نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

بقوله : ﴿وَلَقَدْ ضَلَ﴾ والله ﴿قَبْلَهُمْ﴾ بإضلال إبليس ﴿أَكْثَرُ﴾ القرون ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ والامم الماضين ﴿وَ﴾ والله ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ﴾ من قبلنا أنبياء ﴿مُنْذِرِينَ﴾ ومخوّفين لهم من العذاب على الشّرك والعصيان مع المعجزات الباهرة والبراهين القاطعة ، فبيّنوا لهم بطلان عقائدهم ، وسوء عاقبة كفرهم ، فما اعتنوا بإنذارهم ﴿فَانْظُرْ﴾ أيّها النبيّ ، أو الناظر ﴿كَيْفَ﴾ كان ﴿عاقِبَةُ﴾ أمر الامم ﴿الْمُنْذَرِينَ﴾ ومآل كفرهم وطغيانهم ، فقد علمت أنّ عاقبتهم كانت أوخم العواقب وأسوأها ﴿إِلَّا﴾ عاقبة الذين كانوا ﴿عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ فانّ عاقبتهم خير العواقب وأحسنها.

﴿وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ *

 وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ * وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي

 الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه إرساله الرسل إلى الامم الضالة ، ذكر بعض الأنبياء العظام ولطفه بهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ نادانا﴾ ودعانا ﴿نُوحٌ﴾ لتخليصه من إيذاء قومه وقتلهم إياه ، والأمن [ من ] الغرق بالطّوفان ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ نحن لدعائه.

ثمّ بيّن سبحانه حسن إجابته له لقوله : ﴿وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ﴾ وأقاربه ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ والغمّ الشديد ، وهو أذى قومه ، أو الغرق بالطّوفان ﴿وَجَعَلْنا﴾ بعد هلاك الخلق بالطّوفان ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ ونسله فقط ﴿هُمُ الْباقِينَ﴾ على وجه الأرض.

روي أنّه مات كلّ من معه في السفينة غير أبنائه وأزواجهم ، وهم الذين بقوا متناسلين إلى يوم القيامة (١) .

﴿وَتَرَكْنا﴾ على نوح ، وأبقينا ﴿عَلَيْهِ فِي﴾ الامم ﴿الْآخِرِينَ﴾ الثناء وحسن الذكر ﴿سَلامٌ﴾ من الله ، أو من الملائكة والثّقلين ﴿عَلى نُوحٍ﴾ وذلك السّلام والتحية باق عليه ﴿فِي الْعالَمِينَ﴾ وامّة بعد أمّة.

قيل : إنّ المراد الدعاء بثبوت هذه فيهم جميعا ، كأنّه أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين ، فيسلّمون عليه بكليّتهم (٢) .

قال القرطبي : جاءت الحية والعقرب لدخول السفينة ، فقال نوح : لا أحملكما لأنّكما سبب الضرر والبلاء. فقالا : احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضرّ أحدا ذكرك ، فمن قرأ حين يخاف مضرّتهما

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٥ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٨.

٣٠١

﴿سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ﴾ لم يضرّاه (١) .

عن الصادق عليه‌السلام - في حديث - : وبشّرهم نوح بهود ، وأمرهم باتّباعه ، وأن يقيموا الوصيّة كلّ عام فينظروا فيها ، ويكون عيدا لهم ، كما أمرهم آدم عليه‌السلام ، فظهرت الجبرية من ولد حام ويافث ، فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم ، وجرت على سام بعد نوح الدولة لحام ويافث ، وهو قول الله عزوجل : ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ يقول : تركت على نوح دولة الجبّارين ، ويعزّي (٢) الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

قال : وولد لحام : السند والهند والحبش ، وولد لسام العرب والعجم ، وجرت عليهم الدولة ، وكانوا يتوارثون الوصية عالم بعد عالم حتى بعث الله هودا (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على نوح ، بيّن استحقاقه لها بقوله : ﴿إِنَّا كَذلِكَ﴾ ومثل تلك النّعم ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ونفضّل عليهم بسبب إحسانهم.

﴿إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ *

 إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨١) و (٨٥)

ثمّ أثنى على نوح وذكر إحسانه بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ كان أحدا ﴿مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ بتوحيدي وبما يجب الايمان به من البعث وغيره. وفيه بيان أنّ من أعظم درجات الانسان الايمان بالله والانقياد لطاعته.

ثمّ بين سبحانه غضبه على أعداء نوح بقوله : ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا﴾ بالطّوفان الأقوام ﴿الْآخَرِينَ﴾ المعاندين لنوح ، وهم الكفار والمشركون.

قيل : إنّ كلمة ( ثم ) لبيان غاية البعد وتفاوت الرّتبة بين إنجاء نوح وأهله ، والإغراق المتراخي الزماني (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه قصّة إبراهيم عليه‌السلام الذي كان من اولي العزم بعد نوح عليه‌السلام بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ﴾ وأتباعه والسالكين على منهاجه في التوحيد والدعوة إليه ، والثبات على الحقّ ، وتحمّل أذى القوم ﴿لَإِبْراهِيمَ.﴾ عن ابن عباس : من أهل دينه ، وعلى سنته ، أو ممّن شايعه في مصابرة المكذّبين(٥).

قيل : كان بين نوح [ وإبراهيم ] ألفان وستمائة وأربعون [ سنة ] وما كان بينهما إلّا نبيان : هود،

__________________

(١) تفسير القرطبي ٩ : ٣٢.

(٢) في كمال الدين : ويعزّ.

(٣) كمال الدين : ١٣٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٢.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٨.

(٥) تفسير أبي السعود ٧ : ١٩٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٨.

٣٠٢

وصالح (١) .

أقول : الظاهر أنّ المراد النبي المعروف ، لأنّه لا شبهة أن الأرض لا تخلو من حجّة.

وعن الكلبي : أنّ المراد أنّ من شيعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إبراهيم (٢) ، وإن لم يذكر اسمه الشريف قبل الآية ، وكان إبراهيم قبل نبينا بكثير ، لكنّه تابع له في الحقيقة (٣) .

﴿إِذْ جاءَ رَبَّهُ﴾ وحين أقبل إلى خالقه ومالكه ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ من الآفات النفسانية ، والهواجس الشيطانية ، والعلائق الدنيوية. عن ابن عباس : إنّه يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه ، وسلم جميع الناس من غشّه وظلمة ، وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحدا (٤) .

وقيل : إنّ ( إذ ) متعلّق باذكر المقدّر (٥) .

وكان ظهور مجيئه ربّه وإقباله إلى مالكه ﴿إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ الذين كانوا عبدة الأصنام إنكارا عليهم وتوبيخا لهم ﴿ما ذا تَعْبُدُونَ﴾ وأيّ شيء هذه الأصنام التي لها تسجدون.

﴿أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ * فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي

 النُّجُومِ * فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا

 تَأْكُلُونَ * ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ * فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ

 * قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ * قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً

 فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ

 إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٨٦) و (٩٩)

ثمّ بالغ في توبيخهم ولومهم بقوله : ﴿أَ إِفْكاً﴾ وكذبا أو باطلا ﴿آلِهَةً﴾ ومعبودين ﴿دُونَ اللهِ﴾ وسوى المعبود المستحقّ للعبادة ﴿تُرِيدُونَ﴾ وتطلبون.

قيل : إنّ ( إفكا ) مفعولا له ، وإنّما قدّمه لكون الأهمّ عنده أن يقرّر عندهم أنّهم على إفك وباطل في شركهم (٦). وقيل : إنّه مفعول ل ( تريدون ) (٧) أو حال ، والمعنى أتريدون آلهة من دون الله آفكين (٨).

