نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا

 سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٨) و (٢٩)

ثمّ لمّا بيّن الله سبحانه خساسة مبدأ خلق الانسان ، بيّن غاية شرفه الدالة على كمال قدرة الله وحكمته بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ﴾ من بعد ﴿بَشَراً﴾ وإنسانا أو خلقا مجسّما يلاقي ويباشر ، أو بادي البشرة ؛ لأنّه لا صوف له ولا شعر ، يكون خلقه ﴿مِنْ صَلْصالٍ﴾ كائن ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ﴾ وأكملت خلقة جسده بأن خلقت أجزاء بدنه وصورته بصورة إنسانية وعدّلت طبائعه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ﴾ وأفضت عليه ﴿مِنْ رُوحِي﴾ الجوهرة التي هي من أمري ﴿فَقَعُوا﴾ واسقطوا ﴿لَهُ﴾ حال كونكم ﴿ساجِدِينَ

قيل : يعني اسجدوا تعظيما وخضوعا لله ، وجعلوا آدم بمنزلة القبلة لظهور تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته فيه (١) .

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عن قوله تعالى : ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ فقال : « روح اختاره الله واصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه ، وفضّله على جميع الأرواح ، [ فأمر ] فنفخ منه في آدم » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عنه ، فقال : « إنّ الله عزوجل خلق خلقا ، وخلق روحا ، ثمّ أمر ملكا فنفخ فيه ، فليست بالتي نقصت من (٣) الله شيئا ، هي من قدرته » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل : كيف هذا النفخ ؟ فقال : « إنّ الروح متحرّك كالريح ، وإنّما سمّي روحا لأنّه اشتق اسمه من الريح ، وإنّما اخرجت (٥) على لفظة الروح ، لأنّ الروح مجانس للريح ، وإنما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح ، كما اصطفى بيتا من البيوت. فقال : بيتي ، وقال لرسول من الرسل : خليلي وأشباه ذلك ، فهو مخلوق (٦) مصنوع محدّث مربوب مدبّر » (٧) .

﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ

 السَّاجِدِينَ * قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قالَ لَمْ أَكُنْ

 لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ

 رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ * قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤٦١.

(٢) التوحيد : ١٧٠ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٨.

(٣) زاد في التوحيد : قدرة.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٤٢٧ / ٢٣٢٣ ، التوحيد : ١٧٢ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٨.

(٥) في التوحيد : أخرجه.

(٦) في التوحيد : ذلك ، وكل ذلك مخلوق.

(٧) التوحيد : ١٧١ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٠٨.

٥٤١

يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٠) و (٣٨)

ثمّ خلقه الله وسوّاه ، ونفخ فيه الروح ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ﴾ بحيث لم يشذّ منهم أحد و﴿أَجْمَعُونَ﴾ بحيث لم يتأخّر أحد في امتثال الأمر من أحد ، أو المراد المبالغة في التأكيد والتعميم ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ وإنّما الاستثناء مع كونه من الجنّ لكونه مغمورا بالوف من الملائكة.

وقيل : لأنّه كان من جنس الملائكة الذين يتوالدون (١) ، والحقّ هو الأول ، وعلى أي تقدير لا شبهة أنّه كان مأمورا بالسجود ، ومع ذلك ﴿أَبى﴾ وأمتنع من ﴿أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ وموافقا لهم في الطاعة ، فعاتبه الله عند ذلك و﴿قالَ﴾ عتابا وتوبيخا له : ﴿يا إِبْلِيسُ ما﴾ كان ﴿لَكَ﴾ من العذر في ﴿أَلَّا تَكُونَ﴾ موافقا ﴿مَعَ﴾ الملائكة ﴿السَّاجِدِينَ﴾ لآدم من عرفانك بشرفهم ومنزلتهم لدي ؟

﴿قالَ﴾ إبليس : عذري في الامتناع من السجود له ، أنّي علمت أنّك خلقتني من النار التي هي أشرف العناصر وأعلاها و﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ﴾ ومخلوق كثيف ﴿خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ﴾ كائن من ﴿حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ مع شرفي وفضيلتي عليه ، فانّه لا يصحّ تواضع الأشرف والأفضل للأدنى والمفضول.

﴿قالَ﴾ الله : إذن لا يجوز إقامتك في الجنّة ، أو في السماوات ، أو في المنزلة [ التي ] كانت لك ، أو في زمرة الملائكة ﴿فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ﴾ قايست وعصيت ، وكلّ من قاس وعصى فهو ﴿رَجِيمٌ﴾ ومطرود من دار كرامتي ومن كلّ خير ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ﴾ والدعاء بالشرّ من الملائكة والنّاس ، أو الابعاد من الرحمة من الآن ﴿إِلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ ووقت جزاء الأعمال ، وأمّا بعد ذلك فعليك العذاب الذي لا يقادر قدره.

قيل : إنّ التوقيت بيوم الدين كناية عن الدوام (٢) .

ثمّ ﴿قالَ﴾ إبليس : ﴿رَبِ﴾ إذ جعلتني رجيما وملعونا ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾ وأمهلني في الدنيا ، ولا تمتني ﴿إِلى يَوْمِ﴾ القيامة الذي فيه يحشر (٣) الناس و﴿يُبْعَثُونَ﴾ يوم البعث من القبور للحساب ، وإنّما سأل ذلك ليكون له فسحة في إغواء بني آدم وأخذه الثأر ، لا للنجاة من الموت لاستحالتها ﴿قالَ﴾ سبحانه : ﴿فَإِنَّكَ مِنَ﴾ جملة ﴿الْمُنْظَرِينَ﴾ والممهلين ، ولكن لا إلى يوم البعث ، بل ﴿إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ وهو النفخة الاولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض.

روي أنّ بين موته وبعثة أربعين سنة من سنيّ الدنيا ، وهو ما بين النفختين (٤) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٧٥.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤٦٥.

(٣) في النسخة : يحشرون.

(٤) تفسير أبي السعود ٥ : ٧٧.

٥٤٢

عن كعب : لمّا حضر آدم الوفاة قال : يا ربّ سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منظر إلى يوم القيامة. فاجيب : أن يا آدم إنّك سترد الجنة ويؤخّر اللعين إلى النّظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين.

ثمّ قال آدم لملك الموت : صف لي كيف تذيقه الموت ؟ فلمّا وصفه قال : حسبي. فقال الناس : يا أبا إسحاق ، كيف ذلك ؟ فأبى الجواب فألحّوا فقال : يقول الله لملك الموت بعد النفخة الاولى : قد جعلت لك قوة أهل السماوات والأرضين ، وألبستك اليوم أثواب الغضب كلّها ، فانزل بغضبي على إبليس وأذقه الموت ، واحمل عليه أضعاف مرارة الأولين والآخرين ، وليكن معك من الزّبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا ، مع كلّ منهم سلسلة من سلاسل جهنم ، وغلّ من أغلالها ، وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلّاب من كلاليبها ، وناد مالكا ليفتح أبواب النيران ، فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السماوات والأرضين لماتوا من هولها.

