نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على تكذيب قومه بقوله : ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ فلا تبال تكذيبهم ، ولا تحزن عليه ﴿فَقَدْ كَذَّبَ﴾ الامم العاتية الطاغية ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وفي الأعصار السابقة على عصرهم رسلهم ، ثمّ كأنّه قيل : هل كان لهم رسل ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ مستدلّين على صدق رسالتهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات الدالات على صدقهم وصحة نبوّتهم ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ والصّحف السماوية كصحف شيث وإدريس وإبراهيم عليهم‌السلام ﴿وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ الموضح للحقّ المبين ، لما يحتاج إليه من الحكم والأحكام والمواعظ والأمثال والوعد والوعيد ونحوها ، كالتوراة والإنجيل ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ﴾ بعذاب الاستئصال ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأنكروا رسالتهم وكذّبوهم ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ وتعييري عليهم بالعقوبات الشديدة التي صارت عبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة ، وفيه وعيد لمكذّبي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ووعد له بالنّصر والظّفر.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ

 الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ

 وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ (٢٧) و (٢٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية تكذيب الرسل في دعوى التوحيد والرسالة ، شرع في الاستدلال على توحيده بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يابن آدم ، أو يا محمد ، ولم تعلم ﴿أَنَّ اللهَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ بالأمطار.

ثمّ عدل من الغيبة إلى التكلّم إظهارا لكمال الاعتناء ببديع صنعه بقوله : ﴿فَأَخْرَجْنا﴾ من الأرض والأشجار ﴿بِهِ ثَمَراتٍ﴾ كثيرة ﴿مُخْتَلِفاً أَلْوانُها﴾ وأنواعها كالرّمان والتّفاح والتين والعنب وغيرها ، وأصنافها أو هياتها من الصّفرة والحمرة والبياض والسواد وغيرها ﴿وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ﴾ وخطط وطرق ظاهرة. وقيل : يعني ذو جدد ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ كلّ واحدة من البيض والحمر ﴿مُخْتَلِفٌ﴾ أيضا ﴿أَلْوانُها﴾ بالشدّة والضّعف وجدد سود ﴿وَغَرابِيبُ﴾ وبالغات أعلى درجة السواد بحيث لا يمكن الاختلاف فيها.

ثمّ بيّن سبحانه السّود المحذوف الموكّد بالغرابيب بقوله : ﴿سُودٌ﴾ فعلى ما فسرّنا الآية يكون المقصود بيان اختلاف الطرق في اللون كاختلاف الثّمار في اللون ، ويمكن أن يكون المقصود بيان اختلاف نفس الجبال في اللون ، فبعضها تكون ذا جدد بيض وحمر ، وبعضها يكون كلّه أسود ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ﴾ كالفرس والبغل والحمار ﴿وَالْأَنْعامِ﴾ كالإبل والبقر والغنم ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ﴾ بأنّ

٢٤١

منهم أبيض ، ومنهم أحمر ، ومنهم أسود ، ومنهم أصفر ، ومنهم على لون آخر ﴿كَذلِكَ﴾ الاختلاف الكائن في الثّمار والجبال.

﴿إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ

 اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ

 * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٨) و (٣٠)

ثمّ لمّا خصّ سبحانه تأثير الإنذار بالذين يخشون ربّهم بالغيب ، بيّن اختصاص الخشية بالعارفين بالله بقوله : ﴿إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ﴾ بين ﴿عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾ بالله العارفون بشؤونه وعظمته وقهاريته لا غيرهم ، لأنّ الخشية متوقّفة على معرفة المخشيّ منه بالعظمة والمهابة والقدرة والقهارية ، كما بيّن سبحانه علّة وجوب خشيته بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ﴾ وغالب على من عصاه ، وقادر على الانتقام ممنّ عاداه وخالفه ﴿غَفُورٌ﴾ لمن يخشاه ويطيعه ، فمن كان أعلم به تعالى كان أخشى منه كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا أخشاكم من الله ، وأتقاكم له » (١) .

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل : أيّنا أعلم ؟ قال : « أخشاكم من الله » (٢) .

عن السجاد عليه‌السلام ، قال : « ما العلم بالله والعمل إلّا إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال الله : ﴿إِنَّما يَخْشَى اللهَ﴾ » إلى آخره (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « دليل الخشية التعظيم لله والتمسّك بخالص الطاعة وأوامره ، والخوف والحذر ، ودليلهما العلم »(٤) ثمّ تلا هذه الآية.

أقول : ولذا مدح الله العلماء بالعمل بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ﴾ حقّ تلاوته ، ويهتمّون بالعبادات البدنية التي أفضلها الصلاة كما قال تعالى : ﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾ بآدابها وشرائطها ، وبالعبادات المالية كما قال سبحانه : ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ في سبيل الله ﴿مِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ وأعطيناهم من الأموال ﴿سِرًّا﴾ وخفية من الناس ، لإدراك فضيلة الصدقة السرّية ﴿وَعَلانِيَةً﴾ وجهارا لترغيب الناس إليه ، وهم بأعمالهم وعباداتهم ﴿يَرْجُونَ تِجارَةً﴾ ومبايعة مع ربّهم في سوق الدنيا ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ ولن تخسر تلك التجارة أبدا ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ ويعطيهم على أعمالهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾ التي وعدهم بلسان نبيه في

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ١٥١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٣٤٤.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٣٤٤.

(٣) الكافي ٨ : ١٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٧.

(٤) مصباح الشريعة : ٢٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٧.

٢٤٢

كتابه بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ(١)﴿وَيَزِيدَهُمْ﴾ الله على ما يستحقّون ما لم يخطر ببالهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده وخزائن رحمته ، كقبول شفاعتهم في العصاة من أقربائهم وأصدقائهم ومحبّيهم ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿غَفُورٌ﴾ وستّار لفرطاتهم ﴿شَكُورٌ﴾ لطاعاتهم ، ومجازيهم عليها أفضل الجزاء.

﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ

 لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ

 لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ

 الْكَبِيرُ (٣١) و (٣٢)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه تلاوة العلماء كتابه الكريم مدح كتابه بقوله : ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ﴾ بتوسّط جبرئيل ﴿مِنَ الْكِتابِ﴾ الحميد والقرآن المجيد ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿الْحَقُ﴾ الذي يجب الأخذ به ، والعمل بما فيه ، وأدلّ الدليل على حقّانيته وصدقه ، وكونه منزلا من الله ، إنّه يكون ﴿مُصَدِّقاً﴾ وموافقا في العلوم والمعارف وأصول الأحكام والحكم والمواعظ ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والانجيل والزّبور وغيرها ، مع كون من جاء به امّيا لم يقرأ الكتب ، ولم يجالس أحدا من علماء أهل الكتاب ، وإن اعترض المشركون عليك وقالوا : لم أوحي إليك ولم يوح إلى رجل من القريتين عظيم ؟ فقل : ﴿إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ﴾ القابلين للإيحاء إليهم وغير القابلين له ﴿لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ يعلم بواطنهم ومن قوة عقولهم ونورانية طينتهم وقلوبهم ، ويرى ظواهرهم من حسن أخلاقهم وسيرتهم ، فيصطفي لوحيه ورسالته أعقلهم وأفضلهم وأكملهم ، ولا ينظر إلى كثرة جاههم ومالهم وأولادهم وأعوانهم ﴿ثُمَ﴾ بعد إعطائك الكتاب العظيم وإيجابه إليك ﴿أَوْرَثْنَا﴾ وأعطينا ذلك ﴿الْكِتابَ﴾ المنزل إعطاء إرث الوالد لولده ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنا﴾ هم وانتجبناهم ﴿مِنْ عِبادِنا﴾ للإعطاء والإكرام ﴿فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بمخالفته لأحكامه وعصيانه ربّه ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ ومتوسّط في العمل بالكتاب ، لا مجدّ فيه ولا مسامح ومساهل ﴿وَمِنْهُمْ سابِقٌ﴾ ومتقدّم على جميع الناس في العمل ﴿بِالْخَيْراتِ﴾ الأعمال الصالحات ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ وإرادته وتوفيقه ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من إيراث الكتاب والسّبق بالخيرات ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ من الله الكبير ، والإنعام الجزيل من المنعم القدير.

