نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

كانت رسالته عامّة ، أو بلغة الطائفة الذين ارسل إليهم إن كانت خاصة ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ ويوضّح العلوم والمعارف والأحكام ﴿لَهُمْ﴾ بلسانهم حتى يكون فهمهم لها أسهل ، ووقوفهم على مقاصدها أكمل.

قيل في قوله تعالى : ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ(١) وقوله : ﴿إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ دلالة على أنّ رسالة رسولنا عامّة ، ورسالة غيره من الرسل خاصة بقوم معينين (٢) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث - : « ومنّ عليّ ربّي ، وقال : يا محمّد ، قد أرسلت كلّ رسول إلى امته بلسانها ، وأرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود من خلقي » (٣) .

أقول : لا بدّ من حمل عموم كلّ رسول على غير اولى العزم ، لوضوح كون رسالتهم عامّة أيضا.

ثمّ نبّه سبحانه على أنه مع ذلك تكون الضلالة بخذلانة والهداية بتوفيقه بقوله : ﴿فَيُضِلُّ اللهُ﴾ عن الحقّ ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ ضلالته بسلب التوفيق عنه المترتّب على خبث ذاته وسوء أخلاقه وأعماله ﴿وَيَهْدِي﴾ إلى الحقّ ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته بتوفيقه المترتّب على طيب طينته وحسن أخلاقه وأعماله ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب على أمره ، القادر على إنفاذ مشيئته ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله ، لا يصدر منه إلّا ما هو الأصلح والأصوب.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ

 بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه حكمة إرسال النبيّ وإنزال الكتاب إليه ، وهو إخراج النّاس من الظلمات إلى النور ، بيّن أنّ إرسال موسى عليه‌السلام أيضا كان لذلك بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى﴾ إلى بني إسرائيل متلبسا ﴿بِآياتِنا﴾ الدالة على رسالته من المعجزات التسع ، وقلنا له : ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ وخلّصهم من الكفر والضلال ، واهدهم إلى الايمان والمعرفة واليقين.

قيل : إنّ المراد باخراج بني إسرائيل من الظلمات ، إخراجهم بعد إهلاك فرعون من الجهالة التي أدّتهم إلى عبادّة العجل (٤) .

وقيل : إنّ المراد القبط (٥) .

ثمّ أمر موسى عليه‌السلام بوعظهم بقوله : ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ والوقائع التي وقعت للامم السابقة من العقوبات النازلة عليهم بالكفر ومعارضة الرسل.

__________________

(١) إبراهيم : ١٤ / ١.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٧٩ ، وفي النسخة : معين ، بدل : معينين.

(٣) الخصال : ٤٢٥ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٧٩.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٣٩٧.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٣٩٨.

٥٠١

وقيل : أيام الله : نعمائه وبلاياه (١) ، والمعنى : رغّبهم في الطاعة بتذكيرهم النّعم التي أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم من مصدّقي الرسل ، وحذّرهم عن التكذيب والمخالفة بالبلايا النازلة على مكذّبي الرسل.

عن الصادق عليه‌السلام : « بنعم الله وآلائه » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « أيام الله عزوجل [ ثلاثة ] : يوم قيام القائم ، ويوم الكرّة ، ويوم القيامة » (٣).

ثمّ نبّه سبحانه على علّة التّذكار بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من الأيام والوقائع والله (٤)﴿لَآياتٍ﴾ وعلامات لتوحيد الله وقدرته وعظمته ، ولكن الانتفاع بها ﴿لِكُلِ﴾ مؤمن ﴿صَبَّارٍ﴾ على لا الشدائد والطاعات وكلّ ﴿شَكُورٍ﴾ لنعم الله.

﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

 يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ

 بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)

ثمّ أمر سبحانه بتذكّر قيام موسى عليه‌السلام بأداء وظيفته بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ يا بني إسرائيل ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ﴾ وخلّصكم بلطفه ﴿مِنْ﴾ أيدي ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وقومه فانّهم كانوا ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ ويذوقونكم أو يكلّفونكم ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ وشديده من استعبادكم وتحميل الأعمال الشاقة عليكم والإهانة لكم (٥) ، ﴿وَ﴾ كانوا ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ المولودين لكم ، ويكثرون القتل فيهم ﴿وَيَسْتَحْيُونَ﴾ ويستبقون ﴿نِساءَكُمْ﴾ من الأزواج والبنات ، ليكن إماءهم ﴿وَفِي ذلِكُمْ﴾ المذكور من الأعمال الفظيعة أو الانجاء ﴿بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ شأنه.

﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ * وَقالَ

 مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٧) و (٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد تذكيرهم نعمة ربهم ، حثّهم على الشكر بقوله : ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾ وأوجب ﴿رَبُّكُمْ﴾ على نفسه ، أو المراد : واذكروا حين نادى بلسان رسله فيكم ، أيّها الناس والله ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ﴾ نعمي

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ٥١٣ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٣٣.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٤٠٣ / ٢٢٦٠ ، مجمع البيان ٦ : ٤٦٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٠.

(٣) الخصال : ١٠٨ / ٧٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٠.

(٤) كذا ، ولا موضع للقسم في الآية.

(٥) في النسخة : بكم.

٥٠٢

﴿لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ ولاضاعفنّها لكم ﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ نعمة من نعمائي بترك شكرها أو صرفها في معصيتي ، لأسلبّنها منكم ، ولاعذبنّكم على الكفران ، وإنّما أشار إلى هذا التهديد بقوله : ﴿إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ لأنّ دأب الكرام - على ما قيل - عدم التصريح بالوعيد ، فكيف بأكرم الأكرمين (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه فتمّ كلامه حتى يؤمر له بالمزيد » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « من عرف نعمة الله بقلبه استوجب المزيد من الله قبل أن يظهر شكرها على لسانه» (٣)

وعنه عليه‌السلام : « ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها» (٤) .

وفي رواية : « وكان الحمد أفضل من تلك النعمة » (٥) .

وعنه عليه‌السلام في تفسير وجوه الكفر « الوجه الثالث من الكفر كفر النعم ، قال : ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ(٦) .

﴿وَقالَ مُوسى﴾ زجرا عن الكفران : يا بني إسرائيل ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الجنّ والإنس ﴿جَمِيعاً﴾ نعم الله فلن تضرّوا الله شيئا ﴿فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ﴾ عنكم وعن شكركم ﴿حَمِيدٌ﴾ في ذاته مستحقّ للحمد بإنعامه ، وإن لم يحمده حامد ، مع أنّ جميع الموجودات يسبّحه ويحمده ، وإنّما يريد شكركم لاحتياجكم إلى منافعه.

﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا

 يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا

 كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي

 اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ

 إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ

 آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ * قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ

 اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ

 وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤٠٠.

(٢) الكافي ٢ : ٧٨ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٠.

(٣) الكافي ٨ : ١٢٨ / ٩٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٠.