﴿فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وحسبانكم في حقّه ، أتظنون أنّه جعل لنفسه من الجمادات شركاء

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ١٩٧ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٦ ، تفسير القرطبي ١٥ : ٩١.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٦.

(٥) تفسير البيضاوي ٢ : ٢٩٧.

(٦) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٩.

(٧) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

(٨) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

٣٠٣

في العبادة ، أو أنّه من جنس هذه الجمادات حتى جعلتموها مساوية له ، أو تظنّون أنّه لا يؤاخذكم بإشراككم ، أو أنّه غافل عن سيئات أعمالكم ، وهو ربّ العالمين ، لا يساويه (١) وليس كمثله شيء ، ولا يرضى بعبادة غيره ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة.

ثمّ صمّم إبراهيم عليه‌السلام على أن يلزم قومه الحجّة على عدم قابلية (٢) الأصنام للعبادة حتى خرج القوم إلى عيد لهم ، فقالوا : يا إبراهيم ، اخرج معنا إلى الصحراء وإلى عيدنا (٣) ، وكانوا على ما قيل يتعاطون علم النجوم (٤)﴿فَنَظَرَ﴾ إبراهيم ﴿نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ فرآى موقعها واتصالاتها ، أو نظر في علم النجوم ﴿فَقالَ﴾ اعتذارا من الخروج ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ ومريض لا يصلح لي الخروج.

عن ابن عباس : أنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم ، فعاملهم على مقتضى عادتهم ، وذلك أنّه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ، ليلزمهم الحجّة في أنّها غير معبودة ، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه ، فأراد أن يتخلّف عنهم ، ليبقى خاليا في بيت الأصنام ، فيقدر على كسرها (٥) .

قيل : إنّ المراد من قوله : ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ إنّي سأسقم ، وكانت تأتيه سقامة كالحمّى في بعض ساعات الليل والنهار (٦) .

وقيل : كان له نجم مخصوص ، كلّما طلع على صفة مخصوصة مرض (٧) .

وقيل : إنّ هذا الكلام منه على سبيل التعريض ، ومراده أنّ الإنسان في أكثر أحواله لا ينفكّ عن حالة مكروهة (٨) إمّا في بدنه ، وإمّا في قلبه ، وكل ذلك سقم (٩) .

وقيل : يعني سقيم القلب غير عارف بربّي ، وكان ذلك قبل بلوغه (١٠) .

وقيل : يعني مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك (١١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « والله ما كان سقيما وما كذب » (١٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّه حسب فرأى ما يحلّ بالحسين عليه‌السلام ، فقال : إنّي سقيم لما يحلّ ٠ بالحسين » (١٣) .

قيل : إنّ القوم توهّموا من قوله ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أنّه ابتلي بالطاعون لكثرته في زمانه (١٤) ﴿فَتَوَلَّوْا

__________________

(١) في النسخة : لا يساومه.  (٢) يريد استحقاق.

(٣) في النسخة : معيدنا.  (٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٦٩.

(٥) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.  (٦) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

(٧) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

(٨) في النسخة : مكرهة.

(٩) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٨.

(١٠) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

(١١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٤٧.

(١٢) الكافي ٨ : ١٠٠ / ٧٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٣.

(١٣) الكافي ١ : ٣٨٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٣.

(١٤) تفسير أبي السعود ٧ : ١٠٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٠.

٣٠٤

وأعرضوا ﴿عَنْهُ﴾ حال كونهم ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وهاربين منه ، لخوف السّراية ، فلمّا ذهب القوم وتركوه جاء إلى بيت الأصنام ﴿فَراغَ﴾ وذهب خفية ﴿إِلى آلِهَتِهِمْ﴾ فرآى أنّ القوم وضعوا عندهم الطّعام لتحصل له البركة على ما قيل (١)﴿فَقالَ﴾ لهم استهزاء بهم : ﴿أَ لا تَأْكُلُونَ﴾ من هذا الطعام ؟

ثمّ بالغ في الاستهزاء بهم وقال ﴿ما لَكُمْ﴾ وأي حال عرض لكم أنّكم ﴿لا تَنْطِقُونَ﴾ ولا تكلّمون معي ولا تجيبوني ؟ ﴿فَراغَ﴾ وأقبل ﴿عَلَيْهِمْ﴾ خفية فضربهم ﴿ضَرْباً﴾ شديدا ﴿بِالْيَمِينِ﴾ وبتمام القوّة التي كانت له. قيل : إنّ المراد فأقبل عليهم حال كونه ضاربا لهم بسبب الحلف على ضربهم بقوله : ﴿تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ﴾ فلمّا رجع القوم من عيدهم (٢) جاءوا إلى الأصنام على حسب رسمهم ، فوجدوها مكسورة ، فظنّوا بالقرائن أنّه عمل إبراهيم (٣) ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ﴾ وتوجّهوا نحوه ، وهم ﴿يَزِفُّونَ﴾ ويسرعون في المشي.

ثمّ أنّه بعد ما جرت بينه وبين القوم من المحاورات التي حكاها سبحانه في سورة الأنبياء ﴿قالَ﴾ توبيخا لهم : ﴿أَ تَعْبُدُونَ﴾ يا قوم ، وأنتم عقلاء ﴿ما تَنْحِتُونَ﴾ بأيديكم من الأحجار والأخشاب ؟ ! ﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ﴾ بقدرته مادة وصورة ﴿وَ﴾ خلق ﴿ما تَعْمَلُونَ﴾ من الأصنام بإقداركم على نحتها. ولمّا عجز نمرود وخواصه من إبطال حجّته ﴿قالُوا :﴾ يا قوم ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْياناً﴾ رفيعا عظيما ، واملأوه حطبا ، وأشعلوا فيه النار لإحراق إبراهيم ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ والنار الشديدة الإيقاد. قيل : إنّ القائل رجل من أعراب فارس اسمه الهيزن (٤) .

عن ابن عباس ، أنّه قال : بنوا حائطا من حجر ، طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملأوه حطبا ، وأشعلوا فيه نارا (٥) .

﴿فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً﴾ وشرّا عظيما ، وهو إحراقه بالنار ﴿فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ والأذلّين بإبطال كيدهم ، وجعل النار عليه بردا وسلاما ، وسعيهم في إهلاكه سببا لظهور حجّته ووضوح صدقه وعلوّ رتبته ﴿وَقالَ﴾ للوط ولمن آمن به من بعد إنجاء الله إياه من النار : ﴿إِنِّي ذاهِبٌ﴾ ومهاجر من هذه القرية الظالم أهلها ، وهي حرّان ، أو بابل ، أو هرمز بحرة (٦) التي كانت بين البصرة والكوفة ﴿إِلى﴾ بلاد الشام التي أمرني ﴿رَبِّي﴾ بالذّهاب إليها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٠.

(٢) في النسخة : معيدهم.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٠.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧١.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧١.

(٦) الذي في معجم البلدان : هرمز جرد : ناحية في أطراف العراق ، وهرمز قرة : قرية في طرف نواحي مرو ، ولعل ما في المتن مصحف ما عن : هرمز جرد. معجم البلدان ٥ : ٤٦٣.

٣٠٥

وقيل : أمر بالذّهاب إلى أرض فلسطين وهي بين الشام ومصر (١) . أو المراد إلى موضع يكون فيه صلاح ديني (٢) ، أو إلى بيت المقدس ، كما عن الصادق (٣) . وعن أمير المؤمنين عليهما‌السلام في رواية : « فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى الله » (٤) . إنّه بلطفه ﴿سَيَهْدِينِ﴾ إلى الموضع الذي أمرني بالذّهاب إليه ، ويرشدني إليه البتة على لطفه أو وعده.

