نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

ثمّ أنّه حذّرهم الله من العقوبة على ترك النّظر بقوله : ﴿وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ قيل : إنّ المعنى : ألم ينظروا في أنّه يحتمل أن يكون موتهم قريبا ؛ فيموتون على الضّلال ويبتلون بالعذاب ، فإنّ العقل عند ذلك حاكم بوجوب المسارعة في النّظر وتحقيق الحقّ ، كي يأمنوا من العذاب قبل موتهم.

فإذا لم يكتفوا في تحقيق الحقّ بالقرآن ، ولم يؤمنوا به مع اشتماله على البراهين المتقنة على التّوحيد والرّسالة والمعاد ، مع إعجاز البيان ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ وكلام أو كتاب ﴿بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ مع أنّه لا يمكن أن يكون حديث أبين للحقّ وأحسن منه ، فإذا لم يؤمنوا به فلا يرجى منهم الإيمان أبدا.

﴿مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ الذين لا يؤمنون بالقرآن لا يؤمنون بغيره من الكتب السماويّة ، بيّن غاية ضلالتهم بقوله : ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ عن سبيل الحقّ ، ويحرفه عنها إلى الباطل بسلب توفيقه عنه ، وإيكاله إلى نفسه ﴿فَلا هادِيَ لَهُ﴾ من الأنبياء والرّسل ، لعدم تأثير المواعظ والكتب السماويّة في هدايته ﴿وَيَذَرُهُمْ﴾ ويتركهم ﴿فِي﴾ حال ﴿طُغْيانِهِمْ﴾ ومشاقّتهم مع الله والرّسول وهم ﴿يَعْمَهُونَ﴾ ويتجبّرون في جميع شؤونهم ، لا يصلون إلى خير أبدا.

﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها

 إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ

 عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عدم علمهم بوقت الموت لإيجاب المسارعة في تحصيل الدّين الحقّ ؛ لئلا يدركهم الموت وهم على الباطل ، بيّن جهل جميع الخلق أيضا بوقت قيام الساعة ، واختصاص العلم به بذاته المقدّسة بقوله : ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾ يا محمّد ﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾ والقيامة ﴿أَيَّانَ مُرْساها﴾ وأيّ وقت يكون إتيانها واستقرارها ؟ .

عن ابن عبّاس : أنّ قوما من اليهود قالوا : يا محمّد ، أخبرنا متى السّاعة إن كنت نبيّا ، فإنّا نعلم متى هي ؟ وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم بأنّه تعالى استأثر بعلمها ، فنزلت (١) .

وقيل : إنّ قريشا قالوا : يا محمّد ، إنّ بيننا وبينك قرابة ، فاذكر لنا متى السّاعة ؟ فنزلت (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٨٠.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ٨٠.

٤١

وعن القمّي : أنّ قريشا بعثت العاص بن وائل السّهمي ، والنّضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط إلى نجران ، ليتعلّموا من علماء اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان فيها : سلوا محمّدا متى تقوم الساعة ، فإن ادّعى علم ذلك فهو كاذب ، فإنّ قيام السّاعة لم يطلع الله عليه ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا ، فلمّا سألوه نزلت (١) .

﴿قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ استأثر به ، لم يطلع عليه أحدا من خلقه وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيّا مرسلا ﴿لا يُجَلِّيها﴾ ولا يظهرها ﴿لِوَقْتِها﴾ وفي زمانها أحد ﴿إِلَّا هُوَ﴾ تعالى شأنه ، وإنّما يعلمها غيره تعالى حين وقوعها ، فإذا وقعت ﴿ثَقُلَتْ﴾ وعظمت ﴿فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ على أهلهما من الملائكة والجنّ والإنس ، لشدّة أهوالها ، وعظم ما فيها من الشدائد.

وقيل : لأنّ فيها فناءهم وهلاكهم. وقيل : ثقيل على قلوبهم لأنّهم يعلمون أنّهم يصيرون فيها إلى البعث والحساب والسّؤال (٢) .

وقيل : ثقلت وقعتها على السّماوات ؛ لأنّ عندها تشقّقت السّماوات ، وتكوّرت الشّمس والقمر ، وانتثرت النّجوم ، وثقلت على الأرض ؛ لأنّ فيها تبدّل الأرض غير الأرض ، وتبطل الجبال والبحار (٣) .

وقيل : يعني خفيت في السّماوات والأرض ؛ أي لا يعلم أحد من الملائكة الأقربين والأنبياء المرسلين متى يكون وقوعها (٤) .

ثمّ أنّه أكّد سبحانه خفاءها على غيره بقوله : ﴿لا تَأْتِيكُمْ﴾ أيّها النّاس ﴿إِلَّا بَغْتَةً﴾ وفجأة وعلى حين غفلة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ السّاعة تفجأ النّاس ، فالرّجل يصلح موضعه ، والرّجل يسقي ماشيته ، والرّجل يقوم بسلعته في سوقه ، والرّجل يخفض ميزانه ويرفعه » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفس محمّد بيده ، لتّقومنّ السّاعة وإنّ الرّجل ليرفع اللّقمة إلى فيه حتى تحول السّاعة بينه وبين ذلك » (٦) .

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة سؤالهم بقوله : ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾ عن السّاعة ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌ﴾ ومبالغ في السؤال ﴿عَنْها﴾ شديد الطلّب لمعرفتها حتّى علمتها ، أو كأنّك بارّ لطيف بهم بحيث لا تمنعهم من علمها.

ثمّ بالغ تعالى في جهل غيره بها بقوله : ﴿قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ﴾ لم يعلم بها أحدا من خلقه

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٤٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٥٨.

( ٢ و٣ و٤ ) . تفسير الرازي ١٥ : ٨١.

(٥ و٦) . تفسير الرازي ١٥ : ٨١.

٤٢

﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ اختصاص علمها ، أو سبب اختصاص علمها به.

﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ

 لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ

 يُؤْمِنُونَ (١٨٨)

ثمّ لمّا كان النّاس يطلبون منه الإخبار بالمغيّبات وإعطاءهم الأموال الكثيرة والدّولة العظيمة ، أمره الله بإظهار قصور قدرته الذاتيّة ، وعدم علمه بالمغيّبات إلّا بإعلام الله ، بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : ﴿لا أَمْلِكُ﴾ ولا أقدر ﴿لِنَفْسِي﴾ على أن أجلب ﴿نَفْعاً﴾ من المنافع الدّنيويّة والاخرويّة ﴿وَلا﴾ على أن أدفع ﴿ضَرًّا﴾ وشرّا من المضار والشّرور ﴿إِلَّا ما شاءَ اللهُ﴾ أن أملكه منهما ، ولا علم لي بشيء منهما إلّا بإعلامه تعالى.