__________________

(١) التوبة : ٩ / ١١١.

٢٤٣

قال المفسرون من العامة : إنّ المراد من المصطفين في الآية جميع الامّة (١) . ورووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لمّا نزلت هذه الآية فرح فرحا شديدا وقال ثلاثا : « امّتي وربّ الكعبة » (٢) .

واختلفت أقوالهم في المراد من الفرق الثلاث ؛ قيل : الظالم من رجحت سيئاته حسناته ، والمقتصد من تساويا ، والسابق من رجحت حسناته (٣) . وقيل : الظالم هو الموحّد غير المطيع ، والمقتصد : هو الموحّد المطيع ، والسابق : هو الموحّد الذي لا يتوجّه إلى غير الله (٤) . وقيل : الظالم هو المرتكب للكبائر ، والمقتصد هو المرتكب للصغائر ، والسابق هو المعصوم (٥) . وقيل : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق بالخيرات (٦) ، السابقون المقربون (٧) ، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.

وفي روايات أهل البيت عليهم‌السلام : أنّ المراد من المصطفين الذين أورثوا الكتاب أولاد عليّ وفاطمة عليهما‌السلام (٨) . وفي بعضها : المراد من الظالم من لا يعرف الإمام ، ومن المقتصد العارف به ، ومن السابق الإمام ، كما عن الباقر (٩) والصادق (١٠) والرضا (١١) والعسكري (١٢) عليهم‌السلام.

وفي بعضها : المراد من الظالم من استوت حسناته وسيئاته ، ومن المقتصد العابد لله حتى يأتيه اليقين ، ومن السابق من دعا إلى سبيل ربّه ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ولم يكن للمضلّين عضدا ، ولا للخائنين خصيما ، ولم يرض بحكم الفاسقين إلّا من خاف على نفسه ودينه ولم يجد أعوانا ، كما عن الصادق عليه‌السلام (١٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أمّا الظالم لنفسه هاهنا من عمل صالحا وأخّر سيئا ، وأما المقتصد فهو المتعبّد المجتهد ، وأمّا السابق بالخيرات فعليّ والحسن والحسين ومن قتل من آل محمد عليهم‌السلام شهيدا »(١٤).

﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها

 حَرِيرٌ * وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ *

 الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ١٥٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ٣٤٦.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٣٤٧.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٤.

(٤و٥) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٥.

(٦) زاد في النسخة : والسابقون.

(٧) تفسير الرازي ٢٦ : ٢٥.

(٨) بصائر الدرجات : ٦٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٨.

(٩) الكافي ١ : ١٦٧ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٨.

(١٠) الكافي ١ : ١٦٧ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٨.

(١١) الكافي ١ : ١٦٧ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٨.

(١٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٧ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٨.

(١٣) معاني الأخبار : ١٠٥ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٩.

(١٤) مجمع البيان ٨ : ٦٣٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٣٩.

٢٤٤

لُغُوبٌ (٣٥)

ثمّ بيّن سبحانه فضله الكبير بملاحظة أنّه سبب للتفضّلات المذكورة بقوله : ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ وبساتين إقامة واستقرار لا رحيل منها ، أو المراد بساتين خاصة اسمها عدن ﴿يَدْخُلُونَها﴾ يوم القيامة ، ثمّ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ ويزيّنون ﴿فِيها﴾ رجالا ونساءا ﴿مِنْ أَساوِرَ﴾ مصوغة ﴿مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ ودرّا بالنصب عطفا على محلّ الذهب ، والمعنى ويحلّون لؤلؤا ﴿وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ﴾ وثوب رقيق من إبريسم ﴿وَقالُوا﴾ عند الدخول في الجنات تشكّرا لما صنع بهم رّبهم : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ﴾ وأزال ﴿عَنَّا﴾ بتفضّله علينا بالجنّة ﴿الْحَزَنَ﴾ والغمّ.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أمّا السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ، ثمّ يدخل الجنّة ، فهم الذين قالوا : ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾» (١) .

﴿إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ﴾ للمذنبين ﴿شَكُورٌ﴾ للمطيعين بإثابتهم إلى غير نهاية ﴿الَّذِي أَحَلَّنا﴾ وأنزلنا ﴿دارَ الْمُقامَةِ﴾ والبقاء ، وجنّة لا خروج منها أبدا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإحسانه بلا حقّ لنا عليه ﴿لا يَمَسُّنا﴾ ولا يصيبنا ﴿فِيها نَصَبٌ﴾ وتعب ووجع ، كما كان يصيبنا في الدنيا ﴿وَلا يَمَسُّنا﴾ ولا يعترينا ﴿فِيها لُغُوبٌ﴾ وكلال وعناء ، إذ لا تكليف فيها ولا كدّ ، فبيّن سبحانه أنّ لهم السرور بالنجاة من العذاب ، وبالدخول في الجنات ، وبالاكرام بتحليتهم بأعلى الحليّ التي يتحلّى بها الملوك ، وباللباس الذي هو أفضل الألبسة ، وبالخلود في النّعم ، والراحة من جميع المكاره والآلام.

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ

 عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ

 صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ

 النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٦) و (٣٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حسن حال المؤمنين بيّن سوء حال الكفّار في الآخرة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وبكتابه ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿نارُ جَهَنَّمَ﴾ بسبب كفرهم وأشدّ العذاب بارتكابهم أكبر الكبائر وأقبح القبائح ﴿لا يُقْضى﴾ ولا يحكم ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالموت ﴿فَيَمُوتُوا﴾ ويستريحوا منه ﴿وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ طرفة عين ﴿مِنْ عَذابِها﴾ بل كلّما خبت زادوا سعيرا ﴿كَذلِكَ﴾ الجزاء الفظيع

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٦٣٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٠.

٢٤٥

﴿نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ ومبالغ في الكفران ، أو مصرّ على الطّغيان ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ﴾ ويستغيثون ويضجّون ﴿فِيها﴾ ويقولون حال استغاثتهم : ﴿رَبَّنا أَخْرِجْنا﴾ منها ، وخلّصنا من عذابها ، وردّنا إلى الدنيا نؤمن بك في الدنيا و﴿نَعْمَلْ صالِحاً﴾ فيها ﴿غَيْرَ﴾ العمل ﴿الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ ونحسبه صالحا ، فيقال لهم توبيخا وتبكيتا : ألم نعطكم المهلة ﴿أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ ونبقيكم في الدنيا مقدار ﴿ما يَتَذَكَّرُ﴾ ويتنبّه ﴿فِيهِ﴾ من الزمان ﴿مَنْ تَذَكَّرَ﴾ وتتمكّنون فيه من التفكّر وإصلاح العقائد والأعمال.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من عمّره الله ستين سنة ، فقد أعذر إلية » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم ستّون سنة »(٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو توبيخ لابن ثمان عشرة سنة »(٣).