فينتهي إلى إبليس فيقول : قف يا خبيث لأذيقنّك الموت ، كم من عمر أدركت وقرون أضللت ، وهذا هو الوقت المعلوم. فيهرب اللعين إلى المشرق ، فاذا هو بملك الموت بين عينيه ، فيهرب إلى المغرب ، فاذا هو به بين عينيه ، فيغوص البحار ، فترميه البحار ولا تقبله ، فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ، ثمّ يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم ، ويتمرّغ في التراب من المشرق إلى المغرب ، ومن المغرب إلى المشرق ، حتى إذا كان في الموضع الذي اهبط آدم فيه وقد نصبت له الزبانية الكلاليب ، وصارت الأرض كالجمرة ، أحتوشته الزبانية ، وطعنوه بالكلاليب ، ويبقى في النّزع والعذاب إلى حيث يشاء الله(١).

عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن الوقت المعلوم ، فقال : « يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة ، فيموت إبليس ما بين النفخة الاولى والثانية » (٢) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل عنه فقال : « أتحسب أنّه يوم يبعث فيه الناس ؟ إن الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا ، فاذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك يوم الوقت المعلوم » (٣) .

والقمي : عنه عليه‌السلام ، قال : « يوم الوقت [ المعلوم ] يوم يذبحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصخرة التي في

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٧٧ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٦٦.

(٢) علل الشرائع : ٤٠٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٤٢٨ / ٢٣٢٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٢.

٥٤٣

بيت المقدس » (١) . قال الفيض رحمه‌الله : أقول : يعني عند الرجعة (٢) .

﴿قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ

 عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٣٩) و (٤١)

ثمّ لمّا أمهل الله اللعين للحكم البالغة التي منها امتحان بني آدم ﴿قالَ﴾ إبليس : ﴿رَبِ﴾ اقسم ﴿بِما أَغْوَيْتَنِي﴾ من التكليف بالسجود لآدم ، وقد كنت تعلم أنّي أعصيك فيه ، أو قال : ربّ بسبب إغوائك إياي والتكليف الذي صار سببا لعصياني ، اقسم بعزّتك لاعادي بني آدم و﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ﴾ عصيانك ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ودار الغرور ، وارغّبنهم في مخالفتك ، أو لأزينّن لهم المقام في الأرض كي يطمئنوا بها ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ وأبعثهم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ إلى الضلالة بوسوستي وتسويلي وبما هيّأت من سبب عصيانهم بحيث لا ينجو أحد منهم من كيدي وإغوائي ﴿إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ﴾ ولكن لا عمومهم ، بل أعني ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين خصصتهم بعبوديتك وطاعتك ، وطهّرتهم من الرذائل والشهوات ، فانّهم لا يؤثّر فيهم كيدي ، ولا يتّبعون وساوسي (٣)﴿قالَ﴾ سبحانه : ﴿هذا﴾ التخلّص من كيدك المخصوص بالمخلصين ﴿صِراطٌ﴾ وطريق حقيقي ﴿عَلَيَ﴾ رعايته وتقريره ، وهو ﴿مُسْتَقِيمٌ﴾ لا عوج فيه.

وقيل : إنّ المراد أنّ هذا الإخلاص طريق من مرّ عليه فكأنّما مرّ عليّ وعلى رضواني وكرامتي.

وقيل : كلمة ( عليّ ) بمعنى إليّ ، والمراد هذا الاخلاص طريق إليّ وهو مستقيم يؤدّيه إلى كرامتي وقربي. وقيل : إنّ المشار إليه بكلمة ( هذا ) هو الصراط ، والمعنى هذا الطريق في العبودية طريق عليّ مستقيم (٤) .

وقيل : إنّ المشار إليه التفويض إلى مشيئة الله المستفاد من قول إبليس : إلّا عبادك منهم المخلصين ، وحاصله أنّي أغوي بني آدم إلّا من عصمه الله بتوفيقه ، يدلّ ذلك على أنّ المخلصين يفوّضون امورهم إلى الله ، فقال الله : هذا التفويض إليّ وإلى مشيئتي طريق عليّ مستقيم (٥) .

﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢)

ثمّ لمّا كان في كلام إبليس إيهام سلطنته على غير المخلصين ، نفى سبحانه سلطنته على العباد عموما بقوله : ﴿إِنَّ عِبادِي﴾ [ سواءأ ] كانوا مخلصين ، أو غير مخلصين ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ﴾ بوجه من

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٢٤٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٣.

(٢) تفسير الصافي ٣ : ١١٣.

(٣) في النسخة : بوساوسي

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ١٨٩.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ١٨٩.

٥٤٤

الوجوه ﴿سُلْطانٌ﴾ واستيلاء وقهر ﴿إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ وأطاعك باختياره ﴿مِنَ الْغاوِينَ﴾ والضالّين بسبب خبث ذاتهم من غير قهر منك.

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عن تفسيره فقال : « قال الله : إنك لا تملك أن تدخلهم جنة ولا نارا» (١) .

وقيل : إنّ المراد بالعباد في الآية خصوص المخلصين ، والمقصود تحقيق ما قاله اللعين ، وتفخيم شأن المخلصين ، وتأكيد لانقطاع مخالبه عنهم ، وأن إغواءه الغاوين ليس بطريق القهر والسلطان ، بل بطريق الاتباع بسوء الاختيار (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « والله ما أراد بهذا إلّا الأئمة وشيعتهم » (٣) .

﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ

 مَقْسُومٌ (٤٣) و (٤٤)

ثمّ هدّد سبحانه الغاوين ببيان نتيجة اتّباع الشيطان بقوله : ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ﴾ والله ﴿لَمَوْعِدُهُمْ﴾ وموقفهم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ في القيامة ﴿لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ﴾ بعدد أقسام الغاوين ﴿لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ﴾ وقسمة معينة وفرقة خاصة.

قيل : إنّ قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام ، ولكلّ قسم باب معين : القسم الأول جهنم ، والثاني لظى ، والثالث الحطمة ، والرابع سعير ، والخامس سقر ، والسادس الجحيم ، والسابع الهاوية (٤) .

وقيل : إنّ المراد بسبعة أبواب سبع طبقات بعضها فوق بعض ، وتسمّى تلك الطبقات بالدّركات ، الطبقة الاولى لأهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم ثمّ يخرجون ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى ، والرابعة للصابئين ، والخامسة للمجوس ، والسادسة للمشركين ، والسابعة للمنافقين (٥) .

وهذا الاختلاف في الدّركات والعذاب لاختلاف مراتب الكفر بالغلظة والخفّة.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « سبعة أبواب النار متطابقات » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ جهنم لها سبعة أبواب ، أطباقها بعضها فوق بعض - ووضع إحدى يديه على الاخرى ، فقال : هكذا - وإنّ الله وضع الجنان على العرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية » (٧)

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٤٢٩ / ٢٣٢٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٧٩.

