نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

مخالفتها ﴿فَأَبَيْنَ﴾ وامتنعن ﴿أَنْ يَحْمِلْنَها﴾ ومن تحمّلها ، وقلن على ما قيل : يا رب ، نحن مسخّرات بأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا (١)﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْها﴾ وخفن من العذاب المترتّب على مخالفتها جهلا بسعة الرحمة ، وعدم الاعتماد بحفظه وتأييده تعالى ، فانّ لكلّ موجود عقلا وإدراكا على مرتبة وجوده ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ﴾ وقبل مشقّة أداء حقّها عند عرضها عليه.

وقيل : إنّ عرض الأمانة من باب الفرض والتمثيل ، إيضاحا لعظم شأن تلك الأمانة ، والمعنى أنّ هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في الشدّة والقوّة ، لو كانت ذات شعور وإدراك ، وكلّفت بقبول تلك الأمانة ومراعاتها ، لأبين من قبولها ، وأشفقن منها ، لغاية عظمة شأنها وتكلّفها ، والتزم بها جنس الانسان مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوّة (٢) .

﴿إِنَّهُ﴾ بالجبلّة ﴿كانَ ظَلُوماً﴾ وكثير التعدّي على نفسه بارتكاب العصيان ﴿جَهُولاً﴾ بوخامة عاقبتها.

عن ابن مسعود ، أنّه قال : مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة ، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها ، فلم يقربوا منها ، وقالوا : لا نطيق حملها ، وجاء آدم من غير أن دعي وحرّك الصخرة ، وقال : لو امرت بحملها لحملتها ، فقلن له : احمل فحملها إلى ركبتيه ، ثمّ وضعها وقال : لو أردت أن ازداد لزدت ، فقلن له : احمل فحملها إلى حقوه ، ثمّ وضعها وقال : لو أردت لزدت ، فقلن له : أحمل فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فأراد أن يضعها ، فقال الله : مكانك ، فانّها في عنقك وعنق ذرّيتك إلى يوم القيامة(٣) .

وروي أنّ آدم قال : أحمل الأمانة بقوّتي أم بالحقّ ؟ فقيل : من يحملها يحمل بنا ، فانّ ما هو منّا لا يحمل إلّا بنا (٤).

وروي أنّ عليا عليه‌السلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن ، فيقال له : مالك يا أمير المؤمنين ؟ فيقول : « جاء وقت الصلاه ، وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها » (٥) .

وفي ( النهج ) في وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام للمسلمين : « ثمّ أداء الأمانة ، فقد خاب من ليس أهلها ، إنّها عرضت على السماوات المبنية ، والأرض المدحية ، المدحوة والجبال ذات الطول المنصوبة ، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها ، ولو امتنع شيء ذو طول أو عرض أو قوة أو عزّ لا متنعن،

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٢٥٤ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ١١٨ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٢.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٣.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٣.

(٥) عوالي اللآلي ١ : ٣٢٤ / ٦٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠٨.

٢٠١

ولكن أشفقن من العقوبة ، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ ، وهو الانسان ، إنّه كان ظلوما جهولا» (١) .

وعن القمي رحمه‌الله : الأمانة هي الإمامة والأمر والنهي - إلى أن قال - فالأمانة هي الإمامة ، عرضت على السماوات والأرض والجبال ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها﴾ أن يدّعوها ، أو يغصبوها من أهلها ﴿وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ﴾ يعني الأول ﴿إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً(٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام « الأمانة : الولاية ، والانسان : أبو الشرور المنافق » (٣) .

أقول : ما ذكر في رواياتنا تأويل قابل للنقل ، وقد ذكر كثير من العامة والخاصة لها تأويلات لا ينبغي نقلها ، لكونها من غير الراسخين في العلم.

﴿لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى

 الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)

ثمّ علّل سبحانه العرض أو الحمل بقوله : ﴿لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ﴾ الذين خانوا في الأمانة بعد قبولها ﴿وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ﴾ الذين عصوا ربّهم بردّها وعدم قبولها ، كذا قيل (٤)﴿وَيَتُوبَ اللهُ﴾ ويرجع بالرحمة وقبول التوبة ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ﴾ الذين قبلوا الأمانة وراعوها ، واهتمّوا بحفظها ، قيل : إنّ اللام لام العاقبة ، والمعنى كان عاقبة العرض على الانسان (٥) - أو عاقبة حملها - تعذيب الخائنين وإثابة الحافظين.

وإنّما ذكر قبول توبتهم للتنبيه بأنّهم لا يخلون من فرطات باقتضاء جبلّتهم وتداركهم لها بالتوبة والإنابة ، وذكر اسم الجليل أولا للتهويل وتربية المهابة ، وإعادتها في موضع الاضمار لاظهار مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين وتفضيلهم.

ولمّا عبّر سبحانه عن تكاليفه بالأمانة ، قدّم ذكر تعذيب المنافقين والمشركين إشعارا بكون التعذيب من لوازم الخيانة في الأمانة دون الإثابة على الحفظ ، فانّها بالإحسان والتفضّل.

ثمّ لمّا وصف الانسان بكونه ظلوما جهولا ، وصف ذاته المقدّسة بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ غَفُوراً﴾ وستورا لظلم الظالمين من المؤمنين على أنفسهم بالعصيان ﴿رَحِيماً﴾ بالخاطئين والمسيئين بجهالة حيث يقبل توبتهم ، ويثيبهم بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر بقلب أحد.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣١٧ الخطبة ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠٧.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠٧.

(٣) معاني الأخبار : ١١٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠٧.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٦.

(٥) تفسير أبي السعود ٧ : ١١٨ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٦.

٢٠٢

عن ابي بن كعب : كانت سورة الأحزاب تقارب سورة البقرة ، أو أطول منها ، ثمّ رفع [ أكثرها ] من الصدور ونسخ وبقي ما بقي (١) .

وفي الحديث : « من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطي الأمان من عذاب القبر» (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب ، كان يوم القيامة في جوار محمّد وآله الأطهار وأزواجه» (٣) .

وفقّنا الله وجميع المؤمنين لإكثار تلاوتها ، والتبرّك والعمل بما فيها ، بمحمد وآله الطيبين صلوات الله عليهم أجمعين.