روي أنّ إبراهيم لمّا جعل الله عليه النار بردا وسلاما ، وأهلك عدوّة نمرود ، وتزوّج بسارة ، وكانت أحسن النساء وجها ، وكانت تشبه حوّاء في حسنها ، عزم الانتقال من أرض بابل إلى الشام (٥) .

﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ

 يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما

 تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *

 وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ

 هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *

 سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ * كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا

 الْمُؤْمِنِينَ (١٠٠) و (١١١)

ثمّ أن سارة اشترت هاجر ، فوهبتها لإبراهيم (٦) ، فلمّا ملكها دعا ربّه بقوله : ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ ولدا يكون ﴿مِنَ﴾ عبادك ﴿الصَّالِحِينَ﴾ والكاملين في العلم والعمل والأخلاق ، ليكون عونا لي على الطاعة والدعوة ، ويؤنسني في الغربة ﴿فَبَشَّرْناهُ﴾ إجابة لدعائه ﴿بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ وولد صالح متحمّل للمشاقّ ، صبور عند إصابة المكاره ، لا يغلب عليه الغضب ، ولا يعجل في الامور.

قيل : إنّه تعالى جمع فيه بشارات ثلاث : الاولى : إنّه غلام ، والثانية : إنّه يبلغ أوان الحلم ، والثالثة : إنّه حليم ، ومن حلمه أنّه استسلم للذبح (٧) . قيل : ما نعت الله نبيا بالحلم لعزّة وجوده غير إبراهيم وابنه (٨) .

فلما وهب له إسماعيل ، ونشأ إلى أن بلغ رتبة [ أن ] يعاون إبراهيم في حوائجه ومشاغله ﴿فَلَمَّا بَلَغَ﴾ إبراهيم ﴿مَعَهُ السَّعْيَ﴾ في مشاغله ومصالحه ، أو السعي الذي هو أحد أعمال الحجّ ، أراد الله أن

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٢.

(٣) الكافي ٨ : ٣٧١ / ٥٦٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٤.

(٤) التوحيد : ٢٦٦ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٤.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٣.

(٦) في النسخة : فوهبها من إبراهيم.

(٧) تفسير الرازي ٢٦ : ١٥١ ، تفسير أبي السعود ٧ : ١٩٩ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٣.

(٨) تفسير البيضاوي ٢ : ٢٩٨ ، تفسير أبي السعود ٧ : ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٥.

٣٠٦

يريه كمال حلم ولده ، فأمره في المنام بذبحه.

قصة رؤيا إبراهيم ، وإقدامه بذبح ولده

روي أنّ إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأنّ قائلا يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلمّا أصبح تروّى في ذلك من الصباح إلى الرّواح ، أمن الله هذا الحكم أم من الشيطان ، فمن ثمّ سمّي يوم التروية ، فلمّا أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنّه من الله ، فسمّي يوم عرفة ، ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحره فسمّي يوم النحر (١) .

وفي ( الكافي ) عنهما عليهما‌السلام : « لمّا كان يوم التروية قال جبرئيل لابراهيم : تروّ من الماء ، فسمّي تروية ، ثمّ أتى منى فأباته بها ، ثمّ غدا إلى عرفات ، فضرب خباءه بنمرة دون عرفة ، وبنى مسجدا بأحجار بيض - إلى أن قال - : عمد به الى عرفات فقال : هذه عرفات ، فاعرف بها مناسكك ، وأعترف بذنبك ، فسمّي عرفات. ثمّ أفاض إلى المزدلفة ، فسمّيت المزدلفة لأنّه ازدلف إليها » (٢) .

وعلى أي تقدير ، فجاء إبراهيم باسماعيل إلى منى ، وهو ابن ثلاث عشر سنة على ما قيل (٣) و﴿قالَ﴾ له تلطّفا وإشفاقا ﴿يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ﴾ ما يوجب عليّ ﴿أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ قربانا لله. وقيل : إنّه رأى أنّه يذبحه (٤)﴿فَانْظُرْ﴾ وتفكّر فيما قلت ﴿ما ذا تَرى﴾ وأيّ شيء هو رأيك ومختارك ؟ وإنّما استكشف رأيه ليعلم أنّه صابر في البلاء ومنقاد لأمر الله أو جزوع آب من التسليم ، وليكون سنة في المشاورة ، أو ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم ؟ فلمّا سمع إسماعيل ذلك من أبيه ﴿قالَ﴾ بلا ريث وتأمّل ﴿يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ﴾ به من ذبحي ، وإنّما قال ما تؤمر ولم يقل ما امرت ، للدلالة على أنّ انقياده لا يختصّ بخصوص الذبح الذي امر به ، بل يعمّ لكلّ ما يؤمر به في حقّه ﴿سَتَجِدُنِي﴾ يا أبه ﴿إِنْ شاءَ اللهُ﴾ أن أكون صابرا ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على الذبح ، أو قضاء الله ، ومن المنقادين لأمر الله.

﴿فَلَمَّا أَسْلَما﴾ وانقادا لأمر الله ، عن قتادة : أسلم إبراهيم ابنه ، وإسماعيل نفسه (٥)﴿وَتَلَّهُ﴾ وصرعه إبراهيم ﴿لِلْجَبِينِ﴾ وألقاه على شقّه بحيث وقع جبينه على الأرض لمباشرة الأمر بصبر وجلد ﴿وَنادَيْناهُ﴾ من جانب الجبل ، أو من ميسرة مسجد الخيف ﴿أَنْ يا إِبْراهِيمُ﴾ كفّ عن ذبح ولدك ، فانّك ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ وعملت بما رأيت في المنام من العزم على الذبح ، وإتيان مقدّماته التي كانت تحت يدك وقدرتك. قيل : إنّه تعالى أمرّ السّكّين بقوّته على منحره فلم يقطع ، ثمّ وضع السّكّين على قفاه فانقلب السكّين (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٥٣ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٢٩٨ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٠ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٣.

(٢) الكافي ٤ : ٢٠٧ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٧.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٧٠٦ ، تفسير الرازي ٢٦ : ١٥٢.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ١٥٣.

(٥) تفسير الرازي ٢٦ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٤.

(٦) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٥.

٣٠٧

قيل : إنّ جواب ( لمّا ) محذوف ، والتقدير لمّا فعل ذلك وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ، سعد سعادة عظيمة ، وآتاه الله نبوّة ولده ، وأجزل له الثواب (١) .

وقيل : إنّ التقدير كان ما كان ممّا لا يحيط (٢) به نطاق البيان من استبشارهما وشكرهما الله على ما أنعم عليهما من رفع البلاء بعد حلوله ، والتوفيق لما لم يوفقّ أحد لمثله ، وإظهار فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثواب العظيم (٣)﴿إِنَّا﴾ كما جزينا إبراهيم وابنه بإحسانهما وطاعتهما ﴿كَذلِكَ نَجْزِي﴾ جميع ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ بالاحسان والطاعة ، أو إنّا كما فرّجنا عنهما الكربة بإحسانهما ، كذلك نجزي غيرهما من المحسنين ﴿إِنَّ هذا﴾ البلاء الذي ابتلينا به إبراهيم وابنه والله ﴿لَهُوَ الْبَلاءُ﴾ والابتلاء ﴿الْمُبِينُ﴾ والمظهر للمخلص من غيره ، أو إنّ ما فعلنا لهو المحنة البيّنة الصعوبة ، إذ لا شيء أصعب منها ، ونجّينا إسماعيل من الذبح ﴿وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ الجثّة أو عظيم القدر.