﴿وَجاءَكُمُ﴾ من قبل الله ﴿النَّذِيرُ﴾ المخوّف من عذاب هذا اليوم ﴿فَذُوقُوا﴾ العذاب ، لأنّكم ظلمتم أنفسكم بالكفر والطّغيان على ربّكم وتكذيب نبيّكم ﴿فَما لِلظَّالِمِينَ﴾ في هذا اليوم ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾ يدفع عنهم العذاب ، ومعين يعينهم في الخلاص منه.

﴿إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ * هُوَ الَّذِي

 جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ

 عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٨) و (٣٩)

ثمّ لمّا قطع سبحانه رجاءهم العود إلى الدنيا ، وأخبرهم بدوام عذابهم إلى الأبد ، بيّن علمه بخبث ذاتهم وعودهم إلى الكفر والعصيان إنّ عادوا إلى الدنيا ، وبنيّتهم أنّهم لو بقوا في الدنيا إلى الأبد لبقوا على الشّرك والعصيان بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخفيّاتهما ، فيعلم خبث طينة المصرّين على الشّرك بحيث لو رجعوا إلى الدنيا رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشّرك والعصيان ، وإنّهم كاذبون في قولهم : أخرجنا نعمل صالحا ، و﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ والنيّات السوء التي في القلوب ، فيعلم أنّ نية المشركين كانت في الدنيا أنّهم لو كانوا باقين فيها أبد الدهر لداموا على الشرك ، ولذا يعذّبهم أبدا على نيّاتهم ، فليس لأحد أن يقول : لا يجوز العذاب الأبدي على الشّرك في أيام معدودة.

ثمّ ذكر سبحانه بعد تهديد المشركين بعذاب النار في القيامة منّته عليهم إثباتا لتوحيده ، وإتماما

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٦٤١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤١.

(٢) نهج البلاغة : ٥٣٣ / ٣٢٦ ، مجمع البيان ٨ : ٦٤١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤١.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٦٤١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤١.

٢٤٦

لحجّته ، وتقريرا لعدم رجوعهم عن شركهم إذا رجعوا إلى الدنيا بقوله : ﴿هُوَ﴾ الله القادر ﴿الَّذِي جَعَلَكُمْ﴾ بقدرته وفضله ﴿خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ ومتصرّفين فيها ، ومسلّطين على الانتفاع بها وبنعمها ، أو خلفاء ممّن كان قبلكم من الامم ، وأورثكم ما كان لهم من الأمتعة ، ونبّهكم بسوء حال الماضين من المشركين ، وأعلمكم بما نزل على الأقدمين من العاصين ، ومع ذلك ما تنبّهتم وما اتّعظتم ﴿فَمَنْ كَفَرَ﴾ بالله والدار الآخرة ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ ووبال شركه وجحوده الحقّ من الطرد والنار ، لا يتعدّاه إلى غيره ﴿وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً﴾ وغضبا شديدا يوجب لهم العذاب الأبد ﴿وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً﴾ وضررا عظيما لا يتصوّر فوقه الضرر ، وهو فوات النّعم الأبدية والراحة السّرمدية.

﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ

 الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ

 يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً * إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

 أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً

 غَفُوراً (٤٠) و (٤١)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإلزام المشركين على إبطال الشّرك ، وتوبيخهم على عبادة ما لا يليق للعبادة ، ولا دليل على جوازها بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، للمشركين ﴿أَ رَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني ﴿شُرَكاءَكُمُ﴾ والأصنام ﴿الَّذِينَ﴾ سميتموهم من قبل أنفسكم أندادا لربّكم و﴿تَدْعُونَ﴾ وتعبدونهم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ الذي هو خالقكم والمنعم عليكم ﴿أَرُونِي﴾ وعيّنوا لي ﴿ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ وأيّ جزء من أجزائها أوجدوه حتى يمكنكم أن تقولوا إنّهم آلهة في الأرض والله إله السماء ؟ ! ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾ مع الله ﴿فِي﴾ خلق ﴿السَّماواتِ﴾ حتى تقولوا إنّهم آلهة السماوات ؟ ! ﴿أَمْ﴾ أعطينا الأصنام أو المشركين و﴿آتَيْناهُمْ كِتاباً﴾ كتبنا فيه أنّ لهم الشفاعة ، أو يجب عليكم عبادتهم ﴿فَهُمْ﴾ إذن ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾ من الله وحجّة كائنة ﴿مِنْهُ﴾ ليس أحد من الامور حتى يجوز عقلا أو تعبّدا عبادتهم ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ﴾ السابقون أو الرؤساء ﴿بَعْضاً﴾ اللاحقين أو التابعين بأنّه يشفعون عند الله ويقضون حوائج عابديهم ﴿إِلَّا غُرُوراً﴾ وباطلا لا أصل له ، وإيقاعا في خطر العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه أن عظمة القول بالشّرك ممّا يزيل السماوات والأرض عن مقرّهما بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ

٢٤٧

 يُمْسِكُ﴾ ويحفظ ﴿السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ بقدرته من ﴿أَنْ تَزُولا﴾ أو كراهة أن تزولا من مقرّهما بسبب قول المشركين بالشّرك بالله.

عن الرضا عليه‌السلام، قال : « بنا يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا » (١) .

﴿وَ﴾ بالله ﴿وَلَئِنْ زالَتا﴾ عن مكانهما ومقرّهما ، كما يزولان في يوم تبدّل الأرض فيه غير الأرض ، وتطوى السماء كطّي السّجل للكتب ﴿إِنْ أَمْسَكَهُما﴾ وما حفظهما من الزوال (٢)﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ من الموجودات غير الله و﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ أو من بعد نزولهما ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ حَلِيماً﴾ غير معاجل بعقوبة الكفّار بإنزالهما بقولهم بالشّرك ، مع أنّه مقتض لهدّهما هدّا ، ومع ذلك يمسكهما ويمنعهما من الزوال و﴿غَفُوراً﴾ لمن رجع عن الشّرك وتاب من الكفر.

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ

 فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً * اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا

 يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ

 اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٢) و (٤٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية إنكار المشركين التوحيد ، حكى إنكارهم الرسالة وإصرارهم عليه بقوله : ﴿وَأَقْسَمُوا﴾ وحلفوا ﴿بِاللهِ﴾ مع أنّ الحلف باسم الله العظيم يكون جهد أيمانهم وأكيده وغليظه ، وقالوا : والله ﴿لَئِنْ جاءَهُمْ﴾ نبيّ ﴿نَذِيرٌ﴾ ومخوّف من قبل الله ، كما أدّعى كثير من الامم مجيئه فيهم ﴿لَيَكُونُنَّ أَهْدى﴾ وأطوع له ﴿مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ﴾ كاليهود والنصارى وغيرهم ، لكوننا أكثر استعدادا وعقلا وفهما وذكاء منهم ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ﴾ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ﴿نَذِيرٌ﴾ من النّذر ، وأفضلهم ، بالمعجزات الباهرات الدالّة على صدقه ﴿ما زادَهُمْ﴾ مجيؤه أو ذلك النذير ﴿إِلَّا نُفُوراً﴾ وتباعدا عن طاعته والاهتداء بهدايته ، وكان نفورهم ﴿اسْتِكْباراً﴾ وتعظيما ﴿فِي الْأَرْضِ وَ﴾ عتوّا على الله ، ومكروا ﴿مَكْرَ السَّيِّئِ﴾ أو المراد ما زادهم إلا استكبارا ، ومكر السيء ، والتدبير الشنيع ، والحيلة القبيحة في قتله وإبطال دعوته ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لا يَحِيقُ﴾ ولا يحيط ﴿الْمَكْرُ السَّيِّئُ﴾ ووباله وعذابه ﴿إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ وفاعله.

