نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

الكراسي (١) ، وهم الغرّ المحجّلون ، [ على الرجل منهم نعلان شراكهما من نور ، يضيء أمامهم ] حيث شاءوا من الجنة ، فبينا هم كذلك إذ أشرفت عليه امرأة من فوقه ، فتقول : سبحان الله ! يا عبد الله ، أما لنا منك دولة ؟ فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من اللواتي قال الله : ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ » (٢) .

﴿أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

 الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا

 فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا

 عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٨) و (٢٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حال المؤمن والمجرم وعاقبتهما ، وجّه الخطاب إلى العقلاء ، وأنكر احتمال التساوي بين الفريقين بقوله : ﴿أَ فَمَنْ كانَ﴾ في الدنيا ﴿مُؤْمِناً﴾ يمكن أن يحتمل أن يكون في الشّرف والمنزلة عند الله ﴿كَمَنْ كانَ﴾ في الدنيا ﴿فاسِقاً ؟ !﴾ لا يمكن ذلك و﴿لا يَسْتَوُونَ﴾ أبدا في شيء من الشرف والقرب والمثوبة.

ثمّ أنّه تعالى بعد إنكار احتمال التساوي والتصريح بعدمه ، والبيان الإجمالي لحسن عاقبة المؤمن ومثوبته ، وسوء عاقبة المجرم وعقوبته ، فصّل ثواب الأول وكيفية عذاب الثاني بقوله : ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما يجب الإيمان به ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ في الدنيا ﴿فَلَهُمْ﴾ في الآخرة بالاستحقاق ﴿جَنَّاتُ﴾ اللّاتي تكون لهم ﴿الْمَأْوى﴾ والمسكن الدائم. وعن ابن عباس : أنّ جنّة المأوى اسم إحدى الجنّان الثمان (٣) التي خلقها في الآخرة كلّها من الذهب (٤) ، حال كون تلك الجنّات ﴿نُزُلاً﴾ وتشريفا لورودهم على الله ، وصلة لهم ﴿بِما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الايمان والسجود عند تذكّر الآيات ، وتجافي جنوبهم عن المضاجع ، ودعاء ربّهم ، وإنفاقهم.

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا﴾ وخرجوا عن طاعة الله وكفروا به ﴿فَمَأْواهُمُ﴾ ومسكنهم ﴿النَّارُ﴾ سواء عملوا الصالحات أو السيئات ، لا يخرجون منها أبدا ﴿كُلَّما﴾ وفي أيّ وقت ضربهم لهيب النار وارتفعوا إلى طبقاتها وقربوا من بابها و﴿أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها﴾ ضربهم لهيب النار أو تتلقّاهم

__________________

(١) في المحاسن : على كراسي من نور.

(٢) المحاسن : ١٨٠ / ١٧٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥٧.

(٣) في النسخة : الجنات المأوى اسم إحدى الجنات الثمانية.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ١٢٢.

١٤١

الخزنة بمقامع من نار أو حديد و﴿أُعِيدُوا فِيها﴾ ويهوون إلى قعرها سبعين خرفيا على ما روي ، وهكذا يفعل بهم أبدا (١)﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ إهانة وتشديدا عليهم وزيادة في غيظهم ﴿ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ﴾ بأخبار الأنبياء ﴿بِهِ﴾ في الدنيا ﴿تُكَذِّبُونَ﴾ وتقولون : لا جنّة ولا نار.

﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ

 أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ

 مُنْتَقِمُونَ (٢١ و) (٢٢)

ثمّ هدّدهم بالعذاب الدنيوي الذي يكون لطفا بهم وتنبيها لهم بقوله : ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ﴾ بعضا ﴿مِنَ الْعَذابِ﴾ الدنيوي الذي يكون هو ﴿الْأَدْنى﴾ والأقرب إليهم كالمرض والفقر والجلاء [ من ] الوطن ﴿دُونَ الْعَذابِ﴾ الاخروي ﴿الْأَكْبَرِ﴾ والأشدّ والأدوم وقبله ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن الكفر إلى الايمان ، ويتوبون من الشّرك والمعاصي.

القمي : العذاب الأدنى عذاب الرجعة بالسيف (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو عذاب القبر ». وعنهما عليهما‌السلام : « هو الدابة والدجّال » (٣) ولا يرجعون وهم من الظالمين على أنفسهم.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على نفسه ﴿مِمَّنْ ذُكِّرَ﴾ ووعظ ﴿بِآياتِ رَبِّهِ﴾ ودلائل توحيده وقدرته وحكمته ، وصدّق رسله ودار جزائه ﴿ثُمَ﴾ لم يعتن بها و﴿أَعْرَضَ عَنْها﴾ على خلاف المؤمنين الذين إذا ذكّروا بها خضعوا لها وخرّوا سجّدا ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ الظالمين على أنفسهم ، وإن هانت جريمته وقلّ ظلمه يوم القيامة ﴿مُنْتَقِمُونَ﴾ بتعذيبه ، فكيف بمن هو أشدّ جرما من كلّ مجرم وأظلم من كلّ ظالم!

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي

 إِسْرائِيلَ * وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ

 * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَ وَلَمْ يَهْدِ

 لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٢٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥٨.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٢٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٥٨.

١٤٢

أَفَلا يَسْمَعُونَ * أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ

 زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (٢٣) و (٢٧)

ثمّ لمّا ذكر إعراض الكفّار عن الآيات ، وكان يتألم به قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سلّاه سبحانه بذكر نزول التوراة على موسى عليه‌السلام وعدم إيمان كثير من قومه بها ، وصبر أنبياء بني إسرائيل على أذى قومهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿مُوسَى﴾ بن عمران ﴿الْكِتابَ﴾ المعهود ﴿فَلا تَكُنْ﴾ يا محمّد ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ وشكّ ﴿مِنْ﴾ أخذ موسى عليه‌السلام ذلك الكتاب و﴿لِقائِهِ﴾ أو من لقائك موسى عليه‌السلام ورؤيته في زمان حياتك ، كما رأيته ليلة المعراج مرّتين في السماء السادسة حين صعوده ونزوله ، أو في الآخرة ، أو من تلقّيك القرآن من لدن عليم حكيم ، كما تلقّى موسى عليه‌السلام ذلك الكتاب الذي أنزلناه عليه ﴿وَجَعَلْناهُ﴾ سبب ﴿هُدىً﴾ ورشاد من الضلال ﴿لِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾ الذين اهتدوا به ، كما جعلنا القرآن سبب الهداية لامّتك المؤمنين به.

﴿وَجَعَلْنا﴾ بعد موسى عليه‌السلام في بني إسرائيل جماعة ﴿مِنْهُمْ﴾ أنبياء ليكونوا ﴿أَئِمَّةً﴾ وقادة لهم يقتدون بهم قولا وعملا ﴿يَهْدُونَ﴾ ويرشدون الخلق إلى الحقّ ﴿بِأَمْرِنا﴾ إيّاهم به ، أو بوحينا إليهم ، أو بتوفيقنا لهم ﴿لَمَّا صَبَرُوا﴾ على مشاقّ الطاعات وشدائد الامور وأذى قومهم ﴿وَكانُوا بِآياتِنا﴾ الدالة على معارفنا وأحكامنا ، لإمعان النظر فيها ﴿يُوقِنُونَ﴾ كما جعلنا في امّتك أئمة هداة مهديين يهدونهم إلى ما في كتابك من المعارف والأحكام والعلوم ، ومع ذلك لم يؤمن بكتاب موسى أمّته ، بل اختلفوا فيه ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر به ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ اللطيف بعباده ﴿هُوَ﴾ بذاته المقدّسة يتصدّى للحكومة و﴿يَفْصِلُ﴾ ويقضي ﴿بَيْنَهُمْ﴾ بإثابة المؤمين وتعذيب الكافرين ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ وفصل القضاء ﴿فِيما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من صدق الأنبياء في إخبارهم بالتوحيد والمعاد وغيرهما من العقائد الحقّة والأحكام الإلهية ، بل حكم في الدنيا بينهم بمعاملته مع الأنبياء والمؤمنين بهم والكفار والمكذّبين لهم.

﴿أَ﴾ غفلوا ﴿وَلَمْ يَهْدِ﴾ ولم يظهر ﴿لَهُمْ﴾ بمطالعتهم الكتب وسماعهم بالتواتر كيف أكرمنا الأنبياء والمؤمنين ، ونصرناهم على أعدائهم و﴿كَمْ أَهْلَكْنا﴾ بعذاب الاستئصال ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ جماعة ﴿مِنَ الْقُرُونِ﴾ وأهل الأعصار السابقة ، كعاد وثمود والمؤتفكات وغيرهم وقومك ﴿يَمْشُونَ فِي﴾ أسفارهم وتجاراتهم في منازل أولئك الامم المهلكة و﴿مَساكِنِهِمْ﴾ الخربة ، ويشاهدون آثار نزول العذاب عليهم ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإهلاك والله ﴿لَآياتٍ﴾ كثيرة ، ودلالات واضحة على حكم الله بحقّانية الموحّدين ومصدّقي الأنبياء ، ومدّعي المعاد ، وبطلان القول بالشّرك وإنكار المعاد ، أهم صمّ

١٤٣

﴿أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾ تلك المواعظ والعبر ، هبوا أنهم لا يسمعون تلك الأخبار ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ بأعينهم ﴿أَنَّا نَسُوقُ﴾ ونجري ﴿الْماءَ﴾ النازل من السماء ﴿إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ واليابسة المنقطعة عن الماء والنبات ﴿فَنُخْرِجُ﴾ بذلك الماء ، وننبت ﴿بِهِ﴾ فيها ﴿زَرْعاً﴾ نافعا ﴿تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَ﴾ هم عمي ﴿فَلا يُبْصِرُونَ﴾ آيات الله الدالّة على توحيده وقدرته على إعادة خلقهم في الحشر للحساب وجزاء الأعمال.

﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ

كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ

 مُنْتَظِرُونَ (٢٨) و (٣٠)

ثمّ أنّه تعالى بعدما هدّد الكفّار بحكومته عليهم يوم القيامة ، حكى استهزاءهم بهذا الوعيد واستعجالهم له بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ استهزاء للمؤمنين ﴿مَتى﴾ يكون ﴿هذَا الْفَتْحُ﴾ والحكومة ؟ عيّنوا وقته ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿صادِقِينَ﴾ في إخباركم به.

قيل : إنّ المؤمنين قالوا لكفّار مكّة : إنّ لنا يوما يفتح الله فيه بيننا - يعني يحكم بيننا - يريدون يوم القيامة (١) .

وقيل : إنّ المؤمنين قالوا لهم : سيفتح لنا على المشركين (٢) ، وينصرنا عليهم ، فأمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بجوابهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : إنّ تريدوا باستعجالكم له وتعيين وقته أن تؤمنوا عند مجيئه ، فاعلموا أنّ ﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ وهو يوم القيامة والشهود ﴿لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في نجاتهم من العذاب واستحقاقهم الثواب ﴿إِيمانُهُمْ﴾ بالله وباليوم الآخر لفوات وقته ، فانّ الايمان النافع لا يكون إلّا في الدنيا ، وإن تطمئنّوا بخلاصكم فيه من العذاب ، فاعلموا أنّ الكفّار لا يخلصون منه ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ولا يمهلون ساعة لعدم المقتضى لإمهالهم مع كمال استحقاقهم له ، أو لا ينفع يوم غلبة المسلمين عليهم إيمانهم ، لأنّه إيمان عند رؤية البأس ، كايمان فرعون حين الغرق ، ولا يمهلهم المسلمون ، بل يقتلونهم.

والقمي قال : لمّا أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخبر الرجعة ، قالوا : متى هذا الفتح ؟ وهذه معطوفة على قوله : ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى(٣) الآية.

__________________

(١و٢) تفسير روح البيان ٧ : ١٢٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٧١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٠ ، والآية من سورة السجدة : ٣٢ / ٢١.

١٤٤

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ولا تعتن بهم ولا تبال بتكذيبهم ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ النّظرة عليهم وهلاكهم ، أو ابتلاءهم بالعذاب في القيامة.

في الحديث : « من قرأ ( الم تنزيل ) و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ اعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر » (١) .

وفي حديث آخر : « من قرأ ( الم تنزيل ) في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام » (٢) .

وفي ثالث : « تجيء ( الم تنزيل ) السجدة يوم القيامة ولها جناحان تطاير صاحبهما وتقول : لا سبيل عليك » (٣) .

وعن جابر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا ينام حتى يقرأ ( الم ) السجدة و﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ ويقول : « هما تفضلان كلّ سورة في القرآن بسبعين حسنة ، فمن قرأهما كتب له سبعون حسنة ، ومحي عنه سبعون سيئة ورفع له سبعون درجة » (٤) .

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ في الفجر يوم الجمعة ( الم تنزيل ) و﴿هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ﴾ » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة ، أعطاه الله كتابه بيمينه ، ولم يحاسبه بما كان منه ، وكان من رفقاء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته » (٦) .

__________________

(١-٥) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٠.

(٦) ثواب الأعمال : ١١٠ ، مجمع البيان ٨ : ٥٠٨ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٠.

١٤٥
١٤٦

في تفسير سورة الأحزاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً

 حَكِيماً (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة ﴿الم﴾ السجدة التي كان فيها إثبات النبوّة ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاعراض عن الكفّار واستهزاء الكفّار بالمؤمنين في إخبارهم بغلبتهم على المشركين ، اردفت بسورة الأحزاب التي بدأ فيها بالإعلان بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرح الإعراض عن الكفّار بالنهي عن طاعتهم ، والأمر باتّباع القرآن ، والاعتماد على الله في دفع شرّ الأعداء ، والإخبار بفتح المؤمنين في غزوة الاحزاب ، ونهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن خشيته من الناس في تزويج زينب بنت جحش ، إلى غير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة ، فابتدأ سبحانه على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركة بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ تبرّكا وتيمّنا وتعليما للعباد.

ثمّ وجه الخطاب إلى نبيّه المعصوم الذي كان مجسّمة التقوى ، ولا يتوهّم في حقّه طاعة غير الله ، إظهارا لكمال الاهتمام بالتكاليف الموجّهة إليه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُ﴾ والشخص الجليل المخبر عن الله بأخبار عظيمة الفائدة ، أو الشخص الرفيع المنزلة عند الله ﴿اتَّقِ اللهَ﴾ واحترز غضبه وسخطه ﴿وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ﴾ والمتجاهرين بالكفر ﴿وَالْمُنافِقِينَ﴾ المسرّين له المظهرين للاسلام ، ولا تعمل بآرائهم وإن اتّفق الناس على كونها عين الصلاح ﴿إِنَّ اللهَ كانَ﴾ في الأزل بذاته ﴿عَلِيماً﴾ بالأشياء ومصالح العباد ، ومحيطا بمفاسد امورهم و﴿حَكِيماً﴾ فلا ينهى عن شيء إلّا وفيه المفسدة ، ولا يأمر بشيء إلّا وفيه المصلحة التامة والحكمة البالغة.

قيل : إنّ أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور جاءوا بعد وقعه احد إلى المدينة ، ونزلوا في دار ابن ابي رأس المنافقين ، ثمّ طلبوا يوما من الرسول الأمان حتى يحضروا عنده ويكلّموه ، فأعطاهم الرسول الأمان ، فحضروا مع جمع من المنافقين عنده ، وقالوا : يا محمد ، ارفض ذكر آلهتنا ، وقل إنّها تشفع يوم

١٤٧

القيامة ، وتنفع لمن عبدها ، ونحن ندعك وربّك ، فبان الغضب من كلامهم في وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال ابن ابي وجمع من المنافقين : يا رسول الله ، هؤلاء أشراف العرب ، أعطهم سؤلهم ، فانّ فيه صلاحك.

فهمّ عمر بقتلهم ، فنهاه رسول الله ، وقال : « أعطيتهم الأمان ، فلا تنقض عهدي فأخرجهم عمر من المدينة ، فنزلت » (١) .

وقيل : جاء جماعة من ثقيف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : دعنا على عبادة الأصنام سنة ، لتظهر مزية لنا عندك على قريش (٢) ثمّ نؤمن بك ، فنزلت (٣) .

﴿وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ

 وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً * ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (٢) و (٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد نهيه عن متابعة الكفّار ، أمره باتّباع القرآن بقوله : ﴿وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ في جميع ما تأتي وتذر ، واعمل بأحكام الله المنزلة في القرآن ﴿إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الطاعة والمخالفة ﴿خَبِيراً﴾ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم ، ويجازيكم على حسب استحقاقكم ، ولا تخش من أحد في مخالفتي ، ولا ترج من أحد أن يحسن إليك ، ولا تخف أحدا من ضرّه وشرّه ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ واعتمد ﴿عَلَى اللهِ﴾ في حفظك ، وفوّض إليه جميع امورك ﴿وَكَفى بِاللهِ﴾ الذي خلقك ودبّر امورك ، وشرّفك بمنصب الرسالة ﴿وَكِيلاً﴾ وحافظا لصلاح امورك ، وحسبك ربّك وليا وناصرا.

قيل : من خاف ريحا أو صاعقة أو غيرهما من المضارّ والمهلكات ، فليكثر من ذكر : يا وكيل ، فانّه يصرف منه كلّ شرّ وضرّ ، ويفتح له أبواب كلّ خير (٤) .

ثمّ لمّا كان طاعة الكفّار الذين هم أعداء الله لا تكون إلّا حبّا لهم أو طمعا ما عندهم من الزخارف ، أو خوفا من ضررهم ، بيّن سبحانه أنّ حبّهم وخوفهم لا يجامع حبّ الله في قلب واحد بقوله : ﴿ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ﴾ من الرجال وشخص من الأشخاص نبيا كان أو غيره ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾ ومضغتين صغيرتين في هيئة الصّنوبرة ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ وداخل صدره ، يكون في أحدهما الايمان وحبّ الله والخوف منه ، وفي الآخر الكفر وحبّ أعداء الله والخوف منهم.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « قال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان ، إنّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٣١.

(٢) في مجمع البيان : قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٥٢٥.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٢.

١٤٨

الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه ، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا ، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار ، لا كدر فيه ، فمن أراد أن يعلم حبّنا فليمتحن قلبه ، فان شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولنسا منه ، والله عدوّهم وجبرئيل وميكائيل ، والله عدوّ للكافرين » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، يحبّ بهذا قوما ، ويحبّ بهذا أعداءهم » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « فمن كان قلبه متعلقا في صلاته بشيء دون الله ، فهو قريب من ذلك الشيء ، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته ثمّ تلا هذه الآية » (٣) .

وعن ابن عباس : كان المنافقون يقولون : إنّ لمحمد قلبين : قلبا معنا ، وقلبا مع أصحابه ، فأكذبهم الله (٤) .

وعن جمع من مفسّري العامة : أنّها نزلت في أبي معمر جميل (٥) بن معمر الفهري ، أو جميل بن أسد ، وكان لبيبا حافظا لما يسمع ، وكان يقول : إنّ في جوفي قلبين ، أعقل بكلّ منهما أفضل ممّا يعقل محمّد ! وكانت قريش تسمّية ذا القلبين ، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون ، وفيهم أبو معمر تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بإحدى نعليه بيده ، والاخرى في رجله ، وهو يعدو في الرّمضاء ، ويقول : أين نعلي ، أين نعلي ؟ فقال أبو سفيان له : إحدى نعليك في يدك (٦) . فخجل.

وفي رواية ، قال له : فما بالك إحدى نعليك في يدك ؟ قال أبو معمر : ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنّه ليس له إلّا قلب واحد ، وإلّا مانسي نعله في يده (٧) .

﴿وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ

 أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *

 ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ

 وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ

 وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٢.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٢٧ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٢.

(٣) مصباح الشريعة : ٩٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٢.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٤.

(٥) في النسخة : حميد.

(٦) تفسير القرطبي ١٤ : ١١٦ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٩٠ ، تفسير روح البيان ٧ : ١٣٤.

(٧) تفسير الصافي ٤ : ١٦٢.

١٤٩

ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال هذا القول أبطل قولهم بأنّ الزوجة تصير في حكم الامّ بالظّهار بقوله : ﴿وَما جَعَلَ﴾ الله تكوينا أو تشريعا نساءكم اللاتي يكنّ ﴿أَزْواجَكُمُ﴾ وحلائلكم ﴿اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ﴾ وتقولون لهنّ : أنتنّ علينا كظهور امّهاتنا ﴿أُمَّهاتِكُمْ﴾ حقيقة أو حكما ، أمّا حقيقة فبالبداهة ، وأما حكما فلعدم الملاك ، فلا وجه لحسبانهنّ مطلّقات ، كما تخيلهنّ العرب في الجاهلية مطلقات ، ثمّ أبطل قولهم بأنّ من قال لأحد : أنت ابني يكون ابنا له بقوله : ﴿وَما جَعَلَ﴾ الله ﴿أَدْعِياءَكُمْ﴾ والذين تبنّيتموهم ودعوتموهم باسم الابن ﴿أَبْناءَكُمْ﴾ الحقيقة أو الحكمية ، كما جعلتهم العرب في الجاهلية أبناء للداعي والمتبنّي ، وحرّموا نكاح أزواجهم عليه ، وورثوهم أمواله ، ولذا كانت تقول لزيد بن حارثة الكلبي : عتيق رسول الله ابن محمد ﴿ذلِكُمْ﴾ المذكور من امومة المظاهرة وبنوّة الدعي ﴿قَوْلُكُمْ﴾ الذي تقولونه ﴿بِأَفْواهِكُمْ﴾ وألسنتكم ، لا توافقه قلوبكم وعقولكم ، وكذب اخترعتموه بأهوائكم ﴿وَاللهُ﴾ المطّلع على حقائق الأشياء وواقعيات الامور ﴿يَقُولُ الْحَقَ﴾ والكلام الصّدق المطابق للواقع ﴿وَهُوَ﴾ بلطفه ﴿يَهْدِي﴾ عباده ﴿السَّبِيلَ﴾ الحقّ في جميع الامور ، فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله.

ثمّ هدى الناس وعلّمهم الكلام الحقّ بقوله : ﴿ادْعُوهُمْ﴾ وانسبوهم ﴿لِآبائِهِمْ﴾ الذين ولدوهم ، فانّ الدعاء لآبائهم ﴿هُوَ أَقْسَطُ﴾ وأعدل وأقرب للصواب ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي حكمه من دعائهم لغير آبائهم ، وأصدق من نسبتهم إلى من تبنّاهم ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا﴾ ولم تعرفوا ﴿آباءَهُمْ﴾ حتى تنسبوهم إليهم ﴿فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إذا كانوا مسلمين ﴿وَمَوالِيكُمْ﴾ وعتقاؤكم إذا أعتقتموهم ، أو أحبّاؤكم ، فقولوا لهم : يا إخواننا ، أو يا أولياءنا ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ عند الله ﴿جُناحٌ﴾ وإثم ﴿فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ وعدلتم عن طريق الصواب فيه بالسّهو أو بسبق اللّسان ﴿وَلكِنْ﴾ الجناح ﴿ما تَعَمَّدَتْ﴾ وقصدت ﴿قُلُوبُكُمْ﴾ بعد النهي ، وفي الحديث : « من دعي لغير أبيه ، وهو يعلم أنّه غير أبيه ، فالجنّة عليه حرام » (١)﴿وَكانَ اللهُ﴾ مع التعمد أيضا ﴿غَفُوراً﴾ وستّار العصاة (٢) التائبين ﴿رَحِيماً﴾ بالمؤمنين.

﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ

 بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا

 إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٨.

(٢) في النسخة : العصيان.

١٥٠

ثمّ أنّه تعالى بعد ما نفى الامومة عن المظاهرة ، والبنوّة عن الدعيّ ، أثبت الابوة والأولوية في جميع الامور بالمؤمنين لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿النَّبِيُّ أَوْلى﴾ وأجدر ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ في جميع الامور الدينية والدنيوية ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ لكونه أعلم بمصالحهم ومفاسدهم ، وأشفق عليهم منها ، فيجب أن يبذولها دونه ، ويتّبعوه في كلّ ما يدعوهم إليه ، ولا يدعوهم إلّا إلى ما فيه نجاتهم وفلاحهم ورشدهم وفوزهم ، كما جاء في الحديث « مثلي ومثلكم ، كمثل رجل أوقد نارا ، فجعل الفراش والجنادب (١) يقعن فيها ، وهو يذبّ عنها ، وأنا آخذ بحجزكم (٢) عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي ، وتطلبون الوقوع في النار بترك ما أمرت به ، وارتكاب ما نهيت عنه » (٣) .

وفي الحديث : « ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة من أنفسهم ومن آبائهم » (٤) .

وفي آخر : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين » (٥).

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ، وعليّ أولى به من بعدي ». فقيل له : ما معنى ذلك ؟ فقال : « قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من ترك دينا أو ضياعا فعليّ ، ومن ترك مالا فلورثته. فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال ، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة ، والنبي وأمير المؤمنين ومن بعدهما ألزمهم هذا ، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم ، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلّا من بعد هذا القول من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّهم آمنوا على أنفسهم وعيالاتهم » (٦) .

عن بعض العامة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهلماّ أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج ، فقال ناس : نشاور آباءنا وامّهاتنا ، فنزلت الآية (٧) .

ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعلي عليه‌السلام : « أنا وأنت أبوا هذه الامّة » (٨) .

ثمّ أثبت امومة المؤمنين لأزواجه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾ وبمنزلة اللاتي ولدنهم في وجوب التعظيم ، وحرمة النّكاح دون النظر والخلوة والميراث ، فانهنّ في جميع ما ذكر بمنزلة الأجنبيات.

__________________

(١) الجنادب : جمع جندب - بفتح الدال وضمّها - نوع من الجراد.

(٢) الحجز : جمع حجزة ، وهي موضع شدّ الإزار من الوسط ، وموضع التكّة من السراويل.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٨.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٩.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٩.

(٦) الكافي ١ : ٣٣٥ / ٦ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٧.

(٧) تفسير روح البيان ٧ : ١٣٨.

(٨) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٠.

١٥١

عن الباقر عليه‌السلام في حديث : « وأزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحرمة مثل امّهاتهم » (١).

وعن القائم عليه‌السلام : أنّه سئل عن معنى الطلاق الذي فوّض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حكمه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إن الله تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ فخصّهن بشرف الامّهات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا الحسن ، إنّ هذا لشرف باق ما دمن على الطاعة فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك ، فأطلقها في الأزواج ، وأسقطها من تشرّف الامّهات ومن (٢) شرف امومة المؤمنين » (٣).

ثمّ لمّا بيّن سبحانه ابوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤمنين وأولويته بهم من أنفسهم ، وامومة أزواجه لهم ، وأخوّتهم في الدين ، وكان في بدو الهجرة التوراث بينهم بتلك الاخوة ، نسخ الله حكم التوارث بينهم بعد قوّة الاسلام بقوله : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ﴾ وذوو القرابات النسبية ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلى﴾ وأحرى ﴿بِبَعْضٍ﴾ آخر منهم في التوارث ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾ وفرضه ، أو اللّوح المحفوظ ، أو القرآن المنزل منه ﴿مِنْ﴾ الأنصار ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ﴾ منهم. وقيل : هذا بيان لاولى الأرحام (٤) .

وعلى أيّ تقدير ، فلا يرث غير القرابات النسبية من أموالكم أيّها المؤمنون شيئا ، ولا يجوز لهم أن يأخذوا منها بعد موتكم ﴿إِلَّا﴾ في صورة ﴿أَنْ تَفْعَلُوا﴾ أنتم ، وتحسنوا في حياتكم ﴿إِلى أَوْلِيائِكُمْ﴾ وأحبّائكم من الأقارب أو الأجانب بالإيصاء ﴿مَعْرُوفاً﴾ وشيئا حسنا عند العقل والشرع ، فانّهم يأخذون ما اوصي لهم من الأموال إذا لم يكن زائدا على الثّلث.

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل : أيّ شيء للموالي ؟ فقال : « ليس لهم من الميراث إلّا ما قال الله : ﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً﴾ » (٥) .

﴿كانَ ذلِكَ﴾ المذكور من أولوية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بامته ، وامومة أزواجه للمؤمنين ، وتوارث ذوي الأرحام ﴿فِي الْكِتابِ﴾ واللّوح المحفوظ ، أو القرآن ﴿مَسْطُوراً﴾ ومكتوبا.

﴿وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى

 ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً * لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ

 لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)

ثمّ لمّا أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقوى منه ، وعدم الاعتناء بالكفار ، والتوكّل عليه ، والتوجّه بقلبه إليه ، وجعل له الولاية العامة ، ووجوب الإطاعة ، والامومة لأزواجه ، بيّن نبوّته الموجبة لجميع ذلك ، وعظم

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢١ / ٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٧.

(٢) في كمال الدين : فأطلق لها في الأزواج وأسقطها من.

(٣) كمال الدين : ٤٥٩ / ٢١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٧.

(٤) تفسير أبي السعود ٧ : ٩١ ، تفسير روح البيان ٧ : ١٤٠.

(٥) الكافي ٧ : ١٣٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٨.

١٥٢

شأنه المقتضية لاعطائه الولاية المطلقة بقوله : ﴿وَإِذْ أَخَذْنا.﴾ قيل : إنّ التقدير واذكر يا محمد وقت أخذنا (١)﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ كافة حين تحميلهم الرسالة في الذرّ ، أو في هذا العالم ﴿مِيثاقَهُمْ﴾ وعهودهم بتبليغ الرسالة وتحمّل أعبائها.

ثمّ خصّ اولي العزم منهم بالذّكر مع دخولهم في النبيّين ، تعظيما لهم ، مقدّما لذكر حبيبه إعلانا بشرفه عليهم بقوله : ﴿وَمِنْكَ﴾ يا حبيبي ﴿وَمِنْ نُوحٍ﴾ الذي هو أوّل اولي العزم ، وأصل بني آدم بعد الطّوفان ﴿وَإِبْراهِيمَ﴾ الذي يفتخر به العرب ﴿وَمُوسى﴾ الذي يتديّنون بدينه اليهود ﴿وَعِيسَى﴾ الذي تنسب النصارى دينهم إليه ، ولم يكن له أب ، ولذا يكنى ب ﴿ابْنِ مَرْيَمَ﴾.

ثمّ أكّد سبحانه أخذ الميثاق بقوله : ﴿وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً﴾ وعهدا أكيدا تعقبه المسؤولية الشديدة ﴿لِيَسْئَلَ﴾ الله هؤلاء ﴿الصَّادِقِينَ﴾ في دعوة النبوة ، والإخبار عن الله ﴿عَنْ﴾ علّة ﴿صِدْقِهِمْ﴾ كان لوجه الله ، أو للرياء وطلب الدنيا ﴿وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ﴾ والمكذّبين لهم في الآخرة ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ

 رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ

 وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ

 الظُّنُونَا * هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ

 الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ

 قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ

 النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (٩) و (١٣)

ثمّ حثّ المؤمنين على تخليص الايمان بذكر معجزة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت دليلا على صدقه ، ونعمة عليهم ، ولطفا من الله بهم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ واشكروها ﴿إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ وأحزاب من قريش و غطفان وكنانة وبني سليم وأشجع واليهود وغيرهم ، ليستأصلوكم ، فدعا الرسول والمؤمنون ﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ﴾ إجابة لدعائكم وإنجازا لما وعدكم رسولكم ﴿رِيحاً﴾ باردة يقال لها الصّبا في ليلة شاتية ، فأحصرتهم ، ولم يجاوز معسكرهم ، وسفت التراب في وجوههم ﴿وَجُنُوداً﴾ من الملائكة ، وأنتم ﴿لَمْ تَرَوْها﴾ فقلعت أوتار خيامهم ، وقطعت

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٩١ ، تفسير روح البيان ٧ : ١٤١.

١٥٣

أطنابها ، وأطفأت نيرانهم ، وأكفأت قدورهم ، ونفثت الرّعب في قلوبهم ، وكبّرت في جوانب معسكرهم حتى سمعوا التكبير وقعقعة السلاح ، واضطربت خيولهم حتى قال رؤساؤهم : النّجا النّجا ، فانهزموا ليلا من غير قتال ، وتركوا ما استثقلوا من أمتعتهم ﴿وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من حفر الخندق ، وتدبير أمر الحرب ، وترتيب أسبابه ، والثبات على الايمان ، والجدّ في الصالحات ﴿بَصِيراً﴾ وشاهدا ، فيجازيكم عليه أفضل الجزاء. واعلم أنّ الآية وما بعدها نزلت في غزوة الأحزاب.

قصة غزوة الأحزاب

روي أنّه كان في المدينة ونواحيها بطنان من اليهود ؛ أحدهما بنو قريظة ، والآخر بنو النّضير ، فلمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة صالحهم على أن يكونوا معه ، ولا يكونوا عليه ، فذهب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما مع بعض أصحابه إلى قرية بني النّضير يقال لها زهرة لحاجة ، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ، فعزموا على قتله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصعد بعضهم على سطح بيت ليلقي عليه صخرة ، فأخبره جبرئيل بما أرادوا ، فقام ورجع إلى المدينة ، فلمّا رأى منهم نقض العهد ، أرسل إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من أرض المدينة. فامتنعوا ، فخرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه لمحاربتهم ، فحاصرهم ستّ ليال ، وقذف الله في قلوبهم الرّعب. فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجليهم ويكفّ عن دمائهم ، فقبل عليه‌السلام مسألتهم وأجلاهم ، فسار سيّدهم حييّ بن أخطب وجمع من كبرائهم إلى قريش ، وحرّضوهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوافقهم قريش.

ثمّ ساروا إلى غطفان وقبائل اخر ، وحرّضوهم على ذلك ، فتجهّزت قريش ومن اتّبعهم من القبائل ، وعقدوا اللواء في دار الندوة ، وكان مجموع الأحزاب من قريش ، وغطفان ، وبني مرّة ، وبني أشجع ، وبني أسد ، وبني سليم ، وكنانة ، ويهود بني قريظة ، وبني النضير ، وغيرهم قدر اثني عشر ألفا ، وقائد الكلّ أبو سفيان.

فأتى ركب من خزاعة في أربع ليال إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبروا به ، فاستشار صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه في أمر العدوّ هل يبرزون من المدينة ، أو يقيمون فيها.

قصة حفر الخندق وذكر إعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

فقال سلمان : يا رسول الله ، إنّا كنّا إذا تخوّفنا لعدوّ بأرض فارس ، حفرنا علينا خندقا ، يكون بيننا وبينهم حجاب ، وتكون الحرب في مواضع معروفة ، ولا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أشار سلمان بصواب ، فسار صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه - وهم ثلاثة آلاف (١) ، أو سبعمائة (٢) - إلى احد ، أو إلى جبل سلع ، وجعل أسفله المعسكر.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٣.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٧.

١٥٤

وفي رواية : أمر بمسجد في ناحية احد إلى راتج (١) ، وجعل على كلّ عشرين أو ثلاثين خطوة قوما من الأصحاب يحفرونه ، وبدأ بنفسه ، فأخذ معولا ، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وعليّ عليه‌السلام ينقل التّراب ، حتى عرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيي ، وقال : « لا عيش إلّا عيش الآخرة ، اللهمّ اغفر للأنصار والمهاجرين » . فلمّا نظر الناس إليه اجتهدوا في الحفر  (٢) ، وكلّما عرض لهم جبل شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجيء ويضرب المعول ، فيصير كثيبا مهيلا ، قال سلمان : ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ، فاخذ المعول من يدي وقال : « بسم الله » (٣).

وفي رواية : دعا بماء فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح على رأسه ورجليه ، ثمّ شرب ومجّ من ذلك الماء في فيه ، ثمّ صبّه على ذلك الحجر ، ثمّ أخذ معولا فبرقت برقة (٤) ، وكسر ثلث الحجارة ، فخرج منها نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف الليلة المظلمة ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « اعطيت مفاتيح اليمن ، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنّها أنياب الكلاب » (٥) . ثمّ وفي رواية: « فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن » (٦) ، ثمّ ضرب اخرى قطع ثلثا آخر ، وبرق منها برقة ، فخرج نور من قبل الرّوم ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « اعطيت مفاتيح الشام ، والله لابصر قصورها »  (٧) . وفي رواية نظرنا فيها إلى قصور الشام (٨) ، ثمّ ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر ، وبرق منها برقة ، فخرج نور من قبل فارس ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : اعطيت مفاتيح فارس ، والله إنّي لابصر قصور الحيرة ومدائن كسرى ، كأنّها أنياب كلاب ، وجعل يصف لسلمان أماكن فارس ، ويقول سلمان : صدقت. ثمّ قال : «هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان » (٩).

وفي رواية جابر : فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، فقال رسول الله : أما إنّه سيفتح الله عليكم هذه المواضع التي برق فيها البرق ، ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل ، فقال جابر : فعلمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جائع لمّا رأيت على بطنه الحجر ، فقلت : يا رسول الله ، هل لك في الغذاء ؟ قال : « ما عندك ؟ » قلت : عناق (١٠) وصاع من شعير. فقال : تقدّم وأصلح ما عندك.

قال جابر : فجئت إلى أهلي ، فأمرتها فطحنت الشعير ، وذبحت المعز وسلختها ، وأمرتها أن تخبز

__________________

(١) راتج : أطمة ( حصن ) من آطام المدينة. « الروض المعطار : ٢٦٦ » ، وفي النسخة : رابح.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٧٧.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٧٨.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٤.

(٦) تفسير القمي ٢ : ١٧٨.

(٧) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٥.

(٨) تفسير القمي ٢ : ١٧٨.

(٩) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٥.

(١٠) العناق : الانثى من المعز.

١٥٥

وتطبخ وتشوي ، فلمّا فرغت جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : بأبي أنت واميّ يا رسول الله ، قد فرغنا ، فاحضر مع من أحببت. فقام عليه‌السلام إلى شفير الخندق ، وقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ، أجيبوا جابر. قال جابر : وكان في الخندق سبعمائة رجل ، فخرجوا كلّهم ، ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين والأنصار إلّا قال : « أجيبوا جابرا » (١) . وفي رواية : كان على الخندق ثلاثة آلاف رجل (٢).

قال جابر : فتقدّمت وقلت لأهلي : قد أتاك رسول الله بما لا قبل لك به. فقالت : أعلمته أنت بما عندك ؟ قلت : نعم قالت : فهو أعلم بما أتى. فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر في القدر ، ثمّ قال : « أغرفي وأبقي » ثمّ نظر في التنّور ، ثمّ قال : « أخرجي - أو اخبزي – وأبقي » ثمّ دعا بصحفة فثرد فيها وتمرّق ، وقال : « يا جابر ، أدخل عليّ عشرة عشرة » فأدخلت عشرة فأكلوا حتى نهلو ، وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم. ثمّ قال : « علي بالذّراع » فأتيته به ، فأكلوه. ثمّ قال : « أدخل عشرة » فأدخلتم ، فأكلوا حتى نهلوا ، وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم ، ثمّ قال : « عليّ بالذّراع » فأكلوا وخرجوا ، ثمّ قال : « عليّ بعشرة » فأدخلتهم فأكلوا حتى نهلوا ، وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم ، ثمّ قال : « عليّ بالذراع » فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، كم للشاة من ذراع ؟ قال : « ذراعان » . فقلت : والذي بعثك بالحقّ ، لقد أتيتك بثلاثة. فقال : « أما لو سكتّ - يا جابر - لأكل الناس كلّهم من الذراع » قال جابر :فأقبلت ادخل عشرة عشرة حتى أكلوا كلّهم ، وبقي لنا من ذلك الطعام ما عشنا به أياما (٣) .

وفي رواية ، قال عليه‌السلام لأهلي : « كلي وأهدي » فأهديت منه إلى أقربائي(٤) فأكلوا منه حتى شبعوا.

فلمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حفر الخندق في ستّة أيام ، أقبلت قريش ومن معهم من الأحزاب يوم فراغهم أو بعد ثلاثة أيام ، فلمّا نزلوا العقيق ، جاء حييّ بن أخطب إلى بني قريظة ، وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأغواهم وحملهم على نقض العهد ، فتجهّزوا لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرادو الإغارة على المدينة بمعاونة طائفة من قريش ، فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعظم البلاء ، وصار الخوف على النساء والذراري أشدّ ممّا على أهل الخندق ، فبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة (٥) ، ويأمنون أهلها.

قأقبلت قريش والأحزاب كما حكاه سبحانه بقوله : ﴿إِذْ جاؤُكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿مِنْ﴾ الوادي الذي كان من ﴿فَوْقِكُمْ﴾ وأعلى معسكركم وجهة شرقية ، وهم عطفان ومن معهم من أهل نجد

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٧٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ٩٢ ، تفسير روح البيان ٧ : ١٤٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٧٨.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٥٣٥.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٥.

١٥٦

واليهود ﴿وَمِنْ﴾ الوادي الذي كان في ﴿أَسْفَلَ﴾ وأنزل ﴿مِنْكُمْ﴾ ومن معسكركم وجهة غربية ، وهم قريش ومن معهم من القبائل ﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ زاغَتِ﴾ وتحيّرت ﴿الْأَبْصارُ وَ﴾ شخصت ﴿بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ﴾ من الرّعب والخوف.

قيل : إنّ الرئة تنتفخ من شدّة الرّعب ، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة (١) ومنتهى الحلقوم ، ولو لا ضيقه بها لخرجت من الجوف. والمراد أنّه كادت أن تبلغ القلوب الحناجر خوفا على أنفسهم من الأحزاب الذين كانوا أضعافهم ، وعلى ذراريهم في المدينة من اليهود الذين نقضوا عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرادوا الإغارة عليهم فيها.

﴿وَتَظُنُّونَ﴾ أيّها المظهرون للايمان ﴿بِاللهِ﴾ الذي وعدكم النصر ﴿الظُّنُونَا﴾ المختلفة ، فانّ المخلصين ظنّوا إنجاز وعده وامتحانهم ، وظنّ الضعاف القلوب والايمان والمنافقون القتل والأسر والغارة وخلف الله وعده أو كذبه ﴿هُنالِكَ﴾ وفي ذلك الوقت ، أو الموطن ﴿ابْتُلِيَ﴾ واختبر ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ بالحصر والرّعب ، وظهر المخلص من المنافق ، والثابت من المتزلزل ﴿وَزُلْزِلُوا﴾ واضطربوا ﴿زِلْزالاً﴾ واضطرابا ﴿شَدِيداً﴾ وأزعجوا وحرّكوا إزعاجا وحراكا قويا من شدّة الفزع.

﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ﴾ ومسرّو الكفر كمعتّب بن قشير وأتباعه ، ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ضعف الايمان ، أو الشكّ لمّا رأوا قوّة العدو وشوكتهم ، أو حفر الخندق مع وعده صلى‌الله‌عليه‌وآله بفتح الممالك ﴿ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ بالنصر والغلبة وإعلاء الدين ﴿إِلَّا غُرُوراً﴾ ووعدا باطلا ، أو إيقاعا في الخطر والمهلكة بالخدعة ، ﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ قالَتْ﴾ فرقة من المنافقين و﴿طائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ كأوس بن قبطي وتابعيه في الرأي لأهل المدينة : ﴿يا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ وسكّان المدينة ﴿لا مُقامَ لَكُمْ﴾ في معسكر محمد ، ولا يصحّ توقّفكم فيه مع كثرة العدوّ ووضوح هلاككم بأيديهم ﴿فَارْجِعُوا﴾ إلى منازلكم بالمدينة ، واحفظوا أنفسكم من القتل والأسر ، وأموالكم من النهب ، واتركوا محمدا بين أعدائه حتى يفعلوا به ما أرادوا ﴿وَيَسْتَأْذِنُ﴾ في الرجوع ﴿فَرِيقٌ مِنْهُمُ﴾ كبني حارثة وبني سلمة ﴿النَّبِيَ﴾ حفظا لخاطره احتياطا ، وتحصيلا لرضاه عنهم ، وهم ﴿يَقُولُونَ﴾ اعتذارا من الرجوع : يا رسول الله ﴿إِنَّ بُيُوتَنا﴾ ومنازلنا في المدينة ﴿عَوْرَةٌ﴾ ومختلّة وخربة يخاف منها العدوّ والسّرّاق ، لإمكان دخولهم فيها بسهولة ، فنرجع ونسدّ خللها ، ونعمّر خرابها ونحصّنها من الدخول فيها ، ثمّ نرجع إلى معسكرك ، ونكون معك.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٩٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ١٤٨.

١٥٧

قيل : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأذّن لهم في الرجوع (١) ، فردّهم الله وأكذب عذرهم بقوله : ﴿وَما﴾ تلك البيوت ، وليست ﴿هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ ومختلّة ، بل هي معمورة حصينة محرزة.

عن الصادق عليه‌السلام : « بل هي رفيعة السّمك حصينة » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « كانت بيوتهم في أطراف البيوت حيث ينفرد الناس ، فأكذبهم الله » (٣) بقوله : ﴿إِنْ يُرِيدُونَ﴾ بقولهم ذلك وما يقصدون من عذرهم ﴿إِلَّا فِراراً﴾ من القتال حبّا للحياة ، وتكذيبا للرسول في وعده بالنصر.

قيل : قد صحّ أنّه فرّ إلى المدينة كلّ من في قلبه مرض ، وبقي مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل اليقين (٤) .

﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً

 * وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ

 مَسْؤُلاً (١٤) و (١٥)

ثمّ بيّن سبحانه شدّة اشتياقهم إلى الكفر بقوله : ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ﴾ بيوتهم وهم فيها ، وكان الدخول ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ﴾ جميع ﴿أَقْطارِها﴾ وجوانبها لكثرة الخلل فيها ﴿ثُمَّ سُئِلُوا﴾ من قبل طائفة اخرى كافرة ، وطلبوا منهم ﴿الْفِتْنَةَ﴾ والرجعة إلى الشّرك والكفر ، والله ﴿لَآتَوْها﴾ وأعطوها السائلين وأجابوهم إليها غير مبالين بما دهاهم من الداهية والغارة ﴿وَما تَلَبَّثُوا﴾ باجابة الفتنة ، وما تمكّثوا ﴿بِها﴾ زمانا ﴿إِلَّا﴾ زمانا ﴿يَسِيراً﴾ وقليلا قدر ما يسمعون السؤال ويردّون الجواب فضلا عن التعلّل باختلال البيوت عند سلامتها ، كما فعلوا الآن ، وما ذلك إلا لبغضهم للاسلام وأهله ، وحبّهم للكفر وأهله ، ﴿وَ﴾ هم والله ﴿لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ﴾ حين انهزموا يوم احد ، ونزل فيهم آيات اللّوم والعتاب ، أنّهم في جهاد الكفّار ﴿لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ﴾ ولا يتركون العدوّ في قتال خلف ظهورهم ، ولا يفرّون منه كما فرّوا في ذلك اليوم ، ومع ذلك فرّوا في هذه الوقعة ، ويستأذنوك في الرجوع نقضا لذلك العهد ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿كانَ عَهْدُ اللهِ﴾ يوم القيامة ﴿مَسْؤُلاً﴾ عنه هل وفي به أو نقض ، ويعاقب على نقضه.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٥١.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٥٤٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٩ ، وسمك البيت : سقفه.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٠ / ١٨٦٦ ، تفسير الصافي ٤ : ١٦٩.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٩.

١٥٨

﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً

 * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا

 يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٦) و (١٧)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلومهم على لغوية عملهم بعد بيان ضرره بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهم : لو فرض أنّه لا عقوبة على نقض عهد الله وعصيانه ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ﴾ ولا يفيد في سلامتكم وطول عمركم ﴿الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ﴾ حتف الأنف ﴿أَوِ الْقَتْلِ﴾ بالسيف إذا قدّر كلّ واحد منهما لكم في وقت معين ، وجرى عليه القلم ، فأنّه لا رادّ لقضاء الله ، ولا محيص عمّا خطّ بالقلم ﴿وَ﴾ لو فرض أنّ الفرار نفعكم في تأخير آجالكم ﴿إِذاً لا تُمَتَّعُونَ﴾ ولا تنفعون بالحياة ولذائذ الدنيا ﴿إِلَّا﴾ زمانا أو تمتّعا ﴿قَلِيلاً﴾ فانّ عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في غاية القلّة ، ولا بد لكلّ نفس من الخروج منها.

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتقرير عدم نفع الفرار بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمنافقين ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ ويحفظكم ﴿مَنْ﴾ حكم ﴿اللهِ﴾ وقضائه ﴿إِنْ أَرادَ﴾ الله ﴿بِكُمْ سُوءاً﴾ وشرّا ، كالهزيمة والقتل والأسر ونحوها ﴿أَوْ﴾ [ من ] يصيبكم بسوء إن ﴿أَرادَ﴾ الله ﴿بِكُمْ رَحْمَةً﴾ ونعمة ، كالغلبة على العدوّ والغنيمة والشرف والسلامة ونحوها.

ثمّ قرّر سبحانه عدم عاصمية غيره بقوله : ﴿وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿وَلِيًّا﴾ ومحبّا ينفعكم لمحبّته إياكم ﴿وَلا نَصِيراً﴾ ومعينا يدفع عنكم السوء إذا أتاكم.

﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ

 إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ

 أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ

 حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ

 عَلَى اللهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا

 لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ

 قَلِيلاً (١٨ و) (٢٠)

ثمّ هدّد سبحانه المنافقين الذين كانوا يصرفون المسلمين عن الجهاد ونصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ﴾ ويعرف ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾ والمثبّطين للناس عن نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه ، والصارفين لهم عن سلوك طريق كلّ خير ، وهم المنافقون ﴿مِنْكُمْ﴾ أيّها المسلمون ، ﴿وَ﴾ يعلم ﴿الْقائِلِينَ

١٥٩

 لِإِخْوانِهِمْ﴾ وموافقيهم في الكفر والنفاق من أهل المدينة : ﴿هَلُمَ﴾ واقربوا ﴿إِلَيْنا﴾ واحضروا عندنا ، وفيه دلالة على أنّهم حين قولهم هذا ، كانوا خارجين من معسكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متوجّهين نحو المدينة ، فرارا من الزّحف ، ولو كانوا في المعسكر يعتذرون ويتأخّرون ، ما أمكن لهم ، أو يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنّهم معهم ﴿وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾ والحرب ولا يقاتلون الأعداء ﴿إِلَّا﴾ إتيانا ، أو قتالا ﴿قَلِيلاً﴾ أو قليلا منهم حال كونهم ﴿أَشِحَّةً﴾ وبخلاء ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بالمعاونة ، أو الانفاق في سبيل الله ، أو بظفركم واغتنامكم لا يريدون أن يكونا لكم.

ثمّ بيّن سبحانه شدّة جبنهم بقوله : ﴿فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ﴾ من العدوّ بأن حملوا على عسكر المسلمين ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾ يا محمد في تلك الحالة ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ التجاء بك ، وهم من شدّة الجبن ﴿تَدُورُ﴾ وتتحرّك ﴿أَعْيُنُهُمْ﴾ في أحداقهم يمينا وشمالا ﴿كَالَّذِي﴾ والتقدير كدوران عين الشخص الذي ﴿يُغْشى عَلَيْهِ﴾ وتعرض له (١) الغشوة وزوال الشّعور والفهم ﴿مِنَ﴾ معالجة سكرات ﴿الْمَوْتِ﴾ خوفا ورعبا ، فلا يقدر على النّزال والقتال ﴿فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ بانكسار العدوّ والظّفر عليهم ، وجمعت الغنائم ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ وآذوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ﴾ وأقوال خشنة وكلمات سيئة ، كإظهار المنّة عليكم بالمساعدة والقتال معكم بقولهم : لو لم نكن معكم لما هزمتم العدوّ ، وما نجيتم من القتل بسيوفهم ، فبنا غلبتموهم ونصرتم عليهم ، فوفّروا حظّنا من الغنائم ، وإنّما قالوا ما قالوا لكونهم ﴿أَشِحَّةً﴾ وحريصين ﴿عَلَى الْخَيْرِ﴾ أو المال ، أو بخلاء على المال ، بأن يوفّر عليكم القسمة ، مع كونهم راضين في أول القتال من الغنيمة بالإياب ، فهم قليلو الخير في الحالين ، كثيرو الشرّ في الوقتين ، لكونهم بخلاء قبل القتال وبعده ﴿أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ حقيقة ، وإن أظهروا الايمان ﴿فَأَحْبَطَ اللهُ﴾ وأبطل ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ الحسنة لعدم الإخلاص ﴿وَكانَ ذلِكَ﴾ الإحباط ، ﴿عَلَى اللهِ يَسِيراً﴾ وسهلا ، فلمّا نظرت قريش إلى الخندق قالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها (٢) ، فنزلوا بمجمع الأسيال ، فصفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه ، وكان أكثر الحال بينهم وبين العدوّ الرمي بالنبال والحصى ، وأقبل نوفل بن عبد الله يوما ، فضرب فرسه ليطفر الخندق فوقع فيه ، فنزل إليه عليّ عليه‌السلام فقطعه نصفين بسيفه (٣) .

قصة قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام عمرو بن عبدودّ

ثمّ أقبل عمرو بن عبدودّ وهبيرة بن وهب وبعض الشجعان ، فصاحوا بخيولهم حتى طفروا الخندق ، وركز عمرو رمحه في الأرض ، وكان يعدّ بألف فارس ، وكان عمره

__________________

(١) في النسخة : ويعرضه.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٨٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٧٥.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ١٤٥.

١٦٠