نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-763-3
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٦٢
١

٢

٣
٤

في تفسير سورة القصص

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿طسم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ

 بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً

 يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ

 الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ

 أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ

 وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (١) و (٦)

لمّا ختم سبحانه سورة النمل المفتتحة بذكر فضيلة القرآن المتضمّنة لبيان تفضّلاته على الأنبياء ، وحججه على التوحيد والمعاد ، وإنعامه على المؤمنين في الآخرة ، وحرمة مكة ، وترغيبه في تلاوة القرآن المختتمة بأمر النبيّ بالحمد على تفضّله عليه بالحكمة والنبوة ، وتهديد مكذّبيه بإراءتهم العذاب في الآخرة ، اردفها في النظم بسورة القصص المفتتحة بذكر عظمة القرآن المتضمّنة لتفضلاته على موسى ، ومنّته على المؤمنين به باهلاك أعدائهم وأخلافهم في الأرض ، وإثبات التوحيد والمعاد ، وبيان حرمة الحرم ، وفضل نبينا ، وصدق كتابه ، ورجوع أمر النبوة إلى اختيار الله ، واختصاص الحمد في الدنيا والآخرة به ، وغير ذلك من المطالب المناسبة لما في السورة السابقة ، فابتدأها على حسب دأبه في كتابه بذكر أسمائه المباركات تعليما للعباد بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ افتتحها بالحروف المقطّعة بقوله : ﴿طسم﴾ وقد مرّ تأويلها ، وما ذكره كثير من العامة في تأويلها تخرّص بالغيب واتّباع للمتشابه.

ثمّ عظّم سبحانه السورة بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ السورة أو الآيات ﴿آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ﴾ والقرآن الموضّح للحقّ وطريق الرشاد ، أو الموضّح لكونه من الله باشتماله على المعجزات ، أو لصدق نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. أو المبين للحلال والحرام وكيفية التخلّص من شبهات الضالّين وقصص الأولين.

ثمّ شرع في قصة موسى بقوله : ﴿نَتْلُوا﴾ ونقرأ ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمّد بواسطة جبرئيل بعضا ﴿مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ﴾ وجملة من خبرهما الذي له شأن حال كوننا ملتبسين ﴿بِالْحَقِ﴾ والصدق ليكون

٥

نافعا ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وإن كانت التلاوة لهم ولغيرهم إتماما للحجّة.

ثمّ كأنّه قيل : ما كان نبأهما (١) ؟ فأجاب بقوله : ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا﴾ واستكبر ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وادّعى ما ليس له ﴿وَجَعَلَ﴾ بترفّعه ﴿أَهْلَها﴾ وسكّانها ﴿شِيَعاً﴾ وفرقا يتبّعونه ، أو أصنافا معدّدة في الاستخدام بتعيين كل صنف لعمل من بناء وحرث وحفر وغيرها ، أو أحزابا متعادية بعضهم مع بعض ، ليكونوا متّفقين على طاعته ، أو مختلفة في الاعزاز والإذلال والراحة والمشقّة ، كالقبطيين المتنعّمين في الراحة ، والاسرائيليين الذليلين المستعبدين ، ويرجّح هذا الوجه قوله : ﴿يَسْتَضْعِفُ﴾ ويقهر ﴿طائِفَةً مِنْهُمْ﴾ يقال لهم بنو إسرائيل حيث إنّه ﴿يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ﴾ ويكثر القتل فيهم ﴿وَيَسْتَحْيِي﴾ ويستبقي في الحياة ﴿نِساءَهُمْ﴾ لخدمة نسائه ونساء القبط ﴿إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ لجرأته على قتل تسعين ألف على ما قيل (٢) من صغار أولاد الأنبياء بتوهّم فاسد ، واستخدام نسائهم.

عن ابن عباس : لمّا كثر العصيان في بني إسرائيل ، وترك العلماء والعباد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سلّط الله عليهم القبط ، فاستعبدوهم ، وحملوا عليهم المشاق (٣) .

وروي أنّ فرعون رأى في المنام أنّه ظهرت نار من أحد جوانب بيت المقدس ، فأحاطت بمصر وبيوته (٤) ، فأحرقت القبط جميعا ، ولم تتعرض لبني إسرائيل ، فسأل العلماء عن تعبيره ، فقالوا : سيظهر في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك وهلاك ملكك بيده ، فأمر بقتل أبناء بني إسرائيل (٥) .

وقيل : إنّ الأنبياء السابقين بشروا بمجيئة ، وسمع فرعون ذلك (٦) .

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى﴾ بني إسرائيل ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بتخليصهم من الظلم والعبودية ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ وقادة في الدين ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ لأرض مصر وأمتعة آل فرعون وأموالهم، وإنما قدّم إمامتهم في الدين على وراثتهم الأموال في الذكر مع تأخّرها عنها في الوجود لانحطاط رتبتها عنها ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ التي يسكنها أعداؤهم من مصر والشام ونسلّطهم عليها ، ونسكنهم وننفّذ أوامرهم ، ونبسط أيديهم فيها ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ﴾ وزيره ﴿هامانَ وَجُنُودَهُما﴾ وعساكرهما ﴿مِنْهُمْ ما كانُوا﴾ منه ﴿يَحْذَرُونَ﴾ ويجتنبون خوفا من هلاكهم وذّهاب ملكهم على يد مولود من بني إسرائيل.

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى [ علي و] الحسن والحسين فبكى وقال : أنتم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٨١.

(٣) بحار الأنوار ١٣ : ٥٣.

(٤) في تفسير الرازي : واشتملت على مصر.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٥.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٥.

٦

المستضعفون بعدي » فقيل للصادق عليه‌السلام ما معنى ذلك يابن رسول الله ؟ قال : « معناه أنتم الأئمّة بعدي ، إن الله عزوجل يقول : ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ » ثمّ قال : « فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة » (١) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام « هي لنا » أو « فينا » (٢) .