تمّ تفسير سورة الأحزاب بعون الله الملك الوهّاب ، ونسأله التوفيق لتفسير ما يتلوها.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٧ ، وهذه من الأخبار الباطلة التي تدلّ على النقصان في الكتاب الكريم ، وهو منزّه عن كلّ أنواع التحريف سواء بالزيادة أو النقص باجماع المسلمين ، ومصون من يد التغيير بحفظ العزيز العلّام.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٢٥٧.

(٣) ثواب الاعمال : ١١٠ ، مجمع البيان ٨ : ٥٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٠٩.

٢٠٣
٢٠٤

في تفسير سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ

 وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ

 السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (١) و (٢)

ثمّ لمّا ختمت سورة الأحزاب التي حكى الله في آخرها استهزاء الكفّار بوعد القيامة ، وذكر بعض أهوالها ، وبيّن في أولها الولاية المطلقة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي وسطها رسالته وخاتميته للأنبياء كافة ، نظم بعدها سورة سبأ المبدوءة بدليل لزوم المعاد وإنكار الكفّار وقوعه ، المتوسطة باثبات رسالته إلى كافة الناس إلى يوم القيامة ، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات حسب دأبه تعالى بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثمّ أثنى على ذاته المقدّسة بقوله : ﴿الْحَمْدُ﴾ بجنسه وبجميع أنواعه وأفراده ﴿لِلَّهِ﴾ وحده ، ومختصّ بالواجب الوجود ﴿الَّذِي لَهُ﴾ بالملكية الإشراقية والإيجادية ﴿ما فِي السَّماواتِ﴾ من الملائكة والكواكب وغيرها ﴿وَما فِي الْأَرْضِ﴾ من الجنّ والإنس والحيوان والنبات والجبال والبحار والمعادن وغيرها من الموجودات التي خلقها الله لانتفاع الانسان في دينه ودنياه ومعاده ومعاشه ، وإن لم يلزم كون الحمد على النعمة ، لأنّه الثناء على الجميل اختياري ﴿وَلَهُ﴾ تعالى وحده ﴿الْحَمْدُ فِي﴾ عالم ﴿الْآخِرَةِ﴾ الذي يكون بعد هذا العالم على قدرته وعدله وفضله ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ الذي خلق الأشياء على وفق المصلحة ، ونظمها بأحسن نظام ﴿الْخَبِيرُ﴾ والعليم بجميع ذرات الكائنات وبواطنها وعواقبها.

ثمّ قرّر كمال علمه وخبرويته وأوضحه بقوله ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ﴾ ويدخل ﴿فِي﴾ مضائق ﴿الْأَرْضِ﴾ وخللها من المياه والكنوز والدافائن والأموات والأبخرة ونحوها ﴿وَما يَخْرُجُ مِنْها﴾ من المياه والأبخرة والزروع والحشائش والمعادن والأموات حين البعث وغيرها ﴿وَ﴾ يعلم ﴿ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ من الملائكة والكتب والأمطار والبركات ونظائرها ﴿وَما يَعْرُجُ﴾ ويصعد ويدخل

٢٠٥

﴿فِيها﴾ من الملائكة والأعمال الصالحة والأدعية الخالصة وأمثالها ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ﴾ بالمطيعين و﴿الْغَفُورُ﴾ للعاصين.

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا

 يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا

 أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ

 مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٣) و (٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد توصيف نفسه بالقدرة والعلم الدالين على إمكان المعاد ، والحكمة الدالة على وجوبه عليه ، حكى إنكار المنكرين له بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ جهلا وعنادا : ﴿لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ قيل : إنّه قال أبو سفيان وحلف باللّات فأمر بردّهم (١) بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم ﴿بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ الساعة البتة. ثمّ وصف نفسه بقوله : ﴿عالِمِ الْغَيْبِ﴾ تنبيها بأنّها من الغيوب التي لا يطّلع عليها غيره ، فانّه هو الذي ﴿لا يَعْزُبُ﴾ ولا يغيب ﴿عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ﴾ وأصغر من شيء كائن ﴿فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ مع سعتهما ﴿وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ﴾ المثال والمقدار ﴿وَلا أَكْبَرُ﴾ منه ﴿إِلَّا﴾ أنّه مثبوت ﴿فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ واللّوح المحفوظ ، وإنّما يأتي الله بالساعة ويثبت الأشياء ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ في يوم الساعة على إيمانهم وأعمالهم وجزاء ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون أن ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ للذنوب ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ مكرّم لا تعب فيه ولا منّة ، فانّ كمال الانسان ليس إلّا بالايمان والعمل ، وليس هذا العالم محلّ الجزاء عليهما ، فلا بدّ من عالم آخر يجزي عليهما.

﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى

 الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ

 الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٥) و (٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمنين ، ذكر حال الكفّار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ ومشوا سريعا ﴿فِي﴾ إبطال ﴿آياتِنا﴾ القرآنية وأدلّة التوحيد والمعاد والرسالة حال كونهم ظانّين وزاعمين أنّهم ﴿مُعاجِزِينَ﴾ لنا ، وقادرين على الخروج من تحت قدرتنا بحيث نعجز عن تعذيبهم ، أو معاجزين

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٦٠.

٢٠٦

للضعفاء عن الاستدلال بها ﴿أُولئِكَ﴾ المسارعون بسبب جدّهم وسعيهم ذلك ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة عذاب كائن ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿رِجْزٍ﴾ وسوء عذاب وشديده و﴿أَلِيمٌ﴾ غايته.

ثمّ بيّن قوّة إيمان أهل العلم ، وعدم تأثير سعيهم وكيدهم في تثبيطهم عن الايمان بقوله : ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بالكتب السماوية وأحوال الأنبياء وبياناتهم بعين القلب ونور العلم. القمي : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام (١)﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من النبوة والقرآن والأحكام والحكم ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿الْحَقَ﴾ الحقيق بالقبول ﴿وَيَهْدِي﴾ المصدّقين له ﴿إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ودين الله الغالب المستحقّ للثناء والتمجيد ، أو الله المنتقم من المكذّبين ، والشكور على المصدقين ، ففي ذكر الوصفين ترهيب وترغيب.

وقيل : فيه ترغيب فقط ، فانّ سلوك صراط العزيز موجب للعزّ في الدارين ، وقربه سبب للكرامة في النشأتين (٢) .