قيل : إنّ عظمة قدر هذا الفداء ، لكونه فداء إسماعيل النبي وخاتم الأنبياء الذي كان في صلبه(٤).

عن ابن عباس : أنّه الكبش الذي قرّبه هابيل فتقبّل منه ، وكان يرعى في الجنّة حتى فدى به إسماعيل (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام في رواية : « فلمّا كان في الليل أتى إبراهيم آت من ربّه ، فأراه في الرؤيا ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكّة ، فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها ، فلمّا حضر موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر وإسماعيل في ذي الحجّة من أرض الشام ، فانطلق بهما إلى مكّة ليذبحه في الموسم ، فبدأ بقواعد البيت الحرام ، فلمّا رفع قواعده خرج إلى منى حاجّا ، وقضى نسكه بمنى ، ثمّ رجع إلى مكّة ، فطاف بالبيت اسبوعا ، ثمّ انطلقا فلمّا صارا في السعي (٦) ، قال إبراهيم لاسماعيل : يا بني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك في الموسم عامي هذا ، فما ترى ؟ قال : يا أبت افعل ما تؤمر. فلمّا فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى ، وذلك يوم النحر ، فلمّا انتهى إلى الجمرة الوسطى ، أضجعه لجبينه الأيسر وأخذ الشّفرة ليذبحه ، نودي : ﴿أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ إلى آخره ، وفدي إسماعيل بكبش عظيم ، فذبحه وتصدّق بلحمه على المساكين » (٧) .

وفي رواية عنهما عليهما‌السلام : « ثمّ قام على المشعر الحرام ، فأمره الله أن يذبح ابنه ، وقد رأى شمائله وخلائقه ، وآنس ما كان إليه ، فلمّا أصبح أفاض من المشعر إلى منى ، فقال لامّه : زوري البيت أنت.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ : ١٥٧ وفي النسخة : واجزاله الثواب.

(٢) في النسخة : يطاق.

(٣) تفسير وروح البيان ٧ : ٤٧٦.

(٤) تفسير وروح البيان ٧ : ٤٧٦.

(٥) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٧.

(٦) في مجمع البيان : المسعى.

(٧) مجمع البيان ٨ : ٧١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٦.

٣٠٨

واحتبس الغلام ، فقال : يا بني هات الحمار والسكّين حتى اقرّب القربان ، فانّ ربّك أين هو يا بني أنت والله هو ، إنّ الله تعالى قد أمرني بذبحك ، فانظر ما ذا ترى ؟ ﴿قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فلمّا عزم على الذبح قال : يا أبه خمّر (١) وجهي وشدّ وثاقي. قال : يا بني الوثاق مع الذبح ! والله لا أجمعهما عليك اليوم ».

إلى أن قال الباقر عليه‌السلام : « فأضجعه عند الجمرة الوسطى ، ثمّ أخذ المدية فوضعها على حلقه ، ثمّ رفع رأسه الى السماء ، ثمّ انتحى (٢) عليه بالمدية فقلبها جبرئيل عن حلقه ، فنظر إبراهيم فاذا هي مقلوبة ، فقلبها إبراهيم على حدّها ، وقلبها جبرئيل على قفاها ، ففعل ذلك مرارا ، ثمّ نودي من ميسرة مسجد الخيف : ﴿يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا﴾ واجتّر الغلام من تحته ، وتناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير (٣) فوضعه تحته» (٤) .

وفي رواية القمّي : « ونزل الكبش على الجبل الذي عن يمين مسجد منى ، نزل من السماء ، وكان يأكل في سواد ، ويمشي في سواد ، أقرن » . قيل : ما كان لونه ؟ قال : « أملح ، أغبر » (٥) .

وفي رواية عن الرضا عليه‌السلام : « فلمّا عزم على ذبحه ، فداه الله بذبح عظيم ؛ بكبش أملح ، يأكل في سواد ، ويشرب في سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد ، ويبول ويبعر في سواد ، وكان يرتع (٦) قبل ذلك في رياض الجنّة أربعين عاما ، ما خرج من رحم انثى ، وإنّما قال الله له كن فكان ، ليفتدى به إسماعيل ، فكلّما يذبح بمنى فهو فدية لاسماعيل إلى يوم القيامة.

إلى أن قال : والعلّة التي لأجلها دفع الله عزوجل الذبح عن إسماعيل هي العلّة التي من أجلها دفع الله الذبح عن عبد الله ، وهي كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة في صلبهما ، فببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة دفع الله الذبح عنهما ، فلم تجر [ السنّة ] في الناس بقتل أولادهم ، ولو لا ذلك لوجب على الناس كلّ أضحى التقرّب إلى الله تعالى ذكره بقتل أولادهم ، وكلّ ما يتقرّب به الناس من اضحيّة فهو فداء لإسماعيل إلى يوم القيامة » (٧) .

وعنه عليه‌السلام : « لو خلق الله مضغة أطيب من الضأن ، لفدى بها إسماعيل عليه‌السلام» (٨) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، قال : « لمّا أمر الله إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه ،

__________________

(١) في النسخة : غمّر.

(٢) انتحى : أي اعتمد ومال.

(٣) ثبير : هو أعلى جبال مكة وأعظمها.

(٤) الكافي ٤ : ٢٠٧ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٧.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٢٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٩.

(٦) في النسخة : يربع.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٠ و٢١٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٩.

(٨) الكافي ٦ : ٣١٠ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٠.

٣٠٩

تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده ، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده ، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فأوحى الله عزوجل إليه : يا إبراهيم ، من أحبّ خلقي إليك ؟ قال : يا ربّ ، ما خلقت خلقا أحبّ إلي من حبيبك محمد. فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ، هو أحبّ إليك أم نفسك ؟ قال : بل هو أحبّ إليّ من نفسي. قال : فولده أحبّ إليك أم ولدك ؟ قال : بل ولده. قال : فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك ، أو ذبح بيدك في طاعتي ؟ قال : يا رب ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال : يا إبراهيم ، إنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدوانا ، كما يذبح الكبش ، ويستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم لذلك ، فتوجّع قلبه ، وأقبل يبكي ، فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم ، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ » (١).

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تشريفه لإبراهيم بقوله ، ﴿وَتَرَكْنا﴾ وأبقينا ﴿عَلَيْهِ فِي﴾ الامم ﴿الْآخِرِينَ﴾ حسن الذّكر والثّناء الجميل إلى يوم القيامة ، أو التحية له بقولهم : ﴿سَلامٌ﴾ من الله ، أو من الملائكة والثقلين ﴿عَلى إِبْراهِيمَ﴾ كما أبقينا على نوح هذه التحية ﴿كَذلِكَ﴾ الجزاء الجزيل ، ومثل هذا الأجر الجميل ﴿نَجْزِي﴾ جميع ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين منهم إبراهيم حيث ﴿إِنَّهُ مِنْ﴾ جملة ﴿عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأوليائنا المخلصين ، لا من عباد الدنيا وأتباع النفس والهوى.

﴿وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ

 وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ *

 وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ *

 وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنا

 عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي

 الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) و (١٢٢)

ثمّ بيّن سبحانه زيادة تفضّله وإنعامه على إبراهيم بقوله : ﴿وَبَشَّرْناهُ﴾ مع غاية كبره وعقم زوجته سارة ويأسها من الولد ﴿بِإِسْحاقَ﴾ وجعلنا ذلك الولد ﴿نَبِيًّا﴾ صالحا ﴿مِنَ﴾ جملة الأنبياء

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٩ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٧٩.