في الحديث : «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فانّ الله يقول:﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ » (٣).

__________________

(١) كمال الدين ٢٠٢ / ٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٣.

(٢) في النسخة : النزول.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ٣٤ ، تفسير روح البيان ٧ : ٣٦١.

٢٤٨

وفي الآخر : « المكر والخديعة في النار» (١) .

روي أنّ قريشا بلغهم قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم ، فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى ، أتتهم الرسل فكذّبوهم ، وحلفوا كما حكى الله عنهم (٢) .

ثمّ هددهم سبحانه بقوله : ﴿فَهَلْ﴾ المشركون ﴿يَنْظُرُونَ﴾ وينتظرون ﴿إِلَّا سُنَّتَ﴾ الله في الامم ﴿الْأَوَّلِينَ﴾ وطريقته المألوفة الجارية في المكذبين السابقين وماكريهم بالنبيين من تعذيبهم وإهلاكهم ﴿فَلَنْ تَجِدَ﴾ يا محمد ، أو يابن آدم ﴿لِسُنَّتِ اللهِ﴾ وطريقة معاملته مع أعدائه وأعداء رسله ﴿تَبْدِيلاً﴾ بأن يعفو عن المكذّبين الماكرين الذين كان بناؤه على تعذيبهم ﴿وَلَنْ تَجِدَ﴾ أبدا ﴿لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ ونقلا لعذابه من المكذّبين إلى غيرهم ، ومن المستحقّين إلى من عداهم ، وعدم وجدانهما دليل على عدم وجودهما.

﴿أَ وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا

 أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ

 كانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ

 دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ

 بَصِيراً (٤٤) و (٤٥)

ثمّ استشهد سبحانه على سنّته السابقة في الامم بالآثار الباقية من المعذّبين الماضين بقوله : ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ قيل : إنّ التقدير أقعد المشركين في منازلهم (٣) ولم يسافروا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يذهبوا إلى الشام واليمن والعراق للتجارة أو غيرها ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار إلى الديار الخربة التي بقيت من الامم المهلكة ، فيعلموا ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ تكذيب الامم ﴿الَّذِينَ﴾ عتوا على الله وكذّبوا الرّسل ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كعاد وثمود وقوم سبأ ؟ ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿كانُوا﴾ في حياتهم ﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ فما أغنى عنهم شدّة القوى وعظمة الأجساد وطول الأعمار ، مع أنّهم لم يكذّبوا مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ عن إنفاذ إرادته وتعذيب أعدائه ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ كائن ﴿فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يفته ، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه ولا يفوتوه ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كانَ عَلِيماً﴾ بأعمالهم وعقائدهم الفاسدة وأخلاقهم الرذيلة ﴿قَدِيراً﴾ على تعذيبهم وإهلاكهم.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٣٦١.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ١٥٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٣٦٠.

(٣) تفسير أبي السعود ٧ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ٧ : ٣٦٢.

٢٤٩

ثمّ بيّن سبحانه لطفه بالكفّار والعصاة بإمهالهم وعدم مؤاخذة كلّهم مع استحقاقهم لتعجيل العذاب عليهم بقوله تعالى : ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ﴾ ويعجّل عقوبتهم ﴿بِما كَسَبُوا﴾ وكفرهم وعصيانهم في الأرض ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها﴾ واحدا ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿دَابَّةٍ﴾ ومتحرّك يتحرّك فيها بإنزال العذاب ﴿وَلكِنْ﴾ بلطفه ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾ ويمهلهم ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ ووقت معين قدّره لموتهم بحكمته البالغة ، أو قدّره لنزول العذاب عليهم ، أو قدّره لحساب الناس ، وهو يوم القيامة ﴿فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ﴾ المقدّر ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ يؤاخذهم و﴿كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً﴾ لا يؤاخذهم أزيد من استحقاقهم ، ولا أقلّ منه ، ولا يأخذ البرئ بالمجرم والمؤمن بالكافر ، بل يجازي كلّا بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.

وقد مرّ ثواب تلاوة السورة المباركة في آخر سورة سبأ ، ولله الحمد والمنّة على توفيقه لاتمام تفسير السورة وله الشكر.

٢٥٠

في تفسير سورة يس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ *

 تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (١) و (٦)

ثمّ لمّا ختمت سورة الملائكة المبدؤة بإظهار غاية عظمة ذاته المقدّسة بجعل الملائكة رسلا المختتمة بلوم المشركين على كذبهم في دعوى أنّه إن جاءهم نذير لكانوا أشدّ تسليما وأكثر اتّباعا له من اليهود والنصارى لقوله : ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً(١) ، أردفها بسورة يس المبتدئة ببيان منّته عليهم بإرسال خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله وعظمة الكتاب النازل عليه ، وهو القرآن المشتمل على الحكم والأحكام ، وجعله من أعظم معجزاته ، وبيان إصرار المشركين على معارضته وتكذيبه ، وغيرها من المطالب المرتبطة بالسورة السابقة ، فافتتحها على دأبة بذكر الأسماء المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ وقد مرّ تفسيره.

ثمّ ابتدأ بذكر الحروف المقطّعة بقوله : ﴿يس﴾ قيل : رمز عن خطاب يا أيّها السامع للوحي ، كما عن الصادق عليه‌السلام في ( معاني الأخبار ) (٢) وعليه تكون ( يا ) حرف نداء و( السين ) رمز عن السامع ، وقيل : إنّها رمز عن كلمة سيّد البشر ، أو سيّد المرسلين (٣) ، والظاهر أنّه المراد من الروايات الكثيرة الدالة على أن ﴿يس﴾ اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ عظّم سبحانه القرآن بحلفه به على صدق نبوة نبيّه بقوله : ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ والكتاب الجامع للحكم التي لا نهاية لها ، أو المحكم الذي لا يكسره شيء ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أو الحاكم بين الخلق إلى يوم القيامة فيما اختلفوا فيه ، حيث يجب الرجوع إليه فيه.

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه بقوله : ﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ من قبل الله إلى خلقه

__________________

(١) فاطر : ٣٥ / ٤٢.

(٢) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٤.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٣٦٥.