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي

 خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

 فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٧) و (٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر إنكار الكفّار وردّهم بكونه مقدورا له ، وموافقا للحكمة الملزمة ، حكى سبحانه استهزاءهم بإخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، واستعجالهم منه بقوله : ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بعضهم لبعض استهزاء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا قوم ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ﴾ يدّعي النبوة والرسالة من الله و﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ ويخبركم بأعجب الأعاجيب الذي لا يقول به عاقل وهو أنكم ﴿إِذا﴾ متّم و﴿مُزِّقْتُمْ﴾ وفرّقتم ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ وغاية التفرّق بأن صرتم ترابا ورفاتا ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وتخلقون مرة اخرى ، وتحيون حياة ثانية لا ندري ﴿أَفْتَرى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللهِ﴾ في إخباره هذا ﴿كَذِباً﴾ واضحا فظيعا ، إن قال ذلك مع شعور وقصد ﴿أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ ومرض زوال العقل ، يوهمه ذلك إن قال هذا القول من دون شعور وقصد.

ثمّ ردّهم الله بأن الأمر ليس كما زعموا ، فانّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله مبّرأ من الافتراء والجنون ﴿بَلِ الَّذِينَ﴾ نسبوا أحد الأمرين إليه على سبيل منع الخلوّ أجهل الجهال وأسفه السّفهاء ، لأنّهم بسبب أنّهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ ولا يصدّقون دار الجزاء واقعون ﴿فِي الْعَذابِ﴾ الشديد في الآخرة ﴿وَالضَّلالِ

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١١.

(٢) الرازي ٢٥ : ٢٤٣.

٢٠٧

والانحراف ﴿الْبَعِيدِ﴾ عن الحقّ والصواب في الدنيا ، وهم لا يدركون حالهم في الدنيا ومآلهم في الآخرة ، ولو كان لهم عقل وإدراك لفهموا حقيقة حالهم ، ولما اجترءوا على إساءة مقالهم.

﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ

 بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ

 مُنِيبٍ * وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ

 * أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

 * وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ

 الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ

 السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ

 راسِياتٍ (٩) و (١٣)

ثمّ وبّخهم سبحانه بعدم التفاتهم على كونهم محاطين بقدرة الله وفي قبضته الدالّ على توحيده تعالى بقوله : ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾ بحيث لا يقدرون على الفرار منها.

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿إِنْ نَشَأْ﴾ تعذيبهم على كفرهم وسوء مقالهم ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ كما خسفناها بقارون ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً﴾ وقطعا من النار ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ كما أسقطنا على قوم شعيب لتكذيبهم الآيات بعد ظهور البينات ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ النظر والفكر فيهما وفي إحاطتهما بالخلق ، أو ما تلي عليهم من الآية الناطقة بما ذكروا الله ﴿لَآيَةً﴾ ودلالة واضحة على التوحيد والمعاد ، ولكن لا للقاسية قلوبهم ، بل ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ رجّاع إلى ربّه ، فانّه إذا تأمّل فيها ينزجر عن تعاطي القبيح من الشرك وإنكار المعاد.

ثمّ لمّا مدح العبد المنيب ذكر نعمه ولطفه على داود عليه‌السلام المشهور بالانابة بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿داوُدَ﴾ النبي ﴿مِنَّا فَضْلاً﴾ ومزية على أقرانه من الأنبياء والأولياء لكثرة إنابته ، بأن قلنا للجبال التي في غاية الجمودة : ﴿يا جِبالُ أَوِّبِي﴾ وسبّحي مع داود ، ورجّعي بالتسبيح إذا سبّح ، أو سيري ﴿مَعَهُ وَ﴾ سخّرنا له ﴿الطَّيْرَ﴾ مع غاية نفوره من الانسان ، فكان الجبال والطير يسبّحن إذا سبّح داود عليه‌السلام بحيث يسمع الناس تسبيحهما بلسان فصيح.

٢٠٨

القمي رحمه‌الله ، قال : كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزّبور ، وتسبّح معه الجبال والطير والوحوش (١)﴿وَأَلَنَّا لَهُ﴾ كالشمع والعجين ﴿الْحَدِيدَ﴾ بحيث يصرّفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنار ، وقلنا له : ﴿أَنِ اعْمَلْ﴾ واصنع منه ﴿سابِغاتٍ﴾ ودروعا واسعة طويلة ﴿وَقَدِّرْ﴾ واقتصد ﴿فِي السَّرْدِ﴾ ونظم الحلق ونسجها بحيث تناسبت وتساوت في الدقّة والغلظ فلا تغلق ولا تحرق.

عن الرضا عليه‌السلام : « الحلقة بعد الحلقة » (٢) . وقال القمي : المسامير التي في الحلقة (٣) .

قيل : إنّه عليه‌السلام أوّل من اخترع الدرع ، وكان قبل ذلك صفائح حديد مضروبة (٤) .

روي أنّه عليه‌السلام حين ملك بني إسرائيل كان يخرج متنكّرا ، فيسأل الناس ما يقولون في غيابه ، فبعث الله ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته ، فقال الملك : نعم الرجل داود ، لو لا خصلة فيه : فسأله عنها ، فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده لتمّت فضائله. فعند ذلك سأل الله أن يسبّب له ما يستغني به عن بيت المال ، فعلّمه سبحانه صنعة الدرع ، فكان يعمل في كلّ يوم درعا ويبيعها بأربعة آلاف درهم ، أو بستة آلاف ، ينفق على نفسه وعياله ألفين ، ويتصدّق بالباقي على الفقراء (٥) .

وفي الحديث : « كان داود لا يأكل إلّا من كسب يده» (٦) .

وقيل : إنّ المراد من التقدير في السّرد أن لا يصرف جميع أوقاته فيه ، بل يصرف مقدارا تحصل به القوة ، ويصرف البقية في العبادة (٧) .

﴿وَ﴾ قلنا ﴿اعْمَلُوا﴾ يا داود وآله عملا ﴿صالِحاً﴾ خالصا لله ﴿إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ﴾ من العبادات ﴿بَصِيرٌ﴾ ومطّلع ، فأجازيكم عليها أحسن الجزاء.

﴿وَ﴾ سخّرنا ﴿لِسُلَيْمانَ﴾ بن داود ﴿الرِّيحَ﴾ وهي الصّبا على ما قيل (٨)﴿غُدُوُّها﴾ وسيرها من طلوع الشمس إلى الزوال ﴿شَهْرٌ﴾ ومقدار سير الراكب المسرع بين الهلالين ﴿وَرَواحُها﴾ وسيرها من الزوال إلى الغروب ﴿شَهْرٌ﴾ فكانت تسير في يوم واحد مسيرة شهرين للراكب.

