿يَطْبَعُ اللهُ﴾ ويختم ﴿عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ﴾ عن أتباع الرسل ، أو قبول الحقّ ﴿جَبَّارٍ﴾ ومتعال على الناس بغير حقّ ، أو ظالم عليهم.

﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ * أَسْبابَ

 السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ

 عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ * وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ

 اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٦) و (٣٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان تكبّر فرعون وتجبّره ، بيّن غاية حمقه وجهله بقوله : ﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ﴾ لوزيره هامان عتوّا واستكبارا وحمقا : ﴿يا هامانُ﴾ قيل : إنّ اللعين في أثناء مواعظ حزقيل (٢) أراد قطع كلامه خوفا من أن يؤثّر في القلوب ، فدعا هامان ، وقال له (٣) : ﴿ابْنِ لِي صَرْحاً﴾ وبناء عاليا مشيدا بالآجر ﴿لَعَلِّي﴾ بالصعود عليه ﴿أَبْلُغُ الْأَسْبابَ﴾ وأصل إلى الطّرق الموصلة إلى مقصودي ، أعنى ﴿أَسْبابَ السَّماواتِ﴾ وطرقها من سماء إلى سماء عن ابن عباس ، قال : منازلها (٤)﴿فَأَطَّلِعَ﴾ واستعلى عليه لانظر ﴿إِلى إِلهِ مُوسى﴾ لأنّه يمتنع العلم بصدق موسى إلّا برؤية إلهه ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾ في دعوى أنّه مرسل من قبله ﴿كاذِباً﴾ فاشتغل هامان ببنائه ، كما مر في سورة القصص (٥).

وقيل : إنّه قال ذلك تمويها (٦) . وقيل : إنّه لم يرد بناء الصرح ، لعلم كلّ عاقل بانّه يمتنع بناء صرح يتمكّن بالصعود عليه من دخول السماوات ، بل كان مقصوده بيان امتناع رؤية إلهه ، فلا يمكن العلم بوجوده (٧).

وقيل : إنّ الله أعماه وخلّاه نفسه ، ليتفرّغ لبناء الصّرح ، ليرى منه آية اخرى له ، ويتأكّد استحقاقه العقوبة بذلك (٨) ، كما أشار إليه تعالى بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ التزيين البليغ ﴿زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ وشنيع فعله ، فانهمك فيه انهماكا لا يرعوي عنه ﴿وَصُدَّ﴾ ومنع ﴿عَنِ﴾ سلوك ﴿السَّبِيلِ﴾ المنتهي إلى الخير والصّلاح ﴿وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ﴾ ومكره ببناء الصرّح ، وسعيه في إبطال الآيات ﴿إِلَّا فِي تَبابٍ﴾ وخسار وهلاك.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ١٨١.

(٢) في تفسير روح البيان : خربيل.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٣.

(٤) مجمع البيان ٨ / ٨١٥.

(٥) القصص : ٢٨ / ٣٨.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٣.

(٧) تفسير الرازي ٢٧ : ٦٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٨٣.

(٨) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٣.

٤١٦

ثمّ حكى سبحانه دعوة المؤمن إلى دين موسى بقوله : ﴿وَقالَ﴾ الرجل ﴿الَّذِي آمَنَ﴾ بموسى نصحا لقومه : ﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ﴾ واسمعوا قولي ﴿أَهْدِكُمْ﴾ وأرشدكم ﴿سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ وطريقا يوصل سالكه إلى مصالح الدين والدنيا ، ولا تتّبعوا فرعون فانّه يسلك بكم سبيل الغيّ والضلال.

﴿يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ * مَنْ عَمِلَ

 سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ

 فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ * وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ

 إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي

 بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٣٩) و (٤٢)

ثمّ لمّا كان أقوى الصوارف عن اتّباع الحقّ حبّ الدنيا ، بدأ بذمّها بقوله : ﴿يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ ولذّاتها ﴿مَتاعٌ﴾ قليل وانتفاع يسير ، يزول بأسرع وقت ﴿وَإِنَ﴾ دار ﴿الْآخِرَةَ﴾ بالخصوص ﴿هِيَ دارُ الْقَرارِ﴾ والبقاء ، لخلودها ودوام ما فيها ، فعليكم بالاعراض عن الدنيا ، والاقبال إلى الآخرة والعمل لها ، فانّه ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً﴾ في الدنيا ﴿فَلا يُجْزى﴾ في الآخرة ﴿إِلَّا مِثْلَها﴾ عدلا من الله سبحانه ﴿وَمَنْ عَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ مرضيا عند الله ، أيّ عمل كان ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بالله وبرسله واليوم الآخر ، فانّ قبول الأعمال مشروط بالايمان ﴿فَأُولئِكَ﴾ المؤمنون العاملون ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ في الآخرة جزاء لايمانهم وأعمالهم و﴿يُرْزَقُونَ فِيها﴾ ويتنعّمون ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ وبلا تقدير وتقتير وموازنة بالعمل ، بل أضعافا مضاعفة فضلا من الله.

