نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ

 تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ

 يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٢) و (٨٣)

ثمّ لمّا كانت أرض الحجاز شديدة الحرّ ، استدلّ على توحيده بخلق ما يحفظ به من الحرّ بقوله :﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ﴾ من الأشجار والجبال والغمام ﴿ظِلالاً﴾ يتّقون به حرّ الشمس. القمي ، قال : ما يستظلّ به (١) . ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً﴾ ومحافظ من الحرّ كالكهوف والغيران والسّروب (٢)﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ﴾ وثيابا من القطن والصوف وغيرهما ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ وتحفظكم منه ﴿وَسَرابِيلَ﴾ كالدّروع والجواشن (٣)﴿تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ وتحفظكم من الطّعن والضرب ونحوهما ممّا يضرّكم في الحروب.

قيل : إنّ الله تعالى ذكر نعمه الفائضة على جميع الطوائف ، فبدأ بما يخصّ المقيمين حيث قال :﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً(٤) ثمّ بما يختصّ بالمسافرين ممّن لهم قدرة على الخيام وأضرابها حيث قال : ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً(٥) ، ثمّ بما يعمّ من لا يقدر على ذلك ولا بما دونه (٦) إلّا الظّلال حيث قال : ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً﴾ ثمّ بما لا بدّ منه لأحد حيث قال : ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ ثمّ بما لا مناصّ عنه في الحرب حيث قال : ﴿وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ(٧).

ثمّ قال : ﴿كَذلِكَ﴾ الإتمام البالغ لنعمه الجسمانية ﴿يُتِمُّ نِعْمَتَهُ﴾ الدنيوية والدينيّة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لتنظروا إليها وتتفكّروا فيها ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ تعرفون حقّ منعمها و﴿تُسْلِمُونَ﴾ وتنقادون لربوبيته وأحكامه ، أو تسلمون من الشرك.

عن ابن عباس : لعلّكم يا أهل [ مكة ] تخلصون لله الربوبية ، وتعلمون أنّه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه (٨) .

وقيل : يعني أعطيتكم هذه النّعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله (٩) .

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ يا محمّد ، وأعرضوا عن التفكّر في الآيات والنّعم ، ولم يقبلوا قولك ، وآثروا الدنيا ومتابعة الآباء ﴿فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ والتبليغ الموضح للحقّ لا إجبارهم على القبول ، وقد

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٤٨.

(٢) السّروب : جمع سرب ، الحفير تحت الأرض لا منفذ له.

(٣) الجوشن : الدّرع.

(٤ و٥) النحل ١٦ : ٨٠.

(٦) في تفسير أبي السعود : ولا يأويه.

(٧) تفسير أبي السعود ٥ : ١٣٣.

(٨) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٤.

(٩) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٤.

٦٠١

فعلت ما عليك ، وبقي ما علينا من تعذيبهم على العناد والإصرار على الكفر.

ثمّ ذمّهم سبحانه بغاية الكفران بقوله : ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ﴾ عليهم من جميع الوجوه ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَها﴾ ويكفرونها بنسبتها إلى الأصنام وعبادتها ، مع أنّ حقّ معرفة النّعم أن يقرّوا بها ويشكروها بتخليص العبادة لله وصرفها فيما فيه رضاه ، وقيل : نعمة الله نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١)﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ﴾ لتلك النعمة والجاحدون لها.

قيل : نسبة الكفر الى الأكثر لكون بعضهم جاهلين بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير معاندين للحق (٢) . وقيل : إنّ المراد بالأكثر الجميع (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام : « نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز » (٤) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « يعني يعرفون ولاية علي عليه‌السلام » (٥) .

﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *

 وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَإِذا رَأَى

 الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ

 فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ

 ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٤) و (٨٧)

ثمّ هدّد الكافرين بنعمته بأهوال القيامة بقوله : ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ ونحشر ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ وجماعة ﴿شَهِيداً﴾ يشهد بإيمان مؤمنيهم وكفر كافريهم ﴿ثُمَ﴾ بعد الشهادة ﴿لا يُؤْذَنُ﴾ من قبل الله ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في الاعتذار عن كفرهم وعصيانهم ، لكذبهم وتمامية الحجّة عليهم ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ولا يطلب منهم عمل موجب لرضا ربّهم عنهم وإصلاح ما فسد من أعمالهم ، لكون ذلك اليوم يوم الجزاء لا العمل ، بل يؤمرون بالدخول في النّار ﴿وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر والطغيان ﴿الْعَذابَ﴾ الشديد ضجّوا وسألوا تخفيفه ﴿فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ ثقل العذاب وشدّته ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ولا يمهلون ساعة ليستريحوا ، بل يزيد عذابهم مع أصنامهم ﴿وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله الشياطين والأصنام التي جعلوها ﴿شُرَكاءَهُمْ﴾ وآلهتهم ﴿قالُوا﴾ إحالة لعذابهم إليها ، أو تعجّبا من حضورها ، أو إظهارا لخطابهم في عبادتها ﴿رَبَّنا هؤُلاءِ﴾ الأصنام ﴿شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا﴾ في الدنيا

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ٥٥٤ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٣٤.

(٢ و٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٤٩.

(٥) الكافي ١ : ٣٥٤ / ٧٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٤٩.

٦٠٢

﴿نَدْعُوا﴾ هم ونعبدهم ﴿مِنْ دُونِكَ﴾ وممّا سواك ، فأنطق الله الأصنام ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ وأجابوهم بالكلام ، وقالوا : ﴿إِنَّكُمْ﴾ في دعوى عبادتكم إيانا والله ﴿لَكاذِبُونَ﴾ بل عبدتم أهواءكم ، أو لكاذبون في دعوى أننا شركاء الله في المعبودية واستحقاق العبادة ﴿وَأَلْقَوْا﴾ اولئك المشركون ﴿إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ والانقياد لربوبيته وأمره وأحكامه بعد ما كانوا في الدنيا مستكبرين ومستنكفين عنه ﴿وَضَلَ﴾ وضاع ﴿عَنْهُمْ ما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَفْتَرُونَ﴾ على الله من أنه راض بعبادة الأصنام ، وأنّه يقبل شفاعتهم في حقّ عبادهم وقيل : يعني ذهب [ عنهم ] ما زيّن لهم الشيطان من أنّ لله شريكا وصاحبة وولدا (١) .

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا

 يُفْسِدُونَ (٨٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد المشركين ، هدّد الصادّين منهم عن سبيل الله بقوله : ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا﴾ الناس ومنعوهم ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والدخول في دين الاسلام ﴿زِدْناهُمْ﴾ في جهنم ﴿عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ﴾ لأنّهم زادوا على ضلال أنفسهم إضلال غيرهم ، فعليهم مثل عذاب أتباعهم ﴿بِما كانُوا يُفْسِدُونَ﴾ في الأرض بترويج الباطل وتشييد الكفر ودعوة الناس إليه.

