نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

في ردّ العامة

قيل : إنّ سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين ، وهي قاعدة ديار ربيعة ، فأصاب ألف فرس عربي (١) . وقيل : أصابها أبوه من العمالقة وورثها سليمان (٢) على خلاف رواية أبي بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة »(٣) .

وقيل : إنّها خيول بحرية جاء بها الجنّ لسليمان (٤) . وعلى أي تقدير قيل : قعد سليمان يوما بعد صلاة الظهر على كرسيّه ، وكان يريد جهادا ، فاستعرض تلك الخيول عليه ، فلم يزل تعرض عليه وهو ينظر إليها ويتعجّب من حسنها حتّى ذهب وقت فضيلة العصر ، أو وقت ذكر كان يواظب عليه (٥) .

ذكر فضيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام

وقال بعض العامة : حتى غربت الشمس وفات وقت صلاة العصر (٦)﴿فَقالَ﴾ تأسّفا وتحسّرا على ما صدر منه : ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ وجعلت حبّ الخيل بدلا ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ واشتغلت بالنظر إليه ﴿حَتَّى تَوارَتْ﴾ الشمس ﴿بِالْحِجابِ﴾ وسترت بستر افق المغرب ، فبعد غروب الشمس قال للملائكة : ﴿رُدُّوها عَلَيَ﴾ فردّت الملائكة الشمس باذن الله إلى محلّ فضيلة العصر ، فصلّاها في وقتها ، كما ردّت الشمس لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام حين فات وقت صلاة العصر منه لنوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجره على ما روته العامة والخاصة (٧)﴿فَطَفِقَ﴾ وأخذ يمسح ﴿مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ﴾.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّ سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل ، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب ، فقال للملائكة : ردوا الشمس عليّ حتّى اصلّي صلاتي في وقتها ، فردّوها. فقام فمسح ساقيه وعنقه ، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك ، وكان ذلك وضوءهم للصلاة ، ثمّ قام فصلّى ، فلمّا فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ﴾ إلى قوله : ﴿وَالْأَعْناقِ﴾ » (٨) .

أقول : ظاهر الآية أنّ سليمان مسح بالسوق والأعناق ، لا هو وأصحابه.

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٣١٢ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٧.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٣١٢ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٥ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٧.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٢٧.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٢٧.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٢٨.

(٦) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٥.

(٧) فضيلة رد الشمس لعلي عليه‌السلام مروية في البداية والنهاية ٦ : ٨٠ ، وترجمة الامام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر ٢ : ٢٨٣ ، والصواعق المحرقة : ١٢٨ ، ومناقب ابن المغازلي : ٩٦ / ١٤٠ و: ٩٨ / ١٤١ ، ومناقب الخوارزمي : ٢١٧ ، والرياض النضرة ٣ : ١٤٠ ، ومجمع الزوائد ٨ : ٢٩٧ وتفسير روح البيان ٨ : ٣١ ، ونور الأبصار : ٣٣ ، واثبات الهداة ٥ : ٥٨ / ٤٢٧ ، وبحار الأنوار ٤١ : ١٦٦ - ١٩٠.

(٨) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٩ / ٦٠٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩٨.

٣٤١

وعن ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية فقال : « ما بلغك فيها ؟ » قلت : بلى ، سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة. فقال : ردّوها عليّ - يعني الأفراس - وكانت أربعة عشر ، وأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها ، فسلب الله ملكه أربعة عشر يوما ، لأنّه ظلم الخيل بقتلها.

فقال عليّ عليه‌السلام : « كذب كعب ، لكن اشتغل سليمان بعرض أفراس ذات يوم ، لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر الله للملائكة الموكّلين بالشمس : ردّوها عليّ ، فردّت فصلّى العصر في وقتها،وإنّ الأنبياء لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ، لأنّهم معصومون مطهّرون »(١).

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عن قول الله عزوجل : ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً﴾ قال : « يعني مفروضا ، وليس معنى وقت فوتها إذا جاز ذلك ثمّ صلاها ، لم تكن صلاته هذه مؤدّاة ، ولو كان ذلك لهلك سليمان بن داود حين صلاها لغير وقتها »(٢) .

أقول : يمكن كون النظر إلى الخيول والاطلاع بحالها للجهاد ، كان أهمّ من الصلاة ، ولمّا أحبّ أن يؤدّي الصلاة لوقتها أمر برّد الشمس ، فكان حاله حال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ونظر سليمان إلى الأفراس كنوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآلهفي حجر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعلى أي تقدير ليست الروايات متواترة ولا حجّة في غير الأحكام الشرعية.

وقيل : إنّ رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينه كما في ديننا ، وكان سليمان احتاج إلى الغزو ، فجلس وأمر باحضار الخيل وإجرائها ، وذكر أنّي لا أحبّ الخيل لأجل الدنيا ، وإنّما احبّها لأمر الله ، وطلب تقوية دينه. وذلك معنى ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ أي حبّ الخيل ، وذلك الحبّ الشديد حصل عن ذكري ربي وكتابة أوامره ، لا عن الشهوة والهوى ، ثمّ إنّه أمر باعدائها وتسييرها حتّى توارت الخيل بالحجاب ، وغابت عن نظره ، ثمّ قال للرائضين : ردّوا الخيل عليّ ، فلمّا عادت إليه جعل يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها وإظهارا لعزّتها (٣) ، أو ليعلم صحّتها ومرضها (٤) .

أقول : نعم التفسير هو ، لو لا أن يكون بالرأي ومخالفا للروايات.

﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٧٤١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩٨.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩٤ / ١٠ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٩ / ٦٠٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩٨.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٠٦ ، تفسير روح البيان ٨ : ٢٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٠٦.

٣٤٢

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر فتنة أبيه داود ، ذكر فتنته بقوله : ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا﴾ وابتلينا ﴿سُلَيْمانَ﴾ وكانت فتنته على ما روته بعض العامة أنّه قال يوما : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة أو تسعين أو تسع وتسعين أو مائة ، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله. فقال له صاحبه ووزيره آصف بن برخيا : قل إن شاء الله ، فلم يقل ، فطاف عليهنّ تلك الليلة فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ ولد له عين واحدة ، ويد واحدة ، ورجل واحدة ، فألقته القابلة على كرسيّه (١) ، وهو قوله تعالى : ﴿وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ﴾ وسريره الذي كان يقعد عليه ﴿جَسَداً﴾.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون (٢) .

وروي أنّه نسي أن يقولها لينفذ مراد الله تعالى (٣) .

وفي رواية اخرى : أنّ سليمان ولد له ابن ، فاجتمعت الشياطين على قتله ، وذلك أنّهم كان يقدّرون في أنفسهم أنّهم يستريحون ممّا هم فيه من تسخير سليمان إياهم على التكاليف الشاقّة ، فعلم سليمان بذلك ، فأمر السّحاب بحمله ، وكانت الريح تعطيه غذاءه ، وربّي فيه خوفا من مضرّة الشياطين ، فابتلاه الله لأجل خوفه هذا وعدم توكّله في أمر ابنه على ربّه بموت ابنه حيث مات في السّحاب ، والقي ميتا على كرسيّه (٤) .

وقريب منه ما عن الصادق عليه‌السلام ، فانّه قال : « إنّ الجنّ والشياطين لمّا ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض : إن عاش له له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء ، فأشفق منهم عليه ، فاسترضعه في المزن - وهو السّحاب - فلم يشعر إلّا وقد وضع على كرسيه ميتا ، تنبيها على أنّ الحذر لا ينفع من القدر ، وإنّما عوتب على خوفه من الشياطين » (٥) .