القمي : كانت الريح تحمل كرسي سليمان ، فتسير به في الغداة مسيرة شهر ، وبالعشي مسيرة شهر (٩) .

﴿وَأَسَلْنا﴾ وأجرينا ﴿لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ والنّحاس المذاب كالماء الجاري من العين ، كما ليّنا لأبيه الحديد ، فكان يصنع منه كلّما أراد.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١١.

(٢) قرب الاسناد : ٣٦٤ / ١٣٠٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٢.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٢٦٧.

(٥-٧) تفسير روح البيان ٧ : ٢٦٨.

(٨) تفسير روح البيان ٧ : ٢٦٩.

(٩) تفسير القمي ٢ : ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٢.

٢٠٩

قيل : كان المعدن باليمن (١) .

والقمي قال : عين الصّفر (٢) .

﴿وَ﴾ كان ﴿مِنَ﴾ طائفة ﴿الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ﴾ له أعمالا عجيبة ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وفي منظره ومرآه ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ وبأمره ﴿وَمَنْ يَزِغْ﴾ ويعدل ﴿مِنْهُمْ عَنْ﴾ طاعة ﴿أَمْرِنا﴾ إيّاه بطاعة سليمان ، ويمل إلى عصيانه ﴿نُذِقْهُ﴾ ونطعمه ﴿مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ﴾ والنار الموقدة في الآخرة ، أو في الدنيا.

قيل : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلّما استعصى عليه جنّي ضربه من حيث لا يراه ضربة فأحرقته بالنار (٣) .

وكان الجنّ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لسليمان ويصنعون ﴿لَهُ﴾ بأمره ﴿ما يَشاءُ﴾ ويريد ﴿مِنْ مَحارِيبَ﴾ وقصور وغرف عالية ومساكن شريفة ﴿وَتَماثِيلَ﴾ وصور مجسمة من صور الملائكة والأنبياء والوحوش والطيور والأشجار وغيرها.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ، ولكنّها الشجر وشبهه » (٤) .

﴿وَجِفانٍ﴾ وأوان كبيرة ﴿كَالْجَوابِ﴾ والحياض الكبار ﴿وَقُدُورٍ﴾ وظروف من النّحاس أو الحجارة يطبخ فيها اللّحم ﴿راسِياتٍ﴾ وثابتات على الأثافي ، لا تنزل منها لعظمها ، ولا تحرّك من أماكنها ، بل يصعد عليها بالسلالم.

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما

 دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ

 كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٣) و (١٤)

ثمّ لمّا ذكر نعمه الخاصة على سليمان عليه‌السلام ، طلب منه العبادة والشكر بقوله : ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ﴾ لله واعبدوه ، لأجل أن يكون عملكم ﴿شُكْراً﴾ له تعالى على نعمه ، أو المراد اشكروا لله شكرا ، أو افعلوا شكرا ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ المجدّ في أداء حقّ نعمه بالقلب واللسان والجوارح ، وإن لم يمكن الخروج عن عهدة شكر نعمه ، لأنّ توفيق الشكر نعمة عظيمة يجب شكرها.

ثمّ لمّا ذكر عظمة ملك سليمان وسلطانه ، ذكر نعمته عليه بعد موته بإقامة جسده معتمدا على عصاه ، ليتمّ أغراضه ، ونبّه على أنّ أحدا لا ينجو من الموت بقوله : ﴿فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٧١.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٩٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٢.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٦ : ٥٢٧ / ٧ ، مجمع البيان ٨ : ٦٠٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٢.

٢١٠

وحكمنا بزهاق (١) روحه من جسده ومات ، بقي معتمدا على عصاه مدة مديدة ، لكيلا تتوانى جنوده من الجنّ والإنس في ما كلّفهم من الأعمال المقصودة له.

ثمّ ﴿ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ﴾ وما عرفهم به ﴿إِلَّا﴾ الأرضة التي هي ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ وحشراتها التي تأكل الخشب ، فكانت ﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ وعصاه ﴿فَلَمَّا﴾ انكسرت و﴿خَرَّ﴾ وسقط سليمان عليه‌السلام على الأرض ميتا ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُ﴾ وظهرت لهم ﴿أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾ لعلموا بموت سليمان حينه و﴿ما لَبِثُوا﴾ وما مكثوا بعد موته مدّة مديدة ﴿فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ﴾ والأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها له بتسخيره وبأمره.

وقيل : يعني تبيّنت للإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلى آخره (٢) ، فانّ الإنس لمّا رأوا أنّ الجنّ يعلمون ما لا يعلمه الإنس ، ظنّوا أنّهم يعلمون الغيب ، فظهر بظهور جهلهم بموت سليمان عليه‌السلام خطأ الإنس في ذلك الظنّ.

قيل : إنّه لمّا دنا أجل سليمان عليه‌السلام لم يصبح إلّا ورأى في محرابه شجرة نابتة (٣) ، فكان يسألها من خواصها فتخبره بها ، وهو يخبر الأطبّاء بها ، ثمّ إنّه رأى في محرابه يوما حشيشا خشبا رطبا ، فسأله عن اسمه وخاصيّته ، فقال : أمّا اسمي فخرتوب (٤) ، وأمّا خاصيّتي فتخريب البيوت ، فانّي في أيّ بيت أنبت يخرب ذلك البيت ، فعلم سليمان عليه‌السلام أنّه قد دنا أجله.

ثمّ أنّه لاقى ملك الموت ، فقال له : أخبرني بوقت موتي ، فجاءه يوما وقال : لم يبق من عمرك إلّا ساعة ، فأوص بما شئت ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلّي ، وأجتمعت الشياطين حوله ، ولم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلّا احترق ، فقبض عزرائيل روحه الشريف ، فبقي جسده قائما متكئا على عصاه سنة ، ولم يعلم أحد بموته ، ولا ينكرون عدم خروجه لطول صلاته قبل ذلك ، فلمّا أكلت الأرضة عصاه ، سقط على الأرض ، فمرّ شيطان به ، فلم يسمع صوته ، ثمّ رجع فلم يسمع صوته ، ثمّ نظر فاذا هو قد خرّ ميتا ، ففتحوا عنه ، فاذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا ، فحسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه بظنّ أنه كان حيا.

ثمّ أنّ الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيبه ، ولو كنت تشربين الشراب أسقيناك من أطيبه ، ولكن ننقل إليك الماء والطين ، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت ، ألم تر إلى

__________________

(١) كذا ، والصواب : زهوق.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٦٠١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٧٨.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٢٧٨.