٢٥١

لهدايتهم وإرشادهم إلى ما هو الصواب من امور الدنيا والآخرة ، فليس للكفار أن يقولوا : لست مرسلا ، وإنك ثابت أو متمكّن ﴿عَلى صِراطٍ﴾ وطريق ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ موصل إلى أعلى مراتب كمال الانسانية والقرب منه ، وأعلى درجات الجنة والرضوان بلا انحراف واعوجاج ، وهو الاسلام المركّب من التوحيد والمعارف الإلهية والأحكام العملية والأخلاق الربانية ، وإنّما وصف دينه بالاستقامة مع كون شرائع سائر الأنبياء مستقيمة لكون استقامته وإيصاله إلى المقصد الأعلى فوق استقامتها ، وفي توصيف القرآن البالغ حدّ الاعجاز في حسن الاسلوب وفصاحة البيان بالحكمة البالغة ، أو الحكومة بين الناس مع كون الآتي به اميا ، إشارة إلى كونه أقوى الأدلة على كونه واجدا للوصفين ، وإنّما أتى بالدليل بصورة الحلف للتنبيه بعظمة القرآن ، فانّ الحلف لا يكون إلّا بأمر عظيم عند الحالف ، وبأنّ البرهان قد اقيم على الأمرين مرارا بأبلغ بيان ، فلم يبق إلّا الحلف على المدّعى برجاء كونه سببا لوثوق المنكر به ، فجمع سبحانه بين الاستدلال والحلف بقوله : ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ أعني ﴿تَنْزِيلَ﴾ الإله ﴿الْعَزِيزِ﴾ والقاهر لكلّ شىء ، والقادر على عقوبة منكر القرآن ورسالة رسوله ودينه ﴿الرَّحِيمِ﴾ بمن أقرّ بالجميع ، والعطوف بمن أطاعه وأطاع رسوله ، أو المراد القاهر لعباده بجعل الأحكام الوجوبية والتحريمية ، الرحيم بهم بجعل الأحكام الندبية والكراهية والإباحية ، وإنّما وصفه بكونه تنزيلا من الله لكمال ظهور آثار النزول فيه ، بحيث صحّ أن يقال مبالغة : إنّ هذا لمنزل عين النزول.

ثمّ بيّن سبحانه علّة إرسال رسوله وتنزيل كتابه بقوله : ﴿لِتُنْذِرَ﴾ يا محمد وتخوّف ﴿قَوْماً﴾ وطائفة تكون فيهم ﴿ما أُنْذِرَ﴾ به وخوّف بتوسط سائر الأنبياء ﴿آباؤُهُمْ﴾ من العذاب. وقيل : يعني قوما الذين انذر آباؤهم (١) ، أو قوما نحو ما انذر آباؤهم ، كما روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لتنذر القوم الذين أنت فيهم ، كما انذر آباؤهم » (٢) .

أقول : على هذا يكون ( ما ) مصدرية. وقيل : إنّها نافية ، والمعنى لتنذر قوما الذين ما انذر آباؤهم الأقربون لطول مدّة الفترة (٣) وغيبة الأنبياء من بينهم ، وإن انذر آباؤهم الأبعدون الذين كانوا في زمان إسماعيل ومن بعده من الأنبياء العرب والعجم ، فبعد غلبة الكفر وشيوعه وغيبة الأنبياء لم ينذروا ، فصار الناس جميعا غافلين عن التوحيد والمعارف والمعاد ، فصارت هذه الغفلة سببا لوجوب إنذارهم ، كما قال سبحانه : ﴿فَهُمْ غافِلُونَ﴾ عن الله ، وعن رسوله ، وعن وعيده ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٤) .

﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٤٢ ، تفسير القرطبي ١٥ : ٦.

(٢) الكافي ١ : ٣٥٨ / ٩٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٥.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٣٦٨.

(٤) الكافي ١ : ٣٥٨ / ٩٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٥.

٢٥٢

فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ

 سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٧) و (٩)

ثمّ بيّن سبحانه لجاج القوم وامتناعهم من الايمان بقوله : ﴿لَقَدْ حَقَ﴾ وثبت ووجب ﴿الْقَوْلُ﴾ والوعد الذي سبق منّا عند تهديد إبليس - حيث قلنا : ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ(١) أو قولنا : ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(٢) - ﴿عَلى أَكْثَرِهِمْ﴾ لوضوح كونهم أهل الشّقاوة والشّقاق ﴿فَهُمْ﴾ لخبث ذاتهم وانطباع قلوبهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بك وبكتابك وإنذارك أبدا ، ولا يطيعونك في شيء أصلا.

ثمّ شبّه سبحانه الأخلاق الرذيلة المانعة عن إيمانهم بالغلّ العريض الذي يكون في العنق فيمنع الرأس من تطأطئه وانحنائه بقوله : ﴿إِنَّا﴾ بتجبّلهم على الحسد والكبر والشّقاء ، كأنّه ﴿جَعَلْنا﴾ وصيّرنا ﴿فِي أَعْناقِهِمْ﴾ وجيادهم ﴿أَغْلالاً﴾ غلاظا ثقالا ﴿فَهِيَ﴾ لكثرة غلظها وعرضها منتهية من الصدور ﴿إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ﴾ لتلك الأغلال ﴿مُقْمَحُونَ﴾ رؤوسهم ورافعوها غير قادرين على تطأطئها والالتفات بها.

فحاصل المعنى أنّ كفّار مكة لكثرة تكبّرهم وشدّة حسدهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله [ أبوا ] تسليما وانقيادا له ، وأن يلتفتوا إلى الحقّ ، وأن يفتحوا عيونهم لرؤية معجزاته وآياته ، وأن ينظروا إليه وإليها ، وأن يؤمنوا بما جاء به.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « هذا في الدنيا ، وفي الآخرة في نار جهنم مقمحون » (٣) .

ثمّ شبّه سبحانه امتناعهم عن سلوك طريق الحقّ والصراط المستقيم ، ووقوفهم على الكفر [ الذي ] عماهم عن رؤية المعجزات ، بمن كان في أطرافه سدّ عظيم لا يمكنه الخروج منه ، ولا رؤية ما في العالم من الأشياء بقوله : ﴿وَجَعَلْنا﴾ وخلقنا ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ وتلقاء وجوههم ﴿سَدًّا﴾ عظيما ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ وورائهم أيضا ﴿سَدًّا﴾ عظيما لا يمكنهم المشي لا من القبال ولا من الخلف ، فلا يقدرون على الذّهاب إلى المقصد ، والرجوع إلى المأوى والمأمن ﴿فَأَغْشَيْناهُمْ﴾ وغطّينا رؤوسهم وأبصارهم بسبب السدّين ، لغاية تقاربهما وارتفاعهما ، أو بغشاء آخر مانع عن إبصارهم ﴿فَهُمْ﴾ لذلك ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ شيئا من آيات الآفاق والأنفس الدالات على وحدانية الله ، ومن المعجزات الدالة على نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّانية دينه.

عن الباقر عليه‌السلام : « يقول فأعميناهم فهم لا يبصرون الهدى ، أخذ الله سمعهم وأبصارهم وقلوبهم ،

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٨٥.

(٢) السجدة : ٣٢ / ١٣.

(٣) الكافي ١ : ٣٥٨ / ٩٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٥.

٢٥٣

فأعماهم عن الهدى » (١) .

روي أنّها نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنّه يرضخ رأس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إن رآه في الصلاة ، فرآه يوما (٢) يصلي ، فأخذ صخرة فرفعها ليرسلها على رأسه ، فالتزقت بيده ، ويده بعنقه ، فرجع خائبا إلى قومه (٣) ، فنزلت : ﴿إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً﴾ إلى آخره ، فقام الوليد بن المغيرة الخزومي ، وقال : أنا أقتله بهذه الصخرة ، فأخذ الصخرة ، فجاء نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا قرب منه عمي بصره ، فكان يسمع صوته ولا يرى شخصه ، فرجع إلى صاحبيه فلم يرهم حتى نادوه فأخبرهم بالحال ، فنزل في حقّه : ﴿وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ إلى آخره.

