نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

وعن الباقر عليه‌السلام - في رواية - « وردّهم إلى يعقوب في ذلك اليوم ، وجهّزهم بجميع ما يحتاجون إليه ، فلمّا فصلت عيرهم من مصر ، وجد يعقوب ريح يوسف ، فقال لمن بحضرته من ولده : إنّي لأجد ريح يوسف لو لا أن تفنّدون. قال : وأقبل ولده يحثّون السير بالقميص فرحا وسرورا [ بما رأوا ] من حياة (١) يوسف والملك الذي أعطاه الله (٢) ، فكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام [ فلمّا أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه ، فارتدّ بصيرا ] وقال لهم : ما فعل بنيامين ؟ قالوا : أخلفناه عند أخيه صالحا ، فحمد الله يعقوب وسجد لربّه شكرا ، ورجع إليه بصره ، وتقوّم ظهره ، وقال لولده : تحوّلوا إلى مصر (٣) بأجمعكم في يومكم هذا (٤) .

﴿قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي

 إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٧) و (٩٨)

﴿قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا﴾ بما فعلنا بك وبيوسف وبنيامين ﴿خاطِئِينَ﴾ ومتعمدين بالذنب ولو لا استغفارك لنا لكنّا هالكين ﴿قالَ﴾ أبوهم : ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ البتّة فيغفر لكم ﴿إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ﴾ للذنوب ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالتائبين.

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير وقت دعوتم الله عزوجل فيه الأسحار » وتلا هذه الآية في قول يعقوب : ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ وقال : « أخّرهم إلى السّحر » (٥) .

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « أخّره إلى السحر ليلة الجمعة » (٦) .

وعنه عليه‌السلام أيضا : « أخّرهم إلى السحر ، وقال : يا ربّ إنما ذنبهم فيما بيني وبينهم. فأوحى الله [ إنّي ] قد غفرت لهم » (٧) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل [ عن يعقوب أنه ] لمّا قال له بنوه : ﴿يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ فأخّر الاستغفار لهم ، ويوسف لمّا قالوا [ له ] : ﴿تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(٨) ؟

قال : « لأنّ قلب الشاب أرقّ من قلب الشيخ ، وكانت جناية ولد يعقوب على يوسف ، وجنايتهم

__________________

(١) في تفسير العياشي : من حال.

(٢) زاد في تفسير العياشي : والعزّ الذي صاروا إليه في سلطان يوسف.

(٣) في تفسير العياشي : تحملوا إلى يوسف.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٦٨ / ٢١٥٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٥.

(٥) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٦.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٣٦٩ / ٢١٥٤ ، مجمع البيان ٥ : ٤٠٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٦.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣٦٨ / ٢١٥٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٦.

(٨) يوسف : ١٢ / ٩١ و٩٢.

٤٤١

على يعقوب [ إنّما ] كانت بجنايتهم على يوسف ، فبادر يوسف إلى العفو [ عن حقّه ] ، وأخّر يعقوب العفو لأنّ عفوه [ إنّما ] كان عن حقّ غيره ، فأخّرهم إلى السحر ليلة الجمعة » (١) .

وعن الشّعبي ، قال : « قال : ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ قال : أسأل يوسف ، فان عفا عنكم استغفر لكم ، فأخّر الاستغفار إلى وقت الاجتماع بيوسف » (٢) .