القمي ، قال : كفروا بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصدّوا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) .

أقول : هذا تأويل لا تفسير.

عن ابن عبّاس ، قال : المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذّبون بها ثلاثة على مقدار الليل ، واثنان على مقدار النهار (٣) .

وقيل : زدناهم عذابا بحيّات وعقارب كأمثال البخت (٤) لكلّ عقرب ثلاثمائة فقرة ، في كلّ فقرة ثلاثمائة قلّة (٥) من سمّ ، ولها انياب كالنّخل الطّوال ، فيستغيثون بالهرب منها إلى النار (٦) .

وعن ابن جبير ، قال : زيادة عذابهم هي عقارب أمثال البغال ، وحيّات أمثال البخت ، تلسع إحداهنّ اللّسعة فيجد صاحبها حمتها (٧) أربعين خريفا (٨)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٧.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٠.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٨ ، تفسير روح البيان ٥ : ٦٩.

(٤) البخت : الإبل الخراسانية.

(٥) القلّة : إناء من الفخّار يشرب منه.

(٦) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٨.

(٧) الحمة : سمّ كلّ شيء يلدغ أو يلسع ، والإبرة التي تضرب بها العقرب والزّنبور ونحوهما.

(٨) تفسير روح البيان ٥ : ٦٩ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٣٥ ، ولم ينسبه إلى ابن جبير.

٦٠٣

وقيل : يسألون الله تعالى ألف سنة المطر ليسكن ما بهم من شدّة الحرّ ، فتظهر لهم سحابة ، فيظنّون أنها تمطر ، فجعلت السّحابة تمطر عليهم بالحيّات والعقارب ، فيشتد ألمهم لانّه إذا جاء الشرّ من حيث يؤمل الخير كان أغمّ (١) .

﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ

 وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)

ثمّ بالغ سبحانه بتهديد المشركين بأهوال القيامة بقوله : ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ ونحشر فيه ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الامم وجماعة من جماعات الناس ﴿شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وجنسهم ، ليكون أقطع لعذرهم لكونه بينهم ﴿وَجِئْنا بِكَ﴾ يا محمّد ﴿شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ﴾ الامم وشهدائهم.

نقل كلام الفخر الرازي في المراد من الشهيد

قال الفخر الرازي : إن كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا ، فلا بدّ أن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم ، أمّا الشهيد على الذين كانوا في عصر الرسول فهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدليل قوله تعالى : ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً(٢) ، وثبت أيضا أنه لا بدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشهيد ، فتحصّل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس ، وذلك الشهيد لا بدّ وأن يكون غير جائز الخطأ ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ، ويمتدّ ذلك إلى غير النهاية ، وذلك باطل ، فثبت أنه لا بدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ، وذلك يقتضى أن [ يكون ] إجماع الامّة حجّة (٣) .

أقول : هذا عين ما قاله أصحابنا الامامية ، فانهم يقولون : إنّه لا بدّ في كلّ عصر من وجود حجّة معصوم ، إما ظاهر مشهود ، أو غائب مستور ، ولو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها ، ولا حجّية للاجماع إلّا إذا علم موافقة رأيهم لرأي المعصوم ، وذلك المعصوم هو الشهيد ، وإنّما الفرق بيننا وبين هذا القائل أنّا نعرفه باسمه ونسبه ، وهو يجحده لعصبيّته.

القمي في تفسير ﴿شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ﴾ قال : يعني على الأئمة عليهم‌السلام ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شهيد على الأئمة عليهم‌السلام ، وهم شهداء على الناس (٤) .

وقال بعض العامة : المراد بذلك الشهيد هو أنّه تعالى ينطق عشرة [ من ] أعضاء الانسان حتّى تشهد عليه ، وهي : الأذنان والعينان واليدان والرجلان والجلد واللسان ، قال : والدليل عليه أنّه تعالى قال في

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٦٩.

(٢) البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٨.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٠.

٦٠٤

صفة الشهيد أنّه من أنفسهم (١) . وفيه أنّه خلاف للظاهر الذي هو كالصريح في الآية خصوصا مع قوله: ﴿وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ

ثمّ بيّن سبحانه عظمة شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو الشهيد عليهم بنزول القرآن عليه بقوله : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ﴾ العظيم الكامل في الكتابية بحيث يحقّ أن يخصّ به اسم الكتاب لكونه ﴿تِبْياناً﴾ وإيضاحا وافيا ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من امور الدين ، أو لكلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، أو لكلّ شيء من امور الدين والدنيا والآخرة ، وما كان وما يكون وما هو كائن ، كما هو الحقّ ، وإنّما يستفيد منه الراسخون في العلم الذين نزل في بيوتهم وهم النبيّ والمعصومون عليهم‌السلام من ولده.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال الله لموسى عليه‌السلام : ﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ(٢) فعلمنا أنّه لم يكتب له الشيء كلّه ، وقال الله لعيسى : ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ(٣) . وقال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ(٤) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة ، وأعلم ما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون » ثمّ سكت هنيئة فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه ، فقال : « علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ، إن الله يقول : « فيه تبيان كل شيء » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « نحن والله نعلم ما في السماوات وما في الأرض ، وما في الجنة وما في النار ، وما بين ذلك » ثمّ قال : « إنّ ذلك في كتاب الله » ثمّ تلا هذه الآية (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « أن الله أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء ، حتى والله ما ترك شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا [ انزل ] في القرآن إلا [ وقد ] أنزله الله فيه » (٧) . إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ في القرآن بيان كلّ شيء.

ثمّ لمّا كان أهمّ الامور فائدة الهداية إلى الحقّ بالغ في توصيفه بها بحيث جعله عينها بقوله : ﴿وَهُدىً﴾ من الضلالة إلى الحقّ ، لاشتماله على المعارف الالهية بأكمل وجه ، وعلى الأحكام الأخلاقية والعملية بأتمّ التفصيل ، ﴿وَ﴾ ليكون ﴿رَحْمَةً﴾ للعالمين وفضلا على الخلق أجمعين ، وإنما يكون حرمان الكفار بسبب تفريطهم وتقصيرهم ، ﴿وَ﴾ ليكون ﴿بُشْرى﴾ بالفيوضات الدنيوية

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٩٩.

(٢) الأعراف : ٧ / ١٤٥.

(٣) الزخرف : ٤٣ / ٦٣.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ١٩ / ٢٤١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(٥) الكافي ١ : ٢٠٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١ ، في المصحف : تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [ النحل : ١٦ / ٨٩ ] ولعله نقل بالمعنى.

(٦) تفسير العياشي ٣ : ١٨ / ٢٤١٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(٧) الكافي ١ : ٤٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

٦٠٥

والاخروية ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾ والمؤمنين ، أو المنقادين لأحكامه خاصّة.

﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ

 وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)

ثمّ لمّا وصف سبحانه الكتاب بكونه تبيانا وهدى ، ذكر علم الأخلاق والأحكام فيه بكلمات موجزة جامعة لجميعها بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ﴾ في الكتاب الذي هو تبيان وهدى ﴿بِالْعَدْلِ﴾ والتوسط في الأخلاق وسائر الامور ، والتسوية بين الناس في الحقوق وبين أنفسكم وغيركم في الرعاية ﴿وَالْإِحْسانِ﴾ إلى أنفسكم بحفظها عن ارتكاب القبائح والموبقات ، والسعي في تكميلها وتعليتها إلى المراتب العالية الانسانية ، وإلى غيركم بتعليمهم العلوم الدينية ، وإرشادهم إلى السعادات الدنيوية والاخروية ، ومساعدتهم في امور معاشهم ومعادهم ﴿وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ والأرحام وإعطائهم جميع ما يحتاجون إليه من العلم والمال ، وكل ما يؤهّلون له من الكمال ، وإنّما خصّه بالذّكر مع دخوله في عموم الاحسان تنبيها على أهمية صلة الرّحم وفضلها ﴿وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ﴾ والامور الشديدة القباحة كالشّرك والزّنا وغيرهما من الكبائر ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ وما ينتفّر منه العقل السليم ويستقبحه ممّا لا يبلغ في القبح درجة الفحش ﴿وَالْبَغْيِ﴾ والظلم على الناس ، والتعدّي في أموالهم ونفوسهم وأعراضهم وتوهينهم وتضييع حقوقهم.

ثمّ حثّهم سبحانه على العمل بما في الآية بقوله : ﴿يَعِظُكُمْ﴾ الله بأمره ونهيه ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ وتتعظون.

عن ابن مسعود ، أنه قال : هي أجمع آية في القرآن للخير والشرّ ، ولو لم يكون فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكلّ شيء وهدى (١) .

وعن ابن عباس : أنّ عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أولا إلّا حياء من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يتقرّر الإسلام في قلبي ، فحضرت عنده ذات يوم ، فبينما هو يحدّثني إذا رأيت بصره شخص إلى السماء ثمّ خفضه عن يمينه ، ثمّ عاد لمثل ذلك فسألته ، فقال : « بينما أنا احدثك إذا بجبرئيل نزل عن يميني فقال : يا محمّد ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ﴾ العدل : شهادة أن لا إله إلّا الله ، والاحسان: القيام بالفرائض ﴿وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ [ أي ] صلة ذي القرابة ﴿وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ﴾ الزنا ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة ﴿وَالْبَغْيِ﴾ الاستطالة » .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ١٣٦.

٦٠٦

قال عثمان : فوقع الايمان في قلبي ، فأتيت أبا طالب فأخبرته ، فقال : يا معشر قريش ، اتّبعوا ابن أخي ترشدوا ، ولئن كان صادقا أو كاذبا ، فانّه لا يأمر إلّا بمكارم الاخلاق. فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عمّه اللين ، قال : « يا عمّ ، أتأمر الناس أن يتّبعوني وتدع نفسك ، وجهد عليه فأبى أن يسلم» (١) .

أقول : يعني في الظاهر نظرا إلى صلاح حفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فانّه كان من أول المسلمين وأفضلهم ، لوضوح أنّ هذا الكلام لا يصدر إلّا ممّن كان مسلما عن صميم القلب موقنا بصدق الرسول ، ولذا قدّم التصديق بقوله : ولئن كان صادقا أو كاذبا.

وعن ابن عباس : العدل : شهادة أن لا إله إلّا الله ، والاحسان : أداء الفرائض (٢) .

وفي رواية اخرى عنه : العدل : خلع الأنداد ، والاحسان : أن تعبد الله كأنّك تراه ، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك ، فإن كان مؤمنا أحببت أن يزداد إيمانا ، وإن كان كافرا أحببت أن يصير أخاك في الاسلام (٣) .

وفي رواية ثالثة ، قال : العدل : هو التوحيد ، و[ الاحسان : ] الاخلاص فيه (٤) .

وقيل : العدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال ، فلا تفعل إلّا ما هو عدل ، ولا تقل إلّا ما هو إحسان (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام « العدل : الانصاف ، والاحسان : التفضل » (٦) .

وعن القمي : العدل شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله ، والاحسان : أمير المؤمنين عليه‌السلام (٧) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « العدل : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أطاعه فقد عدل ، والاحسان : عليّ عليه‌السلام ، فمن تولّاه فقد أحسن ، والمحسن في الجنّة » (٨) .

وعن ابن عباس : ﴿وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ يريد صلة الرّحم بالمال ، فان لم يكن فبالدعاء (٩) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم ، إنّ أهل البيت ليكونون فقراء (١٠) فتمنى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم » (١١) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٠.

( ٢ و٣ و٥ ) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠١.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠١.

(٦) تفسير العياشي ٣ : ٢٠ / ٢٤٢٠ ، معاني الأخبار : ٢٥٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(٧) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ٢١ / ٢٤٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(٩) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠١.

(١٠) في تفسير الرازي : فجارا.

(١١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠١.

٦٠٧

وعن الباقر عليه‌السلام : ﴿إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ قرابتنا ، أمر الله العباد بمودّتنا وإيتائنا » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قرأ عنده هذه الآية ، فقال : « اقرأ كما أقول ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ حقّه » إلى أن قال الراوي : قيل : فما يعني بايتاء ذي القربى حقّه ؟ قال : « أداء إمام إلى إمام بعد إمام » (٢)

وقيل : إن المراد بالفحشاء الزنا (٣) ، كما في الرواية السابقة. وقيل : البخل (٤) . وقيل : كل الذنوب ، سواء كانت في القول أو في الفعل ، أو كبيرة أو صغيرة (٥) . والمراد بالمنكر هو الكفر بالله (٦) . وقيل : ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة (٧) ، كما في الرواية السابقة.

وقيل : المراد بالبغي الكبر والظلم (٨) .

وعن القمي ، في تأويله الفحشاء والمنكر والبغي : فلان وفلان وفلان (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « الفحشاء الأول ، والمنكر الثاني ، والبغي الثالث » (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام : ﴿وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ قال : « ولاية فلان [ وفلان ]»(١١).

﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ

 اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١)

ثمّ لمّا جمع الله جميع المأمورات والمنهيات التي كلّها عهود الله في الآية السابقة ، بالغ في التأكيد في العمل بها بقوله : ﴿وَأَوْفُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ واعملوا بأحكامه ﴿إِذا عاهَدْتُمْ﴾ معه حين آمنتم به وسلّمتم له وبايعتم رسوله.