(٤) الكافي ٢ : ٧٩ / ١٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٨١.

(٥) الكافي ٧ : ٧٨ / ١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٨١.

(٦) الكافي ٢ : ٢٨٧ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨١.

٥٠٣

وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٩) و (١٢)

ثمّ بالغ عليه‌السلام في وعظهم بتذكيرهم الوقائع العظيمة والبلايا النازلة على مكذبي الرسل بقوله : ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ ولم يبلغكم يا قوم ﴿نَبَؤُا﴾ الامم ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وفي الأعصار السابقة على عصركم من ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ كيف اهلكوا بالطوفان ﴿وَ﴾ قوم ﴿عادٍ﴾ كيف اهلكوا بريح صرصر عاتية ﴿وَ﴾ قوم ﴿ثَمُودَ﴾ كيف اهلكوا بالرجفة ﴿وَالَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ كقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وغيرهم من الأقوام الذين ﴿لا يَعْلَمُهُمْ﴾ عددا وحالا ﴿إِلَّا اللهُ﴾ لكثرتهم وقطع الأخبار عنهم.

ثمّ كأنه قيل : ما كان إجمال قصّتهم ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿جاءَتْهُمْ﴾ من قبل الله ﴿رُسُلُهُمْ﴾ المبعوثون لهدايتهم مستدلّين ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ الباهرات على صدق نبوتهم ، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وينجوهم من الكفر والجهالة ويهدوهم إلى الحقّ ، فلمّا دعوا أقوامهم إليه ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ﴾ ليعضّوها تضجّرا من مقالة الرسل ، كما عن ابن عباس وابن مسعود (١) .

وقيل : وضعوها عليها تعجّبا من قولهم واستهزاء بهم ، أو أمرا لهم بالكفّ وبإطباق أفواههم (٢) ، أو إشارة إلى ما يصدر من ألسنتهم من المقالة اعتناء بشأنها ، وتنبيها للرسل على تلقّيها والمحافظة عليها ، وإقناطا لهم عن تصديقهم والإيمان بهم.

وقيل : يعني ردّ الأقوام أيديهم في أفواه الرسل ليمنعوهم من التكلّم بالدعوة (٣) .

وقيل : يعني ردّ الرسل أيديهم في أفواههم تعجّبا من عتوّهم وعنادهم (٤)﴿وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ بزعمكم من وجوب عبادة إله السماء وتوحيده ، أو من المعجزات التي أتيتم بها وأنكرناها ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍ﴾ عظيم ﴿مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ﴾ من التوحيد والرسالة ﴿مُرِيبٍ﴾ ذلك الشكّ ، وموقع قلوبنا في القلق والاضطراب بحيث لا يطمئنّ بشيء ﴿قالَتْ رُسُلُهُمْ﴾ إنكارا عليهم وتعجّبا من مقالتهم الحمقاء : ﴿أَفِي﴾ شأن ﴿اللهِ﴾ من وجوده وتوحيده ووجوب الايمان به ﴿شَكٌ﴾ ما ، مع أنّه أظهر من كلّ شيء ، لكونه ﴿فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومبدعهما ، لوضوح كونهما حادثين معروضين للحركة والتغيير ، وكونهما حتمين مقدرين محدودين ، فاذا ثبت حدوثهما فلا بدّ من انتهاء وجودهما إلى موجد واجب ، فمن كان العالم من السماوات والأرض وما فيهما شاهدا على وجوده يكون أظهر من كلّ ظاهر.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٤٦٩ ، تفسير الرازي ١٩ : ٨٩.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٣٦.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ٨٩ ، تفسير أبي السعود ٥ : ٣٦.

(٤) تفسير أبي السعود ٥ : ٣٦.

٥٠٤

ثمّ لمّا نسب الكفّار الدعوة إليهم نفوها عن أنفسهم ونسبوها إلى الله بقولهم : ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ الله إليه وإلى توحيده بألسنتنا ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾ ما كان بينكم وبينه ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ لا ما كان بينكم وبين النّاس من المظالم.

وقيل : إن كلمة ( من ) زائدة (١) ، والمراد ليغفر لكم جميع ذنوبكم ، وفيه بشارتكم بغاية الرحمة والكرم.

ثمّ بشروهم بجزائهم في الدنيا بقولهم : ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ﴾ ويؤجّل موتكم ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وأخّر أعماركم التي قدّر لكم فيها بأن لا ينزل عليكم العقوبة والهلاك.

عن ابن عبّاس ، قال : المعنى يمتّعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت (٢) .

ثمّ استدلّ الكفّار على بطلان دعوى الرسل و﴿قالُوا﴾ أولا : ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ ويمتنع أن يكون الرسول من البشر ، بل لا بدّ أن يكون ملكا ، أو المراد لا فضيلة لكم علينا ، فإرسالكم ترجيح بلا مرجّح.

وثانيا : أن آباءنا الأقدمين مع وفور عقلهم كانوا يعبدون الأصنام في أعمارهم المتطاولة ، فلا بدّ لنا من أن نتّبعهم ونلتزم بما التزموا به ، وأنتم ﴿تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا﴾ وتصرفونا ﴿عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ من الأصنام إلى عبادة الله.

وثالثا : يجب عليكم أن تاتونا بالدليل القاطع على دعواكم وما اتيتم به وسمّيتموه معجزة ، وحسبتموه دليلا على صدق دعواكم ، فما علمنا بكونه إعجازا وخارجا عن طوق البشر ، فان كنتم صادقين في دعوى الرسالة ﴿فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ومعجزة لا يشكّ في كونها معجزة حتى نصدّقكم في دعوى رسالتكم ، وننصرف عما كنا ثابتين عليه من عبادة الأصنام ﴿قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ إلزاما لهم وإبطالا لقولهم : نعم ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ في الصورة ، ولا مجال لانكاره ﴿وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ﴾ وينعم بالنبوة والوحي ﴿عَلى مَنْ يَشاءُ﴾ نبوته ﴿مِنْ عِبادِهِ﴾ نظرا إلى طيب طينته ووفور عقله ، وقوه نفسه ، وكمال صفاته ، وتنوّر قلبه ، وشرح صدره ، فانّ النبوة منصب يعطيه الله من يراه قابلا له من جهة كمال نفسه وصلوحه للوساطة بينه وبين خلقه فيوحي إليه.

ثمّ لمّا كان دليل التقليد أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الجواب ، أعرضوا عنه ولم يتعرضوا لدفعه ، وأجابوا عن اعتراضهم الثالث ، وحاصله : إنّا عبيد مربوبون ﴿وَما كانَ﴾ يصحّ ﴿لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ﴾ ومعجزة جزئية ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ ومشيئته فضلا عن السلطان المبين والمعجزة العظيمة

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ٩٣.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٩٥.