وفي رواية : نظر أبو جعفر إلى أبي عبد الله عليه‌السلام يمشي فقال : « أترى هذا من الذين قال الله عزوجل : ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ » الآية (٣) .

﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي

 وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

 لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ * وَقالَتِ

 امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً

 وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ

 رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ

 جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٧) و (١١)

ثمّ ذكر سبحانه أول منّته على موسى بقوله : ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى﴾ وقذفنا في قلبها ، أو أريناها في المنام ﴿أَنْ﴾ يا امّ موسى ﴿أَرْضِعِيهِ﴾ ما لم تخفي عليه الطّلب ﴿فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ الطلب بأن يحسّ به الجيران عند بكائه ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ﴾ والنّيل.

وقيل : يعني إذا خفت حفظه وعجزت عن تدبيره فسلّميه إلينا ودعيه في حفظنا (٤)﴿وَلا تَخافِي﴾ عليه ضيقا وشدّة ، ولا ضياعا ولا هلاكا ﴿وَلا تَحْزَنِي﴾ على فراقه ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ عن قريب بأحسن وجه وألطف تدبير ﴿وَجاعِلُوهُ﴾ مرسلا ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

عن ابن عباس : أنّ أمّ موسى لمّا تقارب ولادتها ، كانت قابلة من القوابل التي وكّلهن فرعون بالحبالى مصافية لامّ موسى ، فلمّا أحسّت بالطلق أرسلت إليها وقالت لها : قد نزل بي ما نزل ، ولينفعني اليوم حبّك إيّاي ، فجلست القابلة ، فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه ، فارتعدت مفاصلها ، ودخل حبّ موسى في قلبها ، فقالت : يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ، ولكنّي

__________________

(١) معاني الأخبار : ٧٩ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٠.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٦٦ / ٧٦٩ ، تفسير الصافي ٤ : ٨١.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٧٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٠.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٣.

٧

وجدت لابنك هذا حبّا شديدا ، فاحتفظي بابنك ، فانّي أراه عدوّنا ، فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاء إلى بابها ليدخل عليها ، فقالت اخته : يا امّاه ، هذا الحرس ، فلفتّه ووضعته في تنّور مسجور ، فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع ، فدخلوا فاذا التنّور مسجور ، ورأوا امّ موسى لم يتغيّر لها لون ، ولم يظهر لها لبن ، فقالوا : لم دخلت القابلة عليك ؟ قالت : إنّها حبيبة لي دخلت للزيارة ، فخرجوا من عندها ، ورجع إليها عقلها ، فقالت لاخت موسى : أين الصبيّ ؟ قالت : لا أدري ، فسمعت بكاءه في التنّور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما ، فأخذته.

ثمّ لمّا رأت امّ موسى فرعون مجدّا في طلب الولدان ، خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتّخذ لها تابوتا ، ثمّ تقذف التابوت في النّيل ، فذهبت إلى نجّار من أهل مصر ، فاشترت منه تابوتا ، فقال لها : ما تصنعين به ؟ فقالت : ابن لي أخشى عليه كيد فرعون ، اريد أن اخبّئنّه فيه ، وما عرفت أنّه يفشي ذلك الخبر ، فلمّا انصرفت ذهب النجّار إلى فرعون ليخبر به الذبّاحين ، فلمّا جاءهم أمسك الله لسانه ، وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه ، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ الله عليه نطقه ، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به ، فضربوه وطردوه ، فلمّا عاد إلى موضعه ردّ الله عليه نطقه ، فذهب مرة اخرى ليخبرهم به ، فضربوه وطردوه ، فأخذ الله بصره ولسانه ، فجعل لله تعالى إن ردّ عليه بصره ولسانه لا يدلّهم عليه ، فعلم الله منه الصدق ، فردّ عليه بصره ولسانه ، وانطلقت امّ موسى وألقته في النّيل ، وكان لفرعون بنت ، لم يكن له ولد غيرها ، وكان لها كلّ يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون شاور الأطبّاء والسّحرة في أمرها ، فقالوا : أيّها الملك ، لا تبرأ هذه إلّا من قبل البحر ، يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه ، فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس.

فلمّا كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النّيل ، ومعه آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ ، إذ أقبل بتابوت تضربه الأمواج ، وتعلّق بشجرة ، فقال فرعون : خذوه ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ وصانوه من الضياع ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ﴾ في العاقبة ﴿عَدُوًّا﴾ يغرقهم في البحر ﴿وَ﴾ لنسائهم ﴿حَزَناً﴾ على هلاك رجالهنّ وصيرورتهنّ إماء لهم ، فشبّه سبحانه العداوة والحزن بالعلّة لفعلهم لتربيتها عليه ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا﴾ في عقائدهم وأعمالهم ﴿خاطِئِينَ﴾ ولذا قتلوا الوفا لأجل موسى ، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون منه.

فلمّا رأى فرعون التابوت المطلى بالقير ، أمر بفتح بابه فلم يقدروا ، ثمّ عالجوا كسره فلم يقدروا ،

٨

فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها ، فعالجته وفتحته ، فاذا هي بصبيّ صغير يتلألأ النور من بين عينيه ، فألقى الله محبتّه في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت ، فضمّته إلى صدرها (١) .

وقيل : إنّها لما رأته برئت ، فقال الغوادة من قوم فرعون : إنا نظنّ أنّ هذا هو الذي تحذر منه ، فرمي في البحر خوفا منك ، فهمّ فرعون بقتله (٢) .