وقيل : المراد بالعهد خصوص بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١٢) . وقيل : هو كلّ ما يلزمه الانسان على نفسه بالنّذر وشبهه (١٣) . وقيل : هو اليمين (١٤) . وعلى التفسير الأوّل خصّ سبحانه حكم نقض اليمين بالذّكر اهتماما به بقوله : ﴿وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ﴾ بالله التي تحلفون بها عند المعاهدات ، ولا تحنثوا (١٥) فيها ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ وإحكامها ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ﴾ بالوفاء بها ﴿كَفِيلاً﴾ ورقيبا ، فإنّ من حلف بالله جعله

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٢١ / ٢٤٢٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٢.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ١٩ / ٢٤١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٢.  (٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٠.

( ٤ و٧) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠١.

(٩) تفسير القمي ١ : ٣٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(١٠) تفسير العياشي ٣ : ٢٠ / ٢٤٢١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥١.

(١١) تفسير العياشي ٣ : ٢٠ / ٢٤١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٢.

(١٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٦ ، تفسير روح البيان ٥ : ٧٣.

(١٣ و١٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٧.

(١٥) حنث في اليمين : لم يبرّ فيها وأثم.

٦٠٨

كفيلا بالوفاء به.

ثمّ رغّب في الوفاء ورهّب عن الحنث بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ من الوفاء والحنث ، فيجازيكم على الأول بالثواب ، وعلى الثاني بالعقاب.

قيل : نزلت في جماعة أسلموا بمكة ، وعاهدوا الرسول ، فلمّا رأوا غلبة قريش وضعف المسلمين جزعوا واضطربوا ، وهمّوا بنقض العهد بتسويل الشيطان ، فثبّتهم الله بهذه الآية على عهدهم مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

والقميّ عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا نزلت ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين ، فكان ممّا أكّد الله عليهم في ذلك اليوم ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهما : قوما فسلّما عليه بإمرة المؤمنين. فقالا : أمن الله أو من رسوله ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من الله ومن رسوله. فأنزل الله ﴿وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ يعني به قول رسول الله لهما ، وقولهما : أمن الله أو من رسوله ؟ » (٢) .

أقول : يمكن تكرّر نزول الآية.

﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً

 بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ

 الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)

ثمّ أكّد سبحانه وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها بقوله : ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيّها المؤمنون في عهودكم وأيمانكم ونقضها بلا مجوّز شرعي وعقلائي ﴿كَالَّتِي﴾ غزلت الشعر والصوف وفتلت الحبل كلّ يوم ثمّ ﴿نَقَضَتْ غَزْلَها﴾ وفتلها ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ وإبرام وإحكام له حتى جعلته ﴿أَنْكاثاً﴾ وخيوطا ، أو اجزاء متفرقة كالصوف المنفوش ، ثمّ غزلت مرة ثانية ، ثمّ فعلت ما فعلت بالغزل الأول.

قيل : هي امرأة من قريش يقال لها رايطة أو ريطة (٣) أو خطيئة بنت سعد بن تميم ، تلقّب بالجعراء (٤) ، أو خضراء ، أو خرقاء (٥) ، وكانت حمقاء (٦) ، وكانت أعدّت مغزلا قدر ذراع في رأسه حديدة مثل إصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت هي وجواريها تغزل من الصبح إلى نصف النهار ، ثمّ تأمرهنّ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٧٣.

(٢) الكافي ١ : ٢٣١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٢ ، تفسير القمي ١ : ٣٨٩ « نحوه » .

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٨ ، تفسير القمي ١ : ٣٨٩.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٨.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٥٩٠ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٥٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٣.

٦٠٩

بنقض جميع ما غزلت (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : « التي نقضت غزلها امرأة من بني تيم بن مرّة يقال : له ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم بن لؤي بن غالب ، كانت حمقاء تغزل الشعر ، فإذا غزلته نقضته ، ثمّ عادت تغزله ، فقال الله : ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها﴾ الآية » قال : « إنّ الله أمر بالوفاء ، ونهى عن نقض العهد ، وضرب لهم مثلا » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام في تأويلها « أنّ عائشة هي نكثت أيمانها » (٣) .

وقيل : إنّ المقصود تصوّر مثل المرأة التي تكون صفتها كذلك (٤) ، ولا يلزم وجودها في الخارج ، والمراد لا تكونوا مثل هذه الامرأة حال كونكم ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً﴾ وخديعة وغشّا ﴿بَيْنَكُمْ﴾ لأجل ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ﴾ وجماعة ﴿هِيَ أَرْبى﴾ وأكثر ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ وجماعة اخرى عددا ومالا وقوة وشرفا.

وقيل : إنّ الجملة استفهامية إنكارية (٥) ، والمعنى أتتّخذون ؟ ! إلى آخره.

قيل : كانوا يحالفون الحلفاء ثمّ يجدون من كان أعزّ منهم وأشرف ، فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك (٦) .

وقيل : إنّ الأربى كفرة قريش ، والامّة الاخرى جماعة المؤمنين (٧) ، وعلى أيّ تقدير ﴿إِنَّما﴾ الغرض من جعل بعض الامم أربى ، أو من الأمر والنهي أن ﴿يَبْلُوكُمُ اللهُ﴾ ويختبركم ﴿بِهِ﴾ بأن يظهر أنّكم تمسّكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله ، أم تغترّون بكثرة قريش وشوكتهم وضعف المسلمين ، أو تطيعون الله ورسوله ، أو تتّبعون خطوات الشيطان وتسويلاته.

والقمي : ﴿إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ﴾ يعني يختبركم بعلي عليه‌السلام (٨) .

﴿وَلَيُبَيِّنَنَ﴾ الله ﴿لَكُمْ﴾ البتة ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ووقت جزاء الأعمال ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من صحّة دين الاسلام ، وأنّه دين الحقّ المؤدّيّ إلى الثواب ، وبطلان غيره وأنّه مؤدّ إلى العقاب.

﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ١٣٧ ، تفسير روح البيان ٥ : ٧٥.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٨٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٣.

(٣) تفسير العياشي ٣ : ٢٢ / ٢٤٢٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٣.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٧٥.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٠ : ١٠٩.

(٧) تفسير الصافي ٣ : ١٥٣ ، تفسير روح البيان ٥ : ٧٥.

(٨) تفسير القمي ١ : ٣٨٩ ، الكافي ١ : ٢٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٤.