وعن القمي : أنّها نزلت في أبي جهل بن هشام ونفر من أهل بيته ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام يصلّي وقد حلف أبو جهل اللعين : لئن رآه يصلّي ليدمغه ، فجاء ومعه حجر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائم يصلي ، فجعل كلّما رفع الحجر ليرميه ، أثبت الله يده إلى عنقه ، ولا يدور الحجر بيده ، فلمّا رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده ، ثمّ قام رجل آخر ، وهو من رهطه أيضا ، فقال : أنا أقتله ، فلمّا دنا منه جعل يسمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فارعب ورجع إلى أصحابه ، فقال : بيني وبينه [ كهيئة ] الفحل (٤) يخطر بذنبه ، فخفت أن أتقدّم (٥).

﴿وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ

 وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١٠) و (١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة امتناعهم عن الانقياد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم سلوكهم طريق الحقّ ، وعدم رؤيتهم معجزاته ، صرّج بعدم تأثير إنذاره في قلوبهم بقوله : ﴿وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ﴾ ولا يتفاوت في حقّهم ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ وخوّفتهم من عذاب الله على الشرك وتكذيبهم نبوّتك وكتابك ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ ولم تعظهم ، فانّ قلوبهم شرّ القلوب لأنّها لا تتّعظ بالعظة ، فاعلم إذن أيّها النبي أنّهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بك حتى يأتيهم الموت ، لكون ذواتهم في أعلى درجة الشقاوة ، وقلوبهم في أقصى مرتبة القساوة ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم إلى الايمان ، ولا تكن حريصا في وعظهم وإنذارهم ، بل اكتف بما تتمّ به الحجّة عليهم.

ثمّ بيّن سبحانه اختصاص نفع الإنذار والدعوة إلى الايمان بأصحاب القلوب الصافية والآذان

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢١٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٤.

(٢) زاد في النسخة : أن.

(٣) تفسير الرازي ٢٦ : ٤٤ ، تفسير أبي السعود ٧ : ١٦٠.

(٤) في المصدر : العجل.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢١٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٥.

٢٥٤

السامعة بقوله : ﴿إِنَّما تُنْذِرُ﴾ الإنذار النافع في الهداية والارشاد ﴿مَنِ﴾ لان قلبه و﴿اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ والعظة ، أو آمن بالقرآن وسلّم للبرهان ﴿وَخَشِيَ﴾ بإنذارك ﴿الرَّحْمنَ﴾ والإله الذي وسعت رحمته كلّ شيء وهو ﴿بِالْغَيْبِ﴾ والحجاب عنهم ، فيؤمن به ويعمل لمرضاته ، أو خشي عقوبة الرحمن في الآخرة وأهوال القيامة التي تكون محجوبة عن أبصارهم ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ يا محمّد ، بعد الإنذار وتأثّره بالعظة واتّباعه لها وقيامه بالأعمال الصالحة ﴿بِمَغْفِرَةٍ﴾ عظيمة لذنوبه ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ وثواب جسيم مرضيّ له على إيمانه وأعماله.

﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ

 مُبِينٍ (١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببشارة المؤمنين بالثواب أخبر بمجيء الآخرة التي هي دار المغفرة والثواب بقوله : ﴿إِنَّا نَحْنُ﴾ بقدرتنا الكاملة ﴿نُحْيِ الْمَوْتى﴾ ونبعثهم بعد انقضاء الدنيا من القبور لجزاء الأعمال ﴿وَنَكْتُبُ﴾ في الصّحف ، ونثبت في الدفاتر بتوسّط الكرام الكاتبين ، أو نكتب في اللّوح المحفوظ ﴿ما قَدَّمُوا﴾ وأسلفوا وأتوا به في زمان حياتهم من الأعمال خيرا أو شرا حسنة أو سيئة ، ﴿وَ﴾ نكتب فيها ﴿آثارَهُمْ﴾ وما أبقوه بعد موتهم من سنّة حسنة أو سيئة ، أو ما يوجب انتفاع الناس به من علم أو كتاب ، أو وقف أو حبس ، وإشاعة باطل ، أو بدعة ، أو تأسيس ظلم ، أو صنعة فيها فساد كاختراع آلة لهو ، أو بناء كنيسة أو غيرها.

وقيل : إنّ المراد آثار أقدام الماشين إلى المساجد (١) ، روى بعض العامة : أنّ جماعة من الصحابة بعدت دورهم عن مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرادوا النفير (٢) إلى جوار المسجد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها ، فالزموا بيوتكم »(٣) .

وعن ( المجمع ) : أنّ بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت الآية »(٤) .

ثمّ بيّن سبحانه سعة علمه بكلّ شيء فضلا عن أعمال العباد بقوله : ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ، وكلّ موجود من الموجودات من الجواهر والأعرض والأعمال والأفعال والأقوال ، أو أجل أو رزق أو نصيب ، أو إحياء وإماته ﴿أَحْصَيْناهُ﴾ وأثبتناه ﴿فِي إِمامٍ﴾ وأصل عظيم الشأن ﴿مُبِينٍ﴾ ومظهر

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٣٧٥.

(٢) في تفسير روح البيان : النقلة.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٣٧٥.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٦٥٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٦.

٢٥٥

لجميع الأشياء والامور ، وهو اللّوح المحفوظ. قيل : سمّي إماما لأن الملائكة يتّبعونه ويعملون به (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنا والله الامام المبين ، أبيّن الحقّ من الباطل ، ورثته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) .

وعن ( الاحتجاج ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث - قال : « معاشر الناس ، ما من علم إلّا علّمنيه ربّي ، وأنا علّمته عليا ، وقد أحصاه الله فيّ ، وكلّ علم علمته أحصيته في إمام المتقين » (٣) .

وعن الباقر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام قال : « لمّا نزلت الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام أبو بكر وعمر من مجلسيهما ، وقالا : يا رسول الله ، هو التوراة ؟ قال : لا. قال : هو الإنجيل ؟ قال : لا. قال : فأقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو هذا ، إنّه الإمام الذي أحصى الله فيه علم كلّ شيء» (٤) .

﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ

 اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ

 بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٣) و (١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله من المرسلين ، وأن وظيفته إنذار قومه ، وأنّ طائفة منهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ، وطائفة منهم يؤمنون به ويفيد الانذار لهم فلنشملهم الرحمة والمغفرة ، أمره سبحانه أنّ يذكر لقومه قصّة الرّسل المبعوثين إلى بلدة إنطاكية ، وتطابق حالهم وحال قومهم لحاله وحال قومه بقوله : ﴿وَاضْرِبْ﴾ يا محمّد ، وأذكر عند قومك ، وبيّن ﴿لَهُمْ﴾ لتوضيح حالك وحالهم ، ولطف الله بك وقهره على أعدائك ﴿مَثَلاً﴾ وقصة عجيبة هي في الغرابة كالمثل ، وأعني بها ﴿أَصْحابَ الْقَرْيَةِ.

قيل : إنّ التقدير مثل أصحاب القرية التي كانت بالرّوم تسمّى أنطاكية (٥)﴿إِذْ جاءَهَا﴾ وحين دخلها ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ والمبعوثون من قبل الله ، أو من قبل عيسى الذي كان مبعوثا ورسولا من الله.