٥٠٥

القاهرة التي تعنّتونها علينا ، وإنّما اللازم على الله أن يأذن في إتيان ما هو حجّة ظاهرة على رسالتنا من المعجزات ، وقد أتينا بها وأتممنا عليكم الحجّة بها ، وأما ما تطلبونه تعنّتا ولجاجا ، فهي امور زائدة والحكم فيها لله إن شاء أذن لنا في إتيانها ، وإن لم يشاء لم يأذن.

ثمّ قيل : إن الرسل لمّا أجابوا عن شبهات المعترضين ، هدّدوهم وخوّفوهم بالقتل والضرب ، فأجابهم الرسل بأنّا لا نخاف من وعيدكم ، فإنا توكّلنا على الله الذي هو حافظنا وناصرنا (١) . ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ وحده ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ وإليه فليفوّض الأمر ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾ به ، فكيف بنا ونحن أنبياء ﴿وَما لَنا﴾ وليس يليق بنا ﴿أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ﴾ ولا نفوّض أمورنا من الحفظ والنصر وغيرهما إليه مع أنّا نرى غاية لطفه بنا ، حيث إنّه قد عرّفنا نفسه واصطفانا بالرسالة ﴿وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا﴾ وأرشدنا إلى المنهج الذي شرّع لنا ﴿وَ﴾ والله ﴿لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا﴾ به من المكابرة والتكذيب والمعاداة ، ثمّ أعلنوا بأنّ وظيفة كلّ من اتّبعهم التوكّل بقولهم : ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى

 إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ

 خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٣) و (١٤)

ثمّ لمّا ألان الرسل في القول مع الأقوام ، حكى الله مبالغتهم في السّفة بقوله : ﴿وَقالَ﴾ عتاة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من الأقوام ﴿لِرُسُلِهِمْ﴾ باللات والعزّى ، أو بالأصنام التي نعبدها ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا﴾ وديارنا ﴿أَوْ لَتَعُودُنَ﴾ ولترجعنّ ﴿فِي مِلَّتِنا﴾ وإنّما أمروهم بالعود مع أنّهم لم يكونوا على ملّتهم أصلا لاعتقادهم أنّهم كانوا قبل ادّعاء الرسالة على ملّتهم ، أو لتغليب أتباعهم عليهم في الخطاب ، أو لإرادة الصيرورة من العود.

ثمّ لمّا بلغ عناد الكفّار بالرسل إلى هذا الحدّ ﴿فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ اللطيف بهم : بعزّتنا ﴿لَنُهْلِكَنَ﴾ بعذاب الاستئصال هؤلاء ﴿الظَّالِمِينَ﴾ جميعا ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ﴾ التي سكنوها ، ولنمكننكم في البلاد التي تمكنّوا فيها ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وبعد هلاكتهم ﴿ذلِكَ﴾ النصر على الأعداء باهلاكهم وتوريث أرضهم حقّ ثابت عليّ ﴿لِمَنْ خافَ مَقامِي﴾ ومحلّي من العظمة والجلال والقهر ، أو خاف موقفي عند الحساب في القيامة ، أو خاف مقامي ومراقبتي إياه ، أو المراد خافني ﴿وَخافَ وَعِيدِ

عن ابن عباس ، قال : خاف ما أوعدت من العذاب (٢) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ٩٧.

(٢) تفسير الرازي ١٩ : ١٠١.

٥٠٦

﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ *  مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ

 * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ

 وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٥) و (١٧)

ثمّ إنّ الرسل بعد يأسهم من إيمان أقوامهم تضرّعوا إلى الله ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ وسألوا الفتح والنّصرة عليهم ، ففازوا بمقصودهم من النصر فنزل العذاب ، أو سألوا من الله القضاء بينهم وبين أعدائهم فقضى لهم ﴿وَخابَ﴾ وحرم من كلّ خير ، أو خسر أو هلك ﴿كُلُّ جَبَّارٍ﴾ ومتكبّر ﴿عَنِيدٍ﴾ شديد العداوة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يعني من أبى أن يقول لا إله إلّا الله » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « العنيد : المعرض عن الحقّ » (٢) .

وقيل : المستفتحون هم الكفّار ، فانّهم سألوا النصر على الرسل وخابوا وابتلوا بالعذاب.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عاقبة الجبار في الدنيا ، بيّن سوء حاله في الآخرة بقوله : ﴿مِنْ وَرائِهِ﴾ وخلفه ، أو من قدّامه ﴿جَهَنَّمُ﴾ فإنّها منزله في الآخرة ﴿وَيُسْقى﴾ كلّما عطش فيها ﴿مِنْ ماءٍ﴾ مخصوص ، وهو القيح المختلط بالدم ، أو ما يسيل من أجساد أهل النار وفروج الزواني على ما قيل (٣) ، سمّي باسم ﴿صَدِيدٍ﴾ لصدّ كراهته عن تناوله.

عن الصادق عليه‌السلام - في تفسير صديد - قال : « يسقى ممّا يسيل من الدم والقيح من فروج الزواني [ في النار » (٤) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يقرّب إليه ] فيكرهه ، فإذا ادني منه شوى جهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شرب قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره » (٥) الخبر.

﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ ويشربه قليلا قليلا بتكلّف ﴿وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ﴾ ولا يمكنه أن يبتلعه بسهولة ، بل يغصّ به فيشربه شيئا فشيئا بعسرة شديدة ، فيطول بشربه عذابه بالحرارة تارة وبالعطش اخرى ، فمعنى ﴿وَلا يَكادُ﴾ ليس عدم الامكان ، بل معناه الإبطاء.

ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية شدّة عذابه بقوله : ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ﴾ وتحيط به أسبابه ﴿مِنْ كُلِّ مَكانٍ﴾ وجهة. وقيل : يعني من كلّ جزء من أجزاء جسده (٦) ، حتى اصول شعره وإبهام رجله ﴿وَما هُوَ

__________________

(١) التوحيد : ٢٠ / ٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٦٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٢.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٤٠٦.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٤٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٢.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٤٧٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٢.

(٦) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٤.

٥٠٧

بِمَيِّتٍ﴾ في الحقيقة ﴿وَمِنْ وَرائِهِ﴾ وعقبه ﴿عَذابٌ غَلِيظٌ﴾ وشديد غايته.

قيل : إنّ في كلّ وقت يرد عليه عذاب أشدّ ممّا قبله. وقيل : العذاب الغليظ : قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد (١) . وقيل : إنّه الخلود (٢) .

﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا

 يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)

ثمّ بيّن سبحانه غاية خسرانهم بسبب ضياع أعمالهم الخيرية وعدم انتفاعهم بها بقوله : و﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ وحالهم الغريبة التي هي كالمثل في الغرابة ﴿أَعْمالُهُمْ﴾ وقيل : إنّ المراد مثلهم فيما يتلى عليكم.