٦١٠

وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)

ثمّ لمّا ذكر سبحانه اختلاف الناس في دينه ، نبّه على قدرته على إلجائهم على الاتفاق على دين الاسلام ، وإنّما الحكمة اقتضت إيكالهم إلى اختيارهم وحصول الاختلاف بينهم حسب اختلاف طينتهم بقوله : ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ بالمشيئة التكوينية اتفاق الناس ، والله ﴿لَجَعَلَكُمْ﴾ بالقهر والجبر ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ متّفقة على دين الاسلام بقدرته القاهرة ﴿وَلكِنْ﴾ لم يشأ ذلك لمنافاته الحكمة البالغة ، بل ﴿يُضِلُ﴾ عن الحقّ ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ إضلاله بخذلانه وإيكاله إلى نفسه ومقتضى طينته لعدم قابليته للهداية والتوفيق ﴿وَيَهْدِي﴾ إلى الحقّ ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته بتوفيقه وطيب طينته وقابليتة للهداية ﴿وَ﴾ بالله ﴿لَتُسْئَلُنَ﴾ جميعا البتة يوم القيامة سؤال تبكيت وتقريع ﴿عَمَّا كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الوفاء بالعهد والأيمان ونقضها وحنثها ، فتجزون بما صدر عنكم.

﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما

 صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً

 إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)

ثمّ أكّد سبحانه النهي عن نقض العهد واتّخاذه دخلا وخديعة بقوله : ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ ونكرا ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ منكم أيّها المؤمنون عن محجّة الحقّ والصراط المستقيم ﴿بَعْدَ ثُبُوتِها﴾ واستقرارها عليها ، وإنّما أفرد لفظ القدم ونكّره إشعارا بأنّ زلة القدم الواحدة إذا كانت مستتبعة لهذا المحذور العظيم ، فكيف بزلّة الأقدام الكثيرة.

وقيل : إنّ هذا الكلام مثل يضرب لكلّ من وقع في الشدّة بعد الرخاء وابتلي بالمحنة بعد النّعمة(١).

وقال القمي في تأويله : ﴿بَعْدَ ثُبُوتِها﴾ يعني بعد مقالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عليّ عليه‌السلام (٢) .

وقيل : إنّ الآية السابقة في النهي عن نقض مطلق العهد واليمين ، وهذه الآية في النهي عن نقض عهد الرسول (٣) وبيعته ؛ لأنّ زلّة القدم بعد ثبوتها مناسبة لنقض هذا العهد الموجب لسقوط الانسان عن درجة الايمان في مهاوي الضلال والهلاك ، ولذا هدّدهم بقوله : ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾ والعذاب الدنيوي ﴿بِما صَدَدْتُمْ﴾ ومنعتم أنفسكم أو غيركم ﴿عَنْ﴾ السلوك في ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والالتزام بالاسلام ، أو الدخول فيه ، فان ارتدادهم يكون مانعا عن إيمان غيرهم ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٠.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٩٠ ، الكافي ١ : ٢٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٤.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٠.

٦١١

وعقاب شديد.

ثمّ قيل : إنّ المشركين كانوا يعدون ضعفاء المسلمين ويشترطون لهم الحطام الدنيوية عن ارتدادهم (١) ، فنهى الله المسلمين عن الرغبة في أموال المشركين بقوله : ﴿وَلا تَشْتَرُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿بِعَهْدِ اللهِ﴾ ولا تأخذوا بمقابلتة ومقابلة بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿ثَمَناً﴾ وعوضا من أموال المشركين ، فانّه وإن كان بقدر الدنيا يكون ﴿قَلِيلاً﴾ ويسيرا ﴿إِنَّما عِنْدَ اللهِ﴾ من الأجر على الوفاء بالعهد من النصر والعزّ في الدنيا والثواب في الآخرة ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ممّا يعدونكم من الأموال ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة الايمان ، وتميّزون الخير من الشرّ.

﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما

 كانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً

 طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) و (٩٧)

ثمّ بيّن سبحانه أظهر وجوه الخيرية بقوله : ﴿ما عِنْدَكُمْ﴾ من الحطام الدنيوية ﴿يَنْفَدُ﴾ ويفنى وينقضي ﴿وَما﴾ اعدّ لكم من النّعم ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي خزائن رحمته ﴿باقٍ﴾ ودائم لا نفاد له ، ومن الواضح أنّ النعمة الباقية وإن كانت قليلة خير وأفضل من النعم الزائلة وإن كانت في غاية الكثرة.

ثمّ لمّا كان الوفاء بالعهد والثبات على الايمان موقوفا على الصبر على الفقر والشدائد ، وعد الصابرين بقوله : ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على الوفاء بالعهد وبيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وما التزموه من شرائع الاسلام ﴿أَجْرَهُمْ﴾ وثوابهم الخاصّ بهم ﴿بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الواجبات والمندوبات.

وقيل : يعني بما عملوا من الصبر على المذكورات ، وإنّما أضاف إليه الأحسن للايذان بغاية حسنه(٢) .

ثمّ حثّ سبحانه المؤمنين على الأعمال الصالحة بقوله : ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ خالصا لوجه الله ، أيّ عمل كان ، وأيّ عامل كان ﴿مَنْ﴾ صنف ﴿ذَكَرٍ﴾ أو صنف ﴿أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ بتوحيد الله ورسالة رسوله وصدق ما جاء به ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ ونعيشنّه ﴿حَياةً﴾ وعيشة ﴿طَيِّبَةً﴾ مرضية حسنة ، وإن كان معسرا مبتلى بالأمراض والمصائب ، فانّه يكون قانعا راضيا بالقسمة ، متوكّلا على الله ، راجيا أجره العظيم في الآخرة ، فلا يحزن على ما فاته ، ولا يفرح بما آتاه الله من الدنيا.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٥ : ٧٦ ، وفيه : على الارتداد.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٧٨.

٦١٢

وقيل : إنّ الحياة الطيبة هو الرزق الحلال (١) . وقيل : هي عبادة الله والرزق الحلال (٢) . وقيل : هي حياة البرزخ (٣) . وقيل : حياة الآخرة (٤) .

ثمّ وعدهم الأجر العظيم فيها بقوله : ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من العبادات الخالصة عن شوب الرياء والعجب والهوى.

﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)

ثمّ لمّا كانت تلاوة القرآن من أحسن الأعمال ، إذا كانت خالصة من الرياء والعجب الحاصلين بوساوس الشيطان ، بيّن الله طريق الخلاص منها بقوله : ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ يا محمّد ، أو يا إنسان ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللهِ﴾ والتجأ إليه ﴿مِنَ﴾ وساوس ﴿الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ والمطرود من الرحمة.

روت العامة عن ابن مسعود ، قال قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : أعوذ بالله السميع (٥) العليم من الشيطان الرجيم. فقال : « قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرانيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام [ قيل له : ] كيف أقول ؟ قال : « تقول : أعوذ (٧) بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم » وقال : « الرجيم أخبث الشياطين » (٨) .

وعن [ حنان بن ] سدير قال : صلّيت خلف أبي عبد الله [ المغرب ] فتعوّذ بإجهار : « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بالله أن يحضرون » ثمّ جهر ب( بسم الله الرحمن الرحيم ) (٩) .

﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلْطانُهُ

 عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (٩٩) و (١٠٠)

ثمّ نبّه سبحانه على فائدة الاستعاذة بقوله : ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ﴾ بالولاية والأمر ﴿عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بتوحيد الله ﴿وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فانّهم لا يؤثّر فيهم أمره وتسويله ، وفيه إشعار بعدم فائدة الاستعاذة القولية ما لم يكن معها استعاذة (١٠) قلبية ﴿إِنَّما سُلْطانُهُ﴾ واستيلاؤه بالتسويل والدعوة المؤثرة

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٢.

(٣) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٣ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٥٦.

(٥) في تفسير البيضاوي وأبي السعود : أعوذ بالسميع.

(٦) تفسير البيضاوي ١ : ٥٥٧ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٤٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٥.

(٧) في تفسير العياشي : استعيذ.

(٨) تفسير العياشي ٣ : ٢٣ / ٢٤٢٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٥.

(٩) قرب الاسناد : ١٢٤ / ٤٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٥.

(١٠) في النسخة : استفادة.

٦١٣

في القلب ﴿عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ ويحبّونه ويطيعونه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ﴾ تعالى ، أو بسبب الشيطان ﴿مُشْرِكُونَ﴾ في الاولوهية والعبادة.

عن الباقر عليه‌السلام : « يسلّط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلّط على دينه ، قد سلّط على أيوب فشوّه خلقه ، ولم يسلّط على دينه » . [ قلت : قوله تعالى : ﴿إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾] قال : « الذين هم بالله مشركون : يسلّط على أديانهم وعلى أبدانهم » (١) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « ليس له أن يزيلهم عن الولاية ، فأما الذنوب وأشباه ذلك ، فانّه ينال منهم كما ينال من غيرهم » (٢) .

﴿وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ

 لا يَعْلَمُونَ (١٠١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر القرآن ، ذكر طعن المشركين فيه بقوله : ﴿وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ﴾ عن ابن عباس : أنّه كان إذا نزلت آية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها شدّة ، أخذ الناس بها وعملوا ما شاء الله أن يعملوا ، فيشقّ ذلك عليهم ، فينسخ الله هذه الشدّة ويأتيهم بما هو ألين منها وأهون عليهم رحمة من الله تعالى ، فيقول لهم كفّار قريش : إنّ محمّدا يسخر بكم ، يأمركم اليوم بأمر وينهاكم عنه غدا ، ويأتيكم بما هو أهون عليكم ، وما هو إلّا مفتر يقوله من تلقاء نفسه ، والمعنى : إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها (٣) .

ثمّ أنّه تعالى قبل نقل كلامهم بادر في الجواب عنه بقوله : ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ﴾ من الناسخ والمنسوخ ، والتغليظ والتخفيف ، وما هو مصالح العباد ، فما بال هؤلاء المشركين حيث ﴿قالُوا﴾ إذا رأوا التبديل ﴿إِنَّما أَنْتَ﴾ يا محمّد ﴿مُفْتَرٍ﴾ على الله بدعوى نزوله منه ، وكاذب في هذه النسبة ، فانّ بعضهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ حقيقة القرآن وحقانيته وفائدة نسخ الأحكام وتبديلها ، وإنّه لمصالح العباد التي تتغيّر بتغيّر الزمان ، وأمّا القليل الذي يعلمه فانّما يجحده لعناده ولجاجه.

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى

 لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ

 أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٢٣ / ٢٤٢٥ ، والكافي ٨ : ٢٨٨ / ٤٣٣ ، وتفسير الصافي ٣ : ١٥٥ ، عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) تفسير العياشي ٣ : ٢٤ / ٢٤٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٥.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٨١.

٦١٤

اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٢) و (١٠٤)

ثمّ بالغ سبحانه في ردّهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ليس القرآن ممّا تقوّلته ، بل ﴿نَزَّلَهُ﴾ تدريجا جبرئيل الذي لقبه ﴿رُوحُ الْقُدُسِ﴾ وأمين الوحي ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّكَ﴾ مقرونا ﴿بِالْحَقِ﴾ ودلائل الصدق من إعجاز البيان واشتماله على العلوم الوفيرة والأخبار الغيبية ، أو متلبّسا بالحكمة البالغة ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الايمان بأنّه كلام الله المنزل على رسوله ، فانّهم إذا سمعوا الناسخ وتفكّروا فيما فيه من المصالح والحكم ، رسخت عقائدهم وطمأنّت قلوبهم ﴿وَ﴾ ليكون ﴿هُدىً﴾ ورشادا إلى كلّ حقّ وخير ﴿وَبُشْرى﴾ بالثواب ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾ المنقادين لأحكامه.

ثمّ حكى الله تعالى طعنهم الآخر في القرآن بقوله : ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ﴾ أنّ محمّدا كاذب في دعوى نزول القرآن من الله ، بل ﴿إِنَّما يُعَلِّمُهُ﴾ القصص والتواريخ التي فيه ﴿بَشَرٌ﴾ قيل : اريد به سلمان الفارسي (١) . وقيل : عبد لبني عامر بن لؤي (٢) ، وكان يقرأ الكتب (٣) وقيل : عدّاس غلام عتبة بن ربيعة (٤) . وقيل : عبد لبني الحضرمي [ صاحب ] كتب واسمه جبر ، وكانت قريش تقول : إنّ عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة ، وخديجة تعلّم محمّدا (٥) . وقيل : كان بمكّة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام. وكنيته أبو ميسرة ، وكان يتكلّم بالرّومية (٦) .

ثمّ ردّهم الله تعالى بقوله : ﴿لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ﴾ وينسبون القرآن ﴿إِلَيْهِ﴾ أو يميلون قولهم عن الاستقامة بادّعاء أنّ القرآن بتعليمه ﴿أَعْجَمِيٌ﴾ غير فصيح وغير مبين ، أو غير عارف بلغة العرب ﴿وَهذا﴾ القرآن ﴿لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ بالغ في الفصاحة إلى حدّ الإعجاز ، ثمّ أتبع ردّهم بتهديدهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ ودلائل توحيده وكمال صفاته ، ورسالة رسوله ومعجزاته التي منها فصاحة القرآن وعلومه المنطوية فيه ، مع عدم اطّلاع الذي حسبوه معلّما له على أقل قليل منها ﴿لا يَهْدِيهِمُ اللهُ﴾ إلى الحقّ وطريق الجنّة ، بل يسوقهم إلى النار ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ * مَنْ

كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ

 بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) و (١٠٦)

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٧ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٥٧ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٤١.

(٢) زاد في تفسير الرازي : يقال له : يعيش.

(٣ و٤) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٧.

(٥ و٦) تفسير الرازي ٢٠ : ١١٧.