٣١٠

﴿الصَّالِحِينَ﴾ وفي وصفه بالصلاح بعد النبوة غاية تعظيم لشأنه ، ودلالة على كونه أعلى مراتب كمال الانسانية ﴿وَبارَكْنا﴾ على إبراهيم وأنعمنا ﴿عَلَيْهِ﴾ بكثرة الأولاد ﴿وَ﴾ كذا ﴿عَلى﴾ ابنه ﴿إِسْحاقَ﴾ حيث أخرجنا من صلبه بني إسرائيل ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما﴾ ونسلهما ﴿مُحْسِنٌ﴾ كأنبياء بني إسرائيل الذين منهم موسى وعيسى وغيرهما من الرسل ، ﴿وَ﴾ منهم ﴿ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ باختيار الكفر وارتكاب المعاصي ﴿مُبِينٌ﴾ وظاهر ظلمه. وفيه ردّ على اليهود حيث افتخروا بكونهم من ولد إسحاق ويعقوب ، ودلالة على أنّ النسب لا أثر له في الصلاح والفساد والطاعة والعصيان. وفي الحديث : « يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم » (١).

ثمّ بيّن سبحانه تفضّله على موسى وأخيه هارون بقوله : ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا﴾ وأنعمنا ﴿عَلى مُوسى وَ﴾ أخيه ﴿هارُونَ﴾ بنعمة النبوة والرسالة وغيرهما من النّعم الدينية والدنيوية ﴿وَنَجَّيْناهُما﴾ برحمتنا ﴿وَ﴾ نجّينا ببركتهما وبتبعهما ﴿قَوْمَهُما﴾ بني إسرائيل ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ والغمّ الشديد الذي كان لهم من تعذيب فرعون وقومه ﴿وَنَصَرْناهُمْ﴾ على أعدائهم ﴿فَكانُوا﴾ بنصرتنا ﴿هُمُ الْغالِبِينَ﴾ على عدوّهم بعد أن كانوا مغلوبين ومقهورين ، وأنزلنا على موسى وهارون ﴿وَآتَيْناهُمَا﴾ بعد نجاتهما وقومهما وإهلاك عدوّهما ﴿الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ والتوراة الواضح لجميع ما يحتاج إليه الناس من المعارف والأحكام والأخلاق وغيرها ﴿وَهَدَيْناهُمَا﴾ بالوحي وإيتاء الكتاب ﴿الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ودللناهما على الطريق الواضح إلى قربنا وخير الدنيا والآخرة وجنات النعيم ﴿وَتَرَكْنا﴾ وأبقينا ﴿عَلَيْهِما﴾ حسن الذّكر والثناء ﴿فِي﴾ الامم ﴿الْآخِرِينَ﴾ وهم امّة خاتم النبيين ﴿سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ﴾ وهو كلام الله كما في نظائره ﴿إِنَّا﴾ كما جزيناهما النّعم العظام ﴿كَذلِكَ نَجْزِي﴾ جميع ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ بإحسانهم ﴿إِنَّهُما مِنْ﴾ جملة ﴿عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾.

﴿وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ

 أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٣) و (١٢٥)

في بيان دعوة إلياس وغيبته

ثمّ ذكر سبحانه رسالة إلياس وكيفية دعوة قومه بقوله : ﴿وَإِنَّ إِلْياسَ﴾ بن ياسين من سبط هارون على ما قيل (٢)﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ من جانب الله إلى قومه.

وقيل : إنّه إدريس النبي (٣) ، وعلى أيّ تقدير : اذكر يا محمد ﴿إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ نصحا وإنكارا عليهم الشّرك : يا قوم ﴿أَ لا تَتَّقُونَ﴾ الله وعذابه على الشّرك والعصيان.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٧٩.

(٢و٣) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨١.

٣١١

روي أنّه بعث بعد موسى يوشع بن نون ، ثمّ كالب بن يوقنا ، ثمّ حزقيل ، فلمّا قبض حزقيل عظمت الأحداث في بني إسرائيل ، ونسوا عهد الله ، وعبدوا الأصنام والأوثان ، وكانت الأنبياء يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة ، وبنو إسرائيل كانوا متفرّقين بأرض الشام ، وكان سبط منهم حلّوا ببعلبك ونواحيها من أرض الشام ، وهم السبط الذين كان منهم إلياس ، فلمّا أشركوا وعبدوا الصنم وتركوا العمل بالتوراة ، بعث الله إليهم إلياس نبيا (١) . فدعاهم إلى التوحيد ، وقال لهم : ويلكم ﴿أَتَدْعُونَ﴾ وتعبدون الجماد الذي سمّيتموه ﴿بَعْلاً﴾ مع أنّه لم يخلق ذبابا ﴿وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ﴾ وتتركون عبادته ، مع أنّه خلق السماوات والأرض وغيرهما بقدرته ؟!

قيل : إنّ بعلا كان اسم صنم لأهل بلدة بك من بلاد الشام ، وهو اليوم معروف ببعلبك ، وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه ، وفي عينيه يا قوتتان كبيرتان ، فتنوا به وعظّموه حتى أخدموه أربعمائة سادن ، وجعلوهم أنبياء ، فكان الشيطان يدخل جوفه ، ويتكلّم بشريعة الضلالة ، والسّدنة يحفظونها ، ويعلّمونها الناس (٢) .

نقل كلام الفخر وردّه

قال الفخر الرازي : هذا مشكل ، لقدحه في كثير من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كتكلّم الذئب والجمل معه (٣) .

وفيه : أنّ المعجزة دليل الصدق في مورد إمكانه كنبوة نبينا ، لا في مورد امتناع الصدق ، فمن ادّعى النبوة ، ودعا الناس إلى عبادة غير الله ، هو كاذب ولو أتى بألف معجزة.

﴿اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاَّ عِبادَ اللهِ

 الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ * إِنَّا كَذلِكَ

 نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٦) و (١٣٢)

ثمّ صرّح الناس بالتوحيد ونفي الشرك ، حيث فسّر أحسن الخالقين بقوله : ﴿اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ الذين كانوا قبل صنعكم هذا الصنم ، فاذا لم يكن البعل ربّ آبائكم لا يكون ربّكم ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ مع إتمامه الحجّة عليهم عنادا ولجاجا ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ بتكذيب رسولهم ومعارضتهم للحقّ ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ ويدخلون في النار يوم القيامة ، ولا ينجو من اولئك القوم ﴿إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ والموحّدين الذين أخلصهم الله لنفسه ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٢.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨١.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦١.

٣١٢

﴿سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ﴾. قيل : إنّ إلياس وإلياسين واحد ، كما أنّ سيناء وسينين واحد (١) . وقيل : إنّ ياسين اسم والد إلياس ، وآله هو إلياس (٢) . وقيل : إنّه جمع اريد به إلياس وأتباعه المؤمنين به ، كما يقال المهلّبيون (٣) .

وقال كثير من مفسّري العامة : إنّ ( يس ) اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد من آل يس آله كما عن ابن عباس (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إنّ الله سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الاسم ، حيث قال : ﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ لعلمه أنّهم يسقطون السّلام على آل محمد كما أسقطوا غيره » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام - في هذه الآية - قال : « يس محمد ، ونحن آل يس » (٦) .

أقول : على هذا الشكل ارتباط الآية بما قبلها وما بعدها من قوله : ﴿إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾.