﴿وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ﴾ - وكانت من خيار نساء بني إسرائيل من سبط لاوي على ما قيل (٣) . وقيل : كانت عمّه موسى ، لمّا أخرجته من التابوت ، وأحبّته للنور الذي بين عينيه (٤) ، أو لملاحة وجهه ، أو لبرء بنته بريقه ، أو لأنّه يمتصّ إصبعه ، أو لأنّه لم يكن لها ولد ذكور (٥) - : يا فرعون هذا الطفل ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ﴾ وسرور قلب ﴿لِي وَلَكَ﴾ عن ابن عباس : قال فرعون قرّة عين لك ، وأمّا أنا فلا حاجة لي فيه. فقال عليه‌السلام :«والذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأنّه قرّة عين له كما أقرّت ، لهداه الله كما هداها»(٦) . ثمّ لمّا اطلعت على أنّ فرعون همّ بقتله استوهبته منه وقالت : ﴿لا تَقْتُلُوهُ﴾ وإنّما خاطبته بصيغة الجمع تعظيما له ، لتساعدها على مسألتها ، ثمّ ذكرت ما يرغبه في إجابتها بقولها : ﴿عَسى﴾ ونرجو ﴿أَنْ يَنْفَعَنا﴾ ويصل إلينا منه خير كثير لما فيه من أمارة اليمن والبركة ، من لمعان النور من وجهه ، وارتضاعه من إصبعه ، وشفاء البنت بريقه ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ﴾ لأنفسنا ﴿وَلَداً﴾ لكونه أهلا للتبنّي للملوك ، فأجاب فرعون مسألتها ووهبة لها ، فاشتغل فرعون وآسية وخدمها بتربيته ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بخطأهم العظيم في رجاء النفع منه والتبنّي له وتربيته ، لكون هلاكهم وذهاب ملكهم بيده ﴿وَأَصْبَحَ﴾ وصار ﴿فُؤادُ أُمِّ مُوسى﴾ لمّا سمعت أنّ ولدها في يد فرعون ﴿فارِغاً﴾ وخاليا من العقل والصبر من فرط الخوف ، أو خاليا من كلّ همّ إلّا همّ موسى ، أو خائفا ومشفقا عليه ، أو فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها قبل وناسيا له.

قيل : إنّ الشيطان جاءها ، فقال لها : كرهت أن يقتل ولدك ويكون لك الأجر ، فتولّيت إهلاكه وابتليت بالعقوبة ، فلمّا اطّلعت أنّ ولدها وقع في يد فرعون أنساها عظم البلاء عهد الله إليها (٧)﴿إِنْ﴾ الشأن أنّها ﴿كادَتْ﴾ وقربت ﴿لَتُبْدِي﴾ بموسى وتظهر ﴿بِهِ﴾ من ضعف البشرية وفرط الاضطراب.

عن ابن عباس : كادت تخبر بأنّ ما وجدتموه ابني (٨) .

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٧.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٨.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٤.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٤.

(٥) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٨.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٨.

(٧) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٩.

(٨) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٠.

٩

وعن الباقر عليه‌السلام : «كادت تخبر بخبره أو تموت » (١) ﴿لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا﴾ وشددنا ﴿عَلى قَلْبِها﴾ بالصبر والثبات بتذكرها ما وعدناه من ردّه إليها سالما وجعله رسولا.

وقيل : إنّ المراد صار فؤادها فارغا من كلّ غمّ وخوف لمّا سمعت أنّ امرأة فرعون عطفت عليه ، وكادت تبدي أنّه ولدها ، ولم تملك نفسها فرحا لو لا أن سكّنّا ما بها من شدّة الفرح (٢) ، وعلى أي تقدير كان ذلك الربط ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والمصدّقين بقدرتنا وصدق وعدنا ﴿وَقالَتْ﴾ امّ موسى ﴿لِأُخْتِهِ﴾ لأبيه وامّه اسمها مريم أو كلثوم : ﴿قُصِّيهِ﴾ وفتّشي خبره ، واتّبعي أثره ، وانظري كيف حاله ، فجاءت إلى باب فرعون ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ﴾ ورأته ﴿عَنْ جُنُبٍ﴾ وناحية بعيدة عند فرعون وأهله ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ ولا يلتفتون إلى أنّها اختها جاءت لتعرف حاله وتفتيش كيفية تعيّشه.

﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ

 وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ * فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ

 اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٢) و (١٣)

ثمّ بيّن الله تعالى تدبيره في ردّ موسى عليه‌السلام إلى امّه حسب وعده إياها بقوله : ﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ ومنعنا عنه لبن المرضعات ، أو ثديّات (٣) النساء بالنّفار عنها.

قيل : إنّ امّه أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها (٤) .

قيل : لم يقبل ثدي أحد ثمانية أيّام ، وكان يرتضع من لبن يخرج من إصبعه ، فاضطربت آسية وقومها من ذلك ، ﴿فَقالَتْ﴾ اخت موسى لفرعون وأهله بعد أن رأت عدم قبول موسى ثدي أحد ، واعتناء فرعون بشأنه ، وطلبهم امرأة يقبل ثديها : ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ ويضمنون إرضاعه وتربيته ﴿وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ﴾ وكلّ لنفعه وخيره طالبون ، وبحضانته مجدّون؟

قيل : إنّ هامان قال : إنّها تعرفه وتعرف أهله. قالت : إنّما أردت إن هم للملك ناصحون (٥) .

روي أنّهم قالوا لها : من يكفله ؟ قالت : امّي. قالوا : ألامّك لبن ؟ قالت : نعم ، لبن هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبيّ ، فقالوا : صدقت (٦) .

وقيل : إنّها قالت : هي امرأة قد قتل ولدها ، فأحبّت أن تتّخذ صغيرا ترضعه. قالوا : اذهبي وأتينا بها ، فرجعت إلى امّها فأخبرتها بالقصّة ، فجاءت مع ابنتها إلى فرعون ، فرأت موسى عنده وهو يبكي ،

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٣٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٢.

(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٢٩.

(٣) كذا ، وجمع الثدي : أثد أو ثديّ.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٠.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٧.

(٦) ايضا.