(٤) كذا ، ولعله خرنوب ، أو خرّوب.

٢١١

الطين الذي يكون في جوف الخشب ، فهو ما يأتيها الشياطين تشكّرا لها (١).

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل أوحى إلى سليمان بن داود عليه‌السلام أنّ آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها الخرنوبة ، فنظر سليمان يوما فاذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت من بيت المقدس ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخرنوبة ، فولى سليمان عليه‌السلام مدبرا إلى محرابه ، فقام فيه متّكأ على عصاه » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أمر سليمان الجنّ فوضعوا له قبة من قوارير ، فبينما هو متّكيء على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف يعملون ، وينظرون إليه ، إذ حانت منه التفاتة ، فاذا هو برجل معه في القبّة ، ففزع منه ، فقال له : من أنت ؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرّشا ، ولا أهاب الملوك ، أنا ملك الموت ، فقبضه وهو متّكئ على عصاه في القبّة ، والجنّ ينظرون إليه ، فمكثوا سنة يدأبون له ، حتى بعث الله الأرضة فأكلت منسأته ، وهي العصا ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ﴾ الآية » (٣) .

قال : « فالجنّ تشكر الأرضة بما عملت بعصا سليمان ، فما تكاد تراها في مكان إلّا وعندها ماء وطين »(٤).

وقال القمي : فلمّا خرّ لوجهه تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون ، إلى آخره ، وذلك أن الإنس كانوا يقولون إنّ الجنّ يعلمون الغيب ، فلمّا سقط سليمان على وجهه ، علموا أن لو يعلم الجنّ الغيب لم يعملوا سنة لسليمان وهو ميت ، ويتوهّمونه حيا (٥) .

وعن الرضا عن أبيه عليهما‌السلام : « أنّ سليمان عليه‌السلام قال ذات يوم لأصحابه : إنّ الله تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ؛ سخّر لي الريح والإنس والجنّ والطير والوحوش ، وعلّمني منطق الطير ، وآتاني من كلّ شيء ، ومع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل ، وقد أحببت أن أدخل قصري فأصعد أعلاه ، وأنظر إلى ممالكي ، ولا تأذنوا لأحد عليّ لئلا ينغّص عليّ يومي. قالوا : نعم.

فلمّا كان من الغد ، أخذ عصاه بيده ، وصعد إلى أعلى موضع من قصره ، ووقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما اوتي ، فرحا بما أعطي ، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس ، قد خرج إليه من بعض زوايا قصره ، فلمّا بصر به قال له : من أدخلك إلى هذا القصر ، وقد أردت أن أخلو فيه

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٧٩.

(٢) الكافي ٨ : ١٤٤ / ١١٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٣.

(٣) علل الشرائع : ٧٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٣.

(٤) علل الشرائع : ٧٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٣.

(٥) تفسير القمي ٢ : ٢٠٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٣.

٢١٢

اليوم ، فبإذن من دخلت ؟ قال الشابّ : أدخلني هذا القصر ربّه ، وبإذنه دخلت. فقال : ربّه أحقّ به مني ، فمن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت. قال : فيما جئت ؟ قال : جئت لأقبض روحك. قال : امض لما امرت به ، فهذا يوم سروري ، وأبي الله عزوجل أن يكون لي سرور دون لقائه.

فقبض ملك الموت روحه وهو متّكيء على عصاه ، فبقي سليمان عليه‌السلام متّكئا على عصاه وهو ميت ما شاء [ الله ] والناس ينظرون إليه ، ويقدّرون أنّه حيّ ، فافتتنوا فيه واختلفوا ، فمنهم من قال : قد بقي سليمان متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة لم يتعب ولم ينم ، ولم يأكل ولم يشرب ، إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده. وقال قوم : إنّه ساحر ، وإنّه يرينا أنّه واقف متّكيء على عصاه بسحر أعيننا - إلى أن قال - : فلمّا اختلفوا بعث الله عزوجل الأرضة ، فدبّت في عصاه ، فلمّا أكلت جوفها انكسرت ، وخرّ سليمان من قصره ». الخبر (١) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه عاش سليمان سبعمائة واثنتي عشرة سنة » (٢) .

﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ

 وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ

 وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ *

. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٥) و (١٧)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه لطفه بالمنيبين الشاكرين ، ذكر نقمته على الكافرين بقوله : ﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ﴾ وهم قبيلة في اليمن يدعون باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ سبأ رجل من العرب ، ولد عشرة » الخبر (٣) .

﴿فِي مَسْكَنِهِمْ﴾ ومحلّ إقامتهم ، وهو مدينة مأرب باليمن ، بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل ﴿آيَةٌ﴾ عظيمة ، ودلالة واضحة على وجود الصانع الحكيم اللطيف بعباده ، وهي جنان كثيرة متّصلة بعضها ببعض بحيث تعدّ ﴿جَنَّتانِ﴾ أحدهما ﴿عَنْ يَمِينٍ﴾ من المدينة ﴿وَ﴾ الاخرى عن ﴿شِمالٍ﴾ منها.

وقيل : يعني لكلّ مسكن ودار جنّتان عن يمينها وشمالها (٤) .

وقال لهم ربّهم بلسان نبيّهم أو بلسان الحال : يا قبيلة سبأ ﴿كُلُوا﴾ وانتفعوا ﴿مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ ونعمه

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٥ / ٢٤ ، علل الشرائع : ٧٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٤.

(٢) كمال الدين : ٥٢٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٥.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٦٠٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٥.

(٤) تفسير أبي السعود ٧ : ١٢٧ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٨١.

٢١٣

﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ على رزقكم ، فانّ لكم مضافا إلى أنواع الثّمار ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ من حيث الهواء والماء والأمان من الأعداء والمؤذيات ، تعيشون فيها في الدنيا ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ لذنوبكم في الآخرة ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ عن آياتنا ، ولم يعتنوا بها ، وعن شكر نعمنا ، فلم يؤدّوا حقّها بالقيام بالطاعة ﴿فَأَرْسَلْنا﴾ وأجرينا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وعلى بساتينهم وأموالهم ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ والشديد. قيل : إنّ العرم اسم واد جاء منه السيل ، كما عن ابن عباس. أو قيل : إنه اسم السدّ الذي يحبس الماء بلغة حمير (١). وقيل : هو اسم الجرد الذّكر الذي أرسله الله ، فنقب عليهم ذلك السدّ (٢).