روى بعض العامة أن إلياس دعا على قومه فقحطوا ثلاث سنين ، فلم يرتدعوا عن الشرك ، فلمّا رأى إلياس منهم ذلك دعا الله أن يريحه منهم ، فقيل له : اخرج يوم كذا إلى موضع كذا ، فما جاءك من شيء فاركبه. فخرج إلياس في ذلك اليوم مع خادمه اليسع ، فوصل الموضع الذي أمر ، فاستقبله فرس من النار ، فركب عليه ، فانطلق الفرس به إلى جانب السماء ، فناداه اليسع ، ما تأمرني ، فألقى كساءه إليه من الجوّ فرفع الله إلياس ، وقطع عنه لذّة المطعم والمشرب ، وكساه الريش (٧) .

وقيل : إنّه في الأرض غائب عن الانظار كالخضر ، وهما آخر من يموت من بني آدم ، وإلياس موكّل بالصحارى ، والخضر موكّل بالبحار (٨) .

﴿وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي

 الْغابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ

 أَ فَلا تَعْقِلُونَ (١٣٣) و (١٣٨)

قصة لوط عليه‌السلام

ثمّ ذكر سبحانه لطفه بلوط ، وغضبه على أعدائه وقومه بقوله : ﴿وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى أهل سدوم ، واذكر يا محمد ﴿إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ﴾ وعياله

__________________

(١) تفسير الصافي ٤ : ٢٨٢ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٢.

(٢) تفسير الصافي ٤ : ٢٨٢ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٢ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٤.

(٤) جوامع الجامع : ٤٠١.  (٥) الاحتجاج : ٢٥٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٢.

(٦) معاني الأخبار : ١٢٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨١.

(٧) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٣.

(٨) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٣.

٣١٣

﴿أَجْمَعِينَ﴾ من العذاب ﴿إِلَّا﴾ امرأة ﴿عَجُوزاً﴾ مسنّة ، قدّرنا أن تكون ﴿فِي الْغابِرِينَ﴾ والباقين في العذاب والهلاك ، أو في الماضين والهالكين ﴿ثُمَ﴾ بعد انجائهم ﴿دَمَّرْنَا﴾ وأهلكنا بالعذاب ﴿الْآخَرِينَ﴾ من قومه بكفرهم وطغيانهم ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ يا أهل مكّة والله ﴿لَتَمُرُّونَ﴾ في أسفاركم إلى الشام ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وعلى ديارهم المخروبة ومنازلهم المنهدمة حال كونهم ﴿مُصْبِحِينَ وَ﴾ متلبّسين ﴿بِاللَّيْلِ﴾ قيل : إنّ المراد تعميم الأوقات يعني ليلا ونهار (١)﴿أَ﴾ تشاهدون ذلك ﴿فَلا تَعْقِلُونَ﴾ ولا تدركون أنّهم كانوا مثكلم في الكفر والعصيان ؟ فتخافوا أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وأن يصيبكم مثل ما أصابكم من العذاب.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم القرآن تقرأون ما قصّ الله عليكم من خبرهم » (٢).

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ

 الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ *

 لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ

 شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ

 إِلى حِينٍ (١٣٩) و (١٤٨)

قصة يونس بن متى عليه‌السلام

ثمّ ذكر سبحانه قصة يونس بن متى بقوله : ﴿وَإِنَّ يُونُسَ﴾ بن متّى ، الملقب بذي النون من أولاد هود على ما قيل (٣)﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ من الله إلى بقية قوم ثمود بنينوى من بلاد الموصل على ما قيل (٤) ، وعن ابن عباس : أنّه كان يسكن فلسطين (٥) . واذكر يا محمد ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ وهرب يونس من قومه خجلا أو خوفا من أن يظنّوه كاذبا في وعيده بإهلاكهم بلا انتظار الوحي إلى ناحية البحر ، فانتهى ﴿إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ والمملوء من الناس والمتاع.

روي أنّه لما دخل السفينة وتوسّط البحر ، واحتبست من الجري ووقفت ، فقال الملاحون : هنا عبد آبق من سيده ، وهذا رسم السفينة إذا كان آبق لا تجري (٦).

وقيل : إنّهم قالوا : إنّ فيكم عاصيا ، وإلّا لم يحصل ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر ، وقال التجّار :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٥.

(٢) الكافي ٨ : ٢٤٩ / ٣٤٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٢.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٤.

(٦) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

٣١٤

قد جرّبنا مثل هذا ، فاذا رأينا ذلك نقرع ، فمن خرج اسمه نرميه في البحر ، لأنّ غرق الواحد خير من غرق الكلّ (١) .

﴿فَساهَمَ﴾ وأقرع أهل السفينة ، أو يونس مع أهل الفلك ثلاث مرات ﴿فَكانَ﴾ يونس ﴿مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ والمغلوبين بالقرعة ، فقال يونس : أنا العبد الآبق ، وأنا والله العاصي ، فتلفّف في كسائه ، وقام على رأس السفينة ، فرمى بنفسه في البحر (٢) . ﴿فَالْتَقَمَهُ﴾ وابتلعه ﴿الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ نفسه على خروجه من بين قومه بلا إذن من الله تعالى.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إنّه لمّا ركب مع القوم ، فوقفت في اللّجّة ، واستهموا فوقع السّهم على يونس ثلاث مرات ، فمضى يونس إلى صدر السفينة ، فاذا الحوت فاتح فاه ، فرمى بنفسه » (٣) .

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : « فلمّا توسطوا البحر ، بعث الله حوتا عظيما ، فحبس عليهم السفينة ، فنظر إليه يونس ، ففزع منه ، وصار إلى مؤخرّ السفينة ، فدار إليه الحوت ، ففتح فاه ، فخرج أهل السفينة فقالوا : فينا عاص ، فتساهموا فخرج سهم يونس ، وهو قول الله تعالى : ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ فأخرجوه ، وألقوه في البحر ، فالتقمه الحوت ، ومرّ به في الماء » (٤) .

روي أنّ الله تعالى أوحى إلى السمكة : أنّي لم أجعله لك رزقا ، ولكن جعلت بطنك له وعاء ، فلا تكسري منه عظما ، ولا تقطعي منه وصلا (٥) .

قيل : فسفل به إلى قرار الأرضين حتى سمع تسبيح الحصى (٦) ، فمكث في بطنه أربعين ليلة (٧) . وقيل : شهرا ، وقيل : عشرين يوما. وقيل : سبعة أيام. وقيل : ثلاثة أيام (٨) . وكان يسبّح الله بقوله : ﴿لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

﴿فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ والذاكرين الله كثيرا بالتسبيح ، أو من القائمين بحقوق الله قبل البلاء ﴿لَلَبِثَ﴾ ومكث حيا أو ميتا ﴿فِي﴾ جوف الحوت و﴿بَطْنِهِ﴾ من حين دخوله فيه ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ من القبور للحساب وجزاء الأعمال ، أما ببقائهما حيّين أو ميتين فيكون بطن الحوت قبر يونس ، ولكن لم يلبث لكونه من المسبّحين ، وفيه الحثّ على ذكر الله بالتسبيح والتهليل.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٤ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥١ / ١٧٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٣.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣١٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٣.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

(٦) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

(٧) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٧.

(٨) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٥.

٣١٥

روي عن ابن عباس أنّ السمكة أخرجته إلى نيل مصر ، ثمّ إلى بحر فارس ، ثمّ إلى بحر البطائح ، ثمّ إلى دجلة (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ الحوت قد طاف به في أقطار الأرض والبحار،ومرّ بقارون »(٢).