١٠

وفرعون يسلّيه ويلعب معه ، لشدة حبّه إياه ، فلمّا رأى أمّ موسى أعطاها موسى ، فاحتضنته وألقمته ثديها ، فلمّا شمّ موسى رائحة امّه أخذ ثديها ، فقال فرعون : من أنت منه ، فقد أبى كلّ ثدي إلّا ثديك ؟ قالت : أنا امرأة حسنة الخلق ، طيّبه الريح واللبن ، لا اوتى بصبي إلّا ثديي ، فدفعه إليها وأجرى عليها اجرتها كلّ يوم دينار ، وقال : آتيني بها كلّ اسبوع مرة ، فرجعت به إلى بيتها من يومها مسرورة (١) ، فأخبر الله تعالى بانجاز وعده بقوله : ﴿فَرَدَدْناهُ﴾ وأرجعناه ﴿إِلى أُمِّهِ﴾ حسب وعدنا ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾ بوصال ولدها ﴿وَلا تَحْزَنَ﴾ بفراقه ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ جميعه في حقّ موسى ﴿حَقٌ﴾ وصدق لا يمكن الخلف فيه ﴿وَلكِنَ﴾ الناس أو آل فرعون ﴿أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ بصدق مواعيده.

ثمّ قيل : إنّ موسى مكث عند امّه إلى فطامه ، ثمّ ردّته إلى فرعون وآسية ، فنشأ في حجرهما يربيّانه بأيديهما واتّخذاه ولدا ، فبينا هو يلعب يوما بين يدي فرعون وبيده قضيب له يلعب به ، إذ رفع القضيب فضربه على رأس فرعون ، فغضب اللّعين ، وتطيّر من ضربه ، وهمّ بقتله ، فقالت آسية : أيّها الملك لا يشقّن عليك ولا تغضب ، فانّه صبيّ صغير لا عقل له ، وإن شئت اجعل في الطشت جمرا وذهبا ، فانظر إلى أيّهما يقبض ، فأمر فرعون بذلك ، فلمّا مدّ موسى يده إلى الذهب قبض الملك الموكّل به على يده ، فردها إلى الجمر ، فقبض موسى عليها ، فالقاها في فيه ، ثم قذفها حين وجد حرارتها ، فقالت آسية : ألم أقل لك إنّه لا يعقل شيئا ، فصدّقها وكفّ عنه (٢) .

ثمّ روي عن الباقر عليه‌السلام « أنّه لم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال » الخبر(٣) .

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *

 وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ

 شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ

 مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قالَ رَبِّ

 إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٤) و (١٦)

ثمّ أخبر الله بنبوته بقوله : ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ وكمال قوّته في جسده ، وهو على ما قيل ما بين ثماني عشر الى ثلاثين (٤) . وعن ابن عباس : إلى أربعين (٥)﴿وَاسْتَوى﴾ واعتدل وكمل عقله.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٧.

(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٨.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٢ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٨.

(٥) تفسير الرازى ٢٤ : ٢٣٢.

١١

قيل : هو عند بلوغ أربعين سنة (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أشدّه ثماني عشر ، واستوى أي التحى » (٢)﴿آتَيْناهُ﴾ وأعطيناه ﴿حُكْماً﴾ ونبوّة ، أو حكمة ﴿وَعِلْماً﴾ بالدين ﴿وَكَذلِكَ﴾ الجزاء الجزيل الذي أعطيناه موسى على إحسانه في العمل ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

روي عن الباقر عليه‌السلام : « أن فرعون كان ينكر ما يتكلّم به موسى من التوحيد [ حتى هم به ] فخرج موسى من عنده » (٣) .

وعنه عليه‌السلام قال : « كانت بنو إسرائيل تطلب وتسأل عنه عليه‌السلام ، فعمّي عليهم خبره ، فبلغ فرعون أنّهم يطلبونه ويسألونه ، فأرسل إليهم ، وزاد عليهم في العذاب ، وفرّق بينهم ونهاهم عن الأخبار به والسؤال عنه ، فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم ، فقالوا : كنّا نستريح إلى الآحاديث ، فحتى متى نحن في هذا البلاء ؟ قال : إنّكم لا تزالون فيه حتى يحيي الله من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران غلام طوال جعد (٤) ، فبينا هم كذلك إذ أقبل موسى عليه‌السلام على بغلة حتى وقف عليهم ، فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصفة ، فقال ما أسمك ؟ قال : موسى. قال : ابن من ؟ قال : عمران ؟ فوثب إليه الشيخ فأخذ بيده فقبّلها ، وثاروا إلى رجله فقبّلوها،فعرفهم وعرفوه واتّخذ شيعة » (٥).

وقيل : إنّه لمّا كبر كان يلبس الثياب الفاخرة ، ويركب المراكب الفارهة الخاصة لفرعون ، وكان يقال له موسى فرعون ، فركب فرعون يوما وموسى غائب ، فلمّا جاء موسى عليه‌السلام سأل عن فرعون ، فقالوا : ذهب إلى موضع كذا ، فذهب في طلب فرعون (٦)﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ﴾ التي يقال لها مدين ، أو منف (٧) من أرض مصر ، وهي مدينة فرعون التي كان ينزلها ، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره ، وكانت في غربي النّيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينه فسطاط مصر المعروفة يومئذ بمصر القديمة ، ومنف أول مدينة عمّرت بأرض مصر بعد الطوفان ، أو المراد مدينة مصر ، وكان قصر فرعون على طرف منها.

وعن الرضا عليه‌السلام : « هي مدينة من مدائن فرعون » (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٨٨.

(٢) معاني الأخبار : ٢٢٦ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣.

(٤) جعد الشعر : اجتمع وتقبضّ والتوى ، فهو جعد ، ووجه جعد : مستدير قليل اللحم.

(٥) كمال الدين : ١٤٩ / ١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٣.

(٧) في النسخة : صنف ، وكذا التي بعدها ، تصحيف ، انظر معجم البلدان ٥ : ٢٤٧ ، وتفسير روح البيان ٦ : ٣٩٠.

(٨) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٨ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣.

١٢

وكان دخول موسى عليه‌السلام فيها ﴿عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها﴾ وفي وقت لا يعتاد دخولها فيه. عن ابن عباس : دخلها في الظهيرة عند المقيل (١) .