(٣) الكافي ٨ : ٣٥ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٣.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٠.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٠.

(٦) الخصال : ٥٩٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٤.

(٧) مجمع البيان ٦ : ٥١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٤.

٥٤٥

وفي رواية : « أسفلها الهاوية » (١) .

وعن الصادق ، عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام : « أنّ للنار سبعة أبواب ، باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفّار ومن (٢) لم يؤمن بالله طرفه عين ، وباب يدخل منه بنو امية هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد ، وهو باب لظى ، وهو باب سعير (٣) وهو باب الهاوية ، تهوى بهم سبعين خريفا ، فكلما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا ، ثمّ تهوي بهم [ كذلك سبعين خريفا ، فلا يزالون ] هكذا أبدا خالدين مخلّدين ، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا ، وإنّه لأعظم الأبواب وأشدّها حرّا » .

ثمّ قال : « والباب الذي يدخل منه بنو امية هو لأبي سفيان ومعاوية وآل مراوان خاصة ، يدخلون من ذلك الباب فتحطمهم النار فيه حطما ، لا تسمع لهم واعية ولا يحيون فيها ولا يموتون » (٤).

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنا ما فِي

 صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما

 هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٥) و (٤٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان نتيجة إغواء الشيطان ، بيّن نتيجة أحكام عبادته بقوله : ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ والعباد المخلصين مستقرّون ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ لكلّ منهم بساتين متعدّدة وعيون متعدّدة ، وواحد منهما يقول - الله أو الملائكة - لهم عند دخولها ، أو حين الانتقال من جنّة إلى جنّة : ﴿ادْخُلُوها﴾ متلبّسين (٥)﴿بِسَلامٍ﴾ من جميع الآفات والمكاره والمخوفات ، أو بتحية من الله والملائكة حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ غير خائفين من زوال النعم وانقطاع الفيوضات ، أو من موانع الدخول ، أو من الآفات والأسقام ، فيكون تأكيدا لقوله : ﴿بِسَلامٍ﴾ على التفسير الأوّل.

﴿وَنَزَعْنا﴾ وأخرجنا ﴿ما فِي صُدُورِهِمْ﴾ وقلوبهم ﴿مِنْ غِلٍ﴾ وحقد يسير كامن كان بينهم في الدنيا ، وطيّبنا نفوسهم من الرذائل.

روي أنّ المؤمنين يحبسون على باب الجنة ، فيقتصّ بعضهم (٦) من بعض ، فيؤمر (٧) بهم إلى الجنّة وقد نقّى الله قلوبهم من الغل والغشّ والحقد والحسد (٨) ، فيكونون ﴿إِخْواناً﴾ في المودّة والمخالصة

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٥١٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٤.

(٢) في الخصال : ممّن.

(٣) في الخصال : سقر.

(٤) الخصال : ٣٦١ / ٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٤.

(٥) في النسخة : متلبسا.

(٦) في تفسير الرازي : لبعضهم.

(٧) في تفسير الرازي : ثمّ يؤمر.

(٨) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٣.

٥٤٦

والمخالطة ، كما قال تعالى : ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(١) وهم جالسون ﴿عَلى سُرُرٍ﴾ مرفوعة حال كونهم ﴿مُتَقابِلِينَ﴾ ومواجهين.

عن ابن عبّاس : يريد على سرر من ذهب مكلّلة بالزّبرجد والدّرّ والياقوت ، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية (٢) .

وقيل : إنّ المراد من السرير : هو المجلس الرفيع المهيّا للسرور (٣) ، والمستقرّ الذي اطمئنّ إليه في حال الفرح ﴿لا يَمَسُّهُمْ﴾ في الجنّة ولا ينالهم ﴿فِيها﴾ من حين دخولها ﴿نَصَبٌ﴾ وعناء وتعب إلى الأبد ﴿وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ﴾ فيكون لهم بقاء لا فناء له ، ونعمة لا زوال لها ، وفوز لا حرمان معه.

﴿نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ

 الْأَلِيمُ (٤٩) و (٥٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر حسن حال عباده المخلصين أعلن بشمول عفوه ورحمته لكلّ من اعترف بعبوديته وتوحيده بقوله : ﴿نَبِّئْ﴾ يا محمّد ، واخبر ﴿عِبادِي﴾ المؤمنين مطيعيهم وعصاتهم ﴿أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ﴾ للذنوب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالمؤمنين حتّى لا ييأسوا من غفراني ورحمتي.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : « أتضحكون والنار بين أيديكم ؟ » (٤) فنزل قوله : ﴿نَبِّئْ﴾ عبادي إلى آخره.

ثمّ أعلن بغضبه على العصاة بقوله : ﴿وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ﴾ وفي تقديم الاعلان بالرحمة ، وإضافة العباد إلى نفسه ، وتأكيد الوعد بكلمة ( إنّي ) و( أنا ) وتغيير اسلوب الإخبار بالوعيد ، حيث لم يقل : أنا المعذّب ، بل أخبر بكون عذابه أليما ، دلالة واضحة على سبق رحمته وغلبتها على غضبه ، وإن كان على المؤمنين التسوية بين الخوف والرجاء بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر.

﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ *

 قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ

 فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥١) و (٥٥)

ثمّ لمّا كان في قصص الأنبياء واممهم شهادة على رحمته بأوليائه وغضبه على أعدائه ، شرع في

__________________

(١) الزخرف : ٤٣ / ٦٧.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٣ ، والجابية : قرية من أعمال دمشق.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٣.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٥.

٥٤٧

بيانها ، وبدأ بقصة إبراهيم عليه‌السلام الذي هو أعظم منزلة بقوله : ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾ وأخبرهم يا محمّد ﴿عَنْ﴾ قصّة ﴿ضَيْفِ إِبْراهِيمَ﴾ وهم الملائكة الذين جاءوا بالرحمة والسلامة على إبراهيم ولوط ، وبالعذاب على قوم لوط.

قيل : كانوا اثني عشر أحدهم جبرئيل ، ولم يعرفهم إبراهيم ، وحسب أنّهم أضيافه (١) .

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ بصورة البشر ﴿فَقالُوا﴾ حين الدخول : سلام الله عليك ، أو نسلّم عليك يا إبراهيم ﴿سَلاماً﴾ وكان إبراهيم عليه‌السلام شديد الحبّ للضيافة ، فما لبث حتى جاءهم بعجل مشويّ ، فلمّا رأى أنّهم لم يمدّوا أيديهم إليه خاف منهم ؛ لأنّ المعتاد عندهم أنّ الضيف إذا امتنع من الأكل ظنّوا أنّه عدوّ.