قيل : إنّ المراد : ولكن ما شاء الله منهما كائن.

فمن كان بهذه الدّرجة من العجز والجهل الذاتّيين ، كيف يعلم وقت قيام السّاعة ؟ وكيف يقدر على إخباركم به من قبل نفسه ؟

﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ ولا زددت في قوتي ومالي وصحّتي القمّي : كنت أختار لنفسي الصحّة والسّلامة (١)﴿وَما مَسَّنِيَ﴾ وما أصابني ﴿السُّوءُ﴾ من الفقر - كما عن الصادق عليه‌السلام (٢) - أو المكاره من العدو والفقر والمرض وغيرها ، بل ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا﴾ عبد أرسلني الله إليكم ؛ والرّسول ﴿نَذِيرٌ﴾ ومحذر من الكفر ومخالفة أحكام الله ﴿وَبَشِيرٌ﴾ بثواب الله ورحمته ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بالله وبرسالتي ، فإنّهم المنتفعون بمواعظي.

ومن شأن النّذير والبشير العلم بأحكام الله وما يرضيه ويسخطه ، وما يترتّب على طاعته ومخالفته ، لا العلم بالمغيّبات التي لا نفع فيها.

روي أنّ أهل مكّة قالوا : يا محمّد ، ألا يخبرك ربّك بالرّخص والغلاء حتى نشري فنربح ، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة ، فنزلت (٣) .

وقيل : لمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة بني المصطلق ، جاءت ريح في الطريق فتفرق (٤) الدوابّ منها ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بموت رفاعة في المدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، ثمّ قال : انظروا أين ناقتي ؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٥٨.

(٢) معاني الأخبار : ١٧٢ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٥٨.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ٨٣.

(٤) في تفسير الرازي : ففرت.

٤٣

فقال عبد الله بن ابيّ مع قومه : ألا تعجبون من هذا الرّجل ، يخبر بموت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته ؟ ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشّعب قد تعلّق زمامها بشجرة » ، فوجدوها على ما قال (١) .

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا

 تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا

 صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما

 آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)

ثمّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ادّعاء الرّسالة دعا النّاس إلى التّوحيد بالبرهان القاطع بقوله : ﴿هُوَ﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ جميعا بقدرته ﴿مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وهو آدم ﴿وَجَعَلَ﴾ وأنشأ من ضلع ﴿مِنْها زَوْجَها﴾ حوّاء ﴿لِيَسْكُنَ﴾ آدم ويطمئنّ ﴿إِلَيْها﴾ اطمئنانا مصحّحا للازدواج ، ويستأنس بها ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاها﴾ وجامعها ﴿حَمَلَتْ﴾ وحبلت (٢) في البدء ﴿حَمْلاً خَفِيفاً﴾ بحيث لم تكترث به ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ وتحرّكت بالقيام والقعود ، والذّهاب والإياب ، بسهولة وراحة كما كانت قبله ، [ كما ] قيل(٣) .

﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾ حوّاء لكبر الجنين في بطنها ، استوحشت حواء واستوحش آدم من مآل الحمل الذي لم يعهداه ، فلذا ﴿دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما﴾ وتضرّعا إليه وقالا : يا ربّ ، وعزّتك ﴿لَئِنْ آتَيْتَنا﴾ وأعطيتنا ولدا ﴿صالِحاً﴾ سويّا في الخلقة ، أو في أمر الدّين ، أو فيهما ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لك هذه النّعمة الجليلة الجديدة.

قيل : لمّا رأى آدم حين أخذ الميثاق على ذريّته أنّ منهم سويّ الأعظاء ومنهم غير سويّ ، وأنّ منهم التقيّ ومنهم غير التقيّ ، سألا أن يكون هذا الولد سويّ الأعضاء تقيّا نقيّا من المعصية ﴿فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

عن ابن عبّاس قال : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وهي نفس آدم ، ﴿وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها﴾ أي حوّاء خلقها [ الله ] من ضلع آدم من غير أذى ، ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاها﴾ آدم ﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ... فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾ أي ثقل الولد في بطنها ، أتاها إبليس في صورة رجل وقال : ما هذا يا حوّاء ؟ إنّي أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة ، وما يدريك من أين يخرج ، أمن دبرك فيقتلك ، أو تنشقّ بطنك ؟ فخافت حوّاء

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٨٣.

(٢) في النسخة : وأحبلت.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٤.

٤٤

وذكرت لآدم ذلك ، فلم يزالا في همّ من ذلك. ثمّ أتاها وقال : إن سألت الله أن يجعله صالحا سويّا مثلك ويسهّل خروجه من بطنك تسمّيه عبد الحارث ؛ وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذلك قوله تعالى : ﴿فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما﴾ أي لمّا آتاهما الله ولدا سويّا صالحا جعلا له شركاء ، أي جعل آدم وحوّاء له شريكا ، والمراد به الحارث (١) .

أقول : فيه ما لا يخفى من الإشكال.

وقيل : إن ضمير ( جعلا ) راجع إلى صنفين من أولاد آدم وحوّاء ؛ الذّكور والإناث ، وكذا ضمير التّثنية في قوله : ﴿فِيما آتاهُما(٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام أنّه قال له المأمون : يابن رسول الله ، أ ليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : « بلى » ، قال : فما معنى قول الله عزوجل : ﴿فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما؟

فقال الرضا عليه‌السلام : « إنّ حوّاء ولدت لآدم خمسمائة بطن ، في كلّ بطن ذكر وأنثى ، وإنّ آدم وحوّاء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا : ﴿لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً﴾ من النّسل خلقا سويا بريئا من الزّمانة والعاهة ، كان ما آتاهما صنفين [ صنفا ذكرانا ، و] صنفا إناثا ، فجعل الصّنفان لله شركاء فيما آتاهما ، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزوجل ، قال الله عزوجل : ﴿فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ . فقال المأمون : أشهد أنّك ابن رسول الله (٣) .

وقيل : إنّ الآية ردّ على المشركين القائلين بأنّ آدم كان يعبد الأصنام ويرجع في الخير والشّر إليهما (٤) . وقوله : ﴿جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ﴾ في معنى الاستفهام الإنكاري ، والمراد : ما جعلا له شركاء (٥) ، وقوله : ﴿فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين القائلين بالشّرك ، وينسبونه إلى آدم عليه‌السلام (٦) .

وقيل : إنّ آدم وحوّاء جعلا على أنفسهما إن آتاهما الله صالحا أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديّته على الإطلاق ، ثمّ بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته (٧) ، فلهذا قال تعالى : ﴿فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ

عن الباقرّ عليه‌السلام : « هما آدم وحوّاء ، وإنّما كان شركهما شرك طاعة وليس شرك عباده » (٨) .