ثمّ بالغ المؤمن في إظهار الشّفقة على قومه ، وإيقاظهم من سنة الغفلة بتكرير ندائهم بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ ما لِي﴾ والعجب منّي ومنكم حيث إنّي ﴿أَدْعُوكُمْ إِلَى﴾ سبب ﴿النَّجاةِ﴾ من النار ﴿وَتَدْعُونَنِي﴾ أنتم ﴿إِلَى﴾ سبب الدخول في ﴿النَّارِ﴾ ثمّ بين السببين بقوله : ﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ﴾ وأنكر وجوده مع دلالة الآثار والادلة القاطعة على وجوده وقدرته وحكمته ، أو أقرّ به ﴿وَأُشْرِكَ بِهِ﴾ في الوهيّته ﴿ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ ولم يقم على شركته له دليل قاطع. وهو سبب الدخول في النار ﴿وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى﴾ الايمان بالإله ﴿الْعَزِيزِ﴾ القادر على كلّ شيء ، وعلى الانتقام ممّن أنكره ، أو اشرك به ﴿الْغَفَّارِ﴾ لمن تاب عن العقائد الفاسدة وعصيانه ، ورجع إليه بالايمان والطاعة ، وهو سبب النجاة ، فلا ييأس الذين اصرّوا على الكفر والطغيان مدّة مديدة من رحمته وإحسانه ، فانّه يغفر كفر مائة سنة بايمان لحظة.

٤١٧

﴿لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا

 إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

 وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ * فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا

 وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٣) و (٤٥)

ثمّ بالغ في إبطال الشرك بقوله : ﴿لا جَرَمَ﴾ قيل : هي كلمة مستقلّة في إثبات ما بعدها (١)﴿أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ وتتوقّعون منّي عبادته من الأصنام ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا﴾ إلى عبادته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب والنّطق والبيان ، لأنّها جماد ﴿وَلا فِي الْآخِرَةِ﴾ بل يتبرأ ممّن عبده.

قيل : إنّ المعنى حقّ وثبت أنّ إلهكم ليس له استجابة دعوة عابدية في الدنيا بالبقاء والصحّة والغناء وغيرها ، ولا في الآخرة بالنجاة (٢) ورفعة الدرجات ونحوها ، فكيف يكون مع غاية العجز ، ربّا ؟ ! أو المراد ليس له دعوة مستجابة.

﴿وَ﴾ ثبت ﴿أَنَّ مَرَدَّنا﴾ ومرجعنا بعد الموت والخروج من الدنيا ﴿إِلَى اللهِ﴾ وحده ، فيجازينا على أعمالنا في الدنيا ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾ والمتجاوزين عن حدود العقل بالاشراك والظلم على الناس ﴿هُمْ﴾ بالخصوص ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ وملازموها يعذّبون فيها أبدا.

ثمّ قيل : لمّا خوّفه القوم بالقتل خوّفهم بقوله (٣) : ﴿فَسَتَذْكُرُونَ﴾ وعن قريب تعلمون ﴿ما أَقُولُ لَكُمْ﴾ من عدم الفائدة في عبادة الأصنام ، وأن المرجع هو الله ، وإنّ المشركين معذّبون في النار عند الموت ، أو حين مشاهدة العذاب ، ﴿وَ﴾ أنا ﴿أُفَوِّضُ أَمْرِي﴾ في دفع كيدكم وتظاهركم عليّ ﴿إِلَى اللهِ﴾ القادر على نصرة أوليائه ، وأتوكّل عليه ﴿إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ﴾ يعلم المحقّ والمبطل ، ومن يعارضه ويتوكّل عليه فينصره ، ويثيب المحقّ والمتوكّل ، ويخذل المبطل والمعارض له ويعاقبه.

في بيان نجات مؤمن آل فرعون من القتل

ثمّ أمر فرعون بقتله ﴿فَوَقاهُ اللهُ﴾ حفظه من ﴿سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا﴾ وشدائد ما همّوا به من الايذاء والقتل.

قال بعض العامة : إنّ المؤمن هرب إلى جبل ، واشتغل بالصلاة والعبادة ، فبعث الله السباع فأحاطوا به وحرسوه ، وبعث فرعون جماعة من خواصه ليأخذوه ، فجاؤا فوجدوه يصلّي والسباع محيطة به ، فخافوا من السباع ، ورجعوا إلى فرعون وأخبروه بما رأوا من حال المؤمن ، فقتل

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٧٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٨٧.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٧١.

٤١٨

فرعون جميعهم ، لئلا يفشوا الخبر (١) .

وقيل : انّ بعضهم أكلته السباع ، وبعضهم رجع إلى فرعون وأخبره بالقصة ، فاتهمه وصلبه (٢) .