وقيل : إنّ سبب خوفه أنّهم دخلوا عليه بغير إذن وفي غير وقت (٢) ، ولذا ﴿قالَ﴾ لهم : ﴿إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ﴾ وخائفون ، فلمّا سمعت الملائكة منه ذلك ﴿قالُوا﴾ تأمينا لخاطرة : يا إبراهيم ﴿لا تَوْجَلْ﴾ ولا تخف منا ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ ونخبرك بما فيه سرور قلبك ، وهو أنّ الله يريد أن يمنّ عليك ﴿بِغُلامٍ﴾ وولد ذكر (٣)﴿عَلِيمٍ﴾ بالمعارف والأحكام ، أو بعلم النبوة ، فتعجّب إبراهيم عليه‌السلام من مقالتهم ، و﴿قالَ﴾ لهم : ﴿أَ بَشَّرْتُمُونِي﴾ بأن يولد لي ولد وأنا ﴿عَلى﴾ حال بعيد عادة من ذلك ، وهو ﴿أَنْ مَسَّنِيَ﴾ وأصابني ﴿الْكِبَرُ﴾ والهرم الذي لا يكون معه الولد.

قيل : إنّ ( على ) بمعنى مع ، أو بمعنى بعد (٤) .

ثمّ بالغ في إظهار التعجّب بقوله : ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ من الأعجوبة ، فلمّا رأوا استبعاد إبراهيم عليه‌السلام ما بشّروه به ﴿قالُوا﴾ له تأكيدا لقولهم : إنّا ﴿بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ﴾ والصدق ، وبما هو كائن لا محالة ، أو باليقين الذي لا شبهة فيه ، أو بطريق حقّ وهو إخبار الله به ﴿فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ﴾ من رحمة الله عليك ، والآيسين من أن تلد وأنت شيخ كبير.

﴿قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ * قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

 * قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ

 امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٥٦) و (٦٠)

فلمّا سمع إبراهيم عليه‌السلام كلامهم الموهم لنسبته إلى اليأس من رحمة الله ﴿قالَ﴾ تحاشيا منها وإنكارا عليهم : ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ﴾ اللطيف به ﴿إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ والمخطئون طريق المعرفة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٤.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ١٩٦.

(٣) في النسخة : ذكور.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٤.

٥٤٨

والصواب ، فانّهم الذين لا يعرفون سعة رحمة الله وكمال قدرته وحكمته ولطفه بعباده ، فنفي عن نفسه القنوط بأبلغ وجه ، وبيّن أنّ مقاله كان استعظاما لهذه النعمة الخارقة للعادة ، ثمّ لمّا عرف إبراهيم عليه‌السلام أنّهم ملائكة أرسلوا لأمر عظيم ﴿قالَ فَما خَطْبُكُمْ﴾ وما شأنكم ﴿أَيُّهَا﴾ الملائكة ﴿الْمُرْسَلُونَ ؟

قيل : إنّه علم من كثرتهم وبشارتهم لرفع خوفه أنّهم ارسلوا لأمر آخر غير البشارة (١)﴿قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا﴾ من قبل الله ﴿إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ كي نهلكهم بالعذاب لتناهيهم في الإجرام والطّغيان ﴿إِلَّا آلَ لُوطٍ﴾ وأهله المؤمنين ﴿إِنَّا﴾ والله ﴿لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ممّا يصيب قومه من العذاب ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ [ واسمها ] واهلة - كما قيل (٢) - فانّ ربّك قال : إنّا ﴿قَدَّرْنا﴾ وقضينا ﴿إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ﴾ والباقين في المدينة مع الكفار ، فيصيبها ما يصيبهم من العذاب لشركتها معهم في الكفر وإيذاء لوط.

﴿فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما

 كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ

 اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦١) و (٦٥)

﴿فَلَمَّا جاءَ﴾ لوطا و﴿آلَ لُوطٍ﴾ الملائكة ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ بالعذاب ﴿قالَ﴾ لهم لوط ﴿إِنَّكُمْ﴾ في هذه البلدان ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ لا يعرفكم أحد.

قيل : يعني أنكم لا في زيّ السفر ، ولا من أهل الحضر ، فأخاف أن تطرقوني بشرّ (٣) .

﴿قالُوا﴾ ما جئناك بما تنكرنا لأجله ﴿بَلْ جِئْناكَ بِما﴾ فيه سرورك ويشفي (٤) قلبك ، وهو العذاب الذي تتوعّد به قومك وهم ﴿كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ وفي وقوعه يشكّون ﴿وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ﴾ واليقين الذي لا مجال للريب فيه ﴿وَإِنَّا

والله ﴿لَصادِقُونَ﴾ في ما نخبرك به من العذاب.

قيل : إنّ المراد بالحقّ الإخبار بالعذاب ، وما بعده تأكيد له (٥) ، إذن ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ معدّ من المدينة ﴿بِقِطْعٍ﴾ وطائفة ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ وفي بعض منه ﴿وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ﴾ وكن من ورائهم لتسوقهم وتطلّع عليهم ﴿وَلا يَلْتَفِتْ﴾ ولا ينظر ﴿مِنْكُمْ﴾ إلى الوراء ﴿أَحَدٌ

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ٥٣٢ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٥.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٦.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٦.

(٤) في النسخة : وتشقي.

(٥) تفسير أبي السعود ٥ : ٨٤.

٥٤٩

قيل : إنّ النهي عن الالتفات كناية عن سرعة السير لاستلزام الالتفات الوقوف أو التواني (١) ، أو عن إيجاب التوطين على الهجرة ، أو عن قطع العلاقة عمّا خلّفوه ، أو عن الانصراف والتخلّف.

﴿وَامْضُوا﴾ واذهبوا إلى ﴿حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ من جانب الله بالمضيّ والذّهاب إليه.

عن ابن عباس : يعني الشام (٢) . وقيل : يعني مصر (٣) . وقيل : يعني حيث يقول لكم جبرئيل ، فانّه أمرهم ان يمضوا الى قرية قريبة لم يعمل أهلها مثل عمل أولئك القوم (٤) .

﴿وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ * وَجاءَ أَهْلُ

 الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللهَ وَلا

 تُخْزُونِ * قالُوا أَ وَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ * قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ

 فاعِلِينَ (٦٦) و (٧١)

ثمّ أخبر الله تعالى بأنّه بعد إخبار الملائكة لوطا بإهلاك قومه ، أوحى سبحانه إليه بلا واسطة الملك بتعذيب قومه بقوله : ﴿وَقَضَيْنا﴾ وأوحينا ﴿إِلَيْهِ﴾ بنحو البتّ ﴿ذلِكَ الْأَمْرَ﴾ الذي أخبرته الرسل به في شأن قومه ، وهو ﴿أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ﴾ الكفرة وعقبهم ﴿مَقْطُوعٌ﴾ بحيث لا يبقى منهم أحد بعذاب الاستئصال حال كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾ ووقت دخول الصبح عليهم.