قيل : لمّا القي ابنه الميت على كرسيه جزع سليمان عليه ، إذ لم يكن له إلّا ابن واحد ، فدخل عليه ملكان ، فقال أحدهما : إنّ هذا مشى في زرعي فأفسده. فقال له سليمان : لم مشيت في زرعه ؟ قال : لأنّ هذا الرجل زرع في طريق الناس ، فلم أجد مسلكا غير ذلك. فقال سليمان : لم زرعت في طريق الناس. أما علمت أنّ الناس لا بدّ لهم من طريق يمشون فيه ؟ فقال لسليمان : صدقت. لم ولدت على طريق الموت ، أما علمت أنّ ممرّ الخلق على الموت ، ثمّ غابا ، فاستغفر سليمان (٦)﴿ثُمَّ أَنابَ﴾ ورجع إلى الله تعالى.

وقيل : إنّ ابتلاءه كان سبب ملكه ، وذلك أنّ سليمان بلغه خبر مدينة في البحر ، فخرج إليها بجنوده

__________________

(١-٣) تفسير روح البيان ٨ : ٣٢.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٣٢.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٧٤١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٩٩.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ٣٢.

٣٤٣

تحمله الريح ، فأخذها وقتل ملكها ، وأخذ بنتا اسمها جرادة من أحسن النساء وجها ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت فأحبّها ، وكانت تبكي أبدا على أبيها ، فأمر سليمان الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها ، فكسوها مثل كسوة أبيها ، وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشيا مع جواريها تسجد لها ، فأخبر آصف سليمان بذلك ، فكسر الصورة ، وعاقب المرأة ، ثمّ خرج إلى فلاة من الأرض ، وفرش الرماد وجلس عليه تائبا إلى الله.

وكانت له امّ ولد يقال لها أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه عندها يوما ، فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان ، وقال : يا أمينة ، خاتمي. فتختّم به وجلس على كرسي سليمان ، فأتى عليه الطير والجنّ والإنس.

وتغيّرت هيئة سليمان ، فأتى أمينة لطلب الخاتم. فأنكرته وطردته ، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفّف ، وإذا قال : أنا سليمان ، حثوا التراب عليه وسبّوه ، ثمّ أخذ يخدم السمّاكين ، ينقل لهم فيعطونه كلّ يوم سمكتين ، فمكث عليه بهذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان ، وسأل آصف نساء سليمان ، فقلن : ما يدع امرأة منّا في دمها ، ولا يغتسل من جنابة. وقيل : نفذ حكمه في كلّ شيء إلّا فيهنّ. ثمّ طار الشيطان ، وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة ، ووقعت السمكة في يد سليمان ، فشقّ بطنها ، فاذا هو بالخاتم ، فتختّم به ، ووقع ساجدا لله ، ورجع إليه ملكه ، وأخذ ذلك الشيطان ، وأدخله في صخرة ، وألقاها في البحر (١) .

أقول : عليه يكون الجسد الملقى على كرسيّه ذلك الشيطان بتأويلات ، وهذه الرواية مردودة بوجوه كثيرة ، منها : أنّ الشياطين لا يتصوّرون بصور الأنبياء ، وأنّ سليمان لم يكن عاصيا حتى يعاقب عليه إلى غير ذلك.

وقيل : إنّ فتنته كانت بسبب مرض ابتلاه الله بحيث صار كالجسد الملقى على كرسيّه لا قوة له ولا روح ، ثمّ أناب ورجع إلى الصحّة (٢) .

﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ

 * فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ * وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ

 وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ * هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٠٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٠٩.

٣٤٤

حِسابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٣٥) و (٤٠)

ثمّ سأل الله تبارك وتعالى أهمّ حوائجه الاخروية حيث ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ زلاتي التي لا تليق بمقام نبوّتي ، ثمّ أردفه بطلب ما فيه إصلاح امور دنياه وقوة ترويجه للدين بقوله : ﴿وَهَبْ لِي﴾ يا ربّ ، وأعطني ﴿مُلْكاً﴾ وسلطانا عظيما ﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ﴾ من خلقك ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ ويكون أرفع من أن يناله غيري حتّى تكون لي معجزة دالة على صدق نبوتي ، ووسيلة لا نجاح مقاصدي من هداية خلقك ، ورفع الظلم وإشاعة العدل ، وترويج الدين ﴿إِنَّكَ﴾ لا تردّ دعائي ومسألتي لأنّك ﴿أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ وكثير العطاء لا نقص في خزائنك ، ولا بخل في ساحتك ، ولا مانع من جودك ﴿فَسَخَّرْنا﴾ وذللّنا ﴿لَهُ الرِّيحَ﴾ إجابة لدعائه بحيث ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ حال كونها ﴿رُخاءً﴾ أو طيبة ﴿حَيْثُ أَصابَ﴾ سليمان وقصد من البلاد والأماكن البعيدة ﴿وَ﴾ سخّرنا ﴿الشَّياطِينَ﴾ له ، أعني ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ منهم ، ليبني له ما أراد من الأبنية ﴿وَ﴾ كلّ ﴿غَوَّاصٍ﴾ يغوص في البحر فيخرج له اللاليء والمرجان والنفائس ﴿وَآخَرِينَ﴾ منهم ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ ومقيّدين ﴿فِي الْأَصْفادِ﴾ والقيود.

ومن المعلوم أنّ لطافة أجسامهم لا تنافي صلابتها ، بحيث يقدرون على تحمّل الأشياء الثقيلة ، كحمل ملك بلاد قوم لوط ، ونرى الرياح تحمل الأحجار الثقيلة في الغاية وتخريب الأبنية العظيمة ، ولا ينافي تقييدهم بالقيود التي لا يقدرون على قطعها وكسرها.

وقيل : إنّ تقييدهم كناية عن منعهم من الشرور والفساد (١) بحيث لا يقدرون على شيء منها.

ثمّ قلنا له : ﴿هذا﴾ الملك العظيم ﴿عَطاؤُنا﴾ الخاصّ بك ، لم نعطه أحدا قبلك ، ولا نعطه أحدا بعدك ﴿فَامْنُنْ﴾ وأعط ما شئت لمن شئت ﴿أَوْ أَمْسِكْ﴾ وامنع ما شئت عمّن شئت حال كونك متلبّسا ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ ومأخذة على شيء من عطائك ومنعك ، لتفويض التصّرف إليك على الإطلاق.

عن ابن عباس : أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب ، لا حرج عليك فيما أعطيت ، وفيما أمسكت (٢) .

قيل : ما أنعم الله على أحد نعمة إلّا كانت عليه تبعة إلّا سليمان فان أعطى اجر عليه ، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة (٣) .

وقيل : إنّ قوله : ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ متعلق بعطائنا ، والمعنى أنّ هذا العطاء لا يمكن حسابه لغاية

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٧ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ٢١١.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٣٩.

٣٤٥

كثرته (١) .

وقيل : إنّ المراد من المنّ والإمساك بالنسبة إلى الشياطين المقيّدين ، والمعنى امنن على من شئت منهم بفكّه ، وأمسك من شئت منهم في القيد (٢)﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿إِنَّ لَهُ عِنْدَنا﴾ في الدنيا ﴿لَزُلْفى﴾ وقربة حيث إنّهمن المرسلين المكرمين ﴿وَ﴾ له ﴿حُسْنَ مَآبٍ﴾ بعد الموت ، وفي الآخرة.

﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ *

 ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ * وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ

 رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ

 إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤١) و (٤٤)

ثمّ إنّه تعالى بعد تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بافتتان داود وسليمان بزلّتهما مع ما كان لهما من النبوة والسلطنة ، وسلامة نبينا منه ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصبر على الأذى ببيان صبر أيوب عليه‌السلام بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿عَبْدَنا أَيُّوبَ﴾ بن آموص من ولد إسحاق ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ ودعاه ، وكان دعاؤه ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ﴾ وأصابني ﴿الشَّيْطانُ﴾ بنفخة فيّ ، أو بدعائه ﴿بِنُصْبٍ﴾ وتعب ومشقّة ﴿وَعَذابٍ﴾ ومرض موجع وألم شديد ، وأنت أرحم الراحمين ، كما في سورة الانبياء ، فاستجابنا وقلنا له : يا أيوب ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ واضربها على الارض بقوة ، فضربها فنبعت عين من محلّ ضرب رجله ، فقلنا له : ﴿هذا﴾ الماء الذي خرج من العين ﴿مُغْتَسَلٌ بارِدٌ﴾ تغتسل به ﴿وَشَرابٌ﴾ تشرب منه ، فاغتسل في ذلك الماء يبرأ ظاهرك ، واشرب منه يبرأ باطنك.

وقيل : مغتسل بارد يبرّد حرارة الظاهر ، وشراب يبرّد حرارة الباطن (٣) فاغتسل من الماء وشرب منه ، فذهب ما به [ من ] الداء من ظاهره وباطنه ، فقام صحيحا سالما من الأمراض ، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان (٤) .

عن ابن عباس رحمه‌الله : مكث أيوب في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، لم يغمّض فيهنّ ، ولم ينقلب في المدّة من جنب إلى جنب (٥) ، فكشفنا ما به من ضرّ ﴿وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ﴾ وأولاده الذين هلكوا حين ابتلائه بهدم البناء عليهم ﴿وَ﴾ وهبنا ﴿مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ فكان له من الأولاد ضعف ما كان قبل البلاء.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٨ ، تفسير روح البيان ٨ : ٣٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ٢١١.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٤١.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٨ : ٤١.

٣٤٦

عن الصادق عليه‌السلام : أحيا الله أهله الذين ماتوا قبل البلية ، وأحيا الله الذين ماتوا حين البلية (١) وكان ذلك ﴿رَحْمَةً﴾ عظيمة ﴿مِنَّا﴾ عليه. قيل : يعني لرحمة عظيمة عليه من عندنا (٢)﴿وَ﴾ ليكون ﴿ذِكْرى﴾ وعظة وعبرة ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ ليصبروا على الشدائد كما صبر أيوب ، ويلجأوا إلى الله فيما نزل بهم كما لجأ أيوب إليه ، ليفعل بهم ما فعل به من حسن العاقبة ، كما تمّ لمّا حلف أيوب أن يضرب (رحمة) زوجته لتقصير توهّمه في حقّها ، كما مرّ تفصيله في سورة الأنبياء ، وكان مغتما على حلفه بعد اطّلاعه على عذرها فيه ، كشف الله غمّه بقوله : ﴿وَخُذْ﴾ يا أيوب ﴿بِيَدِكَ ضِغْثاً﴾ وحزمة أو قبضة من ريحان أو حشيش يكون عدده مائة ﴿فَاضْرِبْ بِهِ﴾ رحمة وأبرّ قسمك ﴿وَلا تَحْنَثْ﴾ في يمينك.

ثمّ مدحه سبحانه بالصبر والقيام بوظائف العبودية والرجوع إلى الله وعدم الشكوى إلى غيره بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً﴾ على البلايا (٣) العظام التي أصابته في نفسه وأهله وماله ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ أيوب ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ إلى الله رجّاع إليه لا إلى غيره.

روي عن ابن مسعود أنّه قال : أيوب رأس الصابرين إلى يوم القيامة (٤) .

روي أنّه لمّا كشف الله البلاء عن أيوب خطر في قلبه أنّه حسن صبره فيما نزل عليه من البلاء فنودي : يا أيوب ، أأنت صبرت أم نحن صبّرناك ؟ يا أيوب ، لو لا أنّا وضعنا تحت كلّ شعرة من البلاء جبلا من الصبر لم تصبر (٥) .

وفي قوله : ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ دلالة على أنّه علّة مدحه بالعبودية. قيل : لمّا نزل ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ في حقّ سليمان ، وفي حقّ أيوب ، عظم الغمّ في قلوب المؤمنين ، وقالوا : لا سبيل لنا إلى تحصيل هذا الشرف ؛ لأنّ سليمان ناله بملك لا ينبغي لأحد بعده ، وأيوب ناله بالصبر على البلايا (٦) التي نزلت عليه ، ولا نقدر على أحدهما. فأنزل الله تعالى : ﴿نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(٧) والمراد أنّك إن لم تكن نعم العبد ، فانّا نعم المولى ، وإن كان منك تقصير ، فمنّي الرحمة والتيسير (٨) .

﴿وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ * إِنَّا

 أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ *

 وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ * هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٤٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠١.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٢٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٢.

(٣) في النسخة : البلاء.

(٤و٥) تفسير روح البيان ٨ : ٤٥.

(٦) في النسخة : البلاء.

(٧) الأنفال : ٨ / ٤٠.

(٨) تفسير الرازي ٢٦ : ٢١٦.

٣٤٧

لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٥) و (٤٩)

ثمّ ذكر سبحانه أحوال جمع من الأنبياء العظام بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿عِبادَنا﴾ المخلصين ﴿إِبْراهِيمَ﴾ كيف ابتلي بنار نمرود ﴿وَإِسْحاقَ﴾ كيف ابتلي بالمصائب العظيمة ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ كيف ابتلي بفراق يوسف حتّى ابيضّت عيناه من الحزن مع أنّهم كانوا ﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾ والقوة في العبادة ﴿وَ﴾ ذوي ﴿الْأَبْصارِ﴾ والمعارف الإلهية ﴿إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ﴾ وبرّأناهم من حبّ الدنيا والشهوات ورذائل الأخلاق ، أو محّضناهم لنا بسبب صفة كريمة ﴿بِخالِصَةٍ﴾ من الخصال العالية التي لا شوب فيها ، وهي ﴿ذِكْرَى الدَّارِ﴾ الآخرة ، بحيث نسوا الدنيا وما فيها ، بل نسوا أنفسهم.

وقيل : إنّ المراد خصصناهم بفضيلة وكرامة خالصة لهم ، وهي ذكرهم بالعظمة وعلوّ الرّتبة في الدار الآخرة ، أو في الدنيا إلى يوم القيامة استجابة لدعائهم بقوله : ﴿وَاجْعَلْ﴾ لنا ﴿لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ(١) .

﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا﴾ وفي علمنا ، أو في نظرنا ﴿لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾ والمختارين من أولاد آدم والمتجبين من الخلق ، لكمال قربنا ، والتمحّض لعبادتنا ، وتحمّل أعباء رسالتنا ، ومن ﴿الْأَخْيارِ﴾ الذين لا يتمشّى منهم إلّا ما فيه رضا ربهم وصلاح دينهم ونفع أبناء جنسهم ، وفي الوصفين دلالة على عصمتهم ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد جدّك ﴿إِسْماعِيلَ﴾ بن إبراهيم ﴿وَالْيَسَعَ﴾ بن أخطوب خليفة إلياس - على ما قيل - نبيّ من أنبياء بني إسرائيل (٢)﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ قيل : هو إلياس (٣) . وقيل : إنّه ابن عمّ اليسع (٤) وقيل : إنّه يوشع (٥) وقيل : إنّه ابن ايوب (٦) ، كيف قاسوا الشدائد والآفات ، وصبروا على البلايا والأذيات ﴿وَكُلٌ﴾ منهم ﴿مِنَ الْأَخْيارِ﴾ المشهورين بالخير والصلاح ﴿هذا﴾ المذكور من افتتان الانبياء وصبرهم على المحن ﴿ذِكْرٌ﴾ وعظة لك وتذكرة وتسلية لقلبك ، حيث إنّ من شأنك أن تصبر على ما لا يصبر عليه غيرك.

قيل : إنّ المراد هذا الذي تلونا عليك ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء يذكرون به إلى آخر الدهر (٧) .

ثمّ سلّاه سبحانه بذكر المثوبات التي تترتّب على التقوى وإطاعة أحكام الله الموجبة للصبر عليها بقوله : ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ والمطيعين لأوامر الله ونواهيه مع مالهم من الشرف والذّكر الجميل ﴿لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ومرجع بعد الخروج من الدنيا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢١٧ ، والآية من سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٤.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ٣١٤ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٠ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٧.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٤٧.

(٤) تفسير البيضاوي ٢ : ٣١٤ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣١ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٧.

(٥) تفسير روح البيان ٨ : ٤٧.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ٣١٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٤٧.

(٧) تفسير روح البيان ٨ : ٤٨.

٣٤٨

﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ * مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ

 وَشَرابٍ * وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ * هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ

 الْحِسابِ * إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ * هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ *

 جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ * هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ

 شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٠) و (٥٨)

ثمّ بيّن سبحانه حسن مآبهم بقوله : ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وبساتين تكون لهم الإقامة فيها أبدا. وقيل : إنّ عدن علم الجنات ، لما روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أن الله تعالى بنى جنة عدن بيده ، وبناها بلبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصيائها الياقوت » (١) .

وعلى أيّ تقدير إذا جاءها المتّقون وجدوها ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ﴾ منها فيدخلونها بلا انتظار لأن يفتحها البوّابون وأن يوذن لهم في الدخول ، بل يستقبلهم الملائكة بالترحيب والتبجيل والتسليم.

وقيل : إنّ فتح ابوابها كناية عن عدم منعهم من الدخول (٢) ، فاذا دخلوا الجنة جلسوا على السرير كالملوك حال كونهم ﴿مُتَّكِئِينَ﴾ على النّمارق المصفوفة ومعتمدين عليها ﴿فِيها﴾ مستريحين منعمّين ﴿يَدْعُونَ فِيها﴾ لتلذّذهم ﴿بِفاكِهَةٍ﴾ وأنواع ﴿كَثِيرَةٍ﴾ من ثمار الجنة ﴿وَشَرابٍ﴾ من خمر وعسل ولبن وغيرها.

ثمّ بيّن سبحانه منكوحهم بقوله : ﴿وَعِنْدَهُمْ﴾ فيها أزواج ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾ على أزواجهنّ ، لا ينظرون إلى غيرهم ، و﴿أَتْرابٌ﴾ ومتساويات مع أزواجهنّ في السنّ ، لا فيهن عجوزة ولا صغيرة. قيل : لأنّ التحابّ بين الأقران أرسخ (٣) .

في الحديث : « يدخل أهل الجنة [ الجنة ] جردا مكحّلين أبناء ثلاث وثلاثين سنة ، لكلّ رجل منهم زوجتان ، على كلّ زوجة سبعون حلّة ، يرى مخّ ساقيها من ورائها » (٤) .

ويقول لهم الملائكة : ﴿هذا﴾ الذي ترون من الثواب العظيم والنعمة الجسيمة هو ﴿ما﴾ كنتم ﴿تُوعَدُونَ﴾ في الدنيا على لسان نبيكم على الايمان والتقوى ﴿لِيَوْمِ الْحِسابِ﴾ ووقت جزاء الأعمال ﴿إِنَّ هذا﴾ الذي أنتم فيه من أنواع النّعم والكرامات ﴿لَرِزْقُنا﴾ وعطاؤنا لأوليائنا والمتّقين من عبادنا ﴿ما لَهُ مِنْ نَفادٍ﴾ وانقطاع أبدا وزوال أصلا.

عن ابن عباس : ليس لشيء نفاد ، ما اكل من ثمارها خلّف مكانه مثله ، وما أكل من حيوانها وطيرها

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ٤٨.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٤٨.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٤٩.

٣٤٩

عاد مكانه حيا (١).

﴿هذا﴾ الذي قلنا للمتّقين في الآخرة ، وأمّا الكفّار فبيّن سبحانه أنّهم في ضدّ حال المتّقين بقوله : ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ على الله ، والمكذّبين للرسل ، والمتجاوزين عن الحدّ في العصيان ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ وأسوأ مرجع بعد الموت ، وإن كانوا في الدنيا أحسن حالا من المؤمنين ، واعلموا أنّ مآبهم ﴿جَهَنَّمَ﴾ التي لا شرّ منها ، وهم ﴿يَصْلَوْنَها﴾ ويدخلون فيها بعنف ، لأنّهم مهّدوها لأنفسهم في الدنيا ﴿فَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ والفراش جهنّم. قيل إطلاق المهاد والفراش عليها من التهكّم والسّخرية (٢) .

﴿هذا﴾ الذي هيّئناه لهم وأحضرناه عندهم ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ وليطعموه ، وهو ﴿حَمِيمٌ﴾ ومائع متناه في الحرارة والحرقة ﴿وَغَسَّاقٌ﴾ ومائع متناه في البرودة. عن ابن عباس : هو الزّمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرّها (٣) . وقيل : إنّه ما يسيل من قيح أهل النار (٤) .

وقيل : إنّه مائع منتن لو قطرت قطرة منه في المشرق لأنتنت أهل المغرب (٥) .

وعن كعب : أنّه عين في جهنم يسيل إليها سمّ كلّ ذي سمّ من عقرب وحيّة (٦) .

والقمي ، قال : الغسّاق : واد في جهنّم فيه ثلاثمائة وثلاثون قصرا ، في كلّ قصر ثلاثمائة بيت ، في كلّ بيت أربعون زاوية ، في كلّ زاوية شجاع (٧) في كلّ شجاع ثلاثمائة وثلاثون عقربا ، في حمة (٨) كلّ عقرب ثلاثمائة وثلاثون قلّة من سمّ ، لو أنّ عقربا منها نفحت سمّها على أهل جهنّم لوسعهم سمّها (٩) .

قيل : إنّ في الآية تقديما وتاخيرا ، والمراد هذا حميم وغسّاق فليذوقوه (١٠) .

﴿وَ﴾ عذاب ﴿آخَرُ﴾ أو مذوق آخر من مثل هذا العذاب أو المذوق ، و﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾ في التعذيب والإيلام والشدّة والفظاعة ﴿أَزْواجٌ﴾ وأجناس مختلفة. قيل : إنّه صفة للحميم والغسّاق والعذاب الآخر(١١) .