ثمّ أنّهم خرجوا من كنعان متوجّهين إلى مصر ، فلمّا دنوا منه أخبر بذلك يوسف ، فاستقبلهم مع الملك الأكبر ريّان في أربعة آلاف من الجند ، وقيل : في ثلاثمائة ألف فارس والعظماء وأهل مصر ، ومع كلّ فارس جنّة من فضة وراية من ذهب ، فتزينت الصحراء بهم ، واصطفوا صفوفا ، وكان الكلّ غلمان يوسف ومراكبه ، وصعد يعقوب وأولاده تلّا نظروا إلى الصحراء مملوءة من الفرسان ، مزينة بالألوان ، فتعجّب من ذلك فقال له جبرئيل : انظروا إلى الهواء ، فانّ الملائكة قد حضرت سرورا بحالكم ، كما كانوا محزونين مدّة لأجلك ، ثمّ نظر يعقوب إلى الفرسان فقال : إنّ فيهم ولدي يوسف : فقال جبرئيل : هو ذاك فوق رأسه الظّلّة ، فلم يتمالك أن دفع نفسه عن البعير ، فجعل يمشي متوكّأ على يهودا ، فقال جبرئيل : يا يوسف ، إنّ أباك يعقوب قد نزل لك فانزل له منزلا ، فنزل من فرسه ، وجعل كل واحد منهما يعدو إلى الآخر ، فلمّا تقرّبا قصد يوسف أن يبدأ بالسلام ، فقال جبرئيل : لا ، حتى يبدأ يعقوب به لأنّه أفضل وأحقّ. فابتدأ يعقوب بالسلام ، وقال : السّلام عليك يا مذهب الأحزان ، فتعانقا وبكيا سرورا ، وبكت ملائكة السماء ، وماج الفرسان بعضهم في بعض وصهلت الخيول وسبّحت الملائكة (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ يوسف لمّا قدم على (٤) الشيخ يعقوب دخله عزّ الملك فلم ينزل إليه ، فهبط عليه جبرئيل ، فقال : يا يوسف ، ابسط راحتك ، فخرج منها نور ساطع ، فصار في جوّ السماء » فقال يوسف : يا جبرئيل ، ما هذا النور الذي خرج من راحتي فقال : نزعت النبوة من عقبك عقوبة لمّا لم تنزل إلى الشيخ يعقوب ، فلا يكون في عقبك نبي » (٥) .

﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ

 آمِنِينَ (٩٩)

__________________

(١) علل الشرائع : ٥٤ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٦.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٣١٨.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٣١٩.

(٤) في الكافي وتفسير الصافي : عليه.

(٥) الكافي ٢ : ٢٣٥ / ١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٧.

٤٤٢

ثمّ قيل : إنّه هيأ بيتا في خارج مصر أو مضربة هناك قعد يوسف فيه (١) وقيل : كان له في خارج مصر قصر رفيع ، فلمّا استقبل أبويه أنزلهم هناك أولا ﴿فَلَمَّا﴾ جاء يعقوب وزوجته اسمها أليا أو ياميل ، وكانت خالته ومربيته بعد امّه راحيل ، ولعلّه كان يقول لها امّ وسائر إخوته ﴿دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ﴾ في القصر أو البيت أو المضربة ﴿آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ يعقوب وراحيل ، أو خالته التي كانت بمنزلة امّه ، وعانقهما ثمّ قام ﴿وَقالَ﴾ لأبويه وإخوته وأقاربه (٢) : ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ﴾ حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الجوع وإساءة الجبابرة إليكم وسائر المكارة.

قيل : إنّهم كانوا من قبل يخافون ملك مصر وجبابرته ، ولا يدخلونها إلا باجازتهم ، وكانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة ، فدخلوا جميعا مصر (٣) . و[ عن ] القمي : لمّا وافى يعقوب وأهله وولده مصر قعد يوسف على سريره ، ووضع تاج الملك على رأسه ، فأراد أن يراه أبوه على تلك الحالة ، فلمّا دخل عليه أبواه لم يقم لهما (٤) .

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ

 قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ

 مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ

 لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠)

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ وأجلسهما على السرير المختصّ به إكراما لهما ، بعد أن تواضع له أبواه وإخوته ﴿وَخَرُّوا لَهُ﴾ على الأرض حال كونهم ﴿سُجَّداً﴾ له تحية ومكرمة.

قيل : إنّ السجود كان في ذلك الزمان بمنزلة المصافحة وتقبيل اليد في هذا الزمان (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان سجودهم ذلك عبادة لله » (٦) .

قيل : يعني لأجل وجدانه ولقائه سجدوا شكرا لله ، وجعلوا يوسف كالقبلة. وقيل : إنّه لم يسجد له أبواه بل إنّما سجد له إخوته (٧) ، والمراد في تعبير الرؤيا من سجود الأبوين تعظيمهما له.

وقيل : إنّما سجد يعقوب لأجل أن لا يستنكف من السجود له أنفة واستعلاء عليه. وقيل : إن الله أمر يعقوب بالسجود له لحكمة لا يعلمها غيره ، كما أمر الملائكة بالسجود لآدم (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٠.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٠.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٨.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٠.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٠ / ٢١٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٨.

(٧) تفسير الرازي ١٨ : ٢١٢.

(٨) تفسير الرازي ١٨ : ٢١٣.