ثمّ قيل : إنّ امرأة لوط أخبرت أهل سدوم (٥) بقدوم أضياف على لوط جرد مرد في غاية الحسن والجمال (٦)﴿وَ﴾ لذا ﴿جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾ إلى باب منزل لوط وهم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ويخبر بعضهم بعضا بأنّه نزل على لوط أضياف مرد وضاء الوجوه ، فلمّا أتوه وسألوه أن يسلّم إليهم أضيافه ليرتكبوا الفاحشة ﴿قالَ﴾ لوط : يا قوم ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ الشباب ﴿ضَيْفِي﴾ والنازلون عليّ في بيتي ﴿فَلا تَفْضَحُونِ﴾ بتفضيحهم ، ولا تبتلوني بالعار بالاساءة إليهم ، وعمل الفاحشة بهم ، فانّ من أهين ضيفه فقد اهينت نفسه.

﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوه في الاساءة إليّ والى ضيفي ، وفي ارتكاب الفحشاء بهم ﴿وَلا تُخْزُونِ﴾ ولا تذللوني ولا تخجلوني عندهم بارتكاب الفعلة الشّنيعة بهم ﴿قالُوا﴾ يا لوط ﴿أَ وَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ﴾ أن

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٨٤ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٦.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠١ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٦.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ٥٣٣ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٦.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠١.

(٥) سدوم : مدينة من مدائن قوم لوط ، كان قاضيها يقال له سدوم.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٧.

٥٥٠

تحامي أحدا من ﴿الْعالَمِينَ

قيل : إنّ التقدير ألم نقدم إليك ولم ننهك عن أن تمنع الغرباء عن تعرّضنا لهم (١) . ﴿قالَ﴾ لوط: ﴿هؤُلاءِ﴾ النسوة ﴿بَناتِي﴾ فتزوّجوهنّ وانصرفوا عن التعرّض لأضيافي ﴿إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ وطالبين لقضاء الشهوة ، فاقضوها فيما أحلّ الله لكم دون ما حرّم.

قيل : إنّ القوم كانوا يخطبون بناته ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفايتهم (٢) .

وقيل : إنّ المراد بنات القوم ، وأضافهنّ إلى نفسه لكون بنات الامّة بمنزلة بنات نبيها (٣) .

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنا

 عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ

 لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٢) و (٧٥)

ثمّ بيّن الله غاية شقاوتهم بقوله : ﴿لَعَمْرُكَ﴾ وحياتك يا حبيبي محمّد قسمي ﴿إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾ وشدّة شهوتهم التي أزالت عقولهم ، وفي غاية شقاوتهم وغوايتهم التي أعمتهم عن رؤية طريقة الرشد والصلاح ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ويتحيّرون ، فلم يؤثّر فيهم النّصح والارشاد إلى البنات أطيب من البنين ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم ﴿مُشْرِقِينَ﴾ وداخلين في وقت طلوع الشمس.

قيل : كان ابتداء العذاب - وهو قلع جبرئيل الأرض بهم ورفعها إلى السماء - أول الصبح ، ثمّ هوى بها إلى الأرض ، وكان ختمه - وهو الصيحة - أول طلوع الشمس (٤) .

﴿فَجَعَلْنا﴾ بعد قلع البلاد الخمسة أو السبعة ورفعها إلى قريب من السماء على جناح جبرئيل وقلبها عليهم ﴿عالِيَها سافِلَها﴾ وسافلها عاليها ، لكون هذا النحو من القلب أدخل في الهول والفضاعة ﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ﴾ من حين الرفع إلى تمام الانقلاب ﴿حِجارَةً﴾ كائنة ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ وطين متحجّر عليه اسم من رمى به على ما قيل (٥) . فهلكوا بأنواع من العذاب : الخسف والامطار بالحجارة والصيحة ، وقيل : إنّ مطر الحجارة كان على الغائبين من تلك البلاد (٦)﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من عصيان القوم لوطا وطغيانهم على الله وهلاكهم بعذاب الاستئصال وإنجاء لوط وأهله والله ﴿لَآياتٍ﴾ وأدلّة واضحة على وحدانية الله وكمال قدرته وعظمته ، وقهره على أعدائه ، ولطفه

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٥ : ٨٥ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٧.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٨٦ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٨.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٢ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٨٦.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٧٩.

(٥ و٦) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٠.

٥٥١

بأوليائه ، وإنما الانتفاع ﴿لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ والمتفرّسين ، ومن له ذكاء وجودة ذهن ، فانّهم يستنبطون كثيرا من العلوم والمعاني الدقيقة من المحسوسات والماديات (١) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتقوا فراسة المؤمن ، فانّه ينظر بنور الله ، وينطق بتوفيق الله » (٢) .

وعنه عليه‌السلام - في رواية - « أنّ لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم » ثمّ قرأ هذه الآية (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الآية : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتوسّم ، وأنا من بعده ، والأئمّة من ذريّتي المتوسّمون » (٤) .

وعنه أيضا ، في هذه الآية : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أتقّوا فراسة المؤمن » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « ليس مخلوق إلّا وبين عينية مكتوب ، [ أنّه ] مؤمن أو كافر ، وذلك محجوب عنكم ، وليس محجوبا عن الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام » (٦) .

﴿وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ * وَإِنْ كانَ أَصْحابُ

 الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ * فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٦) و (٧٩)

ثمّ استشهد سبحانه بوجود بلادهم وآثارهم بقوله : ﴿وَإِنَّها﴾ والله ﴿لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ وطريق ثابت يسلكه النّاس في مسافرتهم من مكة إلى الشام ، ويرون آثار تلك البلاد ، فانّها لم تندرس بعد ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من وجود آثارها والله ﴿لَآيَةً﴾ وعظة وهداية ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بالله ورسوله ، فانّهم الذين يعرفون أنّ ما حاق (٧) بهم من العذاب الذي ترك ديارهم بلاقع (٨) ، إنّما كان لسوء صنيعهم وطغيانهم على الله ورسوله.

ثمّ ذكر سبحانه قصة هلاك قوم شعيب بقوله : ﴿وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ﴾ على أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسول.

قيل : إنّ الأيكة ومدين واحد (٩) ، فانّ أطراف مدين كانت أرض ذات أشجار كثيرة ملتفّة بعضها ببعض ، وكانت عامة شجرهم المقل (١٠) .

__________________

(١) في النسخة : العاديات.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨١.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٥٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٨.

(٤) الكافي ١ : ١٧٠ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٨.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٤٣٥ / ٢٣٤١ ، الكافي ١ : ١٧٠ / ٣ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٨١ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٨.

(٦) بصائر الدرجات : ٣٧٤ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١١٨.

(٧) في النسخة : حلق ، والذي أثبتناه من روح البيان ٤ : ٤٨٠.

(٨) أي خالية من كلّ شيء.

(٩) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨١.

(١٠) المقل : حمل الدّوم ، وهو يشبه النّخل.

٥٥٢

عن ابن عباس : الأيكة شجر المقل (١) .

وقيل : إنّ الأيكة اسم مكان آخر غير مدين كثير الأشجار ، كانوا يسكنونها ، فبعث الله إليهم شعيب كما بعثه إلى مدين فكذّبوه (٢)﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾ وعاقبناهم على تكذيبهم شعيبا.