وفي رواية اخرى عنه : كان بين العشاءين ، كما عن الرضا عليه‌السلام (٢) .

وعن أمير المؤمنين : « دخلها في يوم عيد كان أهلها مشغولين باللهو واللّعب ، وكانت المسالك خالية من المارة (٣)﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ﴾ ويتنازعان إذا نظر احد إليهما قال ﴿هذا﴾ الرجل الذي اسمه السامري على قول (٤) ، أو ندمي على آخر من بني إسرائيل الذين هم ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾ وأتباعه في دينه ﴿وَهذا﴾ الرجل الآخر من القبط الذين هم ﴿مِنْ عَدُوِّهِ﴾ ومبغضيه ومخالفيه في دينه. قيل : كان خبّاز فرعون. وقيل : طبّاخه ، اسمه فاتون على قول (٥) ، أو فليقون على آخر ، كان يريد أن يسخر الاسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون (٦) .

فلمّا جاء موسى ﴿فَاسْتَغاثَهُ﴾ واستنصره الرجل ﴿الَّذِي﴾ كان ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾ وتابعيه ، واستعان به ﴿عَلى﴾ دفع ﴿الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ القبطي ، فقال : موسى : يا قبطي ، خلّ الاسرائيلي ، ولا تتعرّض له ، فلم يعتن به ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى﴾ وضربه بالكفّ المقبوض ضربة واحدة ﴿فَقَضى﴾ الله لشدّة قوّة موسى ﴿عَلَيْهِ﴾ بالموت فمات ، فندم موسى من فعله الذي كان خلاف الأولى ، و﴿قالَ هذا﴾ القتل ﴿مِنْ عَمَلِ﴾ من يعمل بإغواء ﴿الشَّيْطانِ﴾ ووسوسته لا من عمل مثلي ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ﴾ لابن آدم ﴿مُضِلٌ﴾ له عن طريق صلاحه ﴿مُبِينٌ﴾ ومتظاهر في عداوته وإضلاله.

وانّما كان عمله خلاف الأولى ؛ لأنّه لم يؤمر بقتل الكفّار ، أو لكونه مأمونا فيهم ، فلم يكن له اغتيالهم ، ولذا استغفر ربّه و﴿قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ بقتل القبطي الذي كان تركه أولى لي (٧)﴿فَاغْفِرْ لِي﴾ ما صدر منّي من العمل الذي هو بمنزلة الذنب في حقّي ﴿فَغَفَرَ﴾ الله ﴿لَهُ﴾ ذلك برحمته ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿هُوَ الْغَفُورُ﴾ للذنوب العظام فضلا عن ترك الأولى ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالتائبين خصوصا موسى عليه‌السلام.

﴿قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٨ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٣ ، وفيهما : بين المغرب والعشاء.

(٣) مجمع البيان ٧ : ٣٨١ عن ابن عباس.

(٤) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٠.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٠.

(٦) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٠.

(٧) في النسخة : مني.

١٣

﴿قالَ﴾ موسى عليه‌السلام : ﴿رَبِ﴾ اقسم عليك ﴿بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ﴾ من الايمان والعرفان والقوّة والمغفرة لأتوبنّ ﴿فَلَنْ أَكُونَ﴾ بعد ذلك أبدا ﴿ظَهِيراً﴾ ومعينا ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾ والخاطئين.

روي عن عليّ بن الجهم ، قال : كنت في مجلس المأمون ، وكان عنده الرضا عليه‌السلام فسأله المأمون ، وقال : يابن رسول الله ، أليس من قولك : إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : « بلى هم عليهم‌السلام معصومون من الكبائر والصغائر » قال : ما تقول في قوله تعالى : ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ؟﴾ قال عليه‌السلام : « لمّا دخل موسى في مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها ، وكان بين المغرب والعشاء ، رأى رجلين يقتتلان ، كان أحدهما من قومه والآخر من قوم فرعون ، فوكزه موسى بحكم الله ، فمات القبطي ، فقال موسى : هذا الاقتتال الذي كان بينهما من عمل الشيطان لا ما فعل موسى عليه‌السلام من قتل القبطي بوكزه » .

قال المأمون : فما معنى قول موسى : ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ؟﴾ قال عليه‌السلام : « كان مراد موسى مناجاته : ربّ إني وضعت نفسي في غير موضعها ، حيث دخلت هذه المدينة ، فاسترني ربّي من أعدائي حتى لا يظفروا بي فيقتلونني ، فستره الله تعالى منهم ، ثمّ قال : ربّ بما أنعمت عليّ من كمال القوة بحيث قتلت الرجل بوكزة ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، بل أجاهدهم في سبيلك بقوّتي حتى ترضى» (١) .

أقول : بعد ثبوت عصمة الأنبياء بحكم العقل ودلالة الآيات وتظافر الروايات ، فلا بدّ من حمل أمثال الآيات على غير ظاهرها ، ولو كان في غاية البعد لعدم إمكان رفع اليد عن الأدلّة القاطعة بالظهورات والظنون ، وقيل : إنّ المعنى بحقّ إنعامك عليّ وإحسانك إليّ اعصمني فلن أكون معينا لمن تؤدّي معاونته إلى الجرم والقطيعة (٢) .

عن ابن عباس : أنّه عليه‌السلام لم يستثن ، فابتلي بالعون مرة اخرى كما سيأتي (٣).

أقول : في الآية دلالة واضحة على حرمة إعانة المجرمين والعصاة والظالمين بما تصدق عليه الإعانة ، ولو بالكتابة وبري القلم ، وحسن إعانة المؤمنين في أداء التكاليف وسائر حوائجهم ، كما يدلّ عليه قوله : ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ(٤) .

﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ و١٩٨ و١٩٩ / ١ ، الاحتجاج : ٤٢٦ و٤٢٨ ، بحار الأنوار ١٣ : ٣٢ / ٦.

(٢و٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩١.

(٤) المائدة : ٥ / ٢.