قيل : إنّه كان مسكن أولاد سبأ في حوالي بلدة مأرب بين الجبلين ، طوله ثمانية عشر فرسخا ، وكان لا يأتيهم الماء من مسيرة عشرة أيام حتى يجري بين الجبلين ، فجعلت بلقيس سدّا بين الجبلين من الأحجار والقار ، كي تجتمع فيه مياه الأمطار والعيون ، وجعلت له ثقوبا في أعلاه ووسطه وأسفله ، فاذا امتلأ السدّ فتحوا الثقوب العالية ، وسقوا مزارعهم وبساتينهم ، وإذا توسّطه الماء فتحوا الثقوب المتوسطة وهكذا ، فبعث الله ثلاثة عشر نبيا إلى ثلاث عشرة قرية من قراهم ، فدعوهم إلى الايمان والطاعة ، وذكّروهم نعم الله ، وخوّفوهم عذابه ، فكذبوهم وقالوا : ما تعرف له علينا من نعمة ، فقولوا لربّكم فليحبس عنّا هذه النّعمة إن استطاع ، فارسل الله الجرذ ، فخرّبوا السدّ ، فجاءهم السيل الذي لا يطاق ، وملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنّات وكثيرا من الناس ، وأغرق أموالهم ومواشيهم (٣).

القمي ، قال : إنّ البحر كان باليمن ، وكان سليمان أمر جنوده أن يجروا لهم خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند ، ففعلوا ذلك ، وعقدوا عقدة عظيمة من الصخر والكلس حتى يفيض على بلادهم ، وجعلوا للخليج مجاري ، فكانوا إذا أرادو أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه ، وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال من مسيرة عشرة أيام ، فيها يمرّ المارّ لا تقع عليه الشمس من التفافهما ، فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن أمر ربّهم ، ونهاهم الصالحون فلم ينتهوا ، بعث الله عزوجل على ذلك السدّ الجرذ - وهي الفأرة الكبيرة - فكانت تقلع الصخرة التي لا تسقلّها الرجال ، وترمي بها ، فلمّا رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد ، فما زال الجرذ يقلع الحجر حتى خرّبوا ذلك [ السدّ ] فلم يشعروا حتى غشيهم السيل ، وخرّب بلادهم ، وقلع أشجارهم ، وهو قوله تعالى : ﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ﴾ إلى قوله : ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ أي العظيم الشديد (٤) .

﴿وَبَدَّلْناهُمْ﴾ وعوضناهم ﴿بِجَنَّتَيْهِمْ﴾ اللتين كانتا عن اليمين والشمال ، وذاتي أشجار مثمرة نافعة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ١٢٨.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٠٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٥.

٢١٤

﴿جَنَّتَيْنِ﴾ اخريين ﴿ذَواتَيْ أُكُلٍ﴾ وثمر ﴿خَمْطٍ وَ﴾ مرّ ، وشجر ﴿وَأَثْلٍ﴾ يقال له طرفاء ، ولا ثمر له ﴿وَشَيْءٍ مِنْ﴾ شجر ﴿سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾.

قيل : توصيف السّدر بالقلّة ، لكون ثمره - وهو النّبق - ممّا يطيب أكله (١).

وقيل : إنّ السّدر صنفان : صنف يؤكل من ثمره وينتفع بورقه لغسل اليد ، وصنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا ، وهو البرّي الذي يقال له الضالّ ، والمراد ها هنا هو الثاني ، فكان شجرهم من خير شجر ، فصيّره الله من شرّ شجر بسبب أعمالهم القبيحة (٢).

﴿ذلِكَ﴾ التبديل ، أو الجزاء الفضيع ﴿جَزَيْناهُمْ﴾ لا جزاء آخر ﴿بِما كَفَرُوا﴾ نعمتنا وبسبب تركهم شكرها ، أو بسبب كفرهم بالله ورسله ﴿وَهَلْ نُجازِي﴾ بسلب النعمة ووضع ضدّها مكانها ﴿إِلَّا الْكَفُورَ﴾ والمصرّ في ترك الشكر ، لا والله لا نجازي به غيره.

وقيل : كلمة ( هل ) هنا للنفي (٣).

﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ

 سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا

 أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ

 صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٨) و (١٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر النّعم التي كانت لهم في بلدهم وكفرانها ، ذكر النعمة الخارجة وكفرانهم بقوله : ﴿وَجَعَلْنا﴾ وأوجدنا مضافا إلى ما آتيناهم من النّعم في مساكنهم ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وفي المسافة التي بين بلادهم اليمنية ﴿وَبَيْنَ الْقُرَى﴾ والبلاد الشامية ﴿الَّتِي بارَكْنا﴾ وأكثرنا النّعم ﴿فِيها﴾ بالمياه الكثيرة ، والأشجار المثمرة ، والخصب والسّعة في المعيشة للأغنياء والفقراء ، كفلسطين وأريحا والأردنّ.

والقمي ، قال : هي مكّة (٤) .

﴿قُرىً ظاهِرَةً﴾ ومتواصلة يرى بعضها من بعض.

قيل : كان بين سبأ والشام أربعة آلاف وسبعمائة قرية (٥) ، أو ظاهرة للمسافر بكونها على الطريق غير

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٢٥٩ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٤.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٤.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٠١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٦.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٥.

٢١٥

بعيدة عنه حتى تخفى عليه ﴿وَقَدَّرْنا﴾ في تلك القرى وعيّنا ﴿فِيها﴾ للمسافر ﴿السَّيْرَ﴾ والسلوك في الأرض مقدارا من المسافة يليق بحال عابري السبيل.

قيل : كان الغادي يقيل في الاخرى ، والرائح منها يبيت في اخرى إلى أن يبلغ الشام ، لا يحتاج إلى حمل زاد وماء ، نعمة عليهم في سفرهم (١) .

وقلنا له بلسان الحال أو المقال : يا أولاد سبأ ﴿سِيرُوا﴾ في تلك القرى ، وسافروا ﴿فِيها﴾ لمصالحكم ، وإن تطاولت مدّة سفركم ﴿لَيالِيَ وَأَيَّاماً﴾ كثيرة حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الأعداء واللصوص والسباع بسبب كثرة الخلق ، ومن الجوع والعطش بسبب عمارة المواضع ، أو المراد سيروا فيها متى شئتم من الليالي والأيام لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات ، فبطر أولاد سبأ النعمة ، وسئموا طيب العيش ﴿فَقالُوا﴾ طلبا للتعب : ﴿رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ﴾ منازل ﴿أَسْفارِنا﴾ بتخريب القرى وجعلها مفاوز ، ليركبوا فيها ، ويحملوا الزاد ، ويتطاولوا على الفقراء ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بتعريضها للسّخط والعذاب بالشّرك.

