نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢

﴿وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا

 هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ

 لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٦) و (٣٧)

ثمّ لمّا كان من لطفه على العباد أن يختبرهم بالنّعم والبلايا لينيبوا إليه في أحد الحالين ، لام المشركين على أنّ الحالين لا يزيدهم إلّا كفرا بقوله : ﴿وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾ وأنعمنا عليهم ﴿رَحْمَةً﴾ ونعمة ﴿فَرِحُوا بِها﴾ أشرا وبطرا ، وزادهم طغيانا وكفرا ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ وشدّة من ضيق وبلاء ﴿بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ وبشؤم معاصيهم ﴿إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ وييأسون ويجزعون ويفزعون ، فلا عند النّعمة إلى الله يرجعون ويشكرون ولا عند البلاء إليه ينيبون ويرجعون ويسألون ﴿أَ وَلَمْ يَرَوْا﴾ ولم يعلموا أنّ الشدة والرخاء كلاهما من الله حيث يرون ﴿أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ﴾ ويوسّع ﴿الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ﴾ وسعة رزقه لعلمه بصلاحه فيها ﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويضيّق الرزق لمن يشاء ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من القبض والبسط ﴿لَآياتٍ﴾ نافعة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فانّهم يستدلّون بها على كمال قدرة الله وحكمته.

قيل لبعض العلماء : ما الدليل على وحدة صانع العالم ؟ قال : ثلاثة أشياء ذل اللبيب ، وفقر الأديب ، وسقم الطبيب (١).

﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ

 اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)

ثمّ خاطب سبحانه من بسط له الرزق ، وأمره بانفاق ما زاد عن كفافه لمن قدر عليه رزقه بقوله : ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبى﴾ وصاحب النسب إليك إذا احتاج في نفقته وما يعيش به ﴿حَقَّهُ﴾ من مالك صدقة أو صلة وإعانة مقدّما له على غيره ﴿وَ﴾ آت ﴿الْمِسْكِينَ﴾ والفقير ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ حقّهما من مالك صدقة وإعانة.

قيل : إنّ المخاطب هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد بذي القربى قرابته (٢) .

عن أبي سعيد الخدري : لمّا نزلت الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهأعطى فاطمة عليها‌السلامفدكا وسلّمه إليها(٣).

وقيل : إن الخطاب لعموم (٤) الأمة ، والمراد بذي القربى فقراء ذريّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد بالحقّ الخمس ، كما عن مجاهد والسدّي (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٣٩.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٧٨.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٤٧٨ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٣.

(٤) في النسخة : بعموم.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٤٧٨.

١٠١

ثمّ حثّهم في ذلك بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الايتاء والعطاء من المال ﴿خَيْرٌ﴾ في نفسه ، أو من الامساك ، ولكن لا لكلّ الناس ، وإن كانوا مشركين أو مرائين ، بل ﴿لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ﴾ بإعطائهم ﴿وَجْهَ اللهِ﴾ ويطلبون به رضاه والقرب إليه ، فانّ ذلك المال يبقى ويدوم نفعه إلى الأبد ﴿وَأُولئِكَ﴾ المنفقون لوجه الله ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون.

﴿وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ

 تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ

 يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ

 وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣٩) و (٤٠)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه فائدة إنفاق المال لوجه الله ، ذكر عدم الفائدة الاخروية في بذله للاغراض الدنيوية بقوله : ﴿وَما آتَيْتُمْ﴾ وأعطيتم شيئا ﴿مِنْ رِباً﴾ وزيادة من هدية وهبة ، لا لوجه الله ، بل ﴿لِيَرْبُوَا﴾ ويزيد ﴿فِي أَمْوالِ النَّاسِ﴾ حتى يعطوكم أكثر وأفضل منه ، فهذا المال وإن صار سببا لزيادة أموالكم في الدنيا ، ولكن لما لم يكن بذله لوجه الله ﴿فَلا يَرْبُوا﴾ ولا يزيد ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ ولا يبارك له فيه ، ولا يثاب عليه.

عن الصادق عليه‌السلام قال : «الربا رباءان : ربا يؤكل ، وربا لا يؤكل ، فأمّا الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها ، فذلك الربا الذي يؤكل ، وهو قول الله عزوجل : ﴿وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ﴾وأمّا الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه [وأوعد عليه النار]» (١).

وعن الباقر عليه‌السلام : « هو أن يعطي الرجل العطية ، أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها ، فليس فيه أجر ولا وزر » (٢) .

وقيل : إنّ المراد به إعطاء الزيادة في المعاملة أو القرض (٣) . ﴿وَما آتَيْتُمْ﴾ شيئا ﴿مِنْ زَكاةٍ﴾ مشروعة في الأموال الزكوية أو صدقة ﴿تُرِيدُونَ﴾ به ﴿وَجْهَ اللهِ﴾ وتطلبون رضاه والتقرّب إليه ، فانّه يزيد عند الله.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « مكتوب على باب الجنة : القرض بثمانية عشر ، والصدقة بعشر»(٤).

ثمّ لتعميم الحكم لجميع الامّة إلى يوم القيامة ، التفت من الخطاب إلى الغيبة بقوله : ﴿فَأُولئِكَ

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ / ٧٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٤.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٧٩ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٤.

(٣) تفسير الصافي ٤ : ١٣٤ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٥٩ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٤.

١٠٢

المزكّون ﴿هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ وذوو الأضعاف من الثواب في الأجل والمال في العاجل.

ثمّ أكّد ما أدّعاه سبحانه من التوحيد ونفي الشريك له بقوله : ﴿اللهُ﴾ هو القادر ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ في الدنيا ولم تكونوا شيئا مذكورا ﴿ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ بجوده ما تعيشون به وتبقون إلى منتهى آجالكم ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بقدرته ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في الآخرة ليجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، فهذه الأعمال من شؤون الالوهية فانظروا ﴿هَلْ﴾ أحد ﴿مِنْ شُرَكائِكُمْ﴾ وآلهتكم ﴿مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ﴾ الخلق والرزق والإماتة والإحياء ﴿مِنْ شَيْءٍ ؟﴾ لا يفعلون شيئا منها أبدا إذن ﴿سُبْحانَهُ﴾ وننزّهه تنزيها بليغا ﴿وَتَعالى﴾ تعاليا كبيرا ( عن ) شرك ما ﴿يُشْرِكُونَ﴾ به أو عن إشراكهم.

﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي

 عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ

 مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ

 يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤١) و (٤٣)

ثمّ نبّه سبحانه على ضرر شرك بني آدم على كافة الموجودات بقوله : ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ﴾ من القحط والغلاء ، والطاعون والوباء ، وموت الفجاءة ، وكساد التجارات ، والرفع في الزراعات ، والقتل والغارات ، والزلازل والحريق والفتن ﴿فِي الْبَرِّ﴾ من البلدان والقرى والجبال والأودية ﴿وَ﴾ في ﴿الْبَحْرِ﴾ من الأمواج والغرق وكسر السفن وموت الدوابّ وغيرها.