﴿هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ * قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا

 مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٥٩) و (٦٠)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سوء حال الكفّار في أنفسهم ، بيّن حالهم مع أتباعهم ومواليهم الذين كانوا معهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥٠.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٨ : ٥١.

(٤و٥) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٢١ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥١.

(٦) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٢١.

(٧) الشّجاع : ضرب من الحيات.

(٨) الحمة : الإبرة التي تضرب بها العقرب.

(٩) تفسير القمي ٢ : ٢٤٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠٦.

(١٠) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٢١.

(١١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٢١.

٣٥٠

في الدنيا مخاطبا للرؤساء بقوله : ﴿هذا﴾ الفوج والجمع السريع اللحوق بكم في دخول النار أيّها الرّؤساء ﴿فَوْجٌ﴾ وجمع ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ وداخل ﴿مَعَكُمْ﴾ بالقهر والشدّة في النار ، كما كانوا يتبعونكم في الدنيا ، ويسارعون في قبول قولكم في الكفر والضلال بالاختيار. قيل : هو حكاية لقول الخزنة لرؤساء الكفار(١).

قيل : يضرب الزبانية المتبوعين والأتباع معا بالمقامع ، فيسقطون في النار خوفا من تلك المقامع(٢).

ثمّ لمّا رأى الرّؤساء ضيق مكانهم بدخول الأتباع معهم قالوا في جواب الخزنة : ﴿لا مَرْحَباً بِهِمْ﴾ ولا كرامة لهم ﴿إِنَّهُمْ﴾ أيضا ﴿صالُوا النَّارِ﴾ وداخلوها فيضيّقون علينا المكان ، ويسوئوننا بقبح منظرهم وسوء صحبتهم.

القمي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ النار تضيق عليهم كضيق الزّجّ بالرمح » (٣) .

فلمّا سمع الأتباع سوء مقال الرؤساء في حقّهم ﴿قالُوا بَلْ أَنْتُمْ﴾ أيّها الرؤساء أحقّ بالدعاء عليكم ، وأن يقال لكم : ﴿لا مَرْحَباً بِكُمْ﴾ ولا كرامة لكم إذ ﴿أَنْتُمْ﴾ تدعوننا إلى الكفر وتزيينه في نظرنا وترغيبنا إليه ، وابتليتمونا بالعذاب والصلي في النار و﴿قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾ وأوقعتمونا فيه ، وجعلتم النار لنا مقرّا ﴿فَبِئْسَ الْقَرارُ﴾ وساء المقرّ جهنّم.

﴿قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ * وَقالُوا ما لَنا لا نَرى

 رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ *

 إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦١) و (٦٤)

ثمّ أعرض الاتباع عن مكالمة رؤسائهم ومخاصمتهم ، وقالوا متضرّعين إلى الله بقولهم : ﴿قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا﴾ العذاب أو الصّلي ﴿فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً﴾ ومضاعفا ﴿فِي النَّارِ﴾ لضلالهم وإضلالهم.

عن القمي : تأويل الطاغين بالاول والثاني وبني امية ، وتأويل الأزواج ببني العباس ، وقوله : ﴿لا مَرْحَباً بِكُمْ﴾ يقول بنو امية لا مرحبا بهم ﴿وَقالُوا﴾ يعني بنو فلان : ﴿لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾ يعني بدأتم بظلم آل محمد ﴿قالُوا﴾ يعني بنو امية : ﴿رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا﴾ يعنون الأول والثاني(٤).

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٢ ، تفسير روح البيان ٨ : ٥٢.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٥٢.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٧٥٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠٧ ، ولم أعثر عليه في تفسير القمي ، والزّج : الحديدة في أسفل الرمح.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٤٢.

٣٥١

﴿وَ﴾ أمّا شرح حال الطاغين مع أعدائه المؤمنين ، فهو أنّهم إذا نظروا إلى أطراف جهنّم لا يرون المؤمنين ﴿قالُوا﴾ تعجّبا وتوبيخا ﴿ما لَنا﴾ وأيّ حال عرض علينا بسببه ﴿لا نَرى﴾ في جهنم ﴿رِجالاً﴾ كانوا في الدنيا و﴿كُنَّا﴾ فيها ﴿نَعُدُّهُمْ﴾ ونحسبهم ﴿مِنَ الْأَشْرارِ﴾ والمفسدين لمخالفتهم إيّانا في الدين ، وسبّهم آلهتنا ، وتشتيت شملنا ، وإلقاء البغضاء بيننا. وقيل : أرادوا بالأشرار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدّونهم من الأراذل والسّفلة الذين لا خير فيهم ، ويسخرون منهم كسلمان وبلال وأضرابهما (١)﴿أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا﴾ وما كانوا كما توهّمنا ، فلم يدخلوا النار ﴿أَمْ﴾ دخلوها و﴿زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ﴾ وانحرفت عنهم الأنظار ، فلم نلتفت إليهم.

وقيل : إنّ المراد توبيخ أنفسهم عن الاستسخار منهم في الدنيا أو تحقيرهم فيها ، والمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أو الازدراء بهم وتحقيرهم ، فأنكروا كلا من الفعلين على أنفسهم توبيخا لها (٢) .

وقيل : إنّ ( أم ) منقطعة ، والمعنى اتخذناهم سخريا ، بل زاغت عنهم أبصارنا في الدنيا تحقيرا لهم ، وكانوا خيرا منّا ونحن لا نعلم (٣)﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ الذي حكينا وأخبرنا بوقوعها يوم القيامة ﴿لَحَقٌ﴾ وصدق وواقع البتة ، وهو ﴿تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ وجدا لهم فيها بعضهم مع بعض.

﴿قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

 وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٥) و (٦٨)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه قصص الأنبياء الذين صبروا على البلايا والمحن ، تسلية للنبي ، وحثا له على الصبر على أذى قومه ، وذكر بعده ثواب الايمان والتقوى ، وعقاب الكفر والعصيان لما ذكر ، وليصير داعيا للكفار الى الايمان ، ورادعا لهم عن الكفر ومخالفة الرسول ، عاد إلى بيان الرسالة والتوحيد بقوله تبارك وتعالى : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، للمشركين ﴿إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ﴾ مخوّف لكم من عذاب الله على الكفر والعصيان ، وقل لهم : ﴿ما مِنْ إِلهٍ﴾ ومعبود بالاستحقاق في عالم الوجود ﴿إِلَّا اللهُ﴾ الذي هو ﴿الْواحِدُ﴾ ذاتا وصفاة بحيث لا يمكن تصوّر الكثرة والتعدّد فيه بجهة من الجهات أصلا ، وهو ﴿الْقَهَّارُ﴾ لكلّ شيء ، والغالب على كلّ شيء بقدرته يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء ، فكيف تدّعون له شركاء ولا تخافون قهره وعقابه ؟ !

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٣ ، تفسير الصافي ٨ : ٥٤.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٥٤.

٣٥٢

ثمّ أكّد سبحانه وحدته وقدرته بقوله : ﴿رَبُّ السَّماواتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا﴾ من آلهتكم وغيرها ، ومالك جميع الموجودات ، ومدبّر جميع العوالم ، وهو ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يغلب في أمر من الامور ، فلا يكون لشيء عزّة ولا قوة ولا غلبة بوجه من الوجوه.