﴿فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ﴾ وقصّتهم أخبارا دائرة على ألسن الناس ، وعظة وعبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة ﴿وَمَزَّقْناهُمْ﴾ وفرّقناهم في الأرض ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ وغاية التفريق بحيث يضرب به المثل ، ويقال : تفرّقوا أيدي سبأ ، فانّهم كانوا قبائل ولدهم سبأ ، ولم يبق أحد منهم في مأرب ، بل سكن غسّان في الشام ، وقضاعة في مكة ، وأسد في البحرين ، وأنمار في يثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد في عمان ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ التفريق والله ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة ودلالات واضحة وعبرا كثيرة وحججا قاطعة على وحدانية الله وقدرته ، وغضبه على الكافرين ، وإنّما تكون فائدتها ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ ومبالغ في حفظ النفس عن المعاصي و﴿شَكُورٍ﴾ ومجدّ في أداء حقّ نعم الله ، وهو المؤمن الكامل في الإيمان المجتهد في عبادة الرحمن.

﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَما كانَ لَهُ

 عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ

 عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢٠) و (٢١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كفران أولاد سبأ وطغيانهم ، وتعذيبهم بسلب النّعم ، بيّن أنّها بتسويل الشيطان بقوله : ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وحقّق وأظهر ﴿إِبْلِيسُ﴾ مطابقة ما ﴿ظَنَّهُ﴾ وزعمه في حقّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٥.

٢١٦

أولاد آدم من كونهم يغوون بإغوائه للواقع حيث دعاهم إلى الشرك والعصيان فأجابوه ، وأمرهم بها ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ وأطاعوه ﴿إِلَّا فَرِيقاً مِنَ﴾ فرق ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهم المخلصون منهم.

وقيل : إنّ ( من ) بيانية (١) والمراد إلّا فرقة المؤمنين.

وقيل : ظنّه أنه ناري وآدم طيني ، والنار تأكل الطين (٢) . أو ظنّه أنّ بني آدم مفسدون في الأرض (٣) . وقيل : إنّه ظنّ أنه يقدر على إغواء بني آدم فلمّا زيّن له الكفر والمعاصي ، وقبلوا منه واتّبعوه ، وجدهم كما ظنّ فيهم (٤).

ثمّ بيّن سبحانه أن إبليس ما قهرهم على العصيان بقوله : ﴿وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ﴾ شيء ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾ وقهر بحيث يسلب عنهم الاختيار ، وإنّما كان سلطنته عليهم بالوسوسة والإغواء ، ولم نجعل له هذه السلطنة ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ ونميّز ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ﴾ ويخاف عقابنا ﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ﴾ ولا يؤمن بها ولا يخاف من حسابها.

قيل : إنّ المراد بحصول العلم وجود متعلّقه (٥)﴿وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من خصوصيات خلقه وأحوالهم وبواطنهم وظواهرهم ﴿حَفِيظٌ﴾ ومطّلع لا تخفى عليه خافية حتى يحتاج إلى الاستعلام.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « كان تأويل هذه الآية أنّه لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والظن من إبليس حين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه ينطق عن الهوى ، فظّن بهم إبليس ظنّا ، فصدّقوا ظنّه » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينصّب أمير المؤمنين عليه‌السلام للناس في قوله : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ(٧) في عليّ بغدير خمّ ، فقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التّراب على رؤوسهم ، فقال لهم إبليس : ما لكم ؟ قالوا : إنّ هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس : كلا ، إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة لن يخلفوني ، فأنزل الله عزوجل : ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ » (٨) .

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا

 فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ١٣٠ ، تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٧.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٨.

(٣) تفسير أبي السعود ٧ : ١٣٠.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٨.

(٥) تفسير أبي السعود ٧ : ١٣١.

(٦) الكافي ٨ : ٣٤٥ / ٥٤٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٨.

(٧) المائدة : ٥ / ٦٧.

(٨) تفسير القمي ٢ : ٢٠١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٨.

٢١٧

عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ

 قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وخامة عاقبة الشّرك والكفران ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإبطال مذهب الشّرك ، وتبكيت المشركين بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمد ، للمشركين تهكّما ﴿ادْعُوا﴾ ونادوا الأصنام ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ وتوهّمتم أنّهم آلهة ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وعبدتموهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ حتى يجيبوكم ، كلا لا يقدرون على شيء من ذلك لأنّهم ﴿لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ من خير وشرّ ونفع وضرّ ، لا ﴿فِي السَّماواتِ﴾ السبع ﴿وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ وليس لهم تصرّف فيهما ﴿وَما لَهُمْ فِيهِما﴾ خلقا وملكا وتصرّفا ﴿مِنْ شِرْكٍ﴾ ودخل ﴿وَما لَهُ﴾ تعالى ﴿مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ وعون كي يعجز عن إنفاذ إرادته عند تركهم المعاونة ، فان تتوقّعون شفاعتهم عند الله فاعلموا أنّه لا تفيد ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ﴾ من أحد لأحد ﴿عِنْدَهُ إِلَّا﴾ إذا كانت ﴿لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ في الشفاعة ﴿حَتَّى إِذا فُزِّعَ﴾ وازيل الخوف ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ بالاذن لهم في الشفاعة ، قام المذنبون المنتظرون لشفاعتهم و﴿قالُوا﴾ لهم : أيّها الشّفعاء ﴿ما ذا قالَ رَبُّكُمْ﴾ وأيّ شيء أوحى إليكم في شأن الشفاعة فأجابهم الشّفعاء و﴿قالُوا :﴾ قال ربنا القول ﴿الْحَقَ﴾ وهو الإذن في شفاعة المذنبين من المؤمنين دون غيرهم ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ والعظيم سلطانا ، فليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلّم إلّا بإذنه.

وقيل : إنّ المراد من الفزع : الفزع الذي عند الوحي ، فانّ من في السماوات يفزعون عند نزول الوحي ، ثمّ يزيل الله عنهم الفزع ، فيقولون لجبرئيل : ماذا قال الله ؟ فيقول : قال الحقّ ، أي الوحي (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : « وذلك أنّ أهل السماوات لم يسمعوا [ وحيا ] فيما بين أن بعث عيسى بن مريم عليه‌السلام إلى أن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بعث الله جبرئيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا ، فصعق أهل السماوات ، فلمّا فرغ من الوحي انحدر جبرئيل ، كلّما مرّ بأهل سماء فزّع عن قلوبهم. فقال بعضهم لبعض : ماذا قال ربّكم ؟ قالوا : الحقّ وهو العليّ الكبير» (٢) .