قيل : أهلك الله أهل مدين بالصيحة ، وأهل الأيكة بالنّار ، وذلك أنّ الله أرسل عليهم حرّا شديدا سبعة أيام ، فخرجوا ليستظلّوا بالشجر من شدّة الحرّ ، فجاءت ريح سموم بنار فأحرقتهم (٣) .

وقيل : بعث الله سحابة فالتجأوا إليها يلتمسون الرّوح ، فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم ، فهو عذاب يوم الظلّة (٤) .

وقيل : لمّا ذكر الله الأيكة ، دلّ بذكرها على مدين ، فجاء بضميرهما (٥) بقوله : ﴿وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ﴾ وطريق واضح لكم وللناس ، تمرون عليهما وترون آثار العذاب فيهما. وقيل : إنّ ضمير التثنية راجع إلى سدوم والأيكة (٦) .

﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها

 مُعْرِضِينَ * وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ

 مُصْبِحِينَ * فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٠) و (٨٤)

[ ثمّ ] ذكر الله قصّة قوم صالح بقوله : ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ﴾ وهم قوم ثمود ﴿الْمُرْسَلِينَ

قيل : الحجر اسم واد كانوا يسكنونه (٧) . وإنّما نسب سبحانه إليهم تكذيب جميع المرسلين ؛ لأنّ تكذيبهم صالحا تكذيب لجميع الرسل ، ولأنّهم كانوا من البراهمة المنكرين لجميع الرسل ، أو لأنّ المراد بالمرسلين جنس الرسل لا جميع أفرادهم ، كما يقال لمن أهان عالما : إنك موهن العلماء.

ثمّ ذمّهم سبحانه بذنب أعظم من تكذيب الرسل بقوله : ﴿وَآتَيْناهُمْ﴾ وأريناهم ﴿آياتِنا﴾ الكثيرة التي كانت في الناقة من خروجها من الصخرة ، وعظم جثّتها وظهور فصيلها عند خروجها ، وكثرة شربها ولبنها ﴿فَكانُوا عَنْها﴾ وعن النظر والتفكّر في جهات إعجازها ﴿مُعْرِضِينَ﴾ وبها غير معتنين.

﴿وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً﴾ ومساكن لأنفسهم حال كونهم ﴿آمِنِينَ﴾ من العذاب لغاية غفلتهم واغترارهم ، أو من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لغاية استحكامها ﴿فَأَخَذَتْهُمُ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٤.

( ٢و٤ ) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨١.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٤.

(٦) تفسير أبي السعود ٥ : ٨٧.

(٧) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٥ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٨٧.

٥٥٣

مع ذلك ﴿الصَّيْحَةُ﴾ التي صاح بها جبرئيل حال كونهم ﴿مُصْبِحِينَ﴾ بسبب تكذيبهم صالحا ، وإعراضهم عن الآيات ﴿فَما أَغْنى﴾ ولم ينفع في دفع العذاب ﴿عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ويحصّلون من البيوت الوثيقة والأموال الوفيرة والعدد المتكاثرة.

﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ

 فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٥) و (٨٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر ابتلاء الامم الماضية بالعذاب ، نبّه على المعاد الذي عذاب الكفار فيه أشدّ مع الدليل القاطع بقوله : ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا﴾ خلقا متلبّسا ﴿بِالْحَقِ﴾ والحكمة البالغة المستلزمة للمعاد ، وإلّا كان خلقهما عبثا ولعبا ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ﴾ والقيامة التي تجزى فيها الناس على قدر أعمالهم ، والله (١)﴿لَآتِيَةٌ﴾ فلا ينحصر عذاب العصاة بما ينزل بهم في الدنيا ، فإنّه بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في القيامة كنسبة لا شيء إلى كلّ شيء ، فاذا كان كذلك فلا تحزن يا محمّد بتأخير العذاب عن قومك مع كونهم مكذّبيك ، فانّ الله سينتقم من أعدائك ويجازيهم أسوأ الجزاء على إساءتهم إليك ﴿فَاصْفَحِ﴾ وأعرض عنهم ﴿الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ والإعراض المقرون بالحلم واحتمال آذاهم ولا تعجل في الانتقام منهم ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ اللطيف بك ﴿هُوَ الْخَلَّاقُ﴾ لك ولأعدائك ولسائر الموجودات ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالهم وأعمالهم وأحوالك ومعاملتك معهم من مكابدتهم ، والصبر على إساءتهم ، والصّفح عنهم ، فيجازيهم بأشدّ العذاب ، ويكرمك بأعلى الكرامات ويفضّلك على العالمين بأفضل المثوبات ، كما أكرمك في الدنيا بالنبوة ، وفضلك على العالمين بأن ختم بك الرسالة.

﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧)

ثم نبّه سبحانه بأفضل مننه عليه بقوله : ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ﴾ يا محمّد ، وأنزلنا عليك ﴿سَبْعاً مِنَ﴾ الآيات ﴿الْمَثانِي﴾ وهي فاتحة الكتاب ﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ الشأن.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ الله قال لي : يا محمّد ، ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب ، وجعلها بإزاء القرآن العظيم » (٢) .

__________________

(١) لا موضع للقسم في الآية.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٠٢ / ٦٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

٥٥٤

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « هي سورة الحمد ، وهي سبع آيات منها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(١) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عنها فقال : « فاتحة الكتاب » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام - في حديث - « زاد الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله السبع الطوال وفاتحة الكتاب ، وهي السبع المثاني » (٣) .

قيل : سمّيت بالمثاني لأنّها تقرأ بعدها السورة في الصلاة ويثنّى بها (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما سميّت مثاني لأنّها تثنّى في الرّكعتين » (٥) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام : « يثنّى فيها القول » (٦) . ولعلّ المراد منه ما قيل من أنّ كلماتها مثنّاة مثل ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ(٧) .

وقيل : لأنّ الفاتحة قسمت نصفين نصفها لله ، ونصفها للعبد ، فانّ نصفها ثناء العبد للربّ ، ونصفها عطاء الربّ للعبد (٨) .

وقيل : لأنّها نزلت مرتين : مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ، ومرّة بالمدينة (٩) .

وقيل : إنّ المثاني جميع القرآن وصفته ، لأنّه كرّر فيه الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، والثواب والعقاب والقصص (١٠) ، والفاتحة بعض منه.

أقول : هذا القول أظهر.

وقيل : إنّ المثاني مأخوذ من الثناء ، سميّت به الفاتحة لاشتمالها على الثناء على الله ، وهو حمده وتوحيده وملكه (١١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « نحن المثاني الذي أعطاه الله نبينا » (١٢) .

وقال الصدوق رحمه‌الله : أي نحن الذين قرننا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القرآن ، وأوصى بالتمسّك بالقرآن وبنا ،

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٩٩ / ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٤٣٧ / ٢٣٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٣) الاحتجاج : ٢١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٦.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٠٠ / ٧٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٤٣٧ / ٢٣٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٧) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٧.