٤٤٣

عن ابن عباس : أنّ يوسف لمّا رأى سجود أبويه وإخوته له ، هاله ذلك ، واقشعرّ جلده منه ﴿وَقالَ﴾ ليعقوب : ﴿يا أَبَتِ هذا﴾ السجود ﴿تَأْوِيلُ رُءْيايَ﴾ التي رأيتها ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي زمن الصبى ﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ وصدقا ومطابقة لما وقع الآن بعد أربعين سنة ، أو ثمانين ، أو عشرين.

وعن الباقر عليه‌السلام : « لما دخلوا على يوسف في دار الملك ، اعتنق أباه وبكى ، [ ورفعه ] ورفع خالته على سرير الملك ، ودخل منزله فادّهن واكتحل ، ولبس ثياب العزّ والملك ، ثمّ خرج إليهم ، فلمّا رأوه سجدوا [ جميعا ] له إعظاما وشكرا لله ، فعند ذلك قال : ﴿هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا(١) .

﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ ربي صنيعه ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ وإنّما لم يذكر خروجه من الجبّ لأن لا يستحي إخوته ، ولا يكون تثريبا عليهم ، ولا يتألم قلب أبيه بتذكّر إلقائه في الجبّ ، ولأنّه كان الإحسان بإخراجه من السجن أتمّ ، لانّه كان في الجبّ مع جبرئيل ، وفي السجن مع الكفّار ، وإنّه بعد الخروج من الجب صار عبدا ، وبعد الخروج من السجن صار ملكا.

ثمّ ذكر الإحسان الثاني بقوله : ﴿وَجاءَ بِكُمْ﴾ إليّ ﴿مِنَ الْبَدْوِ﴾ والصحراء.

وقيل : إنّ البدو كان اسم موضع معمور من فلسطين قريبا من كنعان يسكنه يعقوب (٢) ، وكان ذلك الاحسان ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ﴾ وأفسد ﴿الشَّيْطانُ﴾ بتسويلاته ﴿بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ وفي هذا التعبير مبالغة في الاحسان إلى إخوته حيث نسب ما فعله الإخوة به إلى الشيطان ، وعبّر عنه بالنّزغ.

ثمّ اثنى على الله بقوله : ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ﴾ وذو إحسان خفيّ بعباده ومسبّب الأسباب ﴿لِما يَشاءُ﴾ وجوده بسهولة ، وإن كان عند العقول في غاية البعد والصعوبة.

ثمّ ذكر علّة لطف تدابيره بقوله : ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بجميع الخصوصيات وخفايا الممكنات ﴿الْحَكِيمُ﴾ ومتقن في أفعاله ، آت بما هو الصواب والصلاح لعباده.

عن الغزالي : لا يستحقّ اسم اللطيف إلّا من يعلم دقائق المصالح وغوامضها ، وما دقّ منها ولطف ، ثمّ يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف ، ولا يتصوّر كمال ذلك في العلم والعقل إلّا الله تعالى (٣) .

عن الهادي عليه‌السلام : « قال يعقوب لابنه : أخبرني بما فعل إخوتك بك حين أخرجوك من عندي. قال : يا أبه ، أعفني من ذلك. قال : فأخبرني ببعضه. قال : إنّهم لمّا أدنوني من الجبّ قالوا : انزع القميص.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٦٩ / ٢١٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٨.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٢.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٣.

٤٤٤

فقلت : يا إخوتي ، اتّقوا الله ولا تجرّدوني ، فسلّوا عليّ السكّين وقالوا : لئن لم تنزع لنذبحنّك ، فنزعت القميص وألقوني في الجبّ عريانا. قال : فشهق يعقوب شهقة وأغمي عليه ، فلمّا أفاق قال : يا بنيّ حدّثني. قال : يا أبه أسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلّا أعفيتني ، فأعفاه » (١) .

وروي أنّ يوسف قال ليعقوب : [ يا أبه ] لا تسألني عن صنيع إخوتي ، واسألني عن صنيع الله بي(٢) .