ثمّ كأنّه قيل : كيف يكون مثلهم ؟ أو ما بال أعمالهم التي عملوها في وجوه البرّ من صلة الأرحام ، وإعتاق الرقاب ، وإغاثة الملهوفين وأمثالها ؟ فاجيب بأنّ تلك الأعمال ﴿كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ(٣) ومرّت ﴿بِهِ الرِّيحُ﴾ الشديدة بقوة وسرعة ﴿فِي يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ وزمان شديد الريح ، فحملته وذهبت به ، فكما لا يوجد من الرماد في [ ذلك ] الوقت شيء ، ولا يرى له أثر ، فكذلك الكفّار ﴿لا يَقْدِرُونَ﴾ يوم القيامة ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ وعلموا من الخيرات ﴿عَلى﴾ تحصيل ﴿شَيْءٍ﴾ يسير منه ، ولا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب ، لكونه مع الكفر.

وقيل : إنّ المراد بأعمالهم عبادتهم الأصنام ، وما تكلّفوه لهم دهرا طويلا باعتقاد الانتفاع به (٤) .

وقيل : إنّ المراد كلا القسمين (٥) .

﴿ذلِكَ﴾ الكفر الموجب لهذا الخسران ﴿هُوَ﴾ بالخصوص ﴿الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾ والانحراف غير المتناهي عن طريق الصواب والخسران العظيم الذي لا يتصوّر له حدّ.

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ

 جَدِيدٍ * وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٩) و (٢٠)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه شدّة عذاب الآخرة ، وكان المشركون منكرين للمعاد ، استدلّ سبحانه عليه بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمّد ، أو يا عاقل ببصيرة قلبك وحكم عقلك ﴿أَنَّ اللهَ خَلَقَ﴾ بقدرته ﴿السَّماواتِ

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٤.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٥ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٠٨.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٥.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٥.

٥٠٨

وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ﴾ والحكمة البالغة والغرض الصحيح من معرفته بالوحدانية والحكمة ، لتنالوا بها الدرجات والمقامات العالية والنّعم الدائمة في الآخرة ، ومن المعلوم أنّ الذي له هذه القدرة ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ ويعدّمكم ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ويخلق قوما آخرين بدلا منكم.

عن ابن عبّاس : هذا الخطاب مع كفار مكة ، يريد اميتكم يا معشر الكفار وأخلق قوما خيرا منكم وأطوع (١) .

﴿وَما ذلِكَ﴾ الإذهاب والإتيان ﴿عَلَى اللهِ﴾ الخالق للعالم ﴿بِعَزِيزٍ﴾ وصعب أو ممتنع ، فانّ من كان قادرا على إيجاد العالم وإفنائه ، قادر على إعدام الأشخاص المعينين وإيجاد أمثالهم ، بل أقدر.

﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ

 مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا

 أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال قدرته وحكمته الدالتين على المعاد ، بيّن سوء حال المشركين فيه ، وافتضاح رؤسائهم ، وحسرة أتباعهم على متابعتهم بقوله : ﴿وَبَرَزُوا﴾ من القبور بعد إحيائهم فيها ، وظهروا ﴿لِلَّهِ﴾ ولأمره وخرجوا منها للمحاسبة [ مع ] قادتهم وأتباعهم ﴿جَمِيعاً﴾ لا يشذّ منهم أحد ، وإنّما عبّر بصيغة الماضي للإشعار بتحقّق الوقوع ، أو بتساوي الماضي والمستقبل إليه تعالى ﴿فَقالَ﴾ السّفلة ﴿الضُّعَفاءُ﴾ العقول والآراء ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ في الأرض وترأسوا عليهم ، واستتبعوهم في الكفر : أيّها الروساء ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿لَكُمْ تَبَعاً﴾ في عبادة الأصنام وتكذيب الرسل وإيذائهم ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ﴾ اليوم ﴿مُغْنُونَ﴾ وكافّون ودافعون ﴿عَنَّا﴾ بحقّ تبعيّتنا لكم ﴿مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قليل ؟ فلمّا سمع الرؤساء التوبيخ من أتباعهم اعتذارا عن إغوائهم ﴿قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ﴾ في الدنيا بتوفيقه إلى دينه الحقّ والله (٢)﴿لَهَدَيْناكُمْ﴾ إليه ، ولكن أضلّنا بخذلانه عن سبيله ، فلذا أضللناكم واخترنا لكم ما أخترناه لأنفسنا.

وقيل : إنّ المراد لو هدانا الله إلى طريق من طرق النجاة لهديناكم إليه ، وأغنينا عنكم [ العذاب ] كما عرّضناكم له ، ولكن سدّ علينا جميع طرق النجاة (٣) . إذن ﴿سَواءٌ عَلَيْنا﴾ وعليكم في عدم النجاة ﴿أَ جَزِعْنا﴾ من العذاب ﴿أَمْ صَبَرْنا﴾ عليه ، على أي تقدير ﴿ما لَنا﴾ من العذاب ﴿مِنْ مَحِيصٍ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٠٦.

(٢) كذا ، ولا موضع للقسم في الآية.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٤١١.

٥٠٩

ومخلص أو مهرب.

﴿وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ

 فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا

 تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ

 بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢)

ثمّ لمّا حكى سبحانه اعتذار رؤساء الكفر من أتباعهم ، حكى اعتذار الشيطان الذي كان إغواء الجميع بوسوسته وتسويلاته بقوله : ﴿وَقالَ الشَّيْطانُ﴾ لأهل النار ﴿لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ وتمّت المحاسبة ، واستقرّ أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.

قيل : عند ذلك يأخذ أهل النار في لوم إبليس ، فيقوم خطيبا بينهم ، ويقول : يا أهل النار ﴿إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ(١) في الدنيا في كتابه وعلى لسان رسله على الإيمان والطاعة ﴿وَعْدَ الْحَقِ﴾ بالثواب.

قيل : إنّ إضافة الوعد إلى الحقّ إضافة الشيء إلى نفسه (٢) .

وقيل : إنّ المعنى وعد اليوم الحقّ ، أو الأمر الحقّ من البعث والجزاء على الأعمال فصدقكم (٣) . كما تشاهدون ﴿وَوَعَدْتُكُمْ﴾ على الكفر والمعاصي النّعم الدنيوية.

وقيل : يعني وعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب (٤) ﴿فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ موعدي ، وظهر لكم كذبي ﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ﴾ شيء ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾ وقدرة وقهر حتى الجئكم إلى الكفر والعصيان ، ولم يكن منّي في حقّكم عمل ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ إلى طاعتي بتزيين القبائح في نظركم ، وترغيبكم بالتسويل إليها ﴿فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ ووافقتموني طوعا واختيارا ﴿فَلا تَلُومُونِي﴾ فيما دعوتكم إليه بالكذب والباطل ؛ لأنّي كنت لكم عدوا ، فعلت بمقتضى عداوتي ﴿وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ حيث اخترتم طاعتي لحبّكم لها واشتهائكم إياها ، مع علمكم بأنّي عدوّ لكم لا اريد خيركم ، فصدّقتموني فيما كذّبتكم ، لكون أمري ملائما لهواكم ، وكذبتم الله فيما صدقكم لكون قوله مخالفا لطباعكم ، فأنتم أحقّ باللوم مني ، فاليوم ﴿ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ ومغيثكم ممّا أنتم فيه ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ﴾ ومغيثي ممّا أنا فيه.