٦١٥

ثمّ نفى سبحانه الكذب عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثبته للمشركين بقوله : ﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ ويقول ما هو خلاف الواقع عن علم وعمد ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ ولا يصدّقونها عنادا ولجاجا ، ويدّعون أنّ الآيات افتراء وكذب ، فانّهم اللائقون بالكذب ﴿وَأُولئِكَ﴾ المتّصفون بأخبث الصفات ﴿هُمُ الْكاذِبُونَ﴾ في الحقيقة المبالغون في الكذب لعدم خوفهم من عقاب الله ، لا النبيّ الصادق المصدّق الذي هو أخوف الخائفين ورأس المؤمنين.

ثمّ لمّا حكى الله سبحانه شبهات المشركين في صدق القرآن ونبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طمعا في ارتداد المسلمين ، هدّد المرتدّين بقوله : ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ﴾ بسبب شبهات المشركين ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ﴾ ووضوح الحقّ عنده ، كان من كان ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ على إظهار الكفر باللسان ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ﴾ وموقن ﴿بِالْإِيمانِ﴾ ومستقرّ على التوحيد ونبوّة النبيّ وصدق القرآن.

قيل : إنّ قوله : ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ﴾ بدل من قوله : ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ والمعنى إنّما يفتري الكذب من كفر بالله ، وقوله : ﴿أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ﴾ اعتراض بين المبدل وبدله (١) وقيل : بدل من ﴿الْكاذِبُونَ﴾ والمعنى اولئك هم من كفر بالله (٢) . وقيل : إنّه منصوب على الذمّ ، والمعنى اولئك هم الكاذبون ، أعني من كفر بالله (٣) .

ثمّ أنه تعالى بعد استثناء المكرهين بيّن الكافر المذموم بقوله : ﴿وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ وطاب به نفسا ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ عظيم ﴿مِنَ اللهِ﴾ في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ في الآخرة.

عن ابن عبّاس : نزلت الآية في عمّار ، وذلك أنّ كفّار قريش أخذوه وأبويه ياسر وسميّة وصهيبا وبلالا وخبّابا وسالما فعذّبوهم ليرتدّوا ، فأبى أبوا عمّار ، فربطوا سميّة بين بعيرين وضربت بحربة في قلبها ، وقالوا : إنّما أسلمت من أجل الرجال والتعشّق بهم فقتلوها ، وقتلوا ياسرا ، وهما أول قتيلين في الاسلام ، وأمّا عمّار فكان ضعيف البدن فلم يطق لعذابهم ، فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، وهو سبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر الأصنام بخير ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّ عمّارا كفر. فقال : « كلا ، إنّ عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه ، واختلط الايمان بلحمه ودمه » فأتى عمّار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عينيه ، وقال : « مالك ، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (٤) .

القمي : ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ فهو عمّار بن ياسر ، أخذته قريش بمكة فعذّبوه بالنار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا وقلبه مطمئن ومقرّ بالايمان ﴿وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً

__________________

( ١و٣ ) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٠.

(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٨٤ ، تفسير الرازي ٢٠ : ١٢١ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٤٣.

٦١٦

فهو عبد الله [ بن سعد ] بن أبي سرح بن الحارث بن لؤي (١) ، وكان عاملا لعثمان بن عفّان على مصر(٢) .

وعن ( الكافي ) : قيل للصادق عليه‌السلام : إنّ الناس يروون أن عليا عليه‌السلام قال على منبر الكوفة : « أيّها الناس ، إنّكم ستدعون إلى سبيّ فسبّوني ، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرءوا منّي » .

فقال عليه‌السلام : « ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه‌السلام ! » ثمّ قال : إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي وأنا لعلى دين محمّد ، ولم يقل : فلا تبرءوا منّي » .

فقال له السائل : [ أ رأيت ] إن اختار القتل دون البراءة ؟ فقال : « والله ما ذاك عليه وما له إلّا ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث اكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فأنزل الله فيه ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندها : يا عمّار ، إن عادوا فعد فقد أنزل الله عندك ، وأمرك أن تعود إن عادوا » (٣) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل : مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ ؟ فقال : « الرّخصة أحب إليّ ، أما سمعت قول الله في عمّار : ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ(٤) .

﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

 الْكافِرِينَ * أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ

 هُمُ الْغافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٧) و (١٠٩)

ثمّ ذكر الله علّة الارتداد مع وضوح الحقّ بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الارتداد ﴿بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ وشهواتها وآثروها ﴿عَلَى﴾ نعم ﴿الْآخِرَةِ﴾ والجنة الباقية ﴿وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق ﴿الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ للتديّن بدين الحقّ ، لخبث ذاتهم ، ورسوخ حبّ الدنيا في قلوبهم.

ثمّ بيّن أنّه تعالى لا يكتفي في حقّهم بالكفّ عن توفيقهم للثبات على الايمان ، بل يخذلهم ويميت قلوبهم [ الموت ] الملازم لعدم العقل والصّمم والعمى بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المحبّون للدنيا ومؤثورها على الآخرة هم ﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ﴾ وختم ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ﴾ فلا يعقلون شيئا من الحقّ ، ولا يسمعون النّصح والوعد والوعيد ، ولا يبصرون الآيات والمعجزات.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو أصحابه ، فمن أراد الله به خيرا سمع وعرف ما يدعوه إليه ، ومن أراد به شرّا طبع على قلبه فلا يسمع ولا يعقل ، وهو قوله تعالى : ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٩٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٧.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٧.

(٣) الكافي ٢ : ١٧٣ / ١٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٧.

(٤) تفسير العياشي ٣ : ٢٥ / ٢٤٣٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٨.

٦١٧

طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ(١) عن وخامة عاقبتهم ، وعمّا يراد بهم من العذاب الدائم ﴿لا جَرَمَ﴾ وحقّا ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ حيث ضيّعوا فطرتهم وأعمارهم وصرفوها في تحصيل العذاب الدائم مع تمكّنهم من صرفها في تحصيل النّعم الدائمة والراحة الأبدية ، فلا أخسر منهم ، بل لعظم خسرانهم كأنّه لا خاسر غيرهم.

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ

 بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ

 ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١٠) و (١١١)

ثمّ بيّن سبحانه غاية لطفه بالذين عذّبهم الكفار وأكرهوهم على الكفر بقوله : ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا﴾ من أوطانهم حفظا لدينهم ونصرة لنبيهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا﴾ وعذّبوا بجور المشركين واكرهوا على كلمة الكفر ﴿ثُمَّ جاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على فتنة الكفّار ومتاعب الهجرة ومشاقّ المجاهدة ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها﴾ بلطفه وكرمة ﴿لَغَفُورٌ﴾ لما صدر عنهم من كلمة الكفر وسائر الزلّات ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم ومنعم عليهم بالجنّة وسائر الخيرات.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ غفرانه لهم ورحمته عليهم يكونان في وقت غاية الحاجة إليهما بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ وقيل : إنّ التقدير اذكر يا محمّد (٢) أو ذكّرهم يوم ﴿تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ مؤمنة أو كافرة برّة أو فاجرة ﴿تُجادِلُ﴾ وتخاصم دفاعا ﴿عَنْ نَفْسِها﴾ وشخصها.