روي أنّ يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله في خزائن الورق (٣) والذهب ، وخزائن الحليّ ، وخزائن الثياب ، وخزائن السلاح وغير ذلك ، فلمّا أدخله في خزائن القراطيس - وهو أول من عملها - قال يعقوب : يا بنيّ ، ما أعقّك (٤) ! عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثماني مراحل ؟ ! قال : أمرني جبرئيل. قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أبسط إليه منّي فاسأله. قال جبرئيل : الله أمرني بذلك لقولك : إني ﴿أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ قال : فهلا خفتني (٥) ؟

قيل : لمّا قدم يعقوب على يوسف وقد سأله أولاده أن يستغفر لهم قام في مصلاه إلى الصلاة في السحر ليلة الجمعة ، وكانت ليلة عاشوراء ، فلمّا فرغ رفع يديه وقال : اللهم اغفر جزعي على يوسف وقلّه صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا به أخاهم. وقام يوسف خلفه يؤمّن ، وقام إخوته خلفهما خاشعين ، فأوحى الله إليه : أنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين ، ثمّ لم يزل يدعو لهم كلّ ليلة جمعة مائة و(٦) نيف وعشرين سنة إلى أن حضرته الوفاة (٧) .

قيل : ولد ليوسف من راعيل الملقّبة بزليخا افرائيم وميشا وحمة امرأة أيوب ، وولد لافرائيم نون ، ولنون يوشع فتى موسى ، فلمّا نزل يعقوب في قصر يوسف جاء أولاد يوسف فوقفوا بين يدي يعقوب ، ففّرح بهم وقبّلهم ، وحدّثه يوسف بحديثه مع زليخا ، وما كان بينه وبين زليخا (٨) ، وأخبره أنّ هؤلاء أولاده منها ، فدعاها (٩) يعقوب ، فحضرت وقبّلت يده ، وسالته زليخا أن ينزل عندها ، فقال : لا أرضى بزينتكم هذه ، ولكن اصنعوا لي عريشا من البردي والقصب مثل عريشي بأرض كنعان ، فصنعوا له عريشا كما أراد ونزل فيه في أتمّ سرور (١٠) .

وروي أن يعقوب أقام مع يوسف مائة وسبعا - أو أربعا - وعشرين سنة (١١) ، وأوصى أن يدفنه

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٥٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٩.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٤٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٠.

(٣) الورق : الفضّة.

(٤) في تفسير الرازي : ما أغفلك.

(٥) تفسير الرازي ١٨ : ٢١٦ ، تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٣.

(٦) في تفسير روح البيان : جمعة في.

(٧) تفسير روح البيان ٤ : ٣١٨.

(٨) في تفسير روح البيان : كان منه ومنها.

(٩) في تفسير روح البيان : فاستدعاها.

(١٠) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٣.

(١١) في تفسير الرازي ١٨ : ٢١٦ : أقام معه أربعا وعشرين سنة.

٤٤٥

بالشام إلى جنب أبيه إسحاق ، فنقله يوسف بنفسه في تابوت من ساج فوافق يوم وفاة عيص فدفنا في قبر واحد ، وكانا في بطن واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة ، ثمّ عاد إلى مصر ، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة ، وكان عمره مائة وعشرين سنة (١) .

عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « دخل يوسف في السجن وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، ومكث فيها ثماني عشر سنة ، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة ، فذلك مائة سنة وعشر سنين » (٢) .

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّه سئل كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر ؟ قال : « عاش حولين » .

قيل : فمن كان الحجة لله في الأرض ، أيعقوب أم يوسف ؟ قال : « كان يعقوب [ الحجة ] ، وكان الملك ليوسف ، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفن في بيت المقدس ، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة »

قلت : وكان [ يوسف ] رسولا نبيا ؟ قال : « نعم ، اما تسمع قول الله عزوجل : ﴿وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ(٣) .

أقول : لعلّ الرواية محمولة على أنّ يوسف لم يكن حجّة على جميع الناس ، بل على غير يعقوب ، وإنّما صار حجّة على الجميع بعد موت يعقوب لوضوح أنّه عليه‌السلام كان يوحى إليه ، وينزل عليه جبرئيل ، ويكلّمه ويؤنسه ، ولا يكون ذلك إلّا النبيّ والرسول.

قيل : إنّه عليه‌السلام لمّا جمع الله شمله ، وبلغ ملكه وأمره إلى الكمال ، علم أنه أشرف إلى الزوال فسأل الله الموت (٤) .

﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ

 وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي

 بِالصَّالِحِينَ (١٠١)

وقيل : إنّه رأى أبيه في المنام ، فقال : يا يوسف ، إنّي مشتاق إلى لقائك فأسرع إليّ إلى ثلاثة أيام. ثمّ انتبه من نومه ودعا إخوته ، وأوصى بوصاياه ، وولي يهودا ملكه ، وأوصى إليه في حقّ أولاده ، ثمّ ناجى ربه وقال : ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي(٥) مقدارا وقليلا ﴿مِنَ الْمُلْكِ﴾ والسلطنة الدنيوية ، وهو ملك مصر ﴿وَعَلَّمْتَنِي﴾ بالالهام والوحي شيئا ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ﴾ وتعبير الرؤى ، أو قليلا من العلم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٤.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٤٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٠.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٤٠٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٠.