ثمّ قطع طمع أوليائه في إغاثته لهم بقوله : ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ﴾ بالله في الطاعة ، وجعلتموني عدلا له في العبادة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في دار الدنيا.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٢ ، تفسير الرازي ١٩ : ١١٠.

( ٢و٤ ) تفسير الرازي ١٩ : ١١٠.

٥١٠

قيل : إنّ المراد أنّ إشراككم لي بالله هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم ، لأنّكم تخيّلتم أنّ لكم عليّ حقّ حيث جعلتموني معبودا ، وكنت احبّ ذلك وأرغب فيه ، فاليوم تبرّأت منه ومنكم ، فليس بيني وبينكم علاقة (١) .

أو المراد أنّي كفرت بالله الذي جعلتموني شريكا له في العبادة من قبل ، وحين خلق آدم ، وأبيت عن السجود له ، أو من قبل كفركم ، فلا يمكنني أن اصرخكم لأنّ الكافر بمعزل عن الإغاثة والاعانة بالشفاعة (٢) .

ثمّ بالغ في قطع أطماعهم عن إغاثته بقوله : ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

وقيل : إنّه قول الله تعالى بعد حكاية كلام إبليس (٣).

﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

 خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد شرح سوء حال الأشقياء في الآخرة شرح حسن حال السعداء والأتقياء فيها بقوله : ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيته ورسله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ كان المدخل هو الله أو الملائكة ﴿جَنَّاتٍ﴾ بساتين ذات أشجار وقصور ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ أبدا ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ ومليكهم اللطيف بهم مكرمين ومعظّمين بحيث يحيّون من قبل ربّهم ، أو من قبل الملائكة ، وتكون ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ﴾ كما قال الله : ﴿سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ(٤) وقال في السور السابقة : ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(٥) .

وفي هذه التحية بشارة بالسلامة الأبدية من جميع آفات الدنيا وخسرانها ، وفنون آلامها وأسقامها ، وأنواع همومها وغمومها ، ومن عذاب الآخرة ومكارهها ، وفي ذكر عاقبة الفريقين إيقاظ للمؤمنين حتى يتدبّروا في عواقبهم ، ويحاسبوا أنفسهم.

﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها

 فِي السَّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٤٣.

(٣) تفسير الرازي ١٩ : ١١٥ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤١٣.

(٤) يس : ٣٦ / ٥٨.

(٥) الرعد : ١٣ / ٢٣ و٢٤.

٥١١

يَتَذَكَّرُونَ (٢٤) و (٢٥)

ثمّ لمّا كانت السعادة الأبدية بالإيمان بالله وتوحيده والاقرار به ، أوضح سبحانه بقاء كلمة التوحيد وكثرة فوائدها بضرب المثل بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمد ، ببصيرة قلبك ونور نبوتك وقوة نظرك ﴿كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾ بديعا معجبا تامّ المطابقة للممثّل له ، فتتعجّب منه ، وهو الكلمة الطيبة.

قيل : إنّها كلمة ( لا إله إلّا الله ) كما عن ابن عبّاس (١) . أو هي وسائر الأذكار كالتسبيح والتحميد ، والتكبير والاستغفار ، والقرآن والدعاء وغيرها من الكلمات الحسنة الصادرة عن المؤمن عن المعرفة وخلوص النية ، كما عن آخر (٢) .

وذلك المثل أنّه تعالى جعل ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ صادرة من المؤمن في الطيب واللذة والحسن ، والثبات في النفس ، والرّسوخ في القلب ، والبقاء في العوالم الالهية من عالم الأجسام والأرواح والمثل ، والملكوت والجبروت ، وفي ارتفاعها إلى العرش وفضاء عالم القرب ، وفي حسن الثمر وطيبه وكثرته ودوامه ، وكثرة الانتفاع به ، وهو محبّة الله والتوحيد والتفويض إليه ، والتوكّل عليه والتسليم لأمره ، والرضا بقضائه ، والصبر على طاعته وبلائه ، والاعراض عن غيره ، والشوق إلى لقائه ، وفي كون جميع هذه الثمار بتوفيقه وتأييده ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ حسنة الصورة والمنظر والريح ، والنفع والثمر ﴿أَصْلُها ثابِتٌ﴾ في الأرض ، وعروقها راسخة فيها بحيث لا يحتمل انقلاعها وانقطاعها ﴿وَفَرْعُها﴾ وغصنها متصاعد ﴿فِي السَّماءِ﴾ المطّل (٣) أو جهة العلوّ ﴿تُؤْتِي أُكُلَها﴾ وتعطي ثمرها ﴿كُلَّ حِينٍ﴾ من الأحيان ، وكلّ وقت من الأوقات ﴿بِإِذْنِ رَبِّها﴾ وإرادة خالقها وتدبير مدبّرها.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ هذه الشجرة الطيبة النّخلة » (٤) وهو مروي عن ابن عبّاس. وعنه : أنّ الحين ستة أشهر. وقيل : إنّه شهران. وقيل : سنة (٥) ؛ لأنّه إذا ترك عليها الثمر انتفع به في جميع أوقات السنة (٦) .

وقيل : إنّ المراد بالشجرة شجرة تكون لها هذه الأوصاف التي يجب على العاقل تحصيلها والسعي في حفظها وادّخارها لنفسه ، وإن لم يكن لها وجود في العالم وكان فرضيا (٧) .

ثمّ نبّه سبحانه على حكمة ضرب المثل بقوله : ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ﴾ بتصوّر المحسوسات ﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾ ويفهمون المعقولات ويتصوّرون المعاني العالية عن الأفهام بتطبيقها على المشهودات.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٢٠.

(٢) تفسير أبي السعود ٥ : ٤٣ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤١٤.

(٣) لفظ السماء مؤنث وقد يذكّر.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٤٨٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٥.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٤٨٠ ، تفسير الرازي ١٩ : ١٢٠.

(٦ و٧) تفسير الرازي ١٩ : ١٢٠.

٥١٢

عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن الشجرة في هذه الآية ، فقال : « رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصلها ، وأمير المؤمنين فرعها ، والأئمة من ذريتهما أغصانها ، وعلم الأئمة ثمرتها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها ، والله إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها ، وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها » (١) .

وفي رواية ( الاكمال ) : « والحسن والحسين ثمرها ، والتسعة من ولد الحسين أغصانها » (٢) .

وفي رواية ( المعاني ) : « وغصن الشجرة فاطمة ، وثمرها أولادها ، وورقها شيعتها » (٣) . وزاد في ( الاكمال ) : ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ﴾ ما يخرج من علم الامام إليكم في كلّ سنة من كلّ فجّ عميق»(٤).

أقول : هذه الروايات في بيان تأويل الآية ، فلا منافاة بينها.

﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)

ثمّ أنه تعالى بعد ضرب المثل للقول الحقّ وكلمة التوحيد ضرب مثلا للقول الباطل وكلمة الشرك والكفر بقوله : ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ قبيحة باطلة تصدر من الشقي ، وهي كلمة الشرك والكفر في قباحة الصورة ، وسوء المنظر ، ونتن الرائحة ، وكثرة الضرر ، وسرعة الزوال ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ قبيحة الصورة والمنظر ، كريهة الرائحة ، ضارة الثمرة كالحنظل ، غير ضاربة بعروقها في الأرض بحيث ﴿اجْتُثَّتْ﴾ وانقلعت ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ﴾ لعدم رسوخ عروقها فيها ، فلذا ﴿ما لَها﴾ شيء ﴿مِنْ قَرارٍ﴾ وثبات فيها بحيث تقلع وتزول من محلّها بأخفّ تحريك.

قيل : إنّ الله شبّه الايمان بالشجر ؛ لأنّ الشجر لا بدّ له من أصل ثابت وفرع قائم ورأس عال ، فكذا الايمان لا بدّ له من تصديق في القلب ، وإقرار (٥) باللسان ، وعمل بالاركان (٦) . وشبّه الكفر وعبادة الأصنام التي لا حجّة عليها ولا ينتفع بها بشجرة الحنظل التي لا أصل لها حتّى يكون لها قرار ولا نفع معتدّ به لها.

عن الباقر عليه‌السلام : « كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء » (٧) الخبر.

﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ

 اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥٥ / ٨٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٥.

(٢) إكمال الدين : ٣٤٥ / ٣٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٥.

(٣) معاني الأخبار : ٤٠٠ / ٦١ ، وفيه : وورقها شيعتنا ، تفسير الصافي ٣ : ٨٥.

(٤) إكمال الدين : ٣٤٥ / ٣٠ ، وفيه : من حج وعمرة ، تفسير الصافي ٣ : ٨٥.

(٥) في تفسير روح البيان : قول.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٥ ، وفيه : وعمل بالابدان.

(٧) تفسير القمي ١ : ٣٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٦.

٥١٣

ثمّ لمّا ذكر الله سبحانه ثبات كلمة التوحيد في القلوب ، بيّن ثباتها في الدارين بقوله : ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بلطفه وتوفيقه ﴿بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ وهو كلمة التوحيد الراسخة في نفوسهم ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ فلا يزولون عنها ولو قطّعوا إربا إربا ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عنها في القبر وفي الموقف.

عن ابن عبّاس : من داوم على الشهادة في [ الحياة ] الدنيا يثبّته الله عليها في قبره ويلقّنه إياها(١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه ذكر قبض روح المؤمن فقال : « ثمّ تعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان [ له ] : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك ؟ فيقول : ربّي الله ، وديني الاسلام ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينادي مناد من السماء أنّه صدّق عبدي. فذلك قوله تعالى : ﴿يُثَبِّتُ اللهُ(٢) الآية.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه (٣) عما هو عليه ، فيأبى الله عزوجل له ذلك ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا(٤) .

وقيل : إنّ المراد يثبّت الله الذين [ آمنوا ] على الثواب والكرامة بسبب القول الثابت الذي يصدر عنهم في الدنيا والآخرة (٥) . وعلى أيّ تقدير هو بيان لقوله : ﴿تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ

ثمّ لمّا بيّن سبحانه معاملته مع أصحاب الكلمة الطيبة ، بيّن معاملته مع أصحاب الكلمة الخبيثة بقوله : ﴿وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الكفر عن كرامته ، ويمنعهم عن الفوز بالثواب.

عن الصادق عليه‌السلام : « يعني يضلّهم [ يوم القيامة ] عن دار كرامته (٦) » وعن الحقّ الذي ثبّت المؤمنين عليه ، فلا يثبتوا في الدنيا في مواقف الفتن ، وإذا سئلوا عن دينهم في قبورهم قالوا : لا ندري ، وتدهشهم أهوال القيامة فلا يقدرون على الجواب في الموقف ﴿وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ﴾ من تثبيت بعض وإضلال آخرين حسبما تقتضيه مشيئته التي هي عين حكمته البالغة ولا اعتراض عليه.

عن الصادق عليه‌السلام في سؤال القبر : « وإن كان كافرا - إلى أن قال - : ويسلّط الله عليه في قبره الحيّات تنهشه نهشا ، والشيطان يغمّه غمّا - إلى أن قال - : وهو قول الله عزوجل : ﴿يُثَبِّتُ اللهُ﴾ إلى قوله : ﴿وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ(٧) .

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٢٢.

(٢) تفسير البيضاوي ١ : ٥١٨.

(٣) في تفسير العياشي : يساره ليصده.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٤٠٧ / ٢٢٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٦.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ١٢٢.

(٦) التوحيد : ٢٤١ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٦.

(٧) الكافي ٣ : ٢٣٩ و٢٤٠ / ١٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٦.

٥١٤

يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٨) و (٢٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فوائد كلمة التوحيد وضرر كملة الشرك بضرب المثل ، أظهر التعجّب من الذين هيّأ لهم أسباب الهداية إلى التوحيد ودين الحقّ ومع ذلك اختاروا الكفر والشّرك بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمّد ، ولم تنظر ﴿إِلَى﴾ المشركين ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ﴾ التي أنعمها عليهم والهداية التي رزقهم ، ببعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم بالرسالة ، وإنزال القرآن عليهم ، فأبوا عن قبولها ، واختاروا مكانها ﴿كُفْراً﴾ بالله ووحدانيته.

وقيل : يعني بدّلوا شكر نعمة الله كفرا بأن وضعوه مكانه ، أو بدّلوا نفس النعمة كفرا ، فانّهم لمّا كفروها سلبت منهم ، فصاروا فاقدين لها ، وواجدين للكفر بدلها (١) .

قيل : نزلت في أهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه ، وجعلهم قوّام بيته ، ووسّع عليهم أبواب رزقه ، وشرّفهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا ذلك وقحطوا سبع سنين ، وقتلوا واسروا يوم بدر ، فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هم الأفجران : بنو المغيرة ، وبنو امية ، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأمّا بنو امية فمتّعوا إلى حين » (٣) .

وفي ( المجمع ) : سأل رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : « هما الأفجران من قريش : بنو امية ، وبنو المغيرة ، فأمّا بنو امية فمتعّوا الى حين ، وأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نزلت في الأفجرين من قريش : بنو المغيرة ، وبنو اميّة ، فأمّا بنو المغيرة فقطع الله دابرهم [ يوم بدر ] ، وأمّا بنو اميّة فمتّعوا إلى حين » (٥) .

﴿وَأَحَلُّوا﴾ وأنزلوا ﴿قَوْمَهُمْ﴾ باضلالهم عن الحقّ ﴿دارَ الْبَوارِ﴾ والهلاك ، وهي ﴿جَهَنَّمَ﴾ وهم ﴿يَصْلَوْنَها﴾ ويدخلون فيها مقاسين لحرّها ﴿وَبِئْسَ الْقَرارُ﴾ والمستقرّ جهنّم.