ثمّ إنّه تعالى بعد ترهيب المشركين بتوصيف ذاته المقدسة بالقهارية ، رغّبهم بالتوبة بتوصيف ذاته بالغفارية ، كأنه قال : هو مع قهاريته ، وعظمة سلطنته ، وكمال قدرته على الانتقام ﴿الْغَفَّارُ﴾ لمن خالفه وعصاه ، ومع عفوه ستّار لقبائح أعماله إذا تاب وآمن وعمل صالحا. في الحديث : « إذا قال العبد : يا رب اغفر لي. قال الله : أذنب عبدي ذنبا ، فعلم أنّ له ربا يغفر الذنوب وما يؤاخذ (١) به ، أشهدكم أنّي قد غفرت له » (٢) . وإنّما قدّم ذكر وصف القهارية لمناسبته للانذار.

﴿قُلْ﴾ يا محمد ، للمشركين : إنّ القرآن الذي جئتكم به ﴿هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ وخبر ذو فائدة مهمة ، وذو شأن جسيم ، نازل من الله الكريم ، ينبّئكم بالتوحيد والنبوة والمعاد ، وكيفية الحشر والجنة والنار ، والعلوم الكثيرة والحكم الوفيرة ، والأحكام والأخلاق والآداب ، وكلّ ما تحتاجون إليه من امور المعاش والمعاد و ﴿أَنْتُمْ﴾ أيّها المشركون لانغماركم في الضلال ﴿عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ ولتصلّبكم في دينكم به لا تعتنون ، مع أنّ جميع الامور المذكورة من أعظم موجبات السعادة ، والجهل بها من أعظم أبواب الشّقاوة ، وبداهة العقل تحكم بوجوب النظر والتفكّر فيها وعدم جواز المساهلة فيها والتغافل عنها.

﴿ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا

 نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)

ثمّ استدلّ سبحانه على أنّ القرآن كلام الله تعالى ، وأنّه نازل منه إليه بالوحى بقوله : ﴿ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ﴾ ما بوجه من الوجوه ﴿بِالْمَلَإِ الْأَعْلى﴾ وأحوال الملائكة الساكنين في السماوات العلى ، ومكالماتهم بطريق السماع من العلماء وقراءة الكتب والحضور عندهم ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ وحين يقولون لله بعد قوله : ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً(٣) أ تجعل فيها خلقا تغلب عليهم الشهوة والغضب ، فيفسدون فيه ويسفكون الدماء ، ونحن مطهّرون من الرذيلتين ومنزّهون ممّا يترتّب عليهما من قبائح الأعمال ، ومع ذلك نسبّحك ونقدّس لك. فردّه الله بقوله : ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ(٤) وإنّما

__________________

(١) في تفسير روح البيان : ويأخذ.

(٢) تفسير روح البيان ٨ : ٥٥.

(٣) البقرة : ٢ / ٣٠.

(٤) البقرة : ٢ / ٣٠.

٣٥٣

عبّر سبحانه عن تلك المكالمة بالمخاصمة ، لكونها بصورة الاعتراض والردّ ، وإن كان غرض الملائكة السؤال عن الحكمة.

عن الباقر عليه‌السلام - في حديث المعراج - : « قال : يا محمّد. قلت : لبيك ، قال : فيما اختصم الملأ والأعلى ؟ قال : قلت : سبحانك لا علم لي إلّا ما علّمتني : قال : فوضع يده - أي يد القدرة - بين كتفيّ ، فوجدت بردها بين ثدييّ. قال : فلم يسألني عمّا مضى وعمّا بقي إلّا علمته ، فقال : يا محمّد ، فيما اختصم الملأ الأعلى ؟ قال : قلت : في الكفارات والدرجات والحسنات »(١) .

وفي رواية ( المجمع ) : « فأمّا الكفارات فإسباغ الوضوء في السّبرات (٢) ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأمّا الدرجات فإفشاء السّلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام » (٣) .

وعلى أي تقدير ، لا يتصوّر لي طريق إلى العلم بهذه الامور المذكورة في الكتب السماوية إلّا بالوحي من الله إليّ و﴿إِنْ يُوحى إِلَيَ﴾ وما ينزل هذه المغيبات عليّ ﴿إِلَّا﴾ لأجل ﴿أَنَّما أَنَا﴾ رسول من الله إليكم ﴿نَذِيرٌ﴾ لكم من عذاب الله على الكفر والعصيان ﴿مُبِينٌ﴾ وظاهر إنذارتي ورسالتي عندكم بالدلائل الموضّحة لها والمعجزات الباهرة.

﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ

 رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ

 اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ * قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ

 بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ * قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ

 وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ

 الدِّينِ * قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلى

 يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ

 الْمُخْلَصِينَ * قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ

 مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٧١) و (٨٥)

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٤٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠٩.

(٢) السّبرات : جمع سبرة ، الغداة الباردة.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٧٥٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٠٩.

٣٥٤

ثمّ لمّا كان المانع عن إيمان المشركين الحسد والكبر ، وكان امتناع إبليس عن السجود لآدم ذلك المذكورين ، حكى سبحانه خصومة الشيطان معه في أمره بالسجود له في الملأ الأعلى بقوله : ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ الساكنين في الأرض أو لعمومهم ﴿إِنِّي﴾ بعد حين ﴿خالِقٌ﴾ بقدرتي ﴿بَشَراً﴾ وإنسانا ظاهر الجلد في الأنظار ﴿مِنْ طِينٍ﴾ وتراب مبلول ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ﴾ وصنعت جسده ، وأكملت خلق أجزائه ، وصوّرته بالصورة الإنسانية ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ﴾ بعد تسويته ، وأفضت عليه الجوهر القدسي الذي كانه لشرفه وعظمته ﴿مِنْ رُوحِي﴾ وليس لي روح ﴿فَقَعُوا﴾ أيّها الملائكة وخرّوا ﴿لَهُ﴾ حال كونكم ﴿ساجِدِينَ﴾ تكريما وتعظيما له ، لاستحقاقه منصب الخلافة الإلهية.

ثمّ لمّا أتمّ الله تعالى خلقه ، ونفخ فيه الروح ، قام من مكانه ﴿فَسَجَدَ﴾ له ﴿الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ من غير ريث وتأخير طاعة لله وتعظيما لآدم. قيل : أوّل من سجد إسرافيل ، ولذا جوزي بولاية اللّوح المحفوظ (١) . ثمّ سجد سائر الملائكة ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ لأنّه ﴿اسْتَكْبَرَ﴾ وتأنّف من السجود له وتعظيمه ﴿وَكانَ﴾ لذلك ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾ لنعم ربّه ، ومنكري علمه وحكمته ، أو كان في علم الله من بدو خلقته من الكافرين ، وإن كان في الظاهر معدودا من الملائكة لكثرة عبادته ، فلمّا امتنع الملعون من السجود ﴿قالَ﴾ الله مشافهة له : ﴿يا إِبْلِيسُ﴾ أخبرني ﴿ما مَنَعَكَ﴾ وأي رادع ردعك من ﴿أَنْ تَسْجُدَ﴾ إكراما وتعظيما ﴿لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ﴾ وأوجدته بقدرتي بلا توسّط أب وامّ ودخالة شيء من الأسباب.

عن الرضا عليه‌السلام ، قال : « يعني بقدرتى وقوّتي » (٢) .

قيل : إنّ تثنية اليد كناية عن كمال القدرة في خلقه (٣) .