(٤ و٥) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٤.

٤٤٦

بحقائق الأشياء والامور ، يا ﴿فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وخالقهما بقدرتك وحكمتك ﴿أَنْتَ﴾ مع كمال الصفات ﴿وَلِيِّي﴾ والناظر في صلاحي ومدبّر اموري ﴿فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ﴾ إذن ﴿تَوَفَّنِي﴾ واقبض روحي ، وأخرجني من الدنيا حال كوني ﴿مُسْلِماً﴾ وموحّدا ومطيعا لأحكامك ، مهذّب الأخلاق ، كريم الصفات ، كاملا من جميع الجهات ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ والكمّلين في صفات العبودية ، والراقين في أعلى درجات المعرفة والانسانية من آبائي العظام ، وأوليائك الكرام ، واجعلني في زمرتهم ورفقائهم.

قيل : إنّ الصلاح مرتبة عظيمة جامعة لجميع المراتب الكمالية (١) .

قيل : ما تمنّى الموت نبي غير يوسف (٢) .

وقيل : إنّه عليه‌السلام ناجى ربّه بعد ملاقاة أبيه بتلك الكلمات تشكرا لنعم الله عليه (٣) .

وفي رواية عن الهادي عليه‌السلام : « فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله لاجتماع شملهم ، أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت : ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ الآية (٤) .

قيل : إنّ يوسف ذكر رؤياه الناعية لزليخا ، ودعا بالدعاء ، فعلمت أنّ الله يقبل دعاءه ، وأن الأمر يصير إلى الفرقة ، دعت الله أن يعجّل وفاتها قبل وفاة يوسف (٥) .

وقيل : ماتت زليخا قبل وفاة يوسف مدة مديدة ، فحزن عليها ، ولم يتزوج ، ولمّا قربت وفاة يوسف أوصى إلى ولده افرائيم أن يسوس الناس (٦) .

وقيل : إنّ يوسف خرج بأهله وولده وجميع من آمن معه من مصر ، ونزل عليه جبرئيل ، فخرق له من النيل خليجا إلى الفيّوم (٧) ، ولحق به كثير من الناس ، وبنوا هناك مدينتين ، وسمّوهما الحرمين ، وكان يوسف هناك سنين إلى أن مات ، فتخاصم المصريون في مدفنه من جانبي النيل كلّ طائفة أرادوا أن يدفن يوسف في جانبهم تبرّكا بقبره الشريف ، وجلبا للخصب حتّى همّوا بالقتال ، ثمّ تصالحوا على أن يدفن سنة في جانب مصر ، وسنة اخرى في جانب آخر من البدو ، فدفن في الجانب المصري فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر من البدو ، ثمّ نقل إلى الجانب البدوي فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر المصري ، ثمّ اتفقوا على دفنه في وسط النيل ، وقدّروا ذلك بسلسلة ، وعملوا له صندوقا من مرمر (٨) .

__________________

( ١و٣ ) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٥.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٥٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٩.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٦.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٧.

(٧) الفيّوم : موضع في مصر ، بينها وبين الفسطاط أربعة أيام.

(٨) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٧.

٤٤٧

قيل : إنّ الله تعالى حين أمر موسى بالسير ببني إسرائيل ، أمره أن يحمل عظام يوسف معه حتى يضعها في الأرض المقدّسة (١) .

قيل : إنّه عليه‌السلام لمّا أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه ، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك ، وكان نقل موسى عظامه للوفاء بما أوصى به فسأل موسى عمن يعرف موضع قبره ، فما وجد أحدا يعرفه إلّا عجوزا في بني إسرائيل ، فقالت له : يا نبي الله ، أنا أعرف مكانه وأدلّك عليه إن أنت تخرجني معك ولم تخلّفني بأرض مصر. قال : أفعل ذلك.