وعن مقاتل : إنّ القوم قصدوا قتله ، فهرب إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه (٣) .

وقيل : نجا حزقيل مع موسى (٤)﴿وَحاقَ﴾ ونزل ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾ وبنفسه في الدنيا ﴿سُوءُ الْعَذابِ﴾ وشديده ، وهو الغرق في البحر.

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث - أنّه قال : كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ، ونبوة موسى ، وتفضيل محمد على جميع الرسل وخلقه ، وتفضيل علي بن أبي طالب عليه‌السلام والخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيين ، وإلى البراءة من ربوبية فرعون ، فوشى به الواشون إلى فرعون ، وقالوا : إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك ، ويعين أعداءك على مضادّتك. فقال لهم فرعون : ابن عمّي ، وخليفتي على ملكي ، ووليّ عهدي ، إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي ، وإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته.

فجاء بحزقيل ، وجاء بهم فكاشفوه ، وقالوا : أنت تجحد ربوبية فرعون الملك وتكفر بنعمائه. فقال حزقيل : أيّها الملك ، هل جرّبت عليّ ذنبا قطّ ؟ قال : لا. قال : فسألهم من ربهم ؟ قالوا : فرعون هذا. قال : ومن خالقكم ؟ قالوا : فرعون هذا. قال : ومن رازقكم الكامل لمعايشكم ، والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا : فرعون هذا. قال حزقيل : أيّها الملك ، فأشهدك وكلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي ، وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم ، واشهدك واشهد من حضرك أنّ كلّ ربّ ورازق وخالق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم ، فأنا برىء منه ومن ربوبيته ، وكافر بإلهيته.

يقول حزقيل هذا ، وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي ، ولم يقل : إنّ الذي قالوا هو ربّهم ربّي ، وخفي هذا على فرعون ومن حضره ، وتوهّموا أنّه يقول : فرعون ربّي وخالقي ورازقي. فقال لهم فرعون : يا رجال السوء ، ويا طلّاب الفساد في ملكي ، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمىّ ، وهو عضدي ، أنتم المستحقّون لعذابي ، لإرادتكم فساد أمري ، وإهلاك ابن عمي ، والفتّ في عضدي.

ثمّ أمر بالاوتاد ، وجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدا ، وفي صدره وتدا ، وأمر أصحاب أمشاط

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٧٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ١٨٩.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٧ : ٧٢.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٩ ، وفيه : خربيل ، بدل حزقيل.

٤١٩

الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم ، فذلك ما قال تعالى : ﴿فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا﴾ به لمّا وشوا إلى فرعون ليهلكوه ﴿وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ﴾ وهم الذين وشوا بحزقيل إليه ، لمّا أوتد فيهم الأوتاد ، ومشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « والله لقد قطّعوه إربا إربا ، ولكن وقاه الله أن يفتنوه عن دينه » (٢) .

﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ

 الْعَذابِ (٤٦)

ثمّ بيّن سبحانه تعذيبه القوم في البرزخ بقوله : ﴿النَّارُ﴾ بعد هلاك فرعون وقومه ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْها﴾ ويعذّبون ويحرقون بها في البرزخ ﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ وفي أول النهار وآخره.

قيل : إمّا يعذّبون بين الوقتين بعذاب آخر ، أو ينفّس عنهم (٣) .

وقيل : إنّه كناية عن الدوام ، كما في قوله تعالى (٤) : ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا(٥) . وقيل : إنّ المراد بالعرض الإظهار والإراءة (٦) .

وعن ابن مسعود : أنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود ، يعرضون على النار مرّتين ، فيقال : يا آل فرعون ، هذه داركم (٧) .

وفي حديث عامي : « أنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة ، وإن كان من أهل النار فمن النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة»(٨).

أقول : لعلّ المراد من الطير السود القوالب المثالية ، وإنّما عبّر عنها بالطير لسرعة سيرها وارتفاعها في الجوّ.

عن الصادق عليه‌السلام : « ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة ، لأنّ في النار القيامة لا يكون عذوّا وعشيا » ثمّ قال : « إن كانوا يعذّبون في النار غدوا وعشيا ، ففيما بين ذلك هم [ من ] السعداء ، ولكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قوله تعالى : ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ... ؟ !﴾ » (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ لله تعالى نارا بالمشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار ، ويأكلون من زقّومها ، ويشربون من حميمها ليلهم ، فاذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت ، أشدّ حرّا من

__________________

(١) الاحتجاج : ٣٧٠ ، التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٥٧ / ٢٤٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٥٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٢.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٧ : ٧٣.

(٥) مريم : ١٩ / ٦٢.

(٦-٨) تفسير روح البيان ٨ : ١٨٩.

(٩) مجمع البيان ٨ : ٨١٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٣.

٤٢٠