وقيل : إنّ الله تعالى ذكر هذه القصّة على طريق ضرب المثل ، وتقريره كأنّه تعالى يقول : هو الذي

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٨٥.

(٢) راجع : تفسير الرازي ١٥ : ٨٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٦ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٥٩.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ٨٧.

(٥) في تفسير الرازي : التقدير : فلمّا آتاهما صالحا أجعلا له شركاء.

(٦) تفسير الرازي ١٥ : ٨٧.

(٧) تفسير الرازي ١٥ : ٨٨.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ١٧٧ / ١٦٦٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٥٩.

٤٥

خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويها في الإنسانيّة ، فلمّا تغشّى الزّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزّوج والزّوجة ربّهما : لئن آتيتنا ولدا صالحا سويّا لنكوننّ من الشّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمّا آتاهما الله ولدا صالحا سويا ، جعل الزوج والزّوجة لله شركاء فيما آتاهما ، فتارة ينسبون هذا الولد إلى الطّبائع كقول الطبائعيّين ، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين ، وتارة إلى الأصنام كما هو قول عبدة الأصنام ، ثمّ قال تعالى : ﴿فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزّه الله عن ذلك الشّرك (١) .

وقيل : إن المراد من النفس الواحدة وزوجها غير آدم وحوّاء ، بل المراد منها قصيّ ، والخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجعل من جنسها زوجها قرشية ليسكن إليها ، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصّالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما ، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد اللّات ، وجعل الضمير في ( يشركون ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشّرك (٢) .

وفيه : أنّ آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم كانوا موحّدين.

﴿أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)

ثمّ وبّخ الله المشركين على عبادة الجماد العاجز من كلّ شيء بقوله : ﴿أَ يُشْرِكُونَ﴾ هؤلاء الجهّال بالله في الالوهيّة والعبادة ﴿ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً﴾ من الأشياء ولو كان في غاية القلّة والحقارة ، مع أنّ المستحقّ للعبادة لا بدّ أن يكون خالق عابده.

ثمّ أكّد عدم استحقاق الأصنام للعبادة بقوله : ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ بقدرة الغير ، والمخلوقيّة في غاية المباينة مع الالوهيّة واستحقاق العبادة.

قيل : إن إتيان الضمير الراجع إلى العقلاء للأصنام إنّما هو باعتقاد المشركين ، فإنهم كانوا يصوّرونها بصورة العقلاء ويزعمون أنّها تدرك وتشعر.

﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا

 يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٢) و (١٩٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد سلب القدرة على الخلق عنها ، نفى عنها القدرة على إيصال النّفع لعبدتها بقوله:

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٨٧.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ٨٧.

٤٦

﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ إذا طرأ على عبدتها أمر مهمّ ﴿لَهُمْ﴾ جزاء لعبادتها ﴿نَصْراً﴾ وإعانة بجلب نفع أو دفع ضرر ، بل ﴿وَلا أَنْفُسَهُمْ﴾ إذا أصابهم سوء ﴿يَنْصُرُونَ﴾ بدفع ما يعتريها من السّوء ، كما إذا أراد أحد كسرها أو لطخها بالألواث.

قيل : إنّ المشركين كانوا يلطّخون أفواه أصنامهم بالخلوق (١) والعسل ، [ وكان ] يجتمع عليها الذّباب ، فلا تقدر على دفع الذّباب عن أنفسها (٢) .

ثمّ بالغ سبحانه في سلب أهليّة الأصنام للعبادة بسلب الحياة والشّعور منها ، وأهليّتها لكونها تابعة لعبدتها فيما هو صلاحها ، بقوله : ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿إِلَى﴾ شيء من ﴿الْهُدى﴾ والصواب ﴿لا يَتَّبِعُوكُمْ﴾ ولا يوافقوكم في مرادكم لعدّم حياتهم وشعورهم وعلمهم بدعوتكم.

ثمّ أكّد سبحانه ذلك بقوله : ﴿سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ ولا تفاوت في حقّكم ﴿أَ دَعَوْتُمُوهُمْ﴾ إلى إنجاح حوائجكم ، أو إلى ما فيه صلاحكم وخيركم ﴿أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾ وساكتون عن دعوتها.

قيل : إنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في أمر مهمّ ومعضل تضرّعوا إلى الأصنام ، فإذا لم يحدث منها في تلك الواقعة شيء بقوا ساكتين ، فقيل لهم : لا فرق بين دعائكم وبين أن تستمرّوا في صمتكم (٣) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)

ثمّ بالغ سبحانه في بيان عدم صلاحية الأصنام للعبادة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ وتعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ، على فرض حياتهم وشعوهم كما تعتقدون ﴿عِبادٌ﴾ لله ﴿أَمْثالُكُمْ﴾ مملوكون مسخّرون تحت قدرة خالقهم ، والحال أنّها جمادات لا شعور لها ﴿فَادْعُوهُمْ﴾ إلى كشف مضارّكم وقضاء حوائجكم ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ دعاءكم ، ويقضوا ﴿لَكُمْ﴾ حوائجكم ، ويكشفوا عنكم مضارّكم ، ويدفعوا عنكم الشّدائد والبلايا ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تدعون من كونهم أحياء شاعرين قادرين ، فإن ثبت كونها فاقدات للحياة والشّعور ، عاجزات عن إبصال النّفع ، فلا يجوز بحكم العقل عبادتها والالتفات إليها.

﴿أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ

 لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ

__________________

(١) الخلوق : ضرب من الطّيب أعظم أجزائه الزّعفران.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٥.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ٩١.

٤٧

اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٥) و (١٩٦)

ثمّ نبّه سبحانه على أن الأصنام أدون من الإنسان ، بل من سائر الحيوانات ، ولا يجوز عبادة الأشرف للأدون ، بقوله تقريرا لهم : ﴿أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ كما أنّها لكم ، بل لسائر الحيوانات ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ﴾ ويعملون أو يأخذون ﴿بِها﴾ ما يريدون عمله أو أخذه ، كما أنّ لكم أيديا كذلك ﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ﴾ المبصرات ﴿بِها﴾ كما أنّ للحيوانات أعينا كذلك ﴿أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ﴾ الأصوات ﴿بِها﴾ كما أنّ للحيوانات آذانا كذلك ، فإذا لم يكن للأصنام هذه الجوارح الحيّة الفاعلة التي تكون لكم بل لسائر الحيوانات ، فأنتم بل سائر الحيوانات أفضل وأشرف منها ، ولا يجوز عبادة الأفضل والأشرف للمفضول والأوضع.