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « ما يقولون في ذلك ؟ » قيل : يقولون : هما الأفجران من قريش : بنو اميّة ، وبنو المغيرة. فقال : « هي والله قريش قاطبة ، إنّ الله تعالى خاطب به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّي فضلت قريشا على العرب ، وأتممت عليهم نعمتي ، وبعثت إليهم رسولي ، فبدّلوا نعمتي كفرا ، وأحلّوا قومهم دار البوار » (٦) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٨.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٨.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٤١٨.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٤٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

(٥) تفسير القمي ١ : ٣٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

(٦) الكافي ٨ : ١٠٣ / ٧٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

٥١٥

وعن الصادق عليه‌السلام : « عنى بها قريشا قاطبة الذين عادوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصبوا له الحرب » ، وجحدوا الوصية » (١) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّهم كفار قريش ، كذّبوا نبيهم ، ونصبوا له الحرب والعداوة » (٢) .

ويمكن الجمع بين الروايات بأن النزول وإن كان في قريش قاطبة ، ولكن لمّا كان الأفجران أكفرهم للنعمة صحّ أن يقال نزلت فيهما.

وعن الصادق عليه‌السلام - في رواية - « ونحن نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا يفوز من فاز»(٣) .

وعن ( الكافي ) و( القمي ) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدلوا عن وصيه ، ألا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب » ثمّ تلا هذه الآية ، ثم قال : « نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده ، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة » (٤) .

﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)

ثمّ فسّر الله كفرانهم بقوله : ﴿وَجَعَلُوا﴾ من الأصنام ﴿لِلَّهِ أَنْداداً﴾ وشركاء في العبادة والنّعم التي أنعم بها عليهم بأن صرفوها فيها ، وقالوا : هذا لله ، وهذا لشركائنا ﴿لِيُضِلُّوا﴾ ويحرفوا عباد الله ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِهِ﴾ وقبول دينه الحقّ.

ثمّ أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديدهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لهؤلاء المشركين المضلّين : أنتم لا تتأهّلون للوعظ والنّصح والهداية ، فأنتم مخلّون وأنفسكم ، إذن ﴿تَمَتَّعُوا﴾ وانتفعوا بالنّعم الدنيوية قليلا ، وكلوا منها كما تأكل الأنعام ، لا حظّ لكم في نعم الآخرة ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ﴾ بعد خروجكم من الدنيا ﴿إِلَى النَّارِ﴾ التي سجّرها القهّار بغضبه.

﴿قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ

 قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)

ثمّ لمّا أمر سبحانه الكفّار بالتمتّع بالنّعم الدنيوية تهديدا ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يأمر المؤمنين بالإعراض عن الدنيا والاقبال إلى العبادات لطفا بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿لِعِبادِيَ الَّذِينَ﴾ عرفوني و﴿آمَنُوا﴾ بوحدانيتي ودار جزائي ، ليعرضوا عن التمتّع بالمشتهيات النفسانية واللذائذ الدنيوية ، ويقبلوا الى

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٩ / ٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٤٨٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٧١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

(٤) الكافي ١ : ١٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٧.

٥١٦

العبادات البدنية والمالية بأن ﴿يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ التي هي عمود دينهم ، ومعراجهم إلى مقام قرب ربّهم ﴿وَيُنْفِقُوا﴾ بعضا ﴿مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ وأنعمنا عليهم في سبيلنا وتحصيل مرضاتنا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ﴾ تنقضي مدد أعمارهم في الدنيا و﴿يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ عظيم ﴿لا بَيْعٌ﴾ ومعاوضة ﴿فِيهِ﴾ حتّى يبتاع المجرم نفسه بالمال ويفتدي به عنها من العذاب ﴿وَلا خِلالٌ﴾ وصداقة حتى يشفّعه خليله وصديقه ، أو يبذل عنه مالا ليخلّصه من العقوبة ، فعلى العاقل أن يهيّأ أسباب خلاصة من العذاب في الدنيا بالقيام بوظائف العبودية وبذل الأموال في سبيله.

﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ

 الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ

 الْأَنْهارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ *

 وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ

 لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٢) و (٣٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال السعداء ، وترغيبهم في القيام بوظائف العبودية ، وبيان حال الأشقياء ، وترهيبهم من الشرك ، نبّه على كمال قدرته وحكمته ووفور نعمته ، ازديادا لترغيب الأولين وترهيب الآخرين بقوله : ﴿اللهُ﴾ هو ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ بقدرته ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ نافعا بحكمته ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ من الأرض كثيرا ﴿مِنَ﴾ أنواع ﴿الثَّمَراتِ﴾ ليكون ﴿رِزْقاً﴾ ومعايش ﴿لَكُمْ﴾ بجوده ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ وسلّطكم على صنعها واستعمالها ﴿لِتَجْرِيَ﴾ وتسير الفلك المصنوعة ﴿فِي الْبَحْرِ﴾ إلى حيث توجّهتم بها ﴿بِأَمْرِهِ﴾ وإرادته ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ﴾ بأن جعلها سهلة الانتفاع بها باتحاد الجداول منها تسقي زروعكم وبساتينكم.

قيل : لمّا لم ينتفع بماء البحر في الزراعات ، أنعم الله على الخلق بتفجير الأنهار والعيون (١) .

وقيل : زروعكم وبساتينكم (٢) .

وقيل : إنّ المراد بالأنهار الأنهار العظيمة الخمسة : سيحون وجيحون والفرات ودجلة والنّيل ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة ، فاستودعها الجبال ، وأجراها ، وسخّرها للناس ، وجعل فيها منافع لهم في أصناف معائشهم ، وسائر الأنهار تبع لها (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٢٨.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤٢١.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٤٢٢.

٥١٧

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ حال كونهما ﴿دائِبَيْنِ﴾ ودائمين في سيرهما بحيث لا ينقطع سيرهما إلى يوم القيامة ، ولا يفتران لا صلاح ما يصلحان من الأرض والنبات والأبدان والمعادن وغيرها ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ﴾ لتسكنوا فيه ﴿وَالنَّهارَ﴾ لتبتغوا من فضله ﴿وَآتاكُمْ مِنْ كُلِ﴾ بجوده بعضا ﴿ما سَأَلْتُمُوهُ﴾ ممّا تحتاجون إليه ممّا لم يكن منافيا لحكمته ، أو كلّ ما سألتموه بلسان الحال أو المقال على أنّ كلمة ( من ) تبيينية.

ثمّ نبّه على أنّ نعمة ليست منحصرة بالمذكورات بقوله : ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ﴾ التي أنعمها عليكم جسمانية وروحانية ﴿لا تُحْصُوها﴾ ولا تقدرون على عدّها وحصرها لكثرتها وعدم إحاطة عقولكم بجميعها.