(٨) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٦.

(٩) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٧.

(١٠) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٦.

(١١) تفسير الرازي ١٩ : ٢٠٧.

(١٢) تفسير القمي ١ : ٣٧٧ ، تفسير العياشي ٢ : ٤٣٧ / ٢٣٤٦ ، التوحيد : ١٥٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

٥٥٥

وأخبر أمّته أنّا لا نفترق حتّى نرد [ عليه ] حوضه (١) .

روي أنّ سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات - ليهود قريظة وأذرعات (٢) والنّضير - في يوم واحد مكة ، فيها أنواع من البزّ وأفاويه (٣) الطّيب والجوهر وأمتعه البحر. فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها وأنفقناها في سبيل الله ، فنزلت. وقال : قد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع قوافل (٤) .

وقيل : لمّا وردت قوافل قريش بمكة ، وكانت فيها مطاعم وملابس كثيرة ، خطر في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ المؤمنين جياع عراة ويكون للمشركين هذه الأموال الكثيرة فنزلت (٥) .

﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ

 جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَما أَنْزَلْنا عَلَى

 الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٨٨) و (٩١)

ثمّ لمّا عرّف الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم نعمه عليه ، نهاه عن الرغبة فيما بأيدي الناس من الأمتعة الدنيوية الفانية بقوله : و﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ ولا تلتفت بقلبك ﴿إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ﴾ من زخارف الدنيا وحطامها أصنافا من الكفّار و﴿أَزْواجاً مِنْهُمْ﴾ كاليهود والنصارى والمجوس والمشركين بعد ما أنعمنا عليك بالرسالة والعلم والحمكة والقرآن من النّعم التي عندها يستحقر جميع عالم الوجود.

عن ابن عباس : أي لا تتمنّ ما فضّلنا به أحدا من متاع الدنيا (٦) .

روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنّع وقرأ هذه الآية (٧) .

قيل : معنى عبست [ في أبوالها وأبعارها : هو ] أن تجفّ أبوالها وأبعارها على أفخادها إذا تركت من العمل [ أيام الربيع ، فتكثر ] شحومها ولحومها (٨) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينظر إلى ما يستحسن من [ متاع ] الدنيا (٩) .

ثمّ أنّه تعالى بعد النهي عن الالتفات إلى أموال الكفّار ، نهاه عن الالتفات إلى أنفسهم بقوله : ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ إذا لم يؤمنوا ، ولا يكن لهم في قلبك قدر ومنزلة.

__________________

(١) التوحيد : ١٥١ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٠.

(٢) ( وأذرعات ) ليست في المصادر.

(٣) البزّ : نوع من الثياب ، والأفاويه : نوافج الطيب ، والنوافج : الأوعية التي يوضع فيها الطيب. وقيل : الأفاويه : تطلق على ما يعالج به الطيب ، كما أن التوابل ما يعالج به الأطعمة.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٠ ، تفسير البيضاوي ١ : ٥٣٥ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٦.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٦.

( ٦و٩ ) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٠.

٥٥٦

وقيل : إنّ المراد لا تحزن على أتباعك ومصدّقيك لفقرهم (١)﴿وَاخْفِضْ جَناحَكَ﴾ وتواضع بنفسك ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بك المطيعين لأحكام ربك ، وإن كانوا أفقر الناس ، فانّ تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما يحبّون من الدنيا ﴿وَقُلْ﴾ للناس : ﴿إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ﴾ من عذاب الله ببيان أحكامه وشدّة عقابه على عصيانه ﴿الْمُبِينُ﴾ والموضّح لكم جميع ما أبلغكم ، وما يتعلّق بالمبدأ والمعاد ، وقل للمشركين : إنا ننزّل عليكم العذاب ﴿كَما أَنْزَلْنا﴾ من العذاب ﴿عَلَى﴾ اليهود ﴿الْمُقْتَسِمِينَ﴾ للقرآن بجعل ما وافق التوراة منه حقا ، وما لم يوافقه باطلا ، كما عن ابن عبّاس (٢) .

وقيل : اقتسامه بأن قال بعضهم استهزاء بالقرآن : هذه السورة لي ، وقال الآخر : هذه السورة لي ، أو قال بعضهم : إنّه سحر. وقال آخر : إنّه شعر ، وقال ثالث : إنّه كذب ، وقال رابع : إنّه أساطير. وقيل : إن المقتسمين قوم ثمود ، فانّهم تقاسموا لنبيّتنّه وأهله (٣) .

وعن ابن عباس بنقل آخر : هم الذين اقتسموا طريق مكّة يصدّون الناس عن الإيمان ، ويقرب عددهم من أربعين (٤) .

وقيل : كانوا ستة عشر [ رجلا ] بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها ، ويقولون لمن يسلكها : لا تغترّوا بالخارج منّا والمدّعي للنبوة فانه مجنون ، وكانو ينفّرون الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه ساحر أو كاهن أو شاعر ، والمعنى أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين (٥) ؛ وهم ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ وجزّءوه إلى سحر وشعر وكهانة وأساطير.

وعنهما عليهما‌السلام ، قالا : « هم قريش » (٦) . وقيل : يعني مفترى (٧) .

﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ

 عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ

 فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٢) و (٩٦)

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ سؤال توبيخ وتقريع ﴿عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من تكذيب الرسول والاستهزاء بكتابه.

ثمّ أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بترك المبالاة بالكفّار بقوله : ﴿فَاصْدَعْ﴾ واشتغل ﴿بِما تُؤْمَرُ﴾ من التبليغ جهارا ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٧.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٢ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٨٩.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٢.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ٢١١.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ٢١١.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٤٣٩ / ٢٣٥٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٢.

(٧) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٣.

٥٥٧

ولا تبال بكيد الأعداء ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ ولا تعتن بهم ﴿إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ بك وبكتابك ﴿الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ سوء عاقبة شركهم في الدارين.

قيل : كان المستهزئون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة نفر من المشركين : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعديّ بن قيس ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث. قال جبرئيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى عقب الوليد فمرّ بنبّال فتعلّق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظّما لأخذه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات ، وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة ، فقال : لذغت لدغت ، فانتفخت رجله حتّى صارت كالرّحا ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي ، وأشار إلى أنف عديّ بن قيس فأمتخط قيحا فمات ، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (١) .