١٤

قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨)

﴿فَأَصْبَحَ﴾ موسى تلك الليلة التي قتل فيها القبطي ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ وبلدة مصر حال كونه ﴿خائِفاً﴾ من آل فرعون على نفسه و﴿يَتَرَقَّبُ﴾ ويترصّد منهم طلب قوده ، وينتظر القصاص منه ، أو الخبر من قبل فرعون في حقّه ، فخرج من آل فرعون مستترا ويمشي في المسلك ﴿فَإِذَا﴾ الرجل الاسرائيلي ﴿الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ﴾ واستعان منه على دفع القبطي ﴿بِالْأَمْسِ﴾ وفي اليوم السابق ﴿يَسْتَصْرِخُهُ﴾ ويناديه لينصره على دفع قبطيّ آخر ينازعه ، فلمّا سمع موسى عليه‌السلام نداء الإسرائيلي ﴿قالَ لَهُ مُوسى﴾ تضجّرا منه ﴿إِنَّكَ﴾ يا إسرائيلي والله ﴿لَغَوِيٌ﴾ وموقع لي بسبب كثرة نزاعك فيما هو خلاف صلاح الوقت ، أو إنّك لكثير المخاصمة التي هي خلاف صلاحك ﴿مُبِينٌ﴾ وظاهر منك هذا العمل.

﴿فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي

كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ

 تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى

 إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْها

 خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ

 قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (١٩) و (٢٢)

﴿فَلَمَّا أَنْ أَرادَ﴾ موسى ﴿أَنْ يَبْطِشَ﴾ ويأخذ ﴿بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما﴾ بقوّة ويضربه بشدّة ، ورأى القبطيّ استعانة السبطيّ وإرادة موسى بطشه ، وقد علم أنّ رجلا أعانه بالأمس على قبطيّ فقتله المعين ، فحدس أنّ الرجل هو موسى ، أو سمع ذلك من أحد ﴿قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي﴾ بسبب نزاعي مع السبطيّ ﴿كَما قَتَلْتَ﴾ من القبط ﴿نَفْساً﴾ لأجل ذلك ﴿بِالْأَمْسِ﴾.

وقيل : إنّ السبطي لمّا رأى غضبة موسى عليه قال ذلك بتوهّم أنّ موسى أراد أن يبطش به كما في ( العيون ) حيث قال قال « وهو من شيعته » (١) .

ثمّ لامه القائل على المبادرة في القتل وترك الاصلاح بقوله : ﴿إِنْ تُرِيدُ﴾ وما تقصد ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً﴾ وظالما للناس ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وقتّالا للنفوس ﴿وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾ بين الناس بالقول والفعل ، ودافعي الخصومة من بين المتنازعين بالتي هي أحسن ، فلمّا قال القبطي أو

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٩ / ١ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٤.

١٥

الاسرائيلي ذلك ، انتشر الحديث في المدينة ، وانتهى إلى فرعون ، فهمّوا بقتله ﴿وَ﴾ إذن ﴿جاءَ رَجُلٌ﴾ مؤمن من آل فرعون وطائفة القبط يقال له حزقيل أو حزئيل ﴿مِنْ﴾ قصر فرعون الذي كان في ﴿أَقْصَى الْمَدِينَةِ﴾ وأخرها.

قيل : كان ابن عمّ فرعون (١) ، أو موسى (٢) ، وهو ﴿يَسْعى﴾ ويسير سريعا إشفاقا على موسى حتى وصل إليه. ثمّ ﴿قالَ﴾ نصحا وتخويفا له : ﴿يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ﴾ والأشراف من القبط ﴿يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ ويتشاورون بسببك ﴿لِيَقْتُلُوكَ﴾ قصاصا وعنادا ﴿فَاخْرُجْ﴾ عاجلا من هذه المدينة تحفّظا على نفسك ﴿إِنِّي لَكَ﴾ فيما آمرك به من الخروج والفرار من القوم ﴿مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ والطالبين لخيرك وصلاحك.

القمي قال : وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل ، فطلبه ليقتله ، فبعث المؤمن إلى موسى أنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك (٣)﴿فَخَرَجَ﴾ موسى ﴿مِنْها﴾ فورا بلا زاد وراحلة حال كونه ﴿خائِفاً﴾ على نفسه من القبط وخدم فرعون و﴿يَتَرَقَّبُ﴾ ويترصّد لحوق الطالبين له وتعرّضهم إياه في الطريق.

ثمّ التجأ إلى الله تعالى ، لعلمه بأنّه لا ملجأ له سواه و﴿قالَ رَبِّ نَجِّنِي﴾ وخلّصني ﴿مِنَ﴾ ظلم ﴿الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ واحفظني من لحوقهم إياي ، وسلّمني من شرّهم.

وفي الحديث : يلتفت يمنة ويسرة ، ويقول : ربّ نجّني إلى آخره (٤) .

قيل : ومرّ نحو مدين ، وكان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة أيام (٥) ، ولم تكن في سلطان فرعون ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ﴾ وأقبل نحوها ، وسلك في طريقها غير قاصد لها (٦) ، وأخذ يمشي على غير معرفته مسلّما نفسه إلى الله ، أعلن بتوكّله عليه و﴿قالَ عَسى﴾ وأرجو من ﴿رَبِّي﴾ اللّطيف بي ﴿أَنْ يَهْدِيَنِي﴾ ويرشدني ﴿سَواءَ السَّبِيلِ﴾ ووسطه الموصل إلى المقصود والمأمن.

قيل : إنّه عليه‌السلام قصد التوجّه إلى بلدة مدين ، لأنّه وقع في نفسه أنّ بينه وبين أهل مدين قرابة ، لأنّهم كانوا من أولاد مدين بن إبراهيم ، وكان هو عليه‌السلام من بني إسرائيل ، ولم يكن له علم بالطريق ، بل اعتمد على فضل الله وتوكّل عليه في إيصاله إليه (٧) .

وقيل : إنّ جبرئيل جاءه وعلّمه الطريق (٨) .