وقيل : اريد يد القدرة ويد النعمة (٤) .

وقيل : لمّا كان مباشرة السلطان حمل شيء بيده دليل على كمال عنايته به ، كنّى سبحانه عن غاية عنايته بخلق آدم بقوله : ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَ(٥) .

﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ الآن ، وهل تعظّمت في نفسك بغير جهة ﴿أَمْ كُنْتَ﴾ في الواقع ، أو من قبل ﴿مِنَ﴾ الأكابر و﴿الْعالِينَ﴾ شأنا بالاستحقاق ؟ !

قيل : إنّ المراد من العالين الملائكة الذين لم يؤمروا بالسجود ، وهم الأرواح الجرّدة (٦) ، أو المراد

__________________

(١) تفسير روح البيان ٨ : ٥٩.

(٢) التوحيد ١٥٣ / ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٠ / ١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١٠.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٦٠.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٣٠ و٢٣١ ، تفسير روح البيان ٨ : ٦٠.

(٥) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٣١.

(٦) تفسير روح البيان ٨ : ٦١.

٣٥٥

أشباح محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الذين كانوا يعبدون الله عند ساق العرش (١) .

﴿قالَ﴾ إبليس : سجود الأفضل للمفضول قبيح ، و﴿أَنَا خَيْرٌ﴾ من آدم وأفضل ﴿مِنْهُ﴾ ذاتا وخلقة ؛ لأنّك ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ﴾ متصاعدة بالطبع نوارنية لطيفة بالذات ، وأين أنا من آدم الذي أوجدته ﴿وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ هابط بالطبع ظلماني ، كثيف بالذات !

بيان وجوه خيرية التراب على النار

والحاصل أن آدم لو كان مخلوقا من النار ما سجدت له ، لكونه مثلي ، فكيف أسجد وأخضع له وهو دوني ، وهذا المانع الذي أبداه في الظاهر - وإن كان مانعه في الحقيقة الكبر والحسد - في غاية الفساد ؛ لأنّ مباشرته تعالى خلقته بذاته المقدّسة ونفخه فيه من روحه وإفاضة العلم الذي لا يعلمه الملائكة المقرّبون عليه ، من أقوى الأدلّة على فضله عليه وعلى سائر الملائكة مع أنّه قيل : إنّ التراب خير من النار لوجوه.

منها : أنّ طبع النار الفساد وإتلاف ما تعلّقت به ، بخلاف التراب فانّه إذا وضع فيه البذر أخرجه أضعاف ما وضع فيه ، بخلاف النار فانّها آكلة له.

ومنها : أنّ طبع النار الخفّة والطّيش والحدّة ، بخلاف التراب فانّ طبعه الرّزانة والسّكون والثّبات.

ومنها : أنّ التّراب يتكوّن فيه ومنه أرزاق الحيوانات وأقواتهم ، ولباس الناس وزينتهم ، وآلات معايشهم ومساكنهم ، وليس في النار تلك الفوائد.

ومنها : أنّ التّراب ضروريّ للحيوانات لا يستغنون عنه في حال ولا عمّا يتكون فيه ومنه ، والنار يستغني عنها الحيوان مطلقا إلّا الإنسان ، وهو أيضا يستغني عنها أياما وشهورا ، ومنها أنّ النار لا تقوم بنفسها ، بل هي مفتقرة إلى محلّ تقوم به يكون حاملا لها ، والتراب يقوم بنفسه لا يفتقر إلى حامل.

أقول : فيه نظر ظاهر.

ومنها : أنّ النار مفتقرة إلى التراب ، لأنّ المحلّ الذي تقوم به لا يتكوّن إلّا من تراب أو فيه ، [ فهي المفتقرة إلى التراب ] والتراب غنيّ عنها.

أقول : وفيه نظر.

ومنها : أنّ مادة إبليس هي المارج من نار ، وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية ، فيميل معها كيف ما مالت ، ولذا غلب الهوى على المخلوقين منه فأسره وقهره ، بخلاف مادة آدم ، وهي التراب ، فهو قوّي لا يذهب مع الهواء أين ذهب ، فهو قهر هواه وأسره ، ورجع إلى ربّه فاجتباه ، فكان الهواء الذي مع مادة آدم سريع الزوال فزال ، وعاد آدم إلى الثبات والرزانة التي كانت أصلا له ، وكان إبليس بالعكس ،

__________________

(١) فضائل الشيعة : ٤٩ / ٧ ، تأويل الآيات ٢ : ٥٠٨ / ١١.

٣٥٦

فعاد كلّ إلى أصله وعنصره ، آدم إلى أصله الطيب الشريف ، واللّعين إلى أصله الرديء الخبيث.

ومنها : أنّ النار وإن كان لها بعض المنافع كالطبخ والتسخين والاستضاءة بها ، إلّا أن الشرّ كامن فيها ، لا يصدّها عنه إلّا قسرها وحبسها ، ولو لا ذلك لأفسدت الحرث والنسل ، وأمّا التراب فالخير والبركة كامن فيه ، كلّما اثير وقلب ظهر خيره وبركته وثمرته.

ومنها : أنّ الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه ، وأخبر عن منافعها ، وأنّه جعلها ، مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ، ودعا عباده إلى التفكّر فيها ، والنظر في آياتها وعجائبها وما أودع فيها ، ولم يذكر النار إلّا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب ، إلّا موضعا أو موضعين ذكرها فيه بأنّها تذكرة ومتاع للمقوين ، تذكرة بنار الآخرة ، وتمتّع الآخرة ، وتمتّع بها بعض الناس ، وهم النازلون بالقواء ، وهي الأرض الخالية ، إذا نزل بها المسافر ، فانّه يتمتّع بالنار في منزله.

ومنها : أنّ الله تعالى وصف الأرض بالبركة في غير موضع من كتابه عموما ، كما في قوله : ﴿وَبارَكَ فِيها(١) وخصوصا كما في قوله : ﴿وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها(٢) الآية ، ونحوها. وأمّا النار فلم يخبر أنّ فيها بركة ، بل المشهور أنّها مذهبة للبركات.

ومنها : أنّ الله جعل الأرض محلّ بيوته التي يذكر فيها اسمه ويسبّح له فيها بالغدوّ والآصال عموما ، وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا وهدى للعالمين خصوصا ، فلو لم يكن في الأرض إلّا بيته الحرام لكفاها شرفا وفخرا على النار.

ومنها : أنّ الله أودع في الأرض من المعادن والأنهار والعيون والثمرات والحبوب والأقوات وأصناف الحيوانات وأمتعتها ، والجبال والرّياض والمراكب البهيّة والصور البهيجة مالم يودع في النار.

ومنها : أنّ غاية النار أنّها وضعت خادمة لما في الأرض ، فانّ محلّها محلّ الخادم لهذه الأشياء فهي تابعة لها ، فاذا استغنت عنها طردتها ، وإذا احتاجت إليها استدعتها استدعاء المخدوم لخادمه (٣) .

فلمّا أظهر اللّعين التكبّر على آدم ﴿قالَ﴾ الله تعالى : ﴿فَاخْرُجْ﴾ يا إبليس من الجنّة ، أو من السماوات ، أو من بين الملائكة ، وابعد ﴿مِنْها﴾ قيل : تبيعده بإهباطه إلى الأرض (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه علّة أمره بخروجه بقوله : ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ ومطرود من ساحة رحمتي وكلّ خير وبركة ، وإنّما كنّى عن الطرد بالرجم ، لأنّ كلّ مطرود مهان يرجم بالحجارة. وقيل : إنّ المراد مرجوم

__________________

(١) فصلت : ٤١ / ١٠.