ثمّ لمّا كان المشركون يخوّفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بآلهتهم ، أمره بأن يعلن بعدم قابليّتها لأن يخاف منها بقوله : ﴿قُلِ﴾ يا محمّد ، للمشركين : ﴿ادْعُوا﴾ الأصنام التي تعتقدون أنّها ﴿شُرَكاءَكُمْ﴾ في أموالكم ، وأنها أنداد لله في الالوهيّة ليعينوكم على الإضرار بي ﴿ثُمَ﴾ أنتم وشركاؤكم ﴿كِيدُونِ﴾ واسعوا فيما تقدرون عليه من الإساءة إليّ ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ ولا تمهلوني ساعة فإنّي لا ابالي بكم.

﴿إِنَّ وَلِيِّيَ﴾ وناصري عليكم ، وحافظي من كلّ سوء هو ﴿اللهُ﴾ الواحد القادر القاهر حيث إنّه ﴿الَّذِي﴾ أكرمني بأن ﴿نَزَّلَ﴾ عليّ ﴿الْكِتابَ﴾ العزيز ، وأوحى إليّ القرآن المجيد ﴿وَهُوَ﴾ بلطفه ﴿يَتَوَلَّى﴾ وينصر ﴿الصَّالِحِينَ﴾ من عباده على أعدائهم فضلا عن أنبيائه ، فكيف يخذلني بينكم ؟

﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ

 تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ

 لا يُبْصِرُونَ (١٩٧) و (١٩٨)

ثمّ بالغ في إظهار عدم المبالاة بأصنامهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ وتعبدونهم ممّا سوى الله و﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أيّها المشركون بالغون من العجز إلى الغاية ، حيث إنّهم ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ على أحد ، ولا يقدرون على إعانتكم في أمر ، بل و﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ إن تأتيهم نائبة ﴿يَنْصُرُونَ﴾ بدفعها.

ثمّ أنّه تعالى بعد نفي الحواسّ والقوى عن الأصنام ، نفاهما عن جميع المشركين لتأمين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين عن إساءتهم إليهم بقوله : ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ أيّها الرّسول والمؤمنون ﴿إِلَى الْهُدى﴾ وما فيه خيرهم من الإقرار بدين الحقّ لا يهتدوا ، كأنّهم ﴿لا يَسْمَعُوا﴾ دعاءكم فضلا عن أن يكيدوا بكم ويتعاونوا على الإضرار عليكم ﴿وَتَراهُمْ﴾ يا محمّد أنّهم ﴿يَنْظُرُونَ﴾ بأعينهم ﴿إِلَيْكَ وَهُمْ﴾ عمي

٤٨

قلوبهم ، ولعدم (١) انتفاعهم برؤية أبصارهم كأنّهم ﴿لا يُبْصِرُونَ

وقيل : إنّ ضمائر الجمع كلّها راجعة إلى الأصنام ، والمراد المبالغة في عجزها وعدم استفادة المشركين بالاستعانة منها في الإساءة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى : إن تدعوا أيّها المشركون أصنامكم إلى أن يهدوكم إلى إمدادكم في تحصيل مقاصدكم لا يسمعوا دعاءكم ، وترى أيّها الرّائي وتتخيّل أنّ الأصنام ينظرون إليك - لما أنّ المشركين صنعوا لها أعينا مركّبة من الجواهر المضيئة المتلألئة ، وصوّروها بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه - والحال أنّهم لا يبصرون ، فلا سمع لهم ولا بصر.

﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)

ثمّ لمّا أمّن الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله من كيد المشركين مع كونهم مهدّدين له ومسيئين إليه ، أمره الله بالعفو عنهم والمداراة معهم بقوله : ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ عمّن أساء إليك ، ولا تجاوزه بالسّوء ، ولا تغلظ عليه ، وعاشر بحسن الخلق ، والتزم به.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله [ أنّه ] سأل جبرئيل : « ما الأخذ بالعفو ؟ » فقال : لا أدري حتّى أسأل ، ثمّ رجع فقال : يا محمّد ، إنّ ربّك أمرك أن تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك ، وتحسن إلى من أساء إليك (٢) .

وقيل : إنّ المراد : اقبل من أفعال النّاس ما سهل عليهم ، ومن أموالهم ما تيسّر لهم ، ولا تحمل عليهم الكلفة ، ولا تطلب منهم ما يشقّ عليهم (٣) .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال لرجل من ثقيف : « إيّأك أن تضرب مسلما أو يهوديّا أو نصرانيّا في درهم خراج ، أو تبيع دابّة عمل في درهم ، فإنّا امرنا أن نأخذ منه العفو » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله أدّب رسوله بذلك ، أي خذ منهم ما ظهر وتيسّر » . قال : « والعفو : الوسط » (٥) .

﴿وَأْمُرْ﴾ يا محمّد امّتك ﴿بِالْعُرْفِ﴾ وبالجميل من الأفعال ، والحميد من الأخلاق. ويدخل فيه غضّ البصر عن المحارم ، وكفّ الجوارح عن المآثم ، والقيام بالواجبات والمستحبّات ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ﴾ سيّئات ﴿الْجاهِلِينَ﴾ والسّفهاء ، ولا تمارهم ولا تكافئهم بمثل سفههم.

عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمداراة النّاس فقال : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَن

__________________

(١) في النسخة : وعدم.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ٩٦ ، تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٨.

(٣) تفسير الصافي ٢ : ٢٦٠.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٣ / ٣٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦١.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ١٧٨ / ١٦٦٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦١.

٤٩

الْجاهِلِينَ(١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها » (٢) .

وعن سعيد بن هشام قال : دخلت على عائشة فسألتها عن أخلاق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، فقالت : [ كان ] خلق رسول الله القرآن ، وإنّما أدّبه بالقرآن بمثل قوله تعالى : ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ﴾ وقوله : ﴿وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(٣) ، وقوله : ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ(٤) .

﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)

ثمّ أنّه روي أنّه لمّا نزلت الآية (٥) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كيف يا ربّ والغضب » ؟ فنزل ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ(٦) ويبعثنّك إلى الشرّ ﴿مِنَ﴾ قبل ﴿الشَّيْطانِ﴾ وبوسوسته ﴿نَزْغٌ﴾ وباعث ، ويهيّجك سفية بإظهار سفهه ﴿فَاسْتَعِذْ﴾ والتجئ ﴿بِاللهِ﴾ من شرّ الشّيطان ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ﴾ يسمع استعاذتك والتجاءك به ﴿عَلِيمٌ﴾ يعلم حالك وما فيه صلاحك. وهذا من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، حيث إنّ الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقصود امّته.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رآى رجلا يخاصم أخاه قد أحمرّ وجهه وانتفخت أوداجه من الغضب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشّيطان ، لذهب عنه ما يجد » (٧) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ *

 وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠١) و (٢٠٢)

ثمّ بيّن الله حال عباده المتّقين ترغيبا لغيرهم إلى الاستعاذة ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الله وخافوا عقابه ﴿إِذا مَسَّهُمْ﴾ وأصابهم ﴿طائِفٌ﴾ ونازلة خفيفة ﴿مِنَ﴾ وسوسة ﴿الشَّيْطانِ﴾ واقتربوا من الوقوع في الشرّ والعصيان ﴿تَذَكَّرُوا﴾ وأشعروا قلوبهم عظمة الله وشدّة عقابه ، أو الاستعاذة به والتوكّل عليه ﴿فَإِذا هُمْ﴾ بسبب هذا التذكّر ﴿مُبْصِرُونَ﴾ مكائد الشّيطان ، وطريق السّلامة من شرّه

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ / ٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦١.