وقيل : لمّا أخذ موسى في السير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى عليه‌السلام من الفرح ، فقال

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ١٨٩ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٢.

(٢) تفسير الصافي ٤ : ٨٥.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٥.

(٤) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٥.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٥.

(٦) في النسخة : نحوه ، وسلك في طريقه غير قاصد له.

(٧ و٨) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٨.

١٦

الملك : لا تفعل واتّبعني ، فاتّبعه نحو مدين (١) .

وقيل : إنّه ذهب نحو مدين حتى وصل إلى ثلاث طرق ، فاختار الطريق الوسط ، وهو المراد من سواء السبيل ، فانه وسطه ومعظمه ، ثمّ جاء طالبوه فذهبوا إلى الطريقين الآخرين ، فلم يجدوه (٢) .

وقيل : كان حافيا ، ولم يكن له طعام إلّا الورق (٣) .

قيل : إنّه مشى ثمانية أيام ، وجرحت قدماه من المشي ، ولم يأكل في الثمانية إلّا من حشيش الأرض وورق الأشجار (٤) .

﴿وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ

 امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا

 شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ

 خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ

 لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ

 نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٣) و (٢٥)

﴿وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ﴾ ووصل إلى البئر التي كانت على ثلاثة أميال منها وأهلها يسقون منها ﴿وَجَدَ﴾ موسى ﴿عَلَيْهِ أُمَّةً﴾ وجماعة ﴿مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ منه مواشيهم ﴿وَوَجَدَ﴾ أيضا ﴿مِنْ دُونِهِمُ﴾ وفي مكان أسفل منهم ﴿امْرَأَتَيْنِ﴾ إحداهما صفورا ، والاخرى ليا ، بنتا يثرون ، ويثرون هو شعيب على ما قيل (٥) ، وهما ﴿تَذُودانِ﴾ وتمنعان أغنامهما من التقدّم إلى البئر ، أو من التفرّق ، أو من الاختلاط بأغنام الغير ، أو تمنعان أنفسهما من الاختلاط بالرجال ، أو وجوههما من نظر الأجانب ﴿قالَ﴾ موسى لهما : ﴿ما خَطْبُكُما﴾ وما شأنكما فيما أنتما عليه من التأخّر ، وما لكما لا تسقيان أغنامكما ؟ ﴿قالَتا﴾ دأبنا أن ﴿لا نَسْقِي﴾ أغنامنا ﴿حَتَّى يُصْدِرَ﴾ ويصرف ﴿الرِّعاءُ﴾ وحفّاظ المواشي مواشيهم بعد ريّها تعفّفا وحذرا من مخالطة الرجال ، فاذا انصرفوا سقينا أغنامنا من فضل مواشيهم ﴿وَأَبُونا﴾ شعيب لا يستطيع أن يباشر سقيها ؛ لأنّه ﴿شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ في السنّ ، أو في القدر والشرف ، لذا يرسلنا معها للسقي اضطرارا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٨.

(٢) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩٠ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٧ : ٨.

(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٣٨.

(٥) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٥.

١٧

روي أنّ الرجال كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يرفعه إلّا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون ، فقام موسى فرفعه وحده (١) ، وسألهم دلوا فأعطوه دلوا لا ينزحها إلّا عشرة ، فاستسقى بها وحده ﴿فَسَقى لَهُما﴾ أغنامهما وأصدرهما.

القمي : فلمّا بلغ ماء مدين رأى بئرا يستسقي الناس منها لأغنامهم ودوابّهم ، فقعد ناحية ولم يكن أكل منذ ثلاثة أيام شيئا ، فنظر إلى جاريتين في ناحية ومعهما غنمات لا تدنوان من البئر ، فقال لهما : ما لكما لا تسقيان ؟ فقالتا ما حكى الله ، فرحمهما موسى عليه‌السلام ودنا من البئر ، فقال لمن على البئر : أسقي لي دلوا ولكم دلوا ، وكان الدلو يمدّه عشرة رجال ، فاستقى وحده دلوا لمن على البئر ، ودلوا لبنتي شعيب وسقى أغنامهما (٢)﴿ثُمَّ تَوَلَّى﴾ وانصرف ﴿إِلَى الظِّلِ﴾ من شدة الحرّ وضعف الجوع ﴿فَقالَ﴾ يا ﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ﴾ ولو كان قليلا ﴿فَقِيرٌ﴾ ومحتاج. عن الصادق عليه‌السلام : « سأل الطعام » (٣) .

وفي ( النهج ) : « والله ما سأل الله عزوجل إلّا خبزا يأكله ؛ لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنة لهزاله وتشدّب لحمه » (٤) .

وروي أنّه قال ذلك وهو محتاج إلى شقّ تمرة (٥) .

وعن العامة : لمّا كان موسى جائعا سأل من الله ما يأكل ، ولم يسأل من الناس ، ففطنت الجاريتان ، فلمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما قفلت ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا ، ثمّ تولى إلى الظلّ. فقال : ﴿رَبِ﴾ إلى آخره. فقال أبوهما : هذا رجل جائع. فقال لواحدة منهما : اذهبي فادعيه لنا (٦) .

القمي قال : فلمّا رجعت ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما : اسرعتما الرجوع ؟ فأخبرتاه بقصّة موسى ولم تعرفاه ، فقال شعيب لواحدة منهما : أذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا (٧) . ﴿فَجاءَتْهُ إِحْداهُما﴾ وهي الكبرى منهما اسمها صفورا ، أو صفورة ، أو صفرى ، واسم الصغرى صفيرا ، حال كونها ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ﴾ كما هو عادة الأبكار ، أو لكمال إيمانها وشرف عنصرها وكرامة نسبها ، ثمّ ﴿قالَتْ :﴾ أيّها الرجل ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ﴾ ويطلب حضورك عنده ﴿لِيَجْزِيَكَ﴾ ويعطيك ﴿أَجْرَ ما

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٨ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٥.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٣٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

(٣) الكافي ٦ : ٢٨٧ / ٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

(٤) نهج البلاغة : ٢٢٦ الخطبة ١٦٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

(٥) كمال الدين : ١٥٠ / ١٣ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

(٦) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٤٠ ، تفسير أبي السعود ٧ : ٩.