(٢) الأنبياء : ٢١ / ٧١.

(٣) تفسير روح البيان ٨ : ٦٢.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٦٤.

٣٥٧

بالشّهب (١) ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ والانقطاع عن رحمتي وفيوضاتي مستمرا و﴿إِلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ ووقت جزاء الأعمال ، فلا توفّق لعمل يوجب نجاتك من النار ، ومن كان ملعونا قبل اليوم كان ملعونا إلى الأبد ومبتلى بعذاب شديد هو نتيجة اللعن في الدنيا ﴿قالَ﴾ إبليس : ﴿رَبِ﴾ إذا آل أمري إلى الطرد واللعن ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾ ومهّلني في الدنيا ولا تمتني ﴿إِلى يَوْمِ﴾ القيامة الذي يحيل فيه آدم وذرّيته و﴿يُبْعَثُونَ﴾ من قبورهم للحساب. ولمّا كان إمهاله إلى يوم البعث مستلزما لعدم موته أبدا ، لم يجبه الله تعالى [ إلى ] مسؤوله ، بل ﴿قالَ﴾ سبحانه : ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ والممهلين جزاء لعبادتك ، ولكن ﴿إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ عند الله غير معلوم لغيره ، وهو النفخة الاولى على قول ، أو الرجعة لا إلى يوم البعث.

فلمّا ظهر قهر الله وطرده في الدنيا وتعذيبه في الآخرة ﴿قالَ :﴾ إذن ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ وقهرك وسلطانك ، لآخذ ثأري من ذريّة آدم ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ أحملنهم على العصيان بالوساوس والتسويلات ، ولأضلّنهم عن الحقّ بإلقاء الشكوك والشّبهات فيهم ﴿أَجْمَعِينَ﴾.

ثمّ لمّا رأى علوّ مقام الخلّصين من عباده وعجزه عن إغوائهم قال : ﴿إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ﴾ أعني ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين أخلصتهم لنفسك وطاعتك ، عصمتهم من الزلّات والتوجه إلى غيرك ، لئلا يقع الخلف في وعيده ، والكذب في إخباره ﴿قالَ﴾ الله تعالى تهديدا لابليس والتابعين له من ذرّيته : ﴿فَالْحَقُ﴾ قسمي ، أو أنا الحقّ ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ وقيل : إنّ المعنى فالحقّ تقول ، والحقّ أقول وعزّتي ﴿لَأَمْلَأَنَ﴾ يوم القيامة ﴿جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾ ومن جنسك من الشياطين ﴿وَمِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ من ذرّية آدم وأطاعك ﴿مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لا أترك من التابعين والمتبوعين أحدا.

﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ

 * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٦) و (٨٨)

ثمّ إنّه تعالى بعد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستدلال على بنوّته ، وصدق كتابه ، باشتماله على المغيبات التي لا تعلم إلّا بالوحي ، من تخاصم الملائكة ، وتمرّد الشيطان من أمره بالسجود لآدم ، وهو المقتضي للايمان ، أمره بالاعلان بعدم طمعه في أموال الناس المانع لايمانهم بقوله ﴿قُلْ﴾ يا محمد : أنا مأمور من قبل الله بتبليغ كتابه ، وإرشادكم إلى التوحيد والطريق الحقّ و﴿ما أَسْئَلُكُمْ﴾ ولا أطمع منكم ﴿عَلَيْهِ﴾ شيئا يسيرا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ ومال ، لأنّ عملي لله وأجري عليه ﴿وَما أَنَا﴾ في دعوتي بنبوتي

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٣٤ ، تفسير روح البيان ٨ : ٦٤.

٣٥٨

وكتابي ﴿مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ والمتعسّفين في دعوى شيء لا واقع له ولا حقيقة ، بل دعوتكم إلى ما دلّ عليه البرهان وحكم به العقل السليم والمعجزات الباهرات.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا برئ من التكلّف وصالح امّتي » (١) .

وفي حديث آخر : « أنا والأتقياء من امّتي برآء من التكلّف » (٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « للمتكلّف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم » (٣) .

وعن ابن مسعود : يا أيّها الناس ، من علم شيئا فليقل ، ومن لم يعلم شيئا فليقل : الله أعلم ، فانّ من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، فانّه تعالى قال لنبيه : ﴿وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ » (٤) .

عن الباقر عليه‌السلام : « قال لأعداء الله أولياء الشيطان أهل التكذيب والإنكار : ﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ يقول : متكلّفا أن أسألكم ما لستم بأهله » (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ المسلمين قالوا لرسول الله : لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الاسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت لألقى الله تعالى ببدعة لم يحدث لي فيها شيئا ، وما أنا من المتكلّفين » (٦) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « المتكلّف يخطئ وإن أصاب ، والمتكلّف لا يستجلب في عاقبة أمره إلّا الهوان ، في الوقت إلّا التعب والعناء والشّقاء ، والمتكلّف ظاهره رياء ، وباطنه نفاق ، وهما جنّاحان بهما يطير المتكلّف ، [ و] ليس بالجملة من أخلاق الصالحين ولا من شعار المتّقين التكلّف في أيّ باب كان ، قال الله لنبيه : ﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ » (٧) .

ثمّ أكّد سبحانه كون القرآن تنزيلا من الله ، بأنّه لو كان من الخلق لكان فيه الترغيب إلى الدنيا ، والإلهاء عن ذكر الله ، والقصص الكاذبة ، والمطالب الباطلة. و﴿إِنْ﴾ هذا القرآن ، وما ﴿هُوَ﴾ من أوله إلى آخره ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ وعظة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ وهدى ورحمة للمتقين من الجنّة والناس أجمعين ﴿وَ﴾ الله ﴿لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ﴾ والخبر العظيم الشأن الذي فيه من الوعد والوعيد والترغيب والتهديد ، أو خبره من حيث الصدق والكذب ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾ وزمان مبهم قريب. قيل : هو وقت الموت. وقيل : يوم القيامة (٨) . وكلّ آت قريب ، أو عند خروج القائم عليه‌السلام كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٩) ، وفي غاية التهديد (١٠) .

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٨ : ٦٧.

(٣) جوامع الجامع : ٤٠٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١١ ، تفسير روح البيان ٨ : ٦٧.

(٤) تفسير روح البيان ٨ : ٦٧.

(٥) الكافي ٨ : ٣٧٩ / ٥٧٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١١.

(٦) التوحيد : ٣٤٢ / ١١ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١١.

(٧) مصباح الشريعة : ١٤٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١١.

(٨) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٦٨.

(٩) الكافي ٨ : ٢٨٧ / ٤٣٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١٢.

(١٠) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٣٩ ، تفسير روح البيان ٨ : ٦٨.

٣٥٩

عن الباقر عليه‌السلام : « من قرأ سورة « ص » في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلّا نبي مرسل أو ملك مقرّب ، وأدخله الجنة ، وكل من أحبّ من أهل بيته حتى خادمه الذي يخدمه ، وإن كان لم يكن في حدّ عياله ومن يشفّع فيه »(١) .

قد تمّ تفسير السورة بعون الله بتارك وتعالى.

__________________

(١) ثواب الاعمال : ١١٢ ، مجمع البيان ٨ : ٧٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٣١٢.

٣٦٠