(٢) جوامع الجامع : ١٦٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦١.

(٣) لقمان : ٣١ / ١٧.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٨ ، والآية من سورة المائدة : ٥ / ١٣.

(٥) أي الآية المتقدمة.

(٦) تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٨.

(٧) تفسير روح البيان ٣ : ٢٩٩.

٥٠

فيسلكونه.

القمّي : إذا ذكّرهم الشّيطان المعاصي وحملهم عليها يذكرون اسم الله ، فإذا هم مبصرون (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو العبد يهمّ بالذّنب ، ثمّ يتذكّر فيمسك » (٢) .

ويمكن أن [ يكون ] المراد من الطّائف جمعا من الشياطين يطوفون حوله ويوسوسون في قلبه ، ففيه مدحهم بقوة العقل بحيث لا يقدر على مسّهم ، والشيطان واحد.

وأمّا أتباع الشّياطين ﴿وَإِخْوانُهُمْ﴾ من الإنس ؛ وهم الّذين لا يتّقون ، يعينون الشّياطين ، و﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ﴾ وإضلال النّاس ، وإيقاعهم في المعاصي بالتّزيين والتّرغيب إليها ، أو المراد أنّ الشّياطين يمدّون إخوانهم وأتباعهم من الإنس في الغيّ والضّلال ﴿ثُمَ﴾ الشّياطين وإخوانهم ﴿لا يُقْصِرُونَ﴾ ولا يسأمون من عملهم ، بل يجدّون في الغيّ غايته.

﴿وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا

 بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه سعي الشّياطين وأتباعهم من الإنس في الغيّ والإضلال ذكر نوعا من إضلالهم بقوله : ﴿وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ من القرآن أو ممّا اقترحوها عليك وسألوها تعنّتا عنك ، ولم تجبهم إلى ما سألوا ﴿قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها﴾ وهلّا فعلتها بنفسك أو باقتراحك على ربّك إن كنت صادقا في دعوى نبوّتك ؟ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ ولا أقترح عليه أمرا من الامور ، ولا أسأله شيئا إلّا بإذنه ، ولا اقدم على عمل إلّا بإجازته ، فإن كان غرضكم من سؤال المعجزة ثبوت نبوّتي فإنّه يكفيكم ﴿هذا﴾ القرآن الذي هو أعظم المعاجز ، حيث يكون فيه ﴿بَصائِرُ﴾ وأدلّة واضحة على صدقي ، نازلة إليكم ﴿مِنْ رَبِّكُمْ وَ﴾ يكون لكم ﴿هُدىً﴾ ورشادا إلى كلّ حقّ وخير ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ وتفضّل عليكم منه ، ولكن يكون نفعه المهمّ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ به ؛ لأنّهم المتدبّرون فيه ، المستفيدون منه العلوم والمعارف والسّعادة الأبدية ، وما فيه صلاح دنياهم وعقباهم.

﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)

ثمّ أنه تعالى بعد بيان إعجاز القرآن ومنافعه ، أمر بالاستماع والإنصات له حين تلاوته بقوله : ﴿وَإِذا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٥٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٢.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٧٨ / ١٦٧١ ، الكافي ٢ : ٣١٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٢.

٥١

قُرِئَ الْقُرْآنُ﴾ بمسمع منكم ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ بآذانكم وقلوبكم ﴿وَأَنْصِتُوا﴾ له حين قراءته ، ولا تتكلّموا بشيء تعظيما له وتكميلا للسّماع ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ تفوزون بأعظم فوائده ومنافعه و﴿تُرْحَمُونَ﴾ بالرّحمة الخاصّة الإلهيّة.

عن ابن عبّاس قال : كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلّمون في الصّلاة ، ويأمرون بحوائجهم ، ويأتي الرجل الجماعة وهم يصلّون فيسألهم : كم صلّيتم ، وكم بقي ؟ فيقولون : كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم بالإنصات عند الصّلاة ، فاريد من قراءة القرآن الصلاة لكونها معظم أجرائها (١) .

وعنه أيضا قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصّلاة المكتوبة ، وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه ، فنزلت الآية (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئا في الاوليين ، وأنصت لقراءته ، ولا تقرأنّ شيئا في الأخيرتين ، فإنّ الله يقول (٣) : ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ﴾ يعني في الفريضة ، خلف الإمام ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ والأخيرتان تتبع للأوليين » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا كنت خلف إمام تتولّاه وتثق به فإنّه يجزيك قراءته ، وإن أحببت أن تقرأ فاقرأ فيما يخافت به ، فإذا جهر فأنصت ، قال الله تعالى : ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(٥) » .

وعن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك (٦) » .

أقول : فيه دلالة على اجتماع الإنصات مع الذّكر الخفيّ ، فعلم أنّ في الجماعة يجب الإنصات لقراءة الإمام ، وأمّا في غير الجماعة فلا إشكال في استحبابه ، و[ أمّا ] الصلاة خلف الإمام غير المرضيّ فحكمه حكم غير الجماعة.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الرّجل يؤمّ القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة ، فقال : « إذا سمعت كتاب الله يتلى فأنصت له » . قيل : فإنّه يشهد عليّ بالشّرك ، قال : « إن عصى الله فأطع الله » . فرددت عليه فأبى أن يرخّص لي. قيل : اصلّي إذن في بيتي ثمّ أخرج إليه ، فقال : « أنت وذاك » .

وقال : « إنّ عليّا عليه‌السلام كان في صلاة الصّبح فقرأ ابن الكوّاء وهو خلفه ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٣٠٣.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١٠٢.

(٣) زاد في من لا يحضره الفقيه وتفسير الصافي : للمؤمنين.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٢.

(٥) التهذيب ٣ : ٣٣ / ١٢٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٣.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ١٧٩ / ١٦٧٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٣.

٥٢

مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ(١) فأنصت عليّ عليه‌السلام تعظيما للقرآن ، حتّى فرغ من [ الآية ثم عاد في ] قراءته ، ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية ، فأنصت عليّ عليه‌السلام أيضا ، ثمّ قرأ فأعاد ابن الكوّاء ، فأنصت عليّ عليه‌السلام ، ثمّ قال : ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(٢).

﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ

 وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ

 عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإنصات عند تلاوة القرآن ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين بإخفات ذكر الله لكونه أقرب إلى الإخلاص ، بقوله : ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمّد ﴿رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ وفي الخفية بحيث لا يسمع ذكرك غيرك ، حال كونك تتضرّع إليه وتخاف منه ﴿تَضَرُّعاً وَخِيفَةً

قيل : معنى الذّكر في النّفس : كون الإنسان عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها باللّسان ، مستحضرا لصفات الله الكمالية وعزّه وعلوّه وجلاله وعظمته.

وفي توصيف ذاته المقدّسة بصفة الربوبيّة في المقام إشعار بكمال رحمته وقربه من الذّاكر ، وفضله وإحسانه إليه.

وقيل : إنّ الخطاب في الآية إلى الإنسان ، لا خصوص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ رخّص سبحانه في ترك المبالغة في الإخفات ، وأن يذكربصوت فوق الأخفات بقوله : ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ وفوق الإخفات ، فيكون متوسّطا بينهما.

وعن ابن عبّاس : إنّ المعنى أن يذكر ربّه على وجه يسمع نفسه (٣) . ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ والصّباح والمساء ؛ لكونهما أفضل الأوقات ﴿وَلا تَكُنْ﴾ في وقت من الأوقات ﴿مِنَ الْغافِلِينَ﴾ عن ربّك وذكره واللّاهين عنه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً﴾ يعني : مستكينا ﴿وَخِيفَةً﴾ يعني : خوفا من عذابه ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ يعني : دون الجهر من القراءة ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ يعني : بالغداة والعشيّ » (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيرا ، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله

__________________

(١) الزمر : ٣٩ / ٦٥.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٥ / ١٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٣ ، والآية من سورة الروم : ٣٠ / ٦٠.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ١٠٨.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٧٩ / ١٦٧٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٤.

٥٣

علانية ولا يذكرونه سرّا ، فقال الله : ﴿يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً(١) .

وعن أحدهما عليهما‌السلام : « لا يكتب الملك إلّا ما يسمع ، وقال الله : ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾ فلا يعلم ثواب ذلك الذّكر في نفس الرّجل إلّا الله لعظمته » (٢) .

وعنه عليه‌السلام ، في هذه الآية قال : « تقول عند المساء لا إله إلّا هو (٣) وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، [ ويميت ويحيي ] وهو على كلّ شيء قدير » .

قيل : بيده الخير ؟ قال : « إنّ بيده الخير ، ولكن قل كما أقول لك عشر مرّات. وأعوذ بالله السّميع العليم [ من همزات الشياطين ، وأعوذ بك ربّ ان يحضرون إن الله هو السّميع العليم ] . حين تطلع الشّمس وحين تغرب عشر مرّات » (٤) .

ثمّ لمّا رغّب الله سبحانه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعامّة النّاس في الذّكر باللّسان صباحا ومساء وفي تذكّره تعالى ، وإنّما قوّى داعيتهم إليه ببيان حال المقرّبين عنده ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ من الملائكة مع نهاية شرفهم ، وكمال طهارتهم وعصمتهم ، ونزاهتهم عن بواعث الشّهوة والغضب وعوارض الحقد والحسد. وعن القمّي يعني : الأنبياء والرّسل والأئمّة (٥) ، مع عصمتهم ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ولا يتأنّفون ﴿عَنْ﴾ الخضوع لله و﴿عِبادَتِهِ﴾ بل هم مستغرقون فيها آناء اللّيل وأطراف النّهار ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ وينزّهونه من النقائص الإمكانيّة ﴿وَلَهُ﴾ وحده ﴿يَسْجُدُونَ

فإذا كانت الأنبياء والملائكة والمقرّبون حالهم كذا ، فالإنسان المبتلى بظلمات الطّبيعة ، المنهمك في اللّذات النّفسانيّة والشّهوات الحيوانيّة ، أولى بالمواظبة على العبادة والذّكر والطاعة ، وأن لا يخلو من ذكره وتسبيحه وتقديسه.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٦٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٤ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٤٢.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٧٩ / ١٦٧٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٤.

(٣) في تفسير العياشي وتفسير الصافي : إلّا الله.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٨٠ / ١٦٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٤.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٥٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٤.

٥٤

في تفسير سورة الأنفال

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ

 بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)

ثمّ لمّا ختم سورة الأعراف التي عمدة مطالبها إبطال الشّرك ، وتهديد أهله بالعذاب ، وبيان غاية عجز الأصنام ، وأمّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأعلان بوثوقه بالله تعالى في دفع كيدهم ، والعفو عمّن ظلمه ، والإعراض عن الجاهلين ، ومداراة النّاس ، والاستعاذة بالله عند نزغ الشّيطان ، ومدح المتّقين بتذكّر الله عند ذلك ، اردفت بسورة الأنفال التي أهمّ مطالبها إثبات صحّة نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإيجاب طاعته ، وملازمة التّقوى ، وبيان كيفيّة نزغ الشيطان ، وإيجاب رفع التّنازع بالصّلح ، وغير ذلك من الأمور المرتبطة بما في السّور السّابقة ، فابتدأ بذكر الأسماء المباركات على حسب دأبه تعالى في كتابه بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثمّ افتتحها ببيان حكم الغنيمة التي وقع بين المسلمين التّنازع فيها في وقعة بدر بقوله : ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾ يا رسول الله ﴿عَنِ﴾ حكم ﴿الْأَنْفالِ﴾ ويستفتونك فيها ﴿قُلِ﴾ في جوابهم : ﴿الْأَنْفالِ﴾ كلّها ﴿لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ ليس لغيرهما فيها حقّ.

روي أنّ المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي تقسيمها ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف تقسّم ، وإلى أين تصرف ، ومن الّذين يتولّون قسمتها ؛ أهم المهاجرون أم الأنصار ؟ (١) فنزلت (٢) .

وعن عبادة بن الصامت قال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النّفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا وجعله لرسوله ، فقسّمه بين المسلمين على السّواء (٣) .

وروي أن الشبّان يوم بدر قتلوا وأسروا ، والأشياخ وقفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المصافّ ، فقال الشبّان : الغنائم لنا ؛ لأنّا قتلنا وهزمنا ، وقال الأشياخ : كنّا ردءا لكم ، ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا

__________________

(١) زاد في تفسير روح البيان : أم هم جميعا.

(٢ و٣) . تفسير روح البيان ٣ : ٣١١.

٥٥

بالغنائم دوننا. فوقعت المخاصمة ، فنزلت (١) .