ثمّ بيّن سبحانه كيفية مجيئهم إليها بقوله : ﴿إِذْ أَرْسَلْنا﴾ أولا ﴿إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ من الرسل يدعوانهم إلى التوحيد والايمان بشريعة عيسى عليه‌السلام ﴿فَكَذَّبُوهُما﴾ في دعوى الرسالة والتوحيد ﴿فَعَزَّزْنا﴾ هما وقوّيناهما ﴿بِثالِثٍ﴾ من الرسل يقال له شمعون الصفا ، وكان وصيّ عيسى عليه‌السلام بعد رفعه إلى السماء ﴿فَقالُوا﴾ جميعا لأهل القرية : يا أهل القرية ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ﴾ من جانب الله ﴿مُرْسَلُونَ﴾ فأنكروا رسالتهم ، و﴿قالُوا﴾ في جوابهم : ﴿ما أَنْتُمْ﴾ أيها المدّعون للرسالة ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ تأكلون الطعام

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٥٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢١٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٧.

(٣) الاحتجاج : ٦٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٣٤٧.

(٤) معاني الأخبار : ٩٥ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٧.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٣٧٧.

٢٥٦

وتمشون في الأسواق ، لا مزيّة لكم علينا ، ولا فضيلة لكم كي تخصّون بالرسالة دوننا ، ولو كان لله رسولا لكان ملكا ، ثمّ بالغوا في التكذيب بقولهم : ﴿وَما أَنْزَلَ﴾ الله الإله الذي تقولون إنّه ﴿الرَّحْمنُ﴾ ومن شأنه الرحمة والرسل إليكم من السماء ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الكتاب والملائكة ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ في دعوى الرسالة والتوحيد ونزول الكتاب ، وما أنتم إلّا تفترون على الله في أنّه أرسلكم إلينا لهدايتنا.

﴿قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٦) و (١٧)

ثمّ لمّا رأى الرسل إصرار القوم في تكذيبهم ، بالغوا في الدعوى ، وأكّدوها بالحلف ، و﴿قالُوا﴾ يا قوم ﴿رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ من قبله ، وإن كذّبتمونا ، ولا يضرّنا إنكاركم علينا ، لأنّه ليس وظيفتنا ﴿وَما﴾ الواجب ﴿عَلَيْنا﴾ من قبل ربّنا ﴿الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ والتبليغ الواضح بإظهار رسالتنا ، وإظهار المعجزات الشاهدة على صدقنا ، وما قصّرنا في العمل بما هو وظيفتنا وأداء ما هو في عهدتنا ، وأمّا إجباركم على الايمان ، فليس بواجب علينا ، ولا في وسعنا ، فإن أصررتم على الكفر كان وباله عليكم.

حكى بعض العامة : أنّ عيسى عليه‌السلام بعث رجلين من الحواريين قبل رفعه إلى السماء إلى بلدة أنطاكية ، وكان أهلها يعبدون الأصنام ، فلمّا أمرهما أن يذهبا إلى البلدة ، قالا : يا نبي الله ، انّا لا نعرف لسان القوم ، فدعا الله لهما فناما مكانهما فلمّا استيقظا ، وقد حملتهما الملائكة وألقتهما إلى أرض أنطاكية ، فكلّم كلّ واحد صاحبه بلغة القوم ، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجار ، وكان ينحت الأصنام ، ويقال له صاحب يس ، لأنّ الله تعالى ذكره في سورة يس ، فسلّما عليه ، فقال لهما : من أنتما ؟ فأخبراه بأنّهما رسل عيسى ، وقالا : جئنا لنهديكم إلى دين الحقّ ، ونرشدكم إلى الصراط المستقيم ، وهو توحيد الله وعبادته. فقال الشيخ : ألكما على صدق دعواكم دليل واضح ؟ قالا : نعم ، نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص باذن الله ، وكان لهما ما لعيسى من المعجزة بدعاء عيسى عليه‌السلام ، فقال الشيخ : إنّ لي ابنا مجنونا قد عجزت الأطباء من علاجه ، فاشفياه من مرضه ، فذهب بهما إلى داره ، فدعوا الله ومسحا المريض ، فقام باذن الله صحيحا ، فآمن حبيب ، وفشا الخبر ، وشفي على أيديهما خلق كثير ، وبلغ حديثهما إلى الملك ، واسمه بحناطيس الرّومي ، أو انطيخس ، أو شلاحن ، فطلبهما فأتياه ، فاستخبر عن حالهما ، فقالا : نحن رسل عيسى عليه‌السلام ، ندعوك إلى عبادة ربّ واحد. فقال : ألنا ربّ غير آلهتنا ؟ قالا : نعم ، وهو من أوجدك وآلهتك ، من آمن به دخل الجنة ، ومن

٢٥٧

كفر به دخل النار ، فغضب الملك وضربهما وحبسهما.

فانتهى ذلك إلى عيسى عليه‌السلام فبعث ثالثا وهو شمعون لينصرهما ، فجاء شمعون القرية متنكّرا ، فعاشر [ حاشية الملك ] حتى استأنسوا به ، ورفعوا حديثه إلى الملك ، فطلبه وأنس به ، وكان شمعون يظهر موافقته في دينه ، حيث كان إذا دخل معه على الصنم يصلّي ويتضرّع ، وهو يظنّ أنّه من أهل دينه ، فقال شمعون يوما للملك : بلغني أنّك حبست رجلين دعواك إلى إله غير إلهك ، فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما وأخاصمهما عنك ؟ فدعاهما.

وفي بعض الروايات : أنّ شمعون لمّا ورد أنطاكية دخل السجن أولا حتى انتهى إلى صاحبيه ، فقال لهما : ألم تعلما أنّكما لا تطاعان (١) إلّا بالرّفق واللّطف ؟ إنّ مثلكما مثل المرأة لم تلد زمانا من دهرها ، ثمّ ولدت غلاما ، فأسرعت بشأنه فأطعمته الخبز قبل أوانه فغصّ به فمات ، فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء.

ثمّ انطلق إلى الملك ، فاستدعاهما - بعد التقرّب إليه - للمخاصمة ، فلمّا حضرا قال لهما شمعون: من أرسلكما ؟ قالا : الله الذي خلق كلّ شيء ، وليس له شريك. فقال : صفاه وأوجزا. قالا : يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد. قال : وما برهانكما على ما تدّعيانه ؟ قالا : ما يتمنّى الملك. فجيء بغلام مطموس العينين بحيث لا يتميّز موضع عينيه من جبهته ، فدعوا الله حتى انشّق له موضع البصر ، فاخذا بندقتين من الطين ، فوضعاهما في حدقتيه ، فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فتعجّب الملك ، فقال له شمعون : أرايت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا ، فيكون لك وله الشرف ؟ قال : ليس لي عنك سرّ مكتوم ، إنّ إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال لهما الملك : إنّ هنا غلاما مات منذ سبعة أيام ، كان لأبيه ضيعة قد خرج إليها ، وأهله ينتظرون قدومه ، واستأذنوا في دفنه ، فأمرتهم أن يؤخّروه حتى يحضر أبوه ، فهل يحييه ربّكما ؟ فأمر بإحضار ذلك الميت ، فدعوا الله علانية ، ودعا شمعون سرّا ، فقام الغلام الميت حيّا بإذن الله ، وقال : لمّا متّ وفارق روحي من جسدي برزت على سبعة أودية من النار لموتي على الكفر ، وأنا احذّركم عمّا أنتم عليه من الشّرك ، ورأيت أنّ أبواب السماء مفتوحة ، وعيسى عليه‌السلام قائما تحت العرش ، وهو يقول : ربّ انصر رسلي. فأحياني الله وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ عيسى روح الله وكلمته ، وأنّ هؤلاء الثلاثة رسل الله. قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال الغلام : شمعون ، وهذان. فتعجّب الملك ، فلمّا رأى شمعون أنّ قول الغلام أثّر في الملك أخبره بالحال ، وأنّه رسول المسيح إليهم ونصحه ، فآمن الملك فقط

__________________

(١) في النسخة : تطلقان.