(٧) تفسير القمي ٢ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

١٨

 سَقَيْتَ لَنا﴾ فأجاب موسى الدعوة شوقا إلى زيارة شعيب ، وطلبا لخدمته ، لا طمعا في طعامه وأجره ، فقام وانطلقا وهي أمامه ، فالزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، أو كشفت عن ساقيها ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فتأخرّت وكانت تقول : عن يمينك ، أو عن شمالك ، أو عن قدّامك.

القمي : فقام موسى معها ، ومشت أمامه ، فصفقتها الرياح ، فبان عجزها ، فقال لها موسى تأخّري ودلّيني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي اتّبعها ، فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء ، الخبر (١) .

فمشيا حتى اتيا دار شعيب ، فبادرت المرأة إلى ابيها فأخبرته ، فأذن له في الدخول ، وشعيب يومئذ شيخ كبير ، وقد كفّ بصره ﴿فَلَمَّا جاءَهُ﴾ موسى سلّم عليه فردّ عليه‌السلام وعانقه. ثم أجلسه بين يديه ، وقدّم إليه الطعام فامتنع منه ، وقال : أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيته ، وإنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا. فقال شعيب لا والله يا شاب ، ولكن هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا ، فأكل منه ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ وأخبره بما جرى عليه من ولادته إلى فراره من فرعون وقومه ومجيئه إلى مدين ﴿قالَ﴾ له شعيب : ﴿لا تَخَفْ﴾ هنا من فرعون وقومه ، فانّك ﴿نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فانّه لا سلطان لهم بأرضنا ، ولسنا في مملكة فرعون.

﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قالَ

 إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ

 أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ (٢٦) و (٢٧)

فبينما كانا يتكلّمان ويتوانسان وكانت بنتا شعيب حاضرتين إذ ﴿قالَتْ إِحْداهُما﴾ وهي الكبرى التي جاءت في طلب موسى : ﴿يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ لرعي أغنامك والقيام بامورها ، فانّ للرجل قوة على العمل والأمانة في العرض والمال ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ﴾ رقبتهم وأفضلهم الأجير ﴿الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.

روي أنّ شعيبا قال لها : ما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فذكرت له ما شاهدت منه من إقلال الحجر عن رأس البئر ، ونزح (٢) الدلو الكبير ، وأنّه خفّض رأسه عند الدعوة ولم ينظر إليها تورّعا حتى بلغت رسالتها ، وأنّه أمرها بالمشي خلفه (٣) .

والقمي - في حديث - : « فقال لها شعيب : أمّا قوّته فقد عرفتها بأنّه يسقي الدلو وحده ، فبما عرفت

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.

(٢) في تفسير أبي السعود وتفسير روح البيان : نزع.

(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩١ ، تفسير أبي السعود ٧ : ١٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٧.

١٩

أمانته ؟ فقالت : إنّه لمّا قال لي تأخرّي عنّي ودلّيني على الطريق فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء ، عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون في أعجاز النساء ، فهذه أمانته » (١) .

وعن الكاظم عليه‌السلام. قال « قال لها شعيب : يا بنية هذا قوّي قد عرفته برفع الصخرة ، من أين عرفته أنّه أمين ؟ قالت : يا أبت إنّي مشيت قدّامه فقال : امشي خلفي ، فان ضللت فارشديني إلى الطريق ، فإنّا قوم لا ننظر في أدبار النساء » (٢) إذن ﴿قالَ﴾ شعيب : يا موسى ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ﴾ وأزوّجك ﴿إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ﴾ اللتين عندك ﴿عَلى﴾ شرط ، وهو ﴿أَنْ تَأْجُرَنِي﴾ وتعمل لي بالأجر ﴿ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ وسنين ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ﴾ السنين ﴿عَشْراً﴾ في الخدمة والعمل ﴿فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ إتمامها وبتفضّلك إكمالها ، لا الزام من عندي عليك ﴿وَما أُرِيدُ﴾ من استئجارك ﴿أَنْ أَشُقَ﴾ وأصعّب الأمر ﴿عَلَيْكَ﴾ وتحميلك ما تتعب فيه ، بل اريد أن اساهلك واسامحك.

قيل : رأى شعيب بنور النبوة أنّ موسى يبلغ إلى درجة النبوة في ثماني سنين ، وفي الأزيد إلى العشر كمال الكمال (٣) .

﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ

 قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ

 وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي

 آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٧) و (٢٩)

ثمّ رغّبه في القبول بقوله : ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ والطالبين لخيرك ، والمحسنين إليك في هذه المعاملة بلين الجانب ، والوفاء بالعهد ، والمداراة في القول والعمل ، وغير ذلك ممّا يوجب راحتك وتيسير العمل عليك ﴿قالَ﴾ موسى : ﴿ذلِكَ﴾ العهد الذي عاهدتني عليه ثابت ﴿بَيْنِي وَبَيْنَكَ﴾ جميعا لا اخالفه ولا تخالفه ﴿أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ﴾ الذين ذكرت من القصير والطويل ﴿قَضَيْتُ﴾ وفيت بأداء الخدمة فيه ﴿فَلا عُدْوانَ﴾ وتجاوز ﴿عَلَيَ﴾ من قبلك بمطالبة الزيادة ، أو لا إثم عليّ في قضاء الأقصر ، ولا إلزام عليّ بالعمل بالأكثر ﴿وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ﴾ من الشرط المقرر فينا ﴿وَكِيلٌ﴾ وشاهد وحفيظ.

قيل : فجمع شعيب مؤمني مدين وزوّجه ابنته صفورا ، ودخل موسى بيت شعيب ، وأقام برعي

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ١٢ / ٧ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٧.

(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٨.

٢٠