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قسّم ما غنموه يوم بدر على من حضر ، وعلى أقوام لم يحضروا أيضا ؛ وهم ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار ، أمّا المهاجرون فأحدهم عثمان ؛ فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تركه على ابنته لأنّها كانت مريضة ، وطلحة ، وسعيد بن زيد ؛ فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان بعثهما للتجسّس عن خبر العير ، وخرجا في طريق الشّام. وأمّا الخمسة [ من ] الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، خلّفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة ، وعاصم خلّفه على العالية ، والحارث بن حاطب ردّه من الرّوحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه ، والحارث بن الصمّة أصابته علّة بالرّوحاء ، وخوّات بن جبير ، فهولاء لم يحضروا وضرب لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نزلت يوم بدر لمّا انهزم النّاس ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ثلاث فرق ؛ فصنف كانوا عند خيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنف أغاروا على النّهب ، وفرقة طلبت العدوّ وأسروا وغنموا ، فلمّا جمعوا الغنائم والأسارى تكلّمت الأنصار في الأسارى ، فأنزل الله ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ(٣) ، فلمّا أباح الله لهم الأسارى والغنائم تكلّم سعد بن معاذ - أو سعد بن عثمان ، على نسخة - وكان ممّن أقام عند خيمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله ، ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد ، ولا جبنا من العدوّ ، ولكنّا خفنا أن يعرى موضعك فتميل عليك خيل المشركين ، وقد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين والأنصار ، ولم يشكّ أحد منهم ، والناس كثير يا رسول الله والغنائم قليلة ، ومتى يعطى هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء.

وخاف أنّ يقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغنائم وأسلاب القتلى بين من قاتل ولا يعطي من تخلّف عند (٤) خيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا ، فاختلفوا فيما بينهم حتى سألوا رسول الله فقالوا : لمن الغنائم ؟ فأنزل الله ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فرجع الناس وليس لهم في الغنيمة شيء ، ثمّ أنزل الله بعد ذلك ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ(٥) الآية ، فقسّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم ، فقال سعد بن [ أبي ] وقاص : يا رسول الله ، أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف ؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثكلتك امّك ، وهل تنصرون إلّا بضعفائكم ؟ ! » .

قال : « فلم يخمّس رسول الله ببدر ، وقسّم بين أصحابه ، ثمّ استقبل بأخذ الخمس بعد بدر»(٦).

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ١١٥.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١١٥.

(٣) الأنفال : ٨ / ٦٧.

(٤) في النسخة : على.

(٥) الأنفال : ٨ / ٤١.

(٦) تفسير القمي ١ : ٢٥٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٧.

٥٦

وأمّا الأنفال ، فعن ابن عباس وجماعة أنّها غنيمة بدر (١) . وقيل : هي أنفال السّرايا (٢) . وقيل : هي ما شذّ من المشركين من عبد أو جارية من غير قتال (٣) .

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام : « الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم ، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية ، فهو كلّه من الفيء والأنفال ، فهذا كلّه لله ولرسوله ، فما كان فهو لرسوله يضعه حيث يشاء ، وهو للإمام بعد الرسول » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صولحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربه وبطون الأودية فهو لرسول الله ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء» (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « من مات وليس له وارث ، فماله من الأنفال » (٦) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « لنا الأنفال » ، قيل : وما الأنفال ؟ قال : « منها المعادن والآجام ، وكلّ أرض لا ربّ لها ، وكلّ أرض باد أهلها فهو لنا » (٧) .

وقال : « ما كان للملوك فهو من الأنفال » (٨) .

أقول : لا شكّ أنّ المراد بالسؤال في الآية الغنائم ؛ كما عن ابن عباس وعن الصادق عليه‌السلام ، لوضوح أنّه لم يكن في غنائم بدر شيء من الأمور المذكورة في الروايات ، وإنّما هو المقصود من الأنفال الذي أطلق في غير الآية ، أو معناه الأعمّ من الأمور المذكورة والغنائم ، وإن وقع السؤال في بدر من الغنائم.

ولمّا كان التّنازع محرّما أمر المؤمنين بالتّقوى بقوله : ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوا عقابه أيّها البدريّون ، ولا تقدموا على معصية واتركوا المنازعة ، وارضوا بما حكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ من الأحوال بالمواساة فيما رزقكم الله والأقوال ، ولا تنازعوا.

ثمّ أكّد الأمر بالتّقوى بقوله : ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بهما عن صميم القلب ، فإنّ الإيمان لا يتمّ إلّا بالطّاعة.

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ

 زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٧٩٥.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٧٩٦.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ١١٥.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٨٢ / ١٦٨٧ ، التهذيب ٤ : ١٣٤ / ٣٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٦.

(٥) الكافي ١ : ٤٥٣ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٦.

(٦) تفسير الصافي ٢ : ٢٦٦.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ١٨٣ / ١٦٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٧.

(٨) تفسير الصافي ٢ : ٢٦٧.

٥٧

يُنْفِقُونَ (٢) و (٣)

ثمّ بيّن علّة ملازمة الإيمان للطّاعة ببيان الصّفات النفسانيّة التي لا ينفكّ المؤمن الكامل منها بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ الصادقون في الإيمان ، الكاملون فيه هم ﴿الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ﴾ عندهم ، أو ذكروه ﴿وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وخافت أفئدتهم من عظمته ومهابته ، ومن احتمال التّقصير في طاعته ؛ فيستحقّوا عتابه أو عقابه ﴿وَإِذا تُلِيَتْ﴾ وقرئت ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وبمسمع منهم ﴿آياتُهُ﴾ القرآنيّة البالغة أعلى درجة الفصاحة ، المشحونة بالعلوم والمعارف والمواعظ والحكم ﴿زادَتْهُمْ﴾ تلك الآيات بالتفكّر والتدبّر فيها ﴿إِيماناً﴾ على إيمانهم لزيادة معرفتهم بعظمته وقدرته وحكمته وصدق رسوله ﴿وَ﴾ من المعلوم بأنّ من آثار ازدياد المعرفة وقوّة اليقين بصفاته الكماليّة أنّهم ﴿عَلى رَبِّهِمْ﴾ ومالك امورهم ، اللّطيف بهم ﴿يَتَوَكَّلُونَ﴾ وعليه يعتمدون في امورهم ، وإليه يفوّضون جميع شؤونهم من حفظهم ورزقهم وتدبير معاشهم ، فلا يخافون ولا يرجون غيره.

وروي أنّه « لا يكمل إيمان المرء حتّى يرى النّاس كالأباعير » (١) .