وقيل : إنّها قالت : أكون معك في الجنّة ، فكأنّه ثقل عليه ذلك فقيل له : أعطها طلبتها فأعطاها ، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر ، فدعا ربّه أن يؤخّر طلوع القمر حتى يفرغ من أمر يوسف ففعل ، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل - وقيل : في مستنقع ماء في ناحية [ من ] النيل ، فقالت لهم : أنضبوا وارفعوا عنها الماء ففعلوا ، فقالت : احفروا فحفروا [ وأخرجوه ] .

وقيل : ذهبت بموسى إلى عمود في شاطىء النيل في أصله سكّة من حديد فيها سلسلة مربوطة بصندوق من حديد في وسط النيل ، فاستخرجه موسى وفتح الصندوق ، فوجد صندوقا من مرمر داخلا في ذلك الصندوق الذي من الحديد فأخرجه (٢) .

وقيل : إنّه جاء موسى شيخ له ثلاثماثة سنة ، فقال له : يا نبي الله ، ما يعرف قبر يوسف إلّا والدتي. فقال له موسى : قم معي إلى والدتك ، فقام الرجل ودخل منزله ، وأتى بقفّة فيها والدته ، فقال لها موسى : ألك علم بقبر يوسف ؟ قالت : نعم ، ولا أدلّك على قبره ، إلا إن دعوت الله أن يردّ عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ، ويزيد في عمري مثل ما مضى ، فدعا لها موسى وقال لها : كم عمرك ؟ قالت : تسعة مائة سنة ، فعاشت ألفا وثمانمائة سنة ، فأدّته إلى (٣) قبر يوسف ، وكان في وسط النيل ليمرّ النيل عليه فيصل إلى جميع مصر ، فيكونوا شركاء في بركته ، فأخصب الجانبان ، وكان بين دخول يوسف مصر إلى يوم خروج موسى أربعمائة سنة (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران ، أن أخرج عظام يوسف من مصر ، فاستخرجه من شاطئ النيل ، وكان في صندوق مرمر ، فحمله إلى الشام ، فلذلك يحمل أهل الكتاب

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٧.

(٢) في تفسير روح البيان : فاحتمله.

(٣) في تفسير روح البيان : فأرته.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٨.

٤٤٨

موتاهم إلى الشام ، وهو يوسف بن يعقوب ، وما ذكر الله يوسف في القرآن غيره » (١) .

﴿ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ

 يَمْكُرُونَ * وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٢) و (١٠٣)

ثمّ لمّا كان الأخبار المغيبات من أعظم المعجزات ، استدلّ سبحانه بأخبار النبيّ الامي الذي لم يجالس عالما ولم يقرأ كتابا على صدق نبوته بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من قصة يوسف ﴿مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ﴾ والأخبار التي لا يطّلع مثلك يا محمد عليها بالأسباب العادية ، بل نحن ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ بتوسّط جبرئيل ، لأنّها منحصرة في السماع من المطّلعين ، ومطالعة الكتب ، وهما منتفيان في حقّك بتسليم المخالف والموالف ، وفي الحضور عند وقوع القضية ، وهذا أيضا منتف بالضرورة لوضوح أنّك ما كنت في ذلك الزمان في العالم ﴿وَما كُنْتَ﴾ عند إخوة يوسف ، وحاضرا ﴿لَدَيْهِمْ﴾ لا سيما ﴿إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ وحين عزموا على ما رأوا من إلقاء يوسف في الجبّ ، أو حين اتّفقوا عليه مع كونهم في غاية التستّر فيه ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ به بترغيبه في الخروج معهم إلى التفرّج ، وبأبيه بترضيته خاطره في إرساله معهم ، فمع انتفاء الحضور عندهم ، وعدم كونك قارئا للكتب ، ومتعلما من العلماء ، ثبت كونك عالما بها بالايحاء إليك من الله ، ونبيا صادقا في دعوى نبوتك ، ومع ذلك ﴿وَما أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ من اليهود والنصارى والمشركين ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ على إيمانهم ، وبالغت في دعوتهم وإظهار المعجزات لهم ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ بك لعنادهم وشدّة لجاجهم وإصرارهم على إنكار نبوتك.

روي أنّ كفّار قريش وجماعة من اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قصة يوسف على سبيل التعنّت ، فلمّا أخبرهم على طبق التوراة لم يسلموا ، فحزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت الآية تسلية له (٢) .