وقيل : إنّ الله تعالى يزيل الفزع عن القلوب وقت الموت ، فيعترف كلّ أحد بأنّ ما قال الله تعالى هو الحقّ ، فينفع ذلك القول من سبق ذلك منه في حياته (٣) .

وقيل : إنّ المراد الفزع من قيام الساعة ، لأنّ الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من أشراطها ، فاذا أوحي إليه فزّع أهل السماوات من قيام الساعة حتى إذا ازيل الفزع من قلوبهم قالوا لجبرئيل : ماذا قال ربّكم ؟ (٤)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٥ : ٢٥٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٠٢ ، تفسير الصافي ٤ : ٢١٩.

(٣) تفسير الرازي ٢٥ : ٢٥٥.

(٤) تفسير الرازي ٢٥ : ٢٥٥.

٢١٨

﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ

 فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ

 يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٤) و (٢٦)

ثمّ قرّر سبحانه عدم مالكية الأصنام شيئا بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد ، تبكيتا للمشركين : أيّها المشركون ﴿مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ﴾ بإنزال الأمطار ﴿وَالْأَرْضِ﴾ باخراج النباتات ولا تنتظر الجواب منهم ، و﴿قُلْ﴾ يرزقكم ﴿اللهُ﴾ لأنّهم لا ينكرونه بقلوبهم ، وإن لم يقرّوا باللسان خوفا من الإلزام ، ثمّ دارهم في المجادلة ، ولا تنسبهم إلى الضلال بالصراحة ، بل قل : ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى﴾ مركّب ﴿هُدىً﴾ ورشاد ، نسير به إلى المقصد الأعلى ﴿أَوْ﴾ منغمر ﴿فِي ضَلالٍ﴾ وانحراف ﴿مُبِينٍ﴾ وواضح عن الحقّ.

ثمّ بالغ في الإنصاف والمداراة معهم ﴿قُلْ﴾ أنتم أيّها المشركون ﴿لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا﴾ ولا تؤاخذون بذنوبنا ﴿وَ﴾ نحن ﴿لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من عمل سوء ، وفي نسبة الاجرام إلى نفسه واتباعه والعمل إلى الخصم ، حطّ النفس ، وحفظ الخصم عن التعصّب المانع عن النظر مع كون الجملتين باعثتين إليه.

ثمّ أمر سبحانه بالمبالغة في الحثّ على النظر والتفكّر بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : اعلموا أنّه ﴿يَجْمَعُ بَيْنَنا﴾ وبينكم يوم القيامة ﴿رَبُّنا﴾ حين الحشر للحساب ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ﴾ ويحكم ﴿بَيْنَنا﴾ وبينكم ﴿بِالْحَقِ﴾ بعد ظهور حال كلّ منّا ومنكم ، بأن يدخل المحقّين الجنّة ، والمبطلين النار ، فانّ الله أعلم بالحقّ والباطل ﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾ بما يحقّ أن يحكم به ، وبمن يحكم له ومن يحكم عليه ، كما أنّه عليم بغيرها من الأمور.

﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَما

 أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٧) و (٢٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات عجز الأصنام عن أن يضرّوا أو ينفعوا ، بيّن عدم وجود كمال فيها يوجب استحقاقها العبادة (١) بقوله : ﴿قُلْ﴾ أيّها المشركون ﴿أَرُونِيَ﴾ الأصنام ﴿الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ﴾ إيّاهم ﴿بِهِ﴾ تعالى من حيث كونهم ﴿شُرَكاءَ﴾ له تعالى في الالوهية ، لأنظر بأيّ صفة ألحقتموهم بالله الذي ليس كمثله شيء ، وجعلتموهم شركاء له ، هل يخلقون أو يرزقون ؟ ﴿كَلَّا﴾ ليس لهم ما يجب أن يكون في

__________________

(١) في النسخة : استحقاقهم العباد.

٢١٩

الإله والمعبود ﴿بَلْ﴾ المعبود بالحقّ والإله المستحقّ للعبادة ﴿هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ والغالب القاهر ، والعالم بجميع الامور ، فأين شركاؤكم التي هي أخسّ الأشياء وأذلّها من هذه المرتبة العالية ودرجة الالوهية.

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال الشّرك وإثبات التوحيد ، بيّن صدق رسالة الرسول إلى عامة الناس بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْناكَ﴾ يا محمّد برسالة ﴿إِلَّا﴾ رسالة تكون ﴿كَافَّةً﴾ وعامة أو شاملة ﴿لِلنَّاسِ﴾ كلّهم إلى يوم القيامة ، أو المراد ما أرسلناك في حال من الأحوال إلّا حال كونك جامعا لهم في التبليغ بحيث لا يخرج منهم أحد ، كما في الحديث : « فضّلت على الأنبياء بستّ - إلى أن قال - : وارسلت إلى الخلق كافة » (١) .

وعن السجاد عليه‌السلام : « أنّ أبا طالب قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يابن أخ ، إلى الناس كافة ارسلت ، أم إلى قومك خاصة ؟ قال : لا ، بل إلى الناس أرسلت كافة ، الأبيض والأسود ، والعربي والعجميّ ، والذي نفسي بيده لأدعونّ إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ، ومن على رؤوس الجبال ، ومن في لجج البحار» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله أعطى محمدا شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - إلى أن قال - : وأرسله كافة إلى الأبيض والأسود ، والجنّ والإنس » (٣). ﴿بَشِيراً﴾ للمؤمنين بالثواب ﴿وَنَذِيراً﴾ للكافرين بالعقاب ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ لغفلتهم وإنهماكهم في الشهوات وتركهم النظر في دلائل صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ منصبه الرفيع ، وعظم نعمة رسالته حتى يؤمنوا به ، ويشكروا هذه النعمة ، فيحملهم الجهل على مخالفته وعصيانه.

﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ

 عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ * وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا

 بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى

 بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ

 * قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ

 جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ

 اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٩٤ و٢٩٥.

(٢) تفسير الصافي ٤ : ٢٢٠.

(٣) الكافي ٢ : ١٤ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٢٠.

٢٢٠