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يسبّح يونس في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : ربّنا إنّا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ؟ فقال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك [ منه ] في كلّ يوم وليلة عمل صالح ؟ فقال : نعم ، فشفعوا له ، فأمر الحوت فقدّمه في الساحل ، فذلك قوله تبارك وتعالى : ﴿فَنَبَذْناهُ﴾ » (٣). وألقيناه ﴿بِالْعَراءِ﴾ والمكان الخالي من الشجر والنبات ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ وعليل لضعف بدنه ، حيث إنّه صار كالفرخ المنتوف لا لحم له ولا شعر. قيل : سقيم بمعنى سليب (٤) . قيل : ألقاه الحوت بأرض نصيبين(٥) ﴿وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ وقرع لتظلّه من الشمس ، وتمنع بدنه من الذّباب ، فانّه على ما قيل لا يقع عليه الذّباب (٦) . و كان يأكل من ثمرها حتى تشدّد.

روي أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك تحب القرع ؟ قال : « بلى ، هي شجرة أخي يونس » (٧).

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام - إلى أن قال - : فاخرجه الحوت وألقاه بالساحل ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين - وهو القرع - فكان يمصّه ويستظلّ به وبورقه ، وكان تساقط شعره ، ورقّ جلده » (٨) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فأمر الحوت أن يلفظه على ساحل البحر ، وقد ذهب جلده ولحمه ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين - وهي الدّبّاء - فأظلّته من الشمس فسكن ، ثمّ أمر الله الشجرة فتنحّت عنه ، ووقعت الشمس عليه فجزع ، فأوحى الله إليه : يا يونس ، لم ترحم مائة ألف أو يزيدون ، وأنت تجزع من ألم ساعة ! قال : ربّ عفوك عفوك ، فرّد الله عليه بدنه » (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - : « فلمّا قوي وأشتدّ بعث الله دودة فأكلت أسفل القرع ، فذبلت القرعة ، ثمّ يبست ، فشقّ ذلك على يونس ، فظلّ حزينا ، ثمّ أوحى الله إليه مالك حزينا يا يونس ؟ قال : يا ربّ هذه الشجرة التي كانت تنفعني ، فسلّطت عليها دودة فيبست. قال : يا يونس ، أحزنت لشجرة لم

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ٤ : ٤٣٥.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٥ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٦.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٨.

(٦) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٠٢ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٩.

(٧) تفسير البيضاوي ٢ : ٣٠٢ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٩.

(٨) تفسير القمي ١ : ٣١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٤.

(٩) تفسير القمي ١ : ٣١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٤.

٣١٦

تزرعها ، ولم تسقها ، ولم تعن (١) بها أن يبست حين استغنيت عنها ، ولم تحزن لأهل نينوى ، أكثر من مائة ألف أردت أن ينزل عليهم العذاب » (٢) .

وقيل : إنّ اليقطين كلّ شجرة لا تقوم على ساق ، وتمتدّ على وجه الأرض كالدّبّاء والحنظل والبطّيخ (٣) وقيل : إنّه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع. فقال : ومن جعل القرع بين الشجر يقطينا ؟ كلّ ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين (٤) .

وقال : أنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فكان يستظلّ بها ، ويأكل من ثمرها حتى تشدّد ، ثمّ إنّ الأرضة أكلتها ، فخرّت من أصلها ، فحزن يونس لذلك حزنا شديدا ، فقال : يا ربّ كنت استظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس والريح ، وامصّ من ثمرها ، وقد سقطت ؟ فقيل له : يا يونس ، تحزن على شجرة أنبتت في ساعة ، وقلعت في ساعة ، ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم ، فانطلق إليهم(٥).

وفي الرواية الباقرية عليه‌السلام : « قال الله تعالى : إنّ أهل نينوى آمنوا واتّقوا ، فارجع إليهم » (٦) . كما قال سبحانه : ﴿وَأَرْسَلْناهُ﴾ ثانيا إلى قومه الذين خرج من بينهم ، وكان عددهم بالغا ﴿إِلى مِائَةِ أَلْفٍ﴾ نفس ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ على مائة ألف بثلاثين ألف ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٧) ، أو بعشرين ألف في نظر الرائي وتقديره (٨) .

قيل : إنّ المراد إرساله فيهم قبل التقامه الحوت حيث إنّه أخبر أولا بأنّه من المرسلين ، والواو لمطلق الجمع (٩) ، وذكره بعد قصة هربه وما بعده ، للدلالة على مقدار من أرسل إليهم عددا. وقيل : إنّه لم يكن قبل التقامه الحوت نبيا ، وكانت رسالته بعده (١٠) .

عن ابن عباس ، قال : إنّه كان يسكن مع قومه فلسطين ، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا ، وبقي سبطان ونصف ، وكان الله أوحى إلى بني إسرائيل : إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة ، فادعوني استجب لكم. فلمّا نسوا ذلك واسروا ، أوحى تعالى بعد حين إلى نبيّ من أنبيائهم : أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتّى يبعث إلى بني إسرائيل نبيا. فاختار يونس [ لقوّته ] وأمانته. قال يونس : الله أمرك بهذا ؟ قال : لا ، ولكن امرت أن أبعث قويا أمينا وأنت كذلك. فقال

__________________

(١) في تفسير القمي : تعي.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣١٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٦ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٦.

(٤) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٦.

(٥) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٥.

(٦) تفسير القمي ١ : ٣٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٥.

(٧) تفسير الصافي ٤ : ٢٨٤.

(٨) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٩.

(٩) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٦.

(١٠) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٣.

٣١٧

يونس : وفي بني إسرائيل من هو أقوى منّي ، فلم لا تبعثه ؟ فألحّ الملك عليه ، فغضب يونس منه ، وخرج حتّى أتى بحر الروم ، ووجد سفينة مشحونة (١) . وذكر قصة الحوت ، قال : كانت رسالته بعد ما نبذه الحوت (٢) .

أقول : هذا مخالف لرواياتنا.

روي أنّ يونس خرج من العراء ومرّ بجانب نينوى ، فرآى هناك غلاما يرعى ، فقال له : من أنت يا غلام ؟ فقال : من قوم يونس. قال : فاذا رجعت إليهم فاقرأ عليهم منّي السّلام ، وأخبرهم أنّك لقيت يونس ورأيته. فقال الغلام : إن تكن يونس [ فقد ] تعلم أنّ من يحدّث ولم تكن له بينة قتلوه ، وكان في شريعتهم أن من كذّب قتل ، فمن يشهد لي ؟ فقال له يونس : تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة. فقال الغلام ليونس : مرهما بذلك ؟ فقال : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له. قالتا : نعم. فرجع الغلام إلى قومه ، فأتى الملك ، فقال : إني لقيت يونس ، وهو يقرأ عليكم السّلام ، فأمر الملك أن يقتل. فقال : إنّ لي بينة. فأرسل معه جماعة ، فانتهوا إلى الشجرة والبقعة. فقال لهما الغلام : أنشدكما الله عزوجل هل أشهدكما يونس ؟ قالتا : نعم. فرجع القوم مذعورين ، فأتو الملك فحدّثوه بما رأوا ، فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في منزله ، وقال له : أنت أحقّ مني بهذا المقام والملك ؟ فأقام بهم الغلام أربعين سنة (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - « فانطلق يونس إلى قومه ، فلمّا دنا من نينوى ، استحيى أن يدخل ، فقال لراع لقيه : إئت أهل نينوا فقل لهم : إنّ هذا يونس قد جاء. فقال الراعي : أتكذب ، أما تستحي ويونس قد غرق في البحر وذهب ؟ قال يونس : اللهمّ إنّ هذه الشاة تشهد لك أنّي يونس. وانطقت الشاة له بأنّه يونس ، فلما أتى الراعي وأخبرهم أخذوه وهمّوا بضربه. فقال : إنّ لي بينة أقول. قالوا : فمن يشهد لك ؟ قال : هذه الشاة تشهد. فشهدت بأنّه صادق وأن يونس قد ردّه الله إليكم. فخرجوا يطلبونه ، فوجدوه فجاءوا به ﴿فَآمَنُوا﴾ بيونس بعد رجوعه إليهم وحسن إيمانهم »كما عن الباقر عليه‌السلام (٤) .