﴿وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ * وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ

 بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٤) و (١٠٦)

ثمّ لمّا كان من دواعي التكذيب توهّم طمع المال في المبلّغ ، دفع الله هذا التوهم بقوله : ﴿وَما تَسْئَلُهُمْ﴾ يا محمد ، عند تبليغ المعارف والأحكام ﴿عَلَيْهِ﴾ شيئا ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ ومال يعطونك ما يسأله

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٣ / ٥٩٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٥١.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٨.

٤٤٩

أهل الطمع على تعليماتهم ﴿إِنْ﴾ القرآن وما ﴿هُوَ﴾ أو ما تبليغك ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ وعظة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ عامة ، وبعثا لهم على سلوك سبيل النجاة ، وإنّما هو لي وعليّ أجره لا على الناس ، فلا مجال لتوهّم شوب غرضك في تبليغك بالدنيا.

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في إعراض الكفار عنه وعدم اعتنائهم بمعجزاته بقوله :

﴿وَكَأَيِّنْ﴾ وكثير ﴿مِنْ آيَةٍ﴾ وكم من دليل واضح على وجود الصانع الحكيم وتوحيده ﴿فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وهؤلاء الكافرون المعاندون ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْها﴾ ويشاهدونها ﴿وَهُمْ﴾ لا يلتفتون إليها ، بل هم ﴿عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ وبها لا يعتنون ، وفيها لا يتفكّرون ، ولا يعتبرون بها.

قيل : لمّا سمع المشركون تلك الآية قالوا : إنا نؤمن بالله الذي خلق الأشياء ، فردّهم الله بقوله : ﴿وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ(١) ولا يعترفون بألوهيّته ﴿إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ به في العبوديّة والطاعة.

عن ابن عباس ، أنّه قال : نزلت في تنبيه المشركين (٢) ، لأنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك.

وعنه أيضا : هم الذين يشبّهون الله بخلقه.

وعنه أيضا : أنّ أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له ، والملائكة بناته ، فلم يوحّدوه ، بل أشركوا وقال عبدة الأصنام : ربّنا الله وحده ، والأصنام شفعاؤنا عنده ، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزير ابن الله ، وقالت النصارى : ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله ، وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده ، وهؤلاء أربابنا ، وقال المهاجرون والأنصار : ربّنا الله وحده لا شريك معه (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام : « شرك طاعة وليس شرك [ عبادة ] » (٤) .

وزاد القمي رحمه‌الله : والمعاصي التي يرتكبون ، فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره ، وليس باشراك عبادة (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : « يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « هم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها » (٧) .

وعنه عليه‌السلام أيضا : « هو الرجل يقول : لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٢٩.

(٢) في تفسير الرازي : تلبية مشركي العرب.

(٣) تفسير الرازي ١٨ : ٢٢٤.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٣ / ٢١٦٨ ، تفسير القمي ١ : ٣٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٢.

(٥) تفسير القمي ١ : ٣٥٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٢.

(٦) الكافي ٢ : ٢٩٢ / ٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٧) التوحيد : ٣٢٤ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

٤٥٠

لضاع عيالي ، ألا ترى أنّه قد جعل لله شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه » .

قيل : فيقول لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت ؟ قال : « نعم ، لا بأس بهذا » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من ذلك قول الرجل : لا وحياتك » (٢) .

وعنهما عليهما‌السلام : « هو شرك النّعم » (٣) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « شرك لا يبلغ به الكفر » (٤) .

أقول : الوجه هو حمل الروايات على بيان عدم انحصار مدلول الآية بالشّرك في العبادة ، وإنّ المراد منها جميع مراتب الشّرك ولو بأن يرى مع الله غيره بقوله لغيره : وحياتك ، مع أنّ هذا الكلام ليس من الشّرك في الطاعة.

﴿أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا

 يَشْعُرُونَ (١٠٧)

ثمّ هدّد الله سبحانه المشركين والكافرين بنبوة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿أَ فَأَمِنُوا﴾ مع كفرهم وشركهم من ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ وتنزل عليهم بسبب مشاقّتهم الله ورسوله عقوبة ﴿غاشِيَةٌ﴾ لهم منبسطة عليهم ﴿مِنْ عَذابِ اللهِ﴾ بحيث لا ينجو منها أحد منهم ، كالصّاعقة والخسف والطّوفان ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾ وأهوال القيامة ﴿بَغْتَةً﴾ وفجأة ، وفي حال عدم كونهم متوقّعين لها ، وغير محتملين إتيانها ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بمجيئها ، ولاشتغالهم بالدنيا لا يلتفتون إليها