٢٥٨

خفية على خوف من عتاة ملّته ، وأصرّ قومه على الكفر ، فرجموا الرّسل بالحجارة ، وقالوا : إنّ كلمتهم واحدة ، وقتلوا حبيب النجّار وأبا الغلام الذي أحيي لأنّه أيضا كان قد آمن (١) . وقيل : إنّ الملك أيضا أصر [ على ] كفره (٢) .

عن القمي رحمه‌الله ، عن الباقر عليه‌السلام : أنّه سئل عن تفسير هذه الآية ، فقال : « بعث الله رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية ، فجاءهم بما لا يعرفون ، فغلّظوا عليهما ، فأخذوهما وحبسوهما في بيت الأصنام ، فبعث الله الثالث ، فدخل المدينة فقال : أرشدوني إلى باب الملك ، فلمّا وقف على الباب قال : أنا رجل كنت أتعبّد في فلاة من الأرض ، وقد أحببت أن أعبد إله الملك ، فأبلغوا كلامه الملك ، فقال : أدخلوه إلى بيت الآلهة. فأدخلوه ، فمكث سنة مع صاحبيه ، فقال لهما : أينقل من دين إلى دين بالخرق ، أفلا رفقتما ؟ ثمّ قال لهما : لا تقرّان بمعرفتي.

ثمّ ادخل على الملك ، فقال له الملك : بلغني أنّك كنت تعبد إلهي ، فلم أزل وأنت أخي فسلني حاجتك فقال : مالي حاجة أيّها الملك ، ولكن رأيت رجلين في بيت الآلهة ، فما حالهما ؟ فقال الملك : هذا رجلان أتياني ببطلان ديني ، ويدعواني إلى إله سماويّ. فقال : أيها الملك فمناضرة جميلة ، فان يكن الحق لهما اتبعناهما ، وإن يكن الحقّ لنا دخلا معنا في ديننا ، وكان لهما ما لنا ، وعليهما ما علينا.

فبعث الملك إليهما ، فلمّا دخلا عليه ، قال لهما صاحبهما : ما الذي جئتما به ؟ قالا : جئنا ندعو إلى عبادة الله الذي خلق السماوات والأرض ، ويخلق في الأرحام ما يشاء ، ويصوّر كيف يشاء ، وأنبت الأشجار والثمار ، وأنزل القطر من السماء.

فقال لهما : إلهكما هذا الذي تدعوان إليه وإلى عبادته ، إن جئنا بأعمى يقدر أن يردّه صحيحا ؟ قالا : إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء. قال : أيّها الملك عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قطّ. فأتي به ، فقال لهما : ادعوا إلهكما أن يردّ بصر هذا. فقاما وصلّيا ركعتين ، فاذا عيناه مفتوحتان ، وهو ينظر إلى السماء. فقال : أيّها الملك عليّ بأعمى آخر. فاتي به فسجد سجدة ، ثمّ رفع رأسه ، فاذا الأعمى يبصر.

فقال : أيّها الملك حجّة بحجّة. عليّ بمقعد. فاتي به ، فقال لهما مثل ذلك ، فصلّيا ودعوا الله ، فاذا المقعد قد أطلقت رجلاه وقام يمشي ، فقال : أيّها الملك ، عليّ بمقعد آخر فاتي به ، فصنع به كما صنع أوّل مرّة ، فانطلق المقعد ، فقال : أيّها الملك ، قد أتيا بحجّتين ، وأتينا بمثلهما ، ولكن بقي شيء آخر ، فان كانا فعلاه دخلت معهما في دينهما ، ثمّ قال : أيّها الملك ، بلغني أنّه كان لك ابن واحد ومات ، فان

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٣٧٨.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٣٨٠.

٢٥٩

أحياه إلههما ، دخلت معهما في دينهما. فقال له : وأنا أيضا معك.

ثمّ قال لهما : قد بقيت خصلة واحدة ، قد مات ابن الملك ، فادعوا إلهكما أن يحييه ، فخرّا ساجدين لله عزوجل ، وأطالا السّجود ، ثمّ رفعا رأسهما ، وقالا للملك : ابعث إلى قبر ابنك تجده قد قام من قبره إن شاء الله ، فخرج الناس ينظرون ، فوجوده قد خرج من قبره ينفض رأسه من التّراب ، فاتي به إلى الملك ، فعرف أنّه ابنه ، فقال : ما حالك يا بني ؟ قال : كنت ميتا ، فرأيت رجلين بين يدي ربّي الساعة ساجدين يسألانه أن يحييني فأحياني. قال : يا بني ، تعرفهما ؟ قال : نعم ، فأخرج الناس إلى الصحراء ، فكان يمرّ عليه رجل رجل فيقول أبوه : انظر ، فيقول : لا ، ثمّ مرّوا عليه بأحدهما بعد جمع كثير ، فقال : هذا أحدهما ، وأشار بيده إليه ، ثمّ مرّوا أيضا بقوم كثيرين حتى رأى صاحبه الآخر ، وقال : هذا الآخر ، فقال النبيّ صاحب الرجلين : أمّا أنا فقد آمنت بإلهكما ، وعلمت أنّ ما جئتما به هو الحقّ. فقال الملك : وأنا أيضا آمنت بإلهكما ، وآمن أهل مملكته كلّهم »(١) .

﴿قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ *

 قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجاءَ مِنْ أَقْصَا

 الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ

 أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (١٨ و) (٢١)

ثمّ لمّا عجز القوم عن الاحتجاج ، وضاقت عليهم الحيل ، سلكوا طريق العناد واللّجاج و﴿قالُوا :﴾ أيّها المدّعون للرسالة ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ﴾ وتشأمنا بقدومكم في بلدنا ، إذ منذ قدمتم انقطع عنّا المطر ، وابتلينا بالبلايا والشرور - على ما قيل - فاخرجوا من بيننا ، أو انتهوا عن دعوتكم (٢) ، والله ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾ عمّا تقولون ، ولم تمتنعوا عن مقالتكم ، ولم ترتدعوا عن دعوتكم ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ ولنرمينّكم بالحجارة ﴿وَلَيَمَسَّنَّكُمْ﴾ وليصيبكم ﴿مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ وهو القتل بالأحجار.

وقيل : إنّ المراد بالرجم السبّ والشتم ، والمعنى لنشتمنّكم ، بل لا نكتفى به ، فان لم ترتدعوا بالشتم لنضربنّكم ونقتلنكم (٣) ، فأجابهم الرّسل و﴿قالُوا :﴾ يا قوم ﴿طائِرُكُمْ﴾ وسبب شؤمكم ﴿مَعَكُمْ﴾ وهو كفركم بالله ، وطغيانكم عليه ، وتكذيبكم رسله ، فانّه سبب ابتلائكم بالبلايا والشرور ، وليس ذلك منّا.

ثمّ لاموهم على تطيّرهم وتوعيدهم بقولهم : ﴿أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ ووعظتم وارشدتم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم ونصحتم بما فيه صلاح دنياكم وآخرتكم ، وتطيّرتم بالمرشد الناصح ، أو توعّدتموه

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٤٧.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٧ : ٣٨١.

٢٦٠