وقال بعض العامة : إنّ الآيات نزلت في خمسة نفر ذوي شأن وخطر ، كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستهزاء به ، فأهلكهم الله في يوم واحد ، وكان إهلاكهم قبل بدر : منهم العاص بن وائل السّهمي والد عمرو بن العاص ، كان يخلج (٢) خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنفه وفمه ويسخر به ، فخرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له ، فنزل شعبا من تلك الشّعاب ، فلمّا وضع قدمه على الأرض قال : لدغت ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه ، ومنهم الحارث بن قيس ، أكل حوتا مالحا فأصابه العطش الشديد ، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدّ - أي انشقّ - بطنه ، فمات في مكانه ، ومنهم الأسود بن المطلب ، خرج مع غلام له فأتاه جبرئيل وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل جبرئيل ينطح رأسه على الشجرة ، وكان يستغيث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحد يصنع بك شيئا غير نفسك ، فمات مكانه ، وكان هو وأصحابه يتغامزون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واصحابه ويصغرون إذا رأوه ، ومنهم الأسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السّموم (٣) [ فاسودّ ] حتى صار كالفحم ، فأتى أهله فلم يعرفوه ، فأغلقوا دونه الباب ولم يدخلوه دارهم حتى مات (٤).

قيل : إنّه كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة : قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر ؛ وذلك لأنّ ثيابهم رثّه وعيشهم خشن. ومنهم الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد [ وعم أبي جهل ] خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السّهام ، فتعلق سهم في ثوبه ، فلم ينقلب لينحيّه تعظّما ، فأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه فأصاب السهم أكحله (٥) فقطعه ، ثمّ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ٢١٥.

(٢) خلج الشيء : حرّكه.

(٣) السموم : الريح الحارة.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٩١.

(٥) الأكحل : وريد في وسط الذراع.

٥٥٨

لم ينقطع الدم عنه حتى مات (١) ، وكان جميع ذلك في يوم واحد.

القمي رحمه‌الله ، قال : نزلت بمكة بعد أن نبّئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاث سنين ، وكان المستهزئون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن طلاطلة الخزاعي (٢) .

عن الصادق ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام : « فأمّا المستهزئون فقال الله : ﴿إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ فقتل الله خمستهم ، كلّ واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد ، فأمّا الوليد بن المغيرة فمرّ بنبل لرجل من خزاعة قد راشه (٣) ووضعه في الطريق ، فأصابته [ شظية ] منه فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمّد ، وأمّا العاص بن وائل السّهمي فانّه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده تحته حجر فسقط ، فتقطّع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد ، وأمّا الأسود بن عبد يغوث فانّه خرج يستقبل ابنه زمعة فاستظلّ بشجرة ، فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه : امنع هذا مني ، فقال : ما أرى أحدا يصنع شيئا إلّا نفسك ، فقتله وهو يقول : قتلني ربّ محمّد ، وأمّا الأسود بن المطّلب (٤) فانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليه أن يعمي [ الله ] بصره وأن يثكله ولده ، فلمّا كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع ، فأتاه جبرئيل بورقة خضراء ، فضرب بها وجهه فعمي ، وبقي حتى أثكله الله ولده ، وأمّا الحارث بن طلاطلة (٥) فإنّه خرج من بيته في السّموم فتحوّل حبشيا ، فرجع إلى أهله فقال : أنا الحارث ، فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول : قتلني ربّ محمّد»(٦).

وروي « أنّ الأسود بن عبد يغوث (٧) أكل حوتا مالحا فأصابه العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انشقّ بطنه ، فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد. كل ذلك في ساعة واحدة ، وذلك أنّهم كانوا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا : يا محمّد ، ننتظر بك إلى الظهر ، فان رجعت عن قولك وإلّا قتلناك ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منزله فأغلق عليه بابه مغتمّا لقولهم ، فأتاه جبرئيل عن الله في ساعته فقال : يا محمّد ، السّلام يقرئك السّلام ، وهو يقول : ﴿فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ يعني أظهر أمرك لأهل مكّة وادعهم إلى الإيمان. فقال : يا جبرئيل ، كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال : ﴿إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ قال : يا جبرئيل ، كانوا الساعة بين يدي ؟ قال : كفيتهم ، فأظهر أمره عند ذلك » (٨) .

وفي رواية : « فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام على حجر فقال : يا معشر قريش ، يا معشر العرب ، أدعوكم إلى

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤٩٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٣.

(٣) راش النبل : ركب عليه الريش.

(٤) في الاحتجاج : الأسود بن الحارث.

(٥) في الاحتجاج : الحارث بن أبي الطلالة.

(٦) الاحتجاج : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٣.

(٧) في الاحتجاج : الأسود بن الحارث.

(٨) الاحتجاج : ٢١٧ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٣.

٥٥٩

شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام ، فأجيبوني تملكوا بها العرب ، وتدين لكم العجم ، وتكونوا ملوكا في الجنّة ، فاستهزءوا منه ، وقالوا : جنّ محمّد بن عبد الله ، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « اكتتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ بمكة ] مختفيا خائفا خمس سنين لم يظهر أمره وعليّ عليه‌السلام معه وخديجة ، ثمّ أمره الله أن يصدع بما أمر [ به ] فظهر وأظهر أمره » (٢) .

وفي رواية : « ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر ، فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب ، فإذا أتاهم قالوا : كذّاب امض عنّا » (٣) .

﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ

 السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٧) و (٩٩)

ثمّ لمّا أشار الله سبحانه إلى جسارة القوم على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) وحبيبه وضيق صدره بمقتضى الطبيعة البشرية ، سلّاه بقوله : ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ﴾ ويحزن قلبك ﴿بِما يَقُولُونَ﴾ من التكذيب والاستهزاء والإهانه ، فانّ الالتفات الى أن المصائب بعين الله ومرآه من أقوى التسليات للمؤمن.

عن الصادق عليه‌السلام : « عليك بالصبر في جميع امورك ، فانّ الله عزوجل بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمره بالصبر والرّفق ... فصبر حتى نالوه بالعظائم ورموه بها ، فضاق صدره ، فأنزل الله عزوجل [ عليه ] : ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ(٥) .

ثمّ أمره الله بذكره الموجب لاطمئنان القلب ، والاستغراق في أنوار الربوبية ، والانصراف عن الدنيا ومصائبها بقوله : ﴿فَسَبِّحْ﴾ الله مقرنا له ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ وثنائه ﴿وَكُنْ مِنَ﴾ جملة ﴿السَّاجِدِينَ﴾ والمبالغين في الخضوع له ، أو من المصلين ، فانّ الفزع إلى الله بالسجود والصلاة يقرع الهمّ ويكشف الكرب ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ على أيّ حال كنت ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ والموت ، عن ابن عبّاس (٦) ، ولا تكن في آن من آنات عمرك متوانيا في القيام بوظائف العبودية.

الحمد لله الذي وفّقني لإتمام تفسير [ سورة ] الحجر.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٧٩ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٤.

(٢) كمال الدين : ٣٤٤ / ٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٤٤٠ / ٢٣٦٠ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٢.

(٤) في النسخة : جسارة القوم بنبيّه.

(٥) الكافي ٢ : ٧٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ١٢٤.

(٦) مجمع البيان ٦ : ٥٣٤ ، تفسير الرازي ١٩ : ٢١٦.

٥٦٠