وروى بعض العامة أنّ قومه آمنوا فسألوه أن يرجع إليهم فابى يونس ، لأنّ النبي إذا هاجر لم يرجع إليهم مقيما فيهم (٥) .

وقيل : إنّ المراد فآمنوا بالله بعد مشاهدتهم آثار نزول العذاب (٦) ، وتابوا من الشرك والعصيان ﴿فَمَتَّعْناهُمْ﴾ ونفعناهم بالحياة الدنيا ونعمها ﴿إِلى حِينٍ﴾ قدّرناه لهم ، والوقت الذي جعلناه أجلا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٤.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٦.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٩.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٨٥.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٤٩٠.

(٦) تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٨٩.

٣١٨

لكلّ واحد منهم ، وإنّما أخّر سبحانه قصة يونس ، لأنّ في قصص سائر الأنبياء ترغيب إلى الصبر وتحمّل الأذى ، وفي قصته تهديد على قلّة الصبر ، والترغيب مقدّم على الترهيب ، كذا قيل (١) .

﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ

 شاهِدُونَ (١٤٩) و (١٥٠)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه أدلة التوحيد والمعاد ، ووصف ذاته المقدسة بنعوت الكمال وغاية العظمة والجلال والتفرّد بالخلق والربوبية ، وبّخ قريشا وبني مليح وجهينة وخزاعة وبني سلمة القائلين بأنّ الملائكة بنات الله بقوله : ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ يا محمّد واستطلع رأيهم على سبيل التوبيخ والتجهيل ﴿أَ لِرَبِّكَ﴾ الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات ﴿الْبَناتُ﴾ من الأولاد مع استنكافهم منهنّ بحيث يقتلونهنّ إذا ولدن لهم أو يدفنونهن أحياء ﴿وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ الذين هم أرفع الأولاد بحيث يفتخرون بهم ؟ ! لا يمكن ذلك أبدا ، فانّ الخالق لا يختار لنفسه الأحسن ، ولمخلوقاته الأرفع.

قيل : إنّهم قالوا : إنّ الله تعالى تزوّج من الجنّ ، فخرجت منها الملائكة ، فهم بنات الله ، لذا سترن من العيون (٢) .

ثمّ بالغ سبحانه في توبيخهم وتبكيتهم بقوله : ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ﴾ الذين هم أشرف الموجودات وأبعدهم من الصفات الجسمانية والرذائل الطبيعية ﴿إِناثاً﴾ مع أنّ الانوثة من خسائس صفات البشرية ﴿وَهُمْ شاهِدُونَ﴾ أنوثتهم ، فانّ الحكم بانوثة حيوان لا يمكن إلّا بالمشاهده ، لعدم الطريق للعقل إلى درك الامور الجزئية ، وعدم نقل ممّن شاهد الملائكة كالأنبياء والرسل ، مع أنّهم ينكرون رسالة البشر.

﴿أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى

 الْبَنِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَ فَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ

 * فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥١) و (١٥٧)

ثمّ أنّ الأقبح من إسناد الانوثة إلى الملائكة إسناد الولادة إلى الله الخالق لجميع الموجودات الغنيّ عن الكائنات ، ولذا أعلن في العالم بغاية جهالتهم بقوله : ﴿أَلا﴾ تنبهّوا أيّها العقلاء ﴿إِنَّهُمْ مِنْ﴾ أجل

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٦٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٩١.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٤٩١.

٣١٩

﴿إِفْكِهِمْ﴾ وتوغّلهم في الباطل ، وحرصهم على أسوأ الكذب وأقبح الافتراء ﴿لَيَقُولُونَ﴾ ما تشهد العقول على بطلانه وفساده ، وهو قولهم : إنّه ﴿وَلَدَ اللهُ﴾ الملائكة ﴿وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ في قولهم كذبا لا يشكّ فيه ذو مسكة ، لوضوح أنّ الولادة من خصائص الجسمانيات ، والله خالق جميع الأجسام وغيرها من الموجودات ، مع أنّ طلب الولد من لوازم الحاجة ، والله تعالى هو الغنيّ المطلق له ما في السماوات والأرض.

ثمّ على فرض المحال إمكان الولادة منه تعالى ﴿أَصْطَفَى﴾ وهل اختار لنفسه ﴿الْبَناتِ﴾ التي هي أحسن الأولاد ﴿عَلَى الْبَنِينَ﴾ الذين هم أكمل الأولاد ، مع أنّه تعالى أكمل الموجودات ، ولا يمكن للأكمل أن يختار لنفسه إلّا الأكمل ﴿ما لَكُمْ﴾ أيّها الجهّال ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ على الله القادر على كلّ شيء الغنيّ عن كلّ شيء بهذا الحكم الذي تحكم ببطلانه بديهة العقل ، ويتنفر منه جميع العقلاء ؟ ﴿أَ﴾ تقولون ذلك القول ﴿فَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ولا تفهمون شناعته ، ولا تتنبّهون بنهاية قباحته ؟ ! أتدّعون انوثة الملائكة بهوى أنفسكم ، أو بتقليد آبائكم وكبرائكم  ﴿أَمْ لَكُمْ﴾ على هذه الدعوى ﴿سُلْطانٌ مُبِينٌ﴾ وحجّة واضحة ، ودليل قاطع من أخبار نبيّ أو كتاب منزل عليكم من السماء ، فيه بيان صفات الملائكة ؟ ! فان نزل عليكم كتاب ﴿فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ﴾ الناطق بصحّة دعواكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تدّعون من كون الملائكة إناثا ، وفي نزول الكتاب إليكم.

﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحانَ

 اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٥٨) و (١٦٠)

ثمّ أنّ جمعا من الزنادقة (١) كانوا قائلين على ما قيل بأنّ الشيطان أخ الله ، فالله تعالى خالق الخير ، والشيطان خالق الشر (٢) . فوبّخهم الله سبحانه على هذا القول بقوله : ﴿وَجَعَلُوا﴾ بهوى أنفسهم ﴿بَيْنَهُ﴾ تعالى ﴿وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾ والشياطين ﴿نَسَباً﴾ خاصا ، وهو القرابة بالاخوة.

وقيل : إنّ المراد بالجنّة جماعة الجنّ (٣) ، وبالنسب المصاهرة والمزاوجة ، كما مرّ حكايته عن بعض المشركين. قيل : إنّ كفار قريش لمّا قالوا : الملائكة بنات الله. قال أبو بكر : فمن امهاتهم ؟ قالوا : سروات

__________________

(١) وهم المجوس القائلون بيزدان وأهرمن ، كما في تفسير الرازي.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ : ١٦٨ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٢٠٨.

(٣) في النسخة : بالجنة الأجنة ، وما أثبتناه من تفسير روح البيان ، ذلك لأن الأجنة جمع جنين ، اما الجن فهي اسم جنس يدل على الجمع ، وواحده جني. تفسير روح البيان ٧ : ٤٩٢.

٣٢٠