عن ابن عبّاس : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد ، يقول الروح : يا ربّ ، لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها. ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ، ليست لي يد أبطش [ بها ] ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي. قال : فيضرب لهما مثلا ؛ مثل الأعمى والمقعد دخلا حائطا وفيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثّمار ، والمقعد لا ينالها ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثّمر ، فعليهما العذاب (٣) .

وقيل : إنّ المعنى أنّ كلّ نفس تجادل نفسه ، فيقول المطيع : لم لم اكثر من طاعة ربّي ؟ ويقول العاصي لنفسه : لم عصيت ربّي.

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٢٦ / ٢٤٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٨.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٨٧.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٨٨.

٦١٨

﴿وَتُوَفَّى﴾ وتعطى كاملا ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النفوس جزاء ﴿ما عَمِلَتْ﴾ من الطاعة والمعصية والخير والشرّ ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ بتنقيص الثواب أو زيادة العقاب.

﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ

 فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي ، هدّدهم بالعذاب الدنيوي بقوله : ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾ بديعا لتبيين حال الكفّار والمرتدين عن دين الحقّ ، وذكر لهم شبيها ، وهو أنّ ﴿قَرْيَةً﴾ من القرى ، قيل : هي مكة (١) ، وقيل : هي أيلة ، كانت بين ينبع ومصر (٢)﴿كانَتْ آمِنَةً﴾ من تعديّات القياصرة وظلم الجبابرة وسائر المخوفات ، وكانت ﴿مُطْمَئِنَّةً﴾ ساكنة أهلها ، لا ينتقلون منها إلى غيرها لحسنها ، وعذوبة مائها ، ولطافة هوائها ، ووفور نعمها ، فانّه كان ﴿يَأْتِيها رِزْقُها﴾ وما يحتاج إليه أهلها ﴿رَغَداً﴾ واسعا ﴿مِنْ كُلِّ مَكانٍ﴾ كان في نواحيها من البرّ والبحر ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ﴾ بأن صرفها أهلها في عصيان ربّهم الذي تفضّل عليهم بتلك النّعم التي منها صحّة أمزجتهم ، وسعة أرزاقهم ، وأمنهم من المخوفات ﴿فَأَذاقَهَا اللهُ﴾ وألبس أهلها ﴿لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ بسبب القحط وتهاجم الأعداء عليهم ﴿بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ من كفران النعم.

روى بعض العامة : أنّ أهل أيلة كانوا يستنجون بالخبز (٣) .

والقمي رحمه‌الله ، قال : نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له البليان (٤) ، وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير ، وكانوا يستنجون بالعجين ، ويقولون : هو ألين لنا ، فكفروا بأنعم الله واستخفوا بنعمة الله ، فحبس الله عليهم البليان ، فجدبوا حتّى أحوجهم الله إلى [ أكل ] ما كانوا يستنجون به ، حتّى كانوا يتقاسمون عليه (٥) .

والعياشي عن الصادق عليه‌السلام : « كان أبي يكره أن يمسح يده بالمنديل وفيه شيء من الطعام تعظيما له ، إلّا أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها له. قال : وإنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقّده ، فيضحك الخادم » .

ثمّ قال : « إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم ، كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النّقي (٦) فجعلناه نستنجي به ، كان ألين علينا من الحجارة » قال : « فلمّا فعلوا ذلك بعث الله إلى أرضهم دوابا أصغر من الجراد ، فلم يدع لهم شيئا خلقه الله [ يقدر عليه] إلّا أكله من

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٧.

(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٨٨.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٨٩.

(٤) في تفسير القمي الثلثان ( الثرثار خ ل ) .

(٥) تفسير القمي ١ : ٣٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٩.

(٦) النقيّ : الدقيق الجيد الأبيض.

٦١٩

شجر وغيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا إلى الذي كانوا يستنجون به [ فأكلوه ] ، وهي القرية التي قال الله : ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ إلى قوله : ﴿بِما كانُوا يَصْنَعُونَ(١) .

قيل : وجه استعارة اللباس للجوع والخوف إحاطتهما به من جميع الجهات (٢) .

وقيل : تأثيرهما في الهزال وشحوب اللون المشتملين على البدن كاللباس (٣) ، وقيل : إنّ اللباس هنا بمعنى الامساس (٤) .

وقيل : إنّ الإذاقة بمعنى التّعرّف (٥) . وقيل : استعير لفظ الإذاقة للاصابة لما فيها من اجتماع إدراكي اللّامسة والذائقة (٦) .

﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)

ثمّ أنه تعالى بعد بيان سلب النعم عنهم بكفرانهم ، بيّن ابتلاءهم بعذاب الاستئصال بتكذيبهم الرسول بقوله : ﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ﴾ من جانب الله ﴿رَسُولٌ مِنْهُمْ﴾ يعرفونه بأصله ونسبه وأخلاقه ، لهدايتهم إلى الحقّ ، وإرشادهم إلى وجوب شكر النعم وحرمة الكفران ، وإخبارهم بسوء عاقبته ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ فيما أخبرهم به من رسالته من الله ، ووجوب طاعته وطاعة أحكام الله التي منها وجوب شكر النعم ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ﴾ المستأصل وأهلكهم به ﴿وَهُمْ ظالِمُونَ﴾ على أنفسهم بكفران النعم والكفر بالله وبرسوله.

عن ابن عبّاس ، قال : هذا المثل لأهل مكة ، فانّهم كانوا في حرم آمن ويتخّطف النّاس من حولهم ، وما يمرّ ببالهم طيف من الخوف ، وكانت تجبى إليه ثمرات كلّ شيء ، ولقد جاءهم رسول منهم ، فكفروا بأنعم الله ، وكذّبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأصابهم بدعائه - بقوله : « اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف » - ما أصابهم من القحط والجدب حتى أكلوا الجيف والكلاب الميتة والجلود والعظام المحرّقة والعلهز - وهو الوبر والدم - يعني كانوا يخلطون الدم بأوبار الإبل ويشوونه على النار ، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدّخان من الجوع ، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الهجرة ، حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم ، فوقعوا في خوف عظيم من أهل الاسلام حتى تركوا سفر الشام والتردّد إليه ، ثمّ أخذهم يوم بدر ما أخذهم [ من العذاب ](٧) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٣ : ٢٧ / ٢٤٣٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٩.

(٢) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٩.

(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٨٩.

(٤ و٥) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٩.

(٦) تفسير أبي السعود ٥ : ١٤٥.

(٧) تفسير روح البيان ٥ : ٨٩.

٦٢٠