ثمّ ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ﴾ المستغرق في تلك النّعم والله ﴿لَظَلُومٌ﴾ وكثير العصيان لمنعمه مع أنّ حقّ نعمه الطاعة وصرف العمر في الشكر و﴿كَفَّارٌ﴾ لتلك النعم ، ومبالغ في كفرانها بأن صرفها في ما يغضب المنعم ويجعل له أندادا.

﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

 الْأَصْنامَ (٣٥)

ثمّ لمّا كانت قريش مفتخرين بانتسابهم إلى إبراهيم ، حكى سبحانه شدّة إنكاره عبادة الأصنام بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ﴾ حبّا لأولاده الساكنين في مكة من بني إسماعيل ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ الذي يسكنه (١) ذرّيتي ﴿آمِناً﴾ ومحفوظا من ورود المكاره العمومية (٢) على أهله ، وقد مرّ في سورة البقرة تفصيل المراد من جعله آمنا (٣)﴿وَاجْنُبْنِي﴾ وبعّدني ﴿وَبَنِيَ﴾ من ﴿أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ﴾ بأن تثبّتنا على ما نكون عليه من التوحيد ودين الاسلام.

قيل : إنّه عليه‌السلام لمّا رأى القوم يعبدون الأصنام ، فخاف على بنيه ، فدعا لهم (٤) ، وإنّما أدخل نفسه الشريفة في الدعاء إمّا لإظهار هضمها ، وإمّا لإظهار أنّ عصمته من العقائد الفاسدة والزلّات بعناية الله ولطفه لا بنفسه ، وقد استجاب الله دعاءه ، فجعل البلد آمنا بالمعاني التي سبق ذكرها ، وجنّب كثيرا من ذراريه من عبادة الصنم ، وكانت كلمة التوحيد باقية في عقبه.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قد حظر على من مسّه الكفر تقلّد ما فوّضه إلى أنبيائه وأوليائه بقوله

__________________

(١) في النسخة : يسكنها.

(٢) في النسخة : العمومي.

(٣) تقدم في سورة البقرة : ٢ / ١٢٦.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٢٤.

٥١٨

لابراهيم عليه‌السلام : ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(١) أي المشركين ، لأنّه سمّى الشرك ظلما بقوله : ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(٢) فلمّا علم إبراهيم عليه‌السلام أنّ عهد الله تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام قال : ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ(٣) .

وفي رواية ( الأمالي ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي عليّ لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ ، فاتّخذني نبيا وعليا وصيا » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه أتاه رجل فسأله عن شيء فلم يجبه ، فقال له الرجل : فان كنت ابن أبيك فانّك من أبناء عبدة الأصنام. فقال له : « كذبت إن الله أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكّة ففعل ، فقال إبراهيم : ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ﴾ فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما ، ولكن العرب عبدة الأصنام ، وقالت بنو إسماعيل : هؤلاء شفعائنا عند الله فكفرت ولم تعبد الأصنام » (٥) .

وقيل : إن دعاءه كان لأولاده من صلبه ، وهم إسماعيل وإسحاق (٦) .

وقيل : لأولاده الذين كانوا في عصره (٧) .

﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ

 غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)

ثمّ بين عليه‌السلام أنّ علة سؤال عصمة أولاده من عبادة الأصنام ، شيوع الشرك بين الناس بقوله : ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ﴾ وصرن أسبابا لبعد غالب الخلق عن الحقّ ، ثمّ أظهر غاية حبّه للموحّدين المطيعين لله ترغيبا للنّاس إلى التوحيد وطاعة الله ، وإظهارا لتبعية حبّه لحبّ الله بقوله : ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي﴾ من الناس كان من أولادي أو غيرهم في ديني من عقائدي وأعمالي ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ وبمنزلة عضو من أعضائي لفرط اختصاصه بي وحبّي إياه.

ثمّ أظهر عطوفته بعامة الناس بشفاعته في أهل الكبائر منهم بقوله : ﴿وَمَنْ عَصانِي﴾ وخالف أحكامك التي بلغتها إليه ، فاغفر له ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين العصاة فلا تحرمه من غفرانك ورحمتك.

عن الصادق عليه‌السلام : « من اتّقى الله منكم وأصلح فانه منّا أهل البيت » [ قيل : منكم أهل البيت ؟ قال : « منا

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٢٤.

(٢) لقمان : ٣١ / ١٣.

(٣) الاحتجاج : ٢٥١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٩.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٧٩ / ٨١١ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٩.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٤١٤ / ٢٢٨٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٨٩.

(٦) تفسير الرازي ١٩ : ١٣٢.

(٧) تفسير الرازي ١٩ : ١٣٣.

٥١٩

أهل البيت ] قال [ فيها ] إبراهيم : ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي(١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من أحبّنا فهو منّا أهل البيت » قيل : منكم ؟ قال : « منّا والله ، أما سمعت قول إبراهيم : ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي(٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : ﴿وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قال : « تقدر أن تغفر له وترحمه»(٣).

قيل : إنّ المراد من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم ، يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإيمان (٤) .

وقيل : إنّ المراد من هذه المغفرة عدم التعجيل في عقوبته وإمهاله حتى يتوب ، أو عدم التعجيل في موته فتفوته التوبة (٥) .

﴿رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا

 لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ

 لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧)

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد طلب الأمن والايمان اللذين هما أجلّ النّعم الدنيوية والاخروية وأعلاها لأولاده ، سأل وجاهتهم ومحبوبيتهم عند الناس والسّعة في رزقهم بقوله : ﴿رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ﴾ بعضا ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ وأولادي وهم إسماعيل ونسله ﴿بِوادٍ﴾ وصحراء ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ وهو وادي مكّة ، فانّها حجرية لا ينبت فيها شيء من الزرع ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ والكعبة العظيمة التي لا يحلّ انتهاكها ، وإنّما كان إسكاني لهم فيه ﴿رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ عند البيت ، ويشتغلوا بعبادتك حوله ، لا لغرض دنيوي ، فاذا كان غرضي ذلك ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً﴾ كثيرة ﴿مِنَ النَّاسِ تَهْوِي﴾ وتشتاق ﴿إِلَيْهِمْ﴾ وتسرع إلى لقائهم محبّة لهم.

عن الباقر عليه‌السلام : « نحن هم ، ونحن بقيّة تلك الذرّية » (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والأفئدة من الناس تهوي إلينا ، وذلك دعوة إبراهيم حيث قال : ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ(٧) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٤١٤ / ٢٢٨٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٩٠.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٤١٤ / ٢٢٨٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٩٠.

(٣) تفسير الصافي ٣ : ٩٠.

(٤) تفسير الرازي ١٩ : ١٣٤ ، وفيه : إلى الإسلام.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ١٣٤.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٤١٥ / ٢٢٩١ ، تفسير الصافي ٣ : ٩٠.

(٧) الاحتجاج : ١٦٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٩١.

٥٢٠