فإذا حصل للمؤمنين هذه الصّفات لا يكون نظره إلّا إلى تحصيل رضا الله ، فيقوم بطاعته ويبذل نفسه وماله في سبيله ، ولذا وصفهم بعد تلك الصّفات الحميدة النفسانيّة بقوله :

﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ التي هي أهمّ العبادات البدنيّة مراعيا لشرائطها المعتبرة في صحّتها وكمالها ﴿وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ﴾ وأعطيناهم من القوى والعلم والجاه والمال ﴿يُنْفِقُونَ﴾ في سبيله ، ويبذلون في مرضاته. وإنّما خصّ سبحانه التوكّل من بين الصّفات النفسانيّة الباطنية ، والصّلاة والإنفاق من بين الأعمال الخارجية الظاهريّة بالذّكر تنبيها على شرفها وتبعيّة سائر الصّفات الكماليّة والأعمال العباديّة لها.

﴿أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَما

 أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ *

 يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ

 يَنْظُرُونَ (٤) و (٦)

__________________

(١) ورد في ( البحار ) عن ( مكارم الأخلاق ) و( عدة الداعى ) بلفظ : « لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يرى الناس في جنب الله تبارك وتعالى أمثال الأباعر » . بحار الأنوار ٧٢ : ٣٠٤ و٧٧ : ٨٥.

٥٨

ثمّ أنّه تعالى بعد حصر المؤمنين الكمّلين بالواجدين لتلك الصّفات والأعمال ، أكّده بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بالصّفات الجليلة المذكورة ﴿هُمُ :﴾ بالخصوص ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ إيمانا ﴿حَقًّا﴾ ثابتا لا يشوبه شرك جليّ ولا خفيّ ؛ لإحاطة نور الإيمان بقلوبهم وجوارحهم ، وظهور آثاره من بواطنهم وظواهرهم.

ثمّ بيّن سبحانه اختصاصهم بغاية الكرامة عنده بقوله : ﴿لَهُمْ دَرَجاتٌ﴾ رفيعة من الكرامة والشّرف ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ في الدّنيا والآخرة ، ﴿وَ﴾ لهم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ وستر ، أي ستر لذنوبهم وزلّاتهم ﴿وَرِزْقٌ﴾ واسع هنيء ﴿كَرِيمٌ﴾ لا انقطاع له ، ولا تعب ، ولا كدورة فيه في البرزخ والآخرة.

عن القمّي رحمه‌الله : نزلت في أمير المؤمنين ، وأبي ذرّ ، وسلمان ، ومقداد (١) .

وفي ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام : « بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة ، وبالزّيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند الله ، وبالنّقصان دخل المفرّطون النّار » (٢) .

ثمّ أنّه روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلّة المسلمين قال : من قتل قتيلا فله سلبه ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ، ليرغّبهم في القتال ، فلمّا انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، إنّ جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ولم يتأخّروا عن القتال جبنا ولا بخلا ببذل مهجهم ، ولكنّهم أشفقوا عليك من أن تغتال ، فمتى أعطيت هؤلاء ما سمّيته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء ، فأنزل الله ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...(٣) ففوّض الله أمر الغنيمة إلى رسوله يصنع فيها ما يشاء ، فأمسك المسلمون عن الطّلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة (٤) .

وكذلك حين خرج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة ، فشبّه سبحانه كراهتهم اختصاص الأنفال بالرّسول بكراهتهم خروج الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قتال بدر بقوله : ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ﴾ الذي كنت فيه بالمدينة ، أو من المدينة التي هي دار هجرتك إلى قتال بدر إخراجا مقرونا ﴿بِالْحَقِ﴾ والحكمة والصّلاح ﴿وَ﴾ الحال ﴿إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بك ﴿لَكارِهُونَ﴾ خروجك ، فكما أنّ كراهتهم لخروجك كانت لما هو خير لهم ، كذلك كراهتهم اختصاصك بالغنيمة تكون كراهة ما فيه خيرهم.

وقيل : إنّ المعنى : أنّ الموصوفين بتلك الصّفات هم المؤمنون حقّا ، كما أنّ حكم الله بخروجك من بيتك إلى القتال حقّ. قيل : إن جبرئيل أتاه وأمره بالخروج.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٥٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٨.

(٢) الكافي ٢ : ٣١ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٦٨.

(٣) الأنفال : ٨ / ١.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ١٢٥.

٥٩

في بيان واقعة بدر

روى بعض العامّة أنّ عير قريش - أي قافلتهم - أقبلت من الشّام وفيها تجارة كثيرة عظيمة ، ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل ، وكان في السنة الثانية من الهجرة ، فأخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإقبالها ، فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقّيها لكثرة المال وقلّة الرّجال ، فلمّا خرجوا سمع أبو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكّة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفزّهم ، ويخبرهم أنّ محمدا قد اعترض لعيركم فأدركوها ، فلمّا بلغ أهل مكّة هذا الخبر نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكّة : النّجاء النّجاء على كلّ صعب وذلول ، عيركم وأموالكم - أي أدركوها - إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.

وقد رأت عاتكة اخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكّة بثلاث ليال رؤيا فقالت لأخيها : إنّي رأيت عجبا ، كأنّ ملكا نزل من السماء وأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق بها - أي رمى بها - إلى فوق ، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا أصابه حجر من تلك الصّخرة ، فحدّث بها العباس صديقا له يقال له عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وذكرها عتبة لبنت له ، ففشا الحديث. فقال أبو جهل للعبّاس : يا أبا الفضل ، أما يرضى رجالكم أن تنبّأوا حتّى تنبّأت نساؤكم ، فخرج أبو جهل بأهل مكّة وهم النّفير ، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق السّاحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكّة ، فقال : لا والله ، لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات (١) والمعازف ببدر ، فتتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وإنّ محمدا لم يصب العير ، وإنّا قد أغضضناه.

فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السّنة - فنزل جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين ؛ إمّا العير ، وإمّا قريشا ، فاستشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه فقال : « ما تقولون ، إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كل صعب وذلول ؟ فالعير أحبّ إليكم أم النّفير ؟ » فقالوا : بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو. فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ردّد عليهم فقال : « إنّ العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل » - يريد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك أنّ تلقّي النّفير وجهاد المشركين آثر عنده وأنفع للمؤمنين من الظّفر بالعير ، لما في تلقّي النّفير من كسر شوكة المشركين ، وإظهار الدّين الحقّ على الأديان كلّها ، فقالوا : يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدوّ.

فقام عند ما غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر وعمر ، فأحسنا الكلام (٢) في اتّباع مراد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ

__________________

(١) القينات : جمع قينة ، الأمة مغنية كانت أو غير مغنية.

(٢) الذي في ( صحيح مسلم ) : فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلّم عمر فأعرض عنه ، ونص كلام أبي بكر وعمر الذي أعرض عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سيأتي برواية القمي ، ونقله أيضا الواقدي في ( المغازي ) والمقريزي في ( الامتاع والمؤانة ) . راجع : معالم المدرستين ١ : ٢٣٥.

٦٠