قيل : البحر يطلق على البلدان (١) . وقيل : هو البلاد التي في السواحل (٢) .

﴿بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ من الشّرك والظّلم والعصيان ، وإنّما كان ذلك ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ ونطعمهم ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ من المعاصي وقليلا ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن الشرك إلى التوحيد ، ويتوبون من سيئاتهم.

في الأخبار أنّ ظهور الفواحش سبب لفشّو الطاعون والأوجاع ، ونقص المكيال والميزان سبب للقحط وشدّة المؤنة ، وجور السلطان ومنع الزكاة سبب لانقطاع المطر ، ونقض عهد الله ورسوله سبب لتسلّط العدو ، وجور الحكام في الحكم سبب لوقوع القتال ، وأكل الربا سبب للزّلزلة (٣).

ثمّ هدّدهم سبحانه بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين ﴿سِيرُوا﴾ وسافروا ﴿فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٥ : ١٢٧.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٨٠ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٦٢.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٤٦.

١٠٣

بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ وإلى ما صار مآل كفرانهم ﴿كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ فإذا كان الأمر كذلك ﴿فَأَقِمْ﴾ يا محمد ﴿وَجْهَكَ﴾ وأقبل بقلبك الشريف ﴿لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ البليغ في الاستقامة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ يوم القيامة ، وهو ﴿يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ﴾ ولا مانع عن إتيانه ﴿مِنَ اللهِ﴾.

وقيل : إنّ الظرف متعلّق بفعل يأتي ، والمعنى أنّ اليوم يأتي من الله ، ولا يمكن لأحد أن يمنع من إتيانه (١) . فالخلق ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ ويتفرّقون فريق في الجنة وفريق في السعير.

﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ

 آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٤) و (٤٥)

ثمّ بيّن سبحانه الفرقتين بقوله : ﴿مَنْ كَفَرَ﴾ بالله ورسله واليوم الآخر ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ وضرر ترك إيمانه من العقوبة والنّكال لا على غيره ﴿وَمَنْ﴾ آمن و﴿عَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ مرضيا عند الله ، ويجوز أن يكون المراد هنا من العمل الصالح الايمان ، فانّه عمل القلب واللسان ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ﴾ وحدها منزل الراحة الأبدية ﴿يَمْهَدُونَ﴾ ويهيّئون ، أو يفرشون حتى يستريحون فيه إلى الأبد ، وقيل : يعني لأنفسهم يشفقون (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة ، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمة فراشه »(٣) .

وإنّما كان تفرّقهم بتفريق الله تعالى فرقتين ﴿لِيَجْزِيَ﴾ الله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ الجنة والنّعم العظيمة الأبدية ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده ، لا من عدله ، وإنّما قدّم ذكر جزاء المؤمنين إشعارا بسبق رحمته غضبه ، وبأنّه المقصود الأول.

ثمّ كنّى سبحانه من عذاب المشركين بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ﴾ فانّ لازم عدم حبّه لهم بغضه إياهم ، ولازمه العذاب الشديد الدائم ، وفيه إشارة إلى أنّه يحبّ المؤمنين ، وهو أفضل الجزاء ، كما أنّ عدم حبّه أشدّ العذاب عند العارفين.

روي أنّ الله تعالى قال لموسى عليه‌السلام : « ما خلقت النار بخلا مّني ، ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة » (٤) .

﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٦٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧.

(٢) جوامع الجامع : ٣٦٠.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٤٨١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٥.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨.

١٠٤

بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)

ثمّ إنّه لمّا ذكر سبحانه أنّ الشّرك سبب لظهور الفساد في العالم ، نبّه على أنّ التوحيد سبب لصلاحه بقوله : ﴿وَمِنْ آياتِهِ﴾ وعلائم توحيده وقدرته وحكمته ﴿أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ﴾ الشّمال والجنوب والصّبا ، فانّها رياح الرحمة ، لأنّها من روح الله ، حال كونها أو لتكون ﴿مُبَشِّراتٍ﴾ للخلق بالمطر ، ولطافة الهواء ، وصحّة الأبدان ، ووفور النّعم ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ﴾ ويطعمكم طعم السّعة والسلامة والراحة الكائنة ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وإحسانه ، فإنّه لو لم تهبّ الرياح لظهر الوباء والفساد.

وهذا في مقابل قوله : ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ﴾ ... ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا(١) ولمّا كان المشركون بعيدين عنه تعالى ، كنّى عنهم بضمير الغائب ، وكان المؤمنون قريبين منه أتى بضمير الخطاب ، وإنّما علّل ما أصابهم من الشرّ ببعض أعمالهم ، وأسند ما أصابهم من الخير إلى رحمته تقريرا لقوله : ﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ(٢) .

﴿وَلِتَجْرِيَ﴾ وتسير ﴿الْفُلْكُ﴾ في البحر بسوق الرياح الهابّة (٣)﴿بِأَمْرِهِ﴾ وتعالى لوضوح أنّ الريح لا تتحرّك بنفسها ، بل لها (٤) محرك ، إلى أن ينتهي إلى محرّك لا محرّك له ولا يتحرّك ، وهو الله الموجد لكلّ شيء ، ومن حركة الرياح ﴿وَلِتَبْتَغُوا﴾ وتطلبوا بركوبها وحمل الأمتعة فيها للتجارة ربحا وفائدة كثيرة ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ تعالى وجوده لا من كسبكم ، ولمّا كان توفيق الشكر من نعمه عطفه على النّعم بقوله : ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾ بتوفيقه تعالى ﴿تَشْكُرُونَ﴾ نعمه وأفضاله.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ

 الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد والمعاد ، ذكر أمر الرسالة ، وأظهر المنّة بارسال الرسل ، وفيه تحذير من أخل بالشّكر بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ وفي أعصار قبل عصرك ﴿رُسُلاً﴾ كثيرة عظيمة الشأن ﴿إِلى قَوْمِهِمْ﴾ لهدايتهم إلى توحيدنا ومعرفتنا وشكر نعمتنا ﴿فَجاؤُهُمْ﴾ مستدلين على صدقهم في دعوى الرسالة من الله ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات كالعصا وإحياء الموتى ، فكفر كلّ قوم بنعمة إرسال رسولهم وكذّبوه وعارضوه واستهزءوا به ﴿فَانْتَقَمْنا﴾ بإنزال العذاب ﴿مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وكذّبوا رسولهم ، وأصروا على شركهم وكفرهم ، وتكذيب رسلهم ، وحفظنا المؤمنين من شرّهم وضرّهم والعذاب النازل عليهم ، ونصرناهم على أعدائهم ﴿وَكانَ حَقًّا﴾ واجبا

__________________

(١) الروم : ٣٠ / ٤١.

(٢) النساء : ٤ / ٧٩.

(٣) في النسخة : المهبة.

(٤) في النسخة : بنفسه ، بل له.

١٠٥

﴿عَلَيْنا﴾ بمقتضى حكمتنا ورحمتنا ﴿نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في الدنيا بحفظ إيمانهم ، ودفع شرّ أعدائهم ، وإنجاءهم ممّا أصاب الكافرين ، وفي الآخرة بإنجائهم من أهوال يوم القيامة ، وخلاصهم من النار ، وإدخالهم الجنة ، وإنعامهم بالنّعم الدائمة والراحة الأبدية ، وفيه إشعار بأنّ الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم ، حيث جعلهم مستحقّين على الله أن ينصرهم.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من أمرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة (١) . ثمّ قرأ ﴿كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾».

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « حسب المؤمن نصرة أن يرى عدّوه يعمل بمعاصي الله » (٢) .

وفي الآية تبشير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالظّفر في العاقبة على أعدائه ، والنصر على من كذّبه ، وتسلية لقلبه الشريف حيث لم يؤمنوا به فقال : حالك كحال من تقدّمك من الأنبياء العظام ، فانّهم مع معجزاتهم الباهرات كذّبوا وصبروا حتى نصرهم الله على تكذيبهم.

﴿اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ

كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ

 يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٨) و (٤٩)

ثمّ إنّه تعالى بعد بيان إرساله الرسل في السابقين ، وتسلية نبيه بذكر حالهم وظفرهم على أعدائهم ، عاد إلى الاستدلال على توحيده الذي هو أهمّ المقاصد بذكر كيفية بشارة الرياح بالمطر بقوله : ﴿اللهُ﴾ هو القادر بالذات ﴿الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ المبشّرات برحمته من الشّمال والجنوب والصّبا ﴿فَتُثِيرُ﴾ وتنتشر بهبوبها ﴿سَحاباً﴾ واحدا أو أكثر بارادة الله وأمره ﴿فَيَبْسُطُهُ﴾ ويجعل بعضه متّصلا ببعض تارة ، كي يصير قطعة واحدة ﴿فِي﴾ سمت ﴿السَّماءِ﴾ وجهة العلوّ ﴿كَيْفَ يَشاءُ﴾ الله تعالى سائرا وواقفا ، مطبقا مسيرة يوم أو يومين أو أقلّ أو أكثر ، أو غير مطبق من جانب دون جانب ﴿وَيَجْعَلُهُ﴾ تارة اخرى ﴿كِسَفاً﴾ وقطعا كلّ قطعة في طرف ، أو يجعل بعضه فوق بعض ، كما عن القمي (٣)﴿فَتَرَى﴾ يا محمدّ ، أو أيّها الرائي ﴿الْوَدْقَ﴾ والمطر ﴿يَخْرُجُ﴾ بأمر الله ﴿مِنْ خِلالِهِ﴾ وفرجه وشقوقه في التارتين واپلا أو هطلا أو رذاذا.

عن وهب : أنّ الأرض شكت إلى الله عزوجل أيام الطّوفان ، فقالت : يا ربّ ، إن الماء خدّدني

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٤٨٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٦ ، تفسير روح البيان ٧ : ٥٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٨٤ / ٨٤٧ و: ٢٩٣ / ٨٨٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٦.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٦٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٦.

١٠٦

وخدّشني ، لأنّ الماء خرج بغير وزن ولا كيل غضبا لله تعالى فخدّش الأرض وخدّدها ، فقال الله تعالى : إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك ولا يخدّشك ، فجعل السّحاب غربال المطر (١) .

﴿فَإِذا أَصابَ﴾ الله ﴿بِهِ﴾ وأنزله على أراضي ومزارع ﴿مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ﴾ أو بلادهم ﴿إِذا هُمْ﴾ بمجيء الخصب والأمن من القحط ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ويفرحون ﴿وَإِنْ﴾ الشأن أن الذين أصابهم المطر ﴿كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ﴾ المطر ﴿عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ﴾ وإنّما كرّر كلمة ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ تأكيدا ودلالة على تطاول عهدهم به ﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ وآيسين من نزوله.

وقيل : إنّ ضمير ( من قبله ) راجع إلى إرسال الرياح (٢) ، لأنّ الخبير بعد الريح وبسط السّحاب يعرف أن فيه المطر.

﴿فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ

 الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ

 بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا

 مُدْبِرِينَ * وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا

 فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٠ و) (٥٣)

ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد بالتفصيل المذكور ، أمر الناس بالاعتبار بآثار المطر وإحياء الأرض بقوله : ﴿فَانْظُرْ﴾ أيّها الناظر بنظر الاعتبار ﴿إِلى آثارِ﴾ المطر الذي هو من ﴿رَحْمَةِ اللهِ﴾ من النبات والأزهار والأشجار والثّمار ، وتفكّر في أنّه تعالى ﴿كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ﴾ بتلك الآثار ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ ويبسها وعدم ظهور فائدة فيها ، وتنبّه على عظم شأنه وكمال قدرته واعلم ﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ الربّ العظيم المحيي للأرض الميتة ﴿لَمُحْيِ الْمَوْتى﴾ البتة بعد صيرورتهم ترابا في الآخرة للحساب وجزاء الأعمال ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من إحياء الموتى وغيره ممّا يمكن أن يوجد ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يتصوّر فيه العجز ، فانّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات سواء.

ثمّ ذمّ سبحانه الكفّار بقوله : ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً﴾ مضرّة حارة أو باردة ، فافسدت زرع الكفار ﴿فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا﴾ من أثر الريح بعد كونه مخضرّا ، فيأسوا من نفعه ﴿لَظَلُّوا﴾ وصاروا ﴿مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ جميع نعم الله عليهم ، ولم يلتجئوا إليه بالاستغفار ، بخلاف المؤمن الشاكر الصابر ، فانّه يحمد الله على كلّ حال ، ولا يحزنون على ما فاتهم من المنافع ، ولا يفرحون بما آتاهم الله ، وإنّما يكون فرحهم بطاعة الله ، وحزنهم على معصيته ، فاولئك الكفّار كالموتى لسلب المشاعر عنهم ، فلا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٥١.

(٢) تفسير الرازي ٢٥ : ١٣٣.

١٠٧

تطمع يا محمد في قبولهم دعوتك وإيمانهم بك ﴿فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ﴾ دعوتك ومواعظك ﴿الْمَوْتى﴾ لعدم قابليتهم للاستماع ، وهم كالصّم الذين لا يسمعون ﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ والنداء خصوصا ﴿إِذا وَلَّوْا﴾ وأعرضوا عنك حال كونهم ﴿مُدْبِرِينَ﴾ وجاعلين ظهورهم نحوك ، فانّهم إذن لا يرون إشاراتك وحركات شفتيك حتى يفهموا بفراستهم أنّك تكلّمهم وتخاطبهم وهم لفقدهم البصيرة كالعمي ﴿وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ﴾ ومدلّهم إلى الطريق بلسانك ، وصارفهم ﴿عَنْ ضَلالَتِهِمْ﴾ وسلوكهم في غير الطريق ﴿إِنْ تُسْمِعُ﴾ دعوتك ﴿إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ﴾ ويصدّق ﴿بِآياتِنا﴾ القرآنية ، ويتدبّر فيها ، ويتلقّاها بالقبول.

ويجوز أن يكون المراد بالمؤمن المشارف للايمان والمقبل على الآيات بقلبه ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ومنقادين لإجابة دعوتك وإطاعة أوامرك.

﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ

 ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ

 الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا

 الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ

 وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ

 يُسْتَعْتَبُونَ (٥٤) و (٥٧)

ثمّ بالغ سبحانه في الاستدلال على توحيده وقدرته بقوله : ﴿اللهُ﴾ تعالى هو القادر ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ﴾ مبدأ ضعيف يصحّ أن يقال من غاية ضعفه أنّه عين ﴿ضَعْفٍ﴾ كالتّراب والنطفة ، ثمّ ربّاكم في الأرحام ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾ لكم ﴿مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ﴾ كان فيكم وأنتم أجنّة ﴿قُوَّةً﴾ على الحركة ، وأمتصاص الضّرع وشرب اللّبن منه ، ودفع الأذى عنكم بالبكاء ، ثمّ ربّاكم حتى بلغتم سنّ الشباب وأكمل قواكم ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾ لكم ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ كانت لكم في الشباب ﴿ضَعْفاً﴾ آخر حين الشيخوخة والكبر ﴿وَشَيْبَةً﴾ وهرما ومن المعلوم أنّ هذه الأطوار والأحوال للخلق لا تكون بالطبيعة بل الله ﴿يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ من الضّعف والقوّة والشباب والشيب والهرم ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بأحوال خلقه ﴿الْقَدِيرُ﴾ على نقله من حال إلى حال.

ثمّ إنّه بعد ذكر أحوال خلقه في الدنيا وأطوارهم ، ذكر بعض أحوال الكفّار في الآخرة بقوله : ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ وتجيء وقت جزاء الأعمال ، يسأل الكفّار عن مدّة لبثهم في الدنيا ، فحينئذ ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ

١٠٨

والعاصون المنكرون للحشر بالله على أنّهم ﴿ما لَبِثُوا﴾ وما مكثوا فيها ﴿غَيْرَ ساعَةٍ﴾ ومدّة في غاية القلّة.

وقيل : إنّ المراد مدّة لبثهم في القبور ، أو بعد فناء الدنيا إلى النشور (١) . وعلى كلّ تقدير كان جوابهم إفكا وكذبا و﴿كَذلِكَ﴾ الإفك والكذب ﴿كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ ويصرفون من الحقّ إلى الباطل ، ومن الصدق إلى الكذب ﴿وَقالَ﴾ الملائكة أو الأنبياء والمؤمنون ﴿الَّذِينَ أُوتُوا﴾ من قبل الله ﴿الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ﴾ ردّا عليهم وإنكارا لكذبهم : والله ﴿لَقَدْ﴾ كذبتم بل ﴿لَبِثْتُمْ﴾ في المدة التي كانت مكتوبة ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾ واللّوح المحفوظ ، وهي المدّة المديدة ﴿إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ لا الساعة الحقيقية ﴿فَهذا﴾ اليوم ﴿يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ الذي وعدكم به الأنبياء ﴿وَلكِنَّكُمْ﴾ لفرط جهلكم وتفريط النّظر ﴿كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ في الدنيا أنّه الوعد الحقّ ، وتستعجلون به استهزاء ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بإنكار التوحيد والمعاد ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ وكلمات تمحى بها ذنوبهم ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ويؤمرون بما يرضون به ربّهم وبه يمحون ذنوبهم من التوبة والطاعة ، لعدم قبولها منهم ، كما يؤمرون به في الدنيا ويقبل منهم فيها.

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ

 الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ * كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا

 يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٥٨) و (٦٠)

ثمّ بيّن سبحانه قطع عذرهم في الدنيا بقوله : ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا﴾ وو الله قد بيّنا ﴿لِلنَّاسِ﴾ عموما ﴿فِي هذَا الْقُرْآنِ﴾ الكريم بأوضح بيان ﴿مِنْ كُلِ﴾ ما يحتاجون إليه من العقائد الصحيحة والأحكام الحقّة والأدب والحكم بحيث يكون في الغرابة ﴿مَثَلٍ﴾ فلا يبقى لهم العذر في ترك أخذها وعدم العمل بها من قبلنا ، وأمّا من قبلك في رسالتك فقد أتيت لهم ما يثبت به برسالتك ﴿وَ﴾ والله ﴿لَئِنْ جِئْتَهُمْ﴾ وأتيت لهم ﴿بِآيَةٍ﴾ من القرآن الذي هو أعظم المعجزات ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وأصرّوا على العناد لك وللمؤمنين بك ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ وكاذبون فيما تدّعون ﴿كَذلِكَ﴾ الطّبع الفضيع والختم الشنيع ﴿يَطْبَعُ اللهُ﴾ ويختم ﴿عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ سوء عاقبة العقائد الفاسدة ، ولا يدركون الحقّ ودلائله ، فيصرّون على خرافات اعتقدوها وترّهات ابتدعوها.

﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمدّ على أذاهم ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بنصرك عليهم وتعذيبهم ﴿حَقٌ﴾ لا خلف فيه ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ ولا يغيضك ، أو لا يحملنّك على القلق والخفّة جزعا القوم ﴿الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٥ : ١٣٦.

١٠٩

بصدقك وبالآيات التي ننزّلها عليك ، فتكفّ عن الدعوة وتتهاون في القيام بوظيفة النبوة ، فانّهم شاكّون ظالّون ولا يستبعد منهم التكذيب والإيذاء.

الحمد لله على نعمه العظام التي منها إتمام تفسير السورة المباركة.

١١٠

في تفسير سورة لقمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿الم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ

 يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً

 مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١) و (٥)

ثمّ لمّا ختمت سورة الروم ببيان عظمة القرآن وإعجازه بقوله : ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنا﴾ إلى آخره ، وتكذيب الكفّار له ، وأمره تعالى نبيّه بالصبر على تكذيبهم واستهزائهم به ، اردفت بسورة لقمان المبدوءة بذكر عظمة القرآن وكونه هدى ورحمة ، وإعراض المشركين عنه وتكذيبهم إياه ، وذكر وصايا لقمان الحكيم وأمره بالصبر ، فابتدأها بذكر أسمائه المباركة بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.

 ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله : ﴿الم﴾ جلبا لتوجّه الناس إلى ما بعدها من ذكر عظمه القرآن وإعجازه بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ السورة والآيات ﴿آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ﴾ والقرآن المتضمّن للعلوم الكثيرة والحكم الوفيرة ، أو المحكم المصون من التغيير والتبديل ، والمحروس من الفساد والبطلان ، حال كون الآيات ﴿هُدىً﴾ ورشادا من الضلالة ﴿وَرَحْمَةً﴾ وسببا للارتقاء بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية ، والدرجات الرفيعة من الجنة ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ إلى أنفسهم باختيار العقائد الصحيحة ، وارتكاب الأعمال الصالحة ، وهم ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ التي هي عمود دينهم ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ التي هو ركن الاسلام ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ ودار جزاء الأعمال ﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾ ولا يشكّون فيها ﴿أُولئِكَ﴾ المحسنون المتّصفون بالصفات الجليلة مستولون ﴿عَلى هُدىً﴾ ورشاد حاصل ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ اللطيف بهم وطريق بيّنه الله لهم ووفّقهم لسلوكه.

ثمّ وعدهم بأفضل الجزاء بقوله : ﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون بأعلى المقاصد ، والناجون من جميع المهالك والمكارة ، لاستجماعهم العقيدة الحقة والأعمال الصالحة.

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها

١١١

هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ *وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ

 لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٦) و (٧)

ثمّ شرع في ذمّ المشركين الصادّين عن سبيل الله بقوله : ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ وبعضهم ﴿مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ ويترك استماع القرآن وقراءته اللتين (١) فيهما كلّ خير ، ويستبدلهما باستماع ما لا خير فيه من الكلام كأساطير الأولين وقصص رستم وإسفنديار.

قيل : نزلت في النّضر بن الحارث بن كلدة الذي قتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صبرا بعد وقعة بدر (٢) .

روي أنّه ذهب إلى فارس للتجارة ، فاشترى كتاب ( كليلة ودمنة ) و( أخبار رستم وإسفنديار ) و( أحاديث الأكاسرة ) فجعل يحدّث بها قريشا في أنديتهم ويقول : إنّ محمّدا يحدّثكم بعاد وثمود ، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وإسفنديار ، فيستملحون حديثه ، ويتركون استماع القرآن (٣) ، وكان عمله ذلك ﴿لِيُضِلَ﴾ الناس ويصرفهم ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والدخول في دينه الحقّ ، ويمنعهم بتلك الخرافات عن قراءة كتابه الهادي إلى المصالح الدنيوية والاخروية ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بضرر ما يشتريه وبالمعاملة الرابحة ، ومع ذلك يسخر بسبيل الله ﴿وَيَتَّخِذَها هُزُواً

وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير لهو الحديث قال : « هو الطعن في الحقّ ، والاستهزاء به ، وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به » إلى أن قال : « ومنه الغناء » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « الغناء ممّا أوعد الله عليه النار وتلا هذه الآية » (٥) .

وعنه أنّه سئل عن كسب المغنّيات فقال : « التي يدخل عليها الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قول الله عزوجل : ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ الآية (٦) وعليه جمع المفسرين ، كابن عباس وابن مسعود وغيرهما » (٧) .

وعن مجاهد : أنّ الآية نزلت في الذين يشترون المغنيات ويصرفون الناس عن استماع القرآن بألحانهنّ (٨) .

وعن الزمخشري : أنّ بعض قريش يشترون المغنيات ، فاذا أطّلعوا أن أحدا أراد قبول الاسلام طلبوه وأطعموه الطعام ، وسقوه الشراب ، وأمروا المغنيات يغنّين له ، ثم قالوا : هذا خير ممّا يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام والقتال بين يديه (٩) .

__________________

(١) في النسخة : التي.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٦٥.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٦٥.

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٩٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٠.

(٥) الكافي ٦ : ٤٣١ / ٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٠.

(٦) الكافي ٥ : ١١٩ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٠.

(٧) مجمع البيان ٨ : ٤٩٠.

(٨) الدر المنثور ٦ : ٥٠٧.

(٩) الكشاف ٣ : ٤٩٠.

١١٢

﴿أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ مذلّ لاهانتهم بالقرآن وبدين الله ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا﴾ القرآنية ﴿وَلَّى﴾ وأعرض عنه حال كونه ﴿مُسْتَكْبِراً﴾ ومبالغا في الترفّع عن استماعها وعن إطاعة أحكامها والايمان بها ، ومن المعلوم أنّه لا يتصوّر التولّي عنه ممّن سمعها لما فيها من الفصاحة والبلاغة وحسن الاسلوب وطلاقة البيان بحيث عجز الإنس والجنّ من الاتيان بمثله ، وهذه الامور موجبات الاقبال عليها والخضوع لها ، فالمتولى عنها (١) يكون ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها﴾ ولم يكن عدم سماعه لها من باب الاتفاق مع كثرة تلاوتها عنده ، بل ﴿كَأَنْ﴾ حبّ الجاه والحسد والأخلاق الرذيلة أحدث ﴿فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ وثقلا مانعا من سماعها ، ولو تليت عليه ألف مرّة ، فكأنّه مشتاق إلى الكفر وما يترتّب عليه من العذاب ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ يا محمد ﴿بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ يبتلى به في الآخرة ، كما يبشّر بما يحبّه من شهوات الدنيا.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ

 حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي

 الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً

 فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ

 دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) و (١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما هدّد الكفّار بعاقبة كفرهم واستكبارهم عن سماع الآيات القرآنية ، بشّر المؤمنين بحسن مآل إيمانهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بوحدانية الله ورسالة رسوله والدار الآخرة ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ المرضيات عند ربّه ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق في الآخرة ﴿جَنَّاتُ﴾ فيها ﴿النَّعِيمِ﴾ الدائم - قيل : يعني نعيم جنّات فعكس (٢) . وقيل : جنّات النعيم إحدى الجنّات الثمان ، كما عن ابن عباس (٣) - حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ يكون هذا الوعد ﴿وَعْدَ اللهِ﴾ وقيل : يعني وعد الله وعدا ، وحقّ ذلك الوعد (٤)﴿حَقًّا﴾ لا يمكن الخلف له ، لأنّه تعالى هو الغنيّ بالذات ، ولا يكذب أحد إلّا للحاجة ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والغالب على كلّ شيء ، فلا يقدر أحد على أن يمنعه من إنجاز وعده و﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يصدر منه إلّا ما هو مقتضى الحكمة والصلاح.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأشدّ العذاب ، ووعد المؤمنين بأعظم الثواب ، ووصف ذاته المقدّسة

__________________

(١) في النسخة : عنه.

(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ٧٠.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٦٦.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٦٧.

١١٣

بالعزّة والغلبة على جميع الموجودات والحكمة البالغة ، استدلّ على كمال قدرته على الوفاء بالوعد وعلى غلبته وحكمته بقوله : ﴿خَلَقَ﴾ الله ﴿السَّماواتِ﴾ السبع معلّقات في الجوّ ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ واسطوانات تمنعها من السقوط كما ﴿تَرَوْنَها﴾ كذلك ، أو المراد بغير عمد مرئية ، وإن كان لها عمد غير مرئية ، وهي قدرة الله تعالى.

عن الرضا عليه‌السلام : « ثمّ عمد ، ولكن لا ترونها » (١) .

﴿وَأَلْقى﴾ وطرح سبحانه ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كما تلقى الحصاة من اليد فيها جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثابتات تثبت وتستقرّ بها الأرض كراهة ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ من جانب إلى جانب وتحرّككم بحركتها.

عن الضحاك : أنّ الله خلق تسعة عشر جبلا في الأرض ليثبّتها بها كالمسمار ، منها جبل قاف ، وجبل أبي قبيس ، وجبل جودي ، وجبل لبنان ، وجبل سينين ، وطور سيناء ، وجبل فاران. وقيل : إنّ الجبال عظام الأرض وعروقها (٢) .

﴿وَبَثَ﴾ ونشر ﴿فِيها﴾ بقدرته ﴿مِنْ كُلِ﴾ نوع من الأنواع و﴿دابَّةٍ﴾ وحيوان مع كثرتها واختلاف أجناسها وأصنافها ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ﴾ وجهة العلوّ ﴿ماءً﴾ نافعا بالأمطار ﴿فَأَنْبَتْنا فِيها﴾ بسبب الأمطار ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾ وصنف ﴿كَرِيمٍ﴾ وكثير النفع للإنسان والدوابّ إبقاء لهما ، فمن نظر إلى النباتات والأشجار ، وتفكّر في عجائب صنعه فيها وغرائب قدرته ، حار عقله ، وكلّ فكره ، كيف لا وأنت ترى اختلاف أشكالها ، وتباين ألوانها ، وكثرة خواصّها ، وصور أوراقها ، وروائح أزهارها ، وعجائب أنواع أثمارها وحبوبها ، فانّ لكلّ من النباتات ورق ولون وريح وزهر وثمر وحبّ وخاصية لا تشبه الاخرى ، ولا يعلم الحكم في خلقها إلّا الله ، وما يعرفه الانسان بالنسبة إلى ما لا يعرفه كقطرة من البحر.

﴿هذا﴾ الذي ذكر من السماوات والأرض والجبال والحيوان والماء والنبات ﴿خَلْقُ اللهِ﴾ القادر الحكيم ﴿فَأَرُونِي﴾ أيّها المشركون ﴿ما ذا خَلَقَ﴾ الآلهة ﴿الَّذِينَ﴾ تعبدونها ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه ، وتدّعون أنّهم شركاؤه في استحقاق العبادة ، والله لم يخلقوا شيئا ، ولا يملكون نفعا ولا ضرّا ﴿بَلِ﴾ المشركون ﴿الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسهم باتخاذهم آلهة ، وإشراكهم له في العبادة ﴿فِي ضَلالٍ﴾ وانحراف ﴿مُبِينٍ﴾ ظاهر عن الصراط المستقيم بحيث لا يخفى على من كان له أدنى مرتبة من الشعور وأقلّ درجة من البصيرة ، فأعرض سبحانه عن المشركين وكفّار قريش وغيرهم ، وأضرب عن إلزامهم إلى التسجيل عليهم بالبعد عن الحقّ بعدا واضحا لا يخفى على ناظر.

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٣٢٨ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٠.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٧١.

١١٤

﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ

 فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر أدلّه التوحيد ، حكى توحيد لقمان الذي كانت حكمته ووصاياه على ما قيل مشهورة في اليهود وغيرهم من أهل الكتاب ، بحيث إذا اعترى للعرب همّ (١) رجعوا فيه إلى اليهود ، فضربوا لهم الأمثال بما قاله لقمان من الحكم (٢) ، بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا﴾ وأعطينا ﴿لُقْمانَ الْحِكْمَةَ﴾ ومعرفة حقائق الأشياء ومصالح الامور ومفاسدها ، وتوفيق العمل بعلمه ، وتهذيب الأخلاق ، وتكميل النفس ، وطول الفكر ، وإصابة النظر في المعارف الالهية.

وعن الكاظم عليه‌السلام قال : « الفهم والعقل » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : قال : « اوتى معرفة إمام زمانه » (٤) .

قيل : إنّه كان ابن باعور بن ياجور بن تارخ أبي إبراهيم الخليل (٥) . وقيل : اسم ابيه آذر (٦) . وقيل : إنّه ابن عنقاء بن سرون (٧) . وقيل : إنّه كان من بني إسرائيل ، وكان ابن اخت أيوب (٨) . وقيل : كان ابن خالته (٩) .

وقيل : إنّه كان عبدا نوبيا من أهل أيله (١٠) . وعن المسيب : هو أسود من سودان مصر (١١) . وقيل : إنّه كان حبشيا ونما في بني اسرائيل (١٢) . قيل : إنّه كان عبدا أسود اللون ، غليظ الشفتين ، منشقّ القدمين (١٣) .

وعن ابن عباس : أنّ لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا ، ولكن كان راعيا أسود ، فرزقه الله العتق ، ورضي قوله ووصيته (١٤) .

وعن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « حقّا أقول لم يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا كثير التفكّر ، حسن اليقين ، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة »(١٥) .

[ روي أنّ لقمان ] كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت : إن خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن هو عزم عليّ فسمعا وطاعة ، فانّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأنّ الحكم أشدّ المنازل وأكدرها ، يغشاه الظّلم

__________________

(١) كذا ، والظاهر مهم.  (٢) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣.

(٣) الكافي ١ : ١٢ / ١٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١. (٤) تفسير القمي ٢ : ١٦١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١.

(٥) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣. (٦) تفسير أبي السعود ٧ : ٧١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٧٣.

(٧) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣. (٨) مجمع البيان ٨ : ٤٩٤ ، جوامع الجامع : ٣٦٢.

(٩) جوامع الجامع : ٣٦٢. (١٠) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣.

(١١) تفسير الكشاف ٣ : ٤٩٣.  (١٢) تفسير الكشاف ٣ : ٤٩٣.  (١٣) مجمع البيان ٨ : ٤٩٣.

(١٤) مجمع البيان ٨ : ٤٩٣. (١٥) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣ ، مرسلا.

١١٥

من كلّ مكان ، إن أصاب فبالحريّ أن ينجو ، وإن أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا - وفي رواية : ومن يكن في الدنيا ذليلا ، وفي الآخرة شريفا ، خير من أن يكون في الدنيا شريفا ، وفي الآخرة ذليلا - ومن يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلّم بها (١) .

وقيل : ثمّ نودي داود فقبلها ، وقال له داود : طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة ، وصرفت عنك البلوى. وكان لقمان يؤازره بحكمته (٢) .

وقيل : إنّه ولد في السنة العاشرة من سلطنة داود ، وعاش إلى زمان يونس النبي (٣) .

وقيل : عمّر ألف سنة ، وتعلّم من ألف نبيّ ، وكان راعيا أو نجّارا (٤) . ونقل عنه عشرة آلاف كلمة حكمة ، كلّ كلمة تسوّى بجميع العالم (٥) .

قيل : إنّ أول ما ظهرت من حكمته أنّه قال له مولاه وهو يرعى أغنامه : يا لقمان ، اذبح شاة ، وآتني منها بأطيب مضغتين. فأتاه باللسان والقلب ، ثمّ قال له : اذبح شاة ، وآتني بأخبث مضغتين منها. فأتاه باللسان والقلب ، فسأله عن ذلك ، فقال لقمان : ليس شيء أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا ، فاستحسن كلامه فاعتقه (٦) .

وروي من حكمته الطيبة أنّه بينا هو مع مولاه ، إذ دخل المخرج (٧) ، فأطال الجلوس ، فناداه لقمان : إنّ الجلوس على الحاجة يتجزّع منه الكبد ، ويورث الناسور ، ويصعّد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هوينا وقم هوينا. فخرج وكتب حكمته على باب الحشّ (٨) .

وقيل : بينا هو يعظ الناس يوما وهم مجتمعون عليه لاستماع كلمة الحكمة ، إذ مرّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قيل له : هذه جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم. فأقبل إليه فقال له : ألست العبد الأسود الذي كنت ترعى بموضع كذا وكذا ؟ قال : نعم. فقال : فما الذي بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة وترك ما لا يعني (٩) .

وحكي أنّه قال : خدمت أربعة آلاف نبي ، واخترت من كلماتهم ثماني كلمات : إن كنت في الصلاة فاحفظ قلبك. وإن كنت في الطعام فاحفظ حلقك ، وإن كنت في بيت الغير فاحفظ عينيك ، وإن كنت

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٤٩٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١ ، تفسير روح البيان ٧ : ٧٥.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٩٤ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٢ ، تفسير روح البيان ٧ : ٧٥.

(٣) مروج الذهب ١ : ٧٠.

(٤) تفسير الكشاف ٣ : ٤٩٣.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) تفسير روح البيان ٧ : ٧٦.

(٧) المخرج : الحشّ أو الكنيف ، وهو موضع قضاء الحاجة.

(٨) تفسير روح البيان ٧ : ٧٦.

(٩) تفسير روح البيان ٧ : ٧٦.

١١٦

بين الناس فاحفظ لسانك ، واذكر اثنين ، وانس اثنين ، أمّا اللّذان تذكرهما فالله والموت ، وأما اللذان تنساهما إحسانك في حقّ الغير ، وإساءة الغير في حقّك (١) .

وقيل : إنه كان مع داود ثلاثين سنة ، وكان عنده يوما ، فرآه يسرد الدّرع (٢) ، فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى ، ويريد أن يسأله وتمنعه حكمته عن السؤال ، فلمّا أتمّها لبسها ، وقال : نعم لبوس الحرب هذه. فقال لقمان : إنّ من الحكمة الصّمت ، وقليل فاعله. فقال داود : بحقّ سمّيت حكيما (٣) .

وقيل : إنّ داود قال له يوما : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت بيد غيري. فتفكّر داود فيه ، فصعق صعقة ، وخرّ مغشيّا عليه (٤) .

وقيل له : أيّ الناس شرّ ؟ قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا (٥) .

وقال : الدنيا بحر عميق ، هلك فيه خلق كثير ، فاجعل الايمان بالله سفينتك ، والتقوى زاد الآخرة ، فمن نجا فبرحمة الله ، ومن هلك فبذنوبه (٦) .

وقال : ليس مال كالصحّة ، ولا نعيم كطيب النفس.

وقيل : إنّه قدم من سفر ، فلقي غلامه في الطريق ، فقال : ما فعل أبي ؟ قال : مات. قال : الحمد لله ملكت أمري. قال : ما فعلت أمّي ؟ قال : ماتت. قال : ذهب همّي. قال : ما فعلت اختي ؟ قال : ماتت. قال : سترت عورتي. قال : ما فعلت زوجتي ؟ قال : ماتت. قال : جدّد فراشي. قال : ما فعل أخي ؟ قال : مات. قال : انقطع ظهري ، وكسر جناحي. قال : ما فعل ابني ؟ قال : مات. قال : تصدّع قلبي (٧) .

وقال يوما لداود : احفظ منّي خمس كلمات فيها علم الأولين والآخرين : أوّلها : ليكن عملك للدنيا بقدر لبثك فيها ، وثانيها : ليكن عملك للآخرة بقدر لبثك فيها. ثالثها : ليكن همّك أن يعتقك مولاك من النار. رابعها : ليكن جزاؤك على المعصية بقدر صبرك على النار. خامسها : إذا أردت العصيان فاطلب مكانا لا يراك فيه ربّك.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزوجل [ فقال ] : « أما والله ما اوتي لقمان الحكمة بحسب ، ولا مال ، ولا أهل ، ولا بسط في الجسم ، ولا جمال ، ولكنّه كان رجلا قويا في أمر الله ، متورّعا في الله ، ساكنا سكينا ، عميق النّظر ، طويل الفكر ، حديد النظر ، مستعبرا بالعبر (٨) ، لم ينم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٧٣.

(٢) سرد الدرع : نسجها فشكّ طرفي كلّ حلقتين وسمّرهما.

(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٧٦.

(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٧٦.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٤٩٦.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٨٥ / ٨٣٣ ، مجمع البيان ٨ : ٤٩٦.

(٧) تفسير روح البيان ٧ : ٧٧.  (٨) في النسخة : مستغن بالغير.

١١٧

نهاره قطّ ، ولم يره أحد على بول ولا غائط ولا اغتسال ، لشدّة تستّره ، وعمق (١) نظره ، وتحفّظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قطّ مخافة الإثم ، ولم يغضب قطّ ، ولم يمازح إنسانا قطّ ، ولم يفرح بشيء إذا أتاه من أمر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قطّ ، وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثير ، وقدّم أكثرهم أفراطا (٢) فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمرّ برجلين يختصمان أو يقتتلان إلّا أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحابّا ، ولم يسمع قولا قطّ من أحد استحسنه إلّا سأل عن تفسيره وعمّن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ، فيرثي القضاة ممّا ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لعزّتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلّم ما يغلب به نفسه ، ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان ، وكان يداوي قلبه بالتفكّر ، ويداوي نفسه بالعبر ، ولا يضعن إلّا فيما يعينه ، فبذلك اوتي الحكمة ومنح العصمة » (٣) .

ثمّ ذكر قصّة تخييره بين الخلافة والحكمة قريبا ممّا حكيت عن العامة ، إلى أن قال : « فلمّا أمسى وأخذ مضجعه من الليل ، أنزل الله عليه الحكمة ، فغشيه بها من قرنه إلى قدمه » (٤) الخبر.

وقال الله له : ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ على ما أنعم عليك من الحكمة وغيرها من النّعم ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ﴾ نعم الله ﴿فَإِنَّما يَشْكُرُ﴾ ونفع شكره عائد ﴿لِنَفْسِهِ﴾ لا يتعدّاه إلى غيره ، وهو داوم النعمة واستحقاق المزيد.

وعن الصادق عليه‌السلام : « شكر كلّ نعمة وإن عظمت أن يحمد الله عليها (٥) ، وإن كان فيما أنعم عليه حقّ أدّاه » (٦) وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه ، فقد أدّى شكرها »  (٧) .

﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ نعمة الله ، وخالف أحكامه وأوامره ، وأنكر توحيده وحقّ نعمه ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ﴾ عنه ، ولا يحتاج إلى شكره وعبادته ﴿حَمِيدٌ﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله ، محمود في أرضه وسمائه ، سواء حمده خلقه أو شكره عباده ، أو لم يحمدوه وكفروه.

﴿وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *

 وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ

 اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ

__________________

(١) في النسخة : وعموق.

(٢) أي ماتوا صغارا قبل أن يبلغوا الحلم.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٦٢ ، مجمع البيان ٨ : ٤٩٧ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٢.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٦٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٣.

(٥) الكافي ٢ : ٧٨ / ١١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١.

(٦) الكافي ٢ : ٧٨ / ١٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١.

(٧) الكافي ٢ : ٧٩ / ١٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤١.

١١٨

لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ

 إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٣) و (١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حكمة لقمان ذكر وعظه لابنه الذي كان أعزّ الناس عنده ونهيه عن الشرك بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ﴾ قيل : إنّ التقدير واذكر يا محمد لقومك وغيرهم من المشركين حين قال ﴿لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ(١) قيل : إنّ اسمه أنعم ترحّما وعطوفة (٢) : ﴿يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ﴾ شيئا في الالوهية والعبادة ﴿إِنَّ الشِّرْكَ﴾ بالله والله ﴿لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ فانّه تسوية بين الخالق القادر المنعم بجميع النّعم والمخلوق العاجر الذي لا نعمة له على أحد.

عن الباقر عليه‌السلام : « الظلم ثلاثة : ظلم يغفره الله ، [ وظلم لا يغفره الله ] وظلم لا يدعه الله ، وأمّا الظلم الذي لا يغفره الله فالشّرك الخبر » (٣) .

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن الشّرك ببيان حقّ الوالدين على الولد ووجوب برّهما وشكرهما ، ومع ذلك لا يجوز إطاعة أمرهما بالشّرك وإن أصرّا بقوله : ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ﴾ وأوجبنا عليه أكيدا أنّ يبرّ ﴿بِوالِدَيْهِ﴾ ويحسن إليهما لأنّه ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ في بطنها وحبلت (٤) به ، فتجد في نفسها بسبب حمله ﴿وَهْناً عَلى وَهْنٍ﴾ وضعفا في الخلق والخلق فوق ضعف يوما بعد يوم حتى تضع حملها ، ثمّ ترضعه إلى حين فصاله ﴿وَفِصالُهُ﴾ وقطعه من الرضاع كائن ﴿فِي﴾ آخر ﴿عامَيْنِ﴾ من ولادته.

وقلنا له : ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي﴾ أيّها الانسان بالقيام بوظائف عبوديتي ﴿وَ﴾ اشكر ﴿لِوالِدَيْكَ﴾ بالبرّ والإحسان والاشفاق والتوفيق ، لكونهما سببين لوجودك ، وربّياك في الظاهر.

عن الرضا عليه‌السلام في حديث «وأمر بالشّكر له وللوالدين ، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله»(٥).

وعنه عليه‌السلام : « من لم يشكر المنعم من المخلوقين ، لم يشكر الله عزوجل» (٦) .

واعلم أنّه بعد الخروج من الدنيا ﴿إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ والمرجع ، فاجازي الشاكر بالثواب العظيم ، والكفور بالعذاب الأليم.

وعن الصادق عليه‌السلام : « جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، من أبرّ ؟ قال : امّك. قال : ثمّ من ؟ قال : امّك. قال : ثمّ من ؟ قال : امّك. قال : ثمّ من ؟ قال : أباك » (٧).

__________________

(١) تفسير روح البيان ٧ : ٧٧.

(٢) تفسير روح البيان ٧ : ٧٧.

(٣) الكافي ٢ : ٢٤٨ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٣.

(٤) في النسخة : وأحبلت.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٨ / ١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٣.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٤.

(٧) الكافي ٢ : ١٢٧ / ٩ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٤.

١١٩

وعن الرضا عليه‌السلام ، قيل : له : أدعو لوالديّ إن كانا لا يعرفان الحقّ ؟ قال : « ادع لهما ، وتصدّق عنهما ، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقّ فدارهما ، فانّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق »(١) .

ومع ذلك ﴿وَإِنْ جاهَداكَ﴾ ونازعاك وأصرّا ﴿عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي﴾ في الالوهية والعبادة ما تعلم بعدم تأهّلة للالوهية وعدم استحقاقه للعبادة ، بل ﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ولم يقم على استحقاقه برهان ﴿فَلا تُطِعْهُما﴾ في ذلك ، فانّه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق ، ﴿وَ﴾ لكن ﴿صاحِبْهُما﴾ وعاشر معهما ﴿فِي الدُّنْيا﴾ صحابا ﴿مَعْرُوفاً﴾ ومعاشرة جميلة يرتضيها الشرع ، ويقتضيه الكرم من الانفاق والتكريم والخدمة.

عن الصادق عليه‌السلام : « برّ الوالدين واجب ، وإن كانا مشركين ، ولا طاعة لهما في معصية الخالق ، ولا لغيرهما الخبر » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « برّ الوالدين من حسن المعرفة بالله ، إذ لا عبادة أسرع بلوغا بصاحبها إلى رضا الله تعالى من حرمة الوالدين المسلمين لوجه الله ، لأنّ حقّ الوالدين مشتقّ من حقّ الله إذا كانا على منهاج الدين والسّنّة ، ولا يكونان يمنعان الولد من طاعة الله إلى معصيته ، ومن اليقين إلى الشكّ ، ومن الزّهد إلى الدنيا ، ولا يدعوانه إلى خلاف ذلك ، فاذا كانا كذلك فمعصيتهما طاعة ، وطاعتهما معصية ، قال الله تعالى ﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ﴾ الآية.

وأمّا في باب العشرة فدارهما وأرفق بهما ، واحتمل أذاهما نحو ما أحتملا منك حال صغرك ، ولا تضيّق عليهما بما قد وسّع الله عليك من المأكول والملبوس ، ولا تحوّل وجهك عنهما ، ولا ترفع صوتك فوق صوتهما ، فانّ تعظيمهما من الله تعالى ، وقل لهما بأحسن القول وألطفه ، فانّ الله لا يضيع أجر المحسنين » (٣)﴿وَاتَّبِعْ﴾ في جميع أعمالك خصوصا السّلوك مع الوالدين ﴿سَبِيلَ مَنْ أَنابَ﴾ ورجع ﴿إِلَيَ﴾ بالتوحيد والطاعة واقتد به.

عن الباقر عليه‌السلام يقول : « سبيل محمد » (٤) .

﴿ثُمَ﴾ بعد الخروج من الدنيا ﴿إِلَيَ﴾ يكون ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ أيّها الأولاد والآباء والامّهات ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ إذن ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الشّرك والتوحيد والرحمة والعقوق والطاعة والعصيان بالإثابة والعقوبة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢٧ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٤ / ١ ، وتفسير الصافي ٤ : ١٤٤ ، عن الرضا عليه‌السلام.

(٣) مصباح الشريعة : ٧٠ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٤.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٦٥ ، تفسير الصافي ٤ : ١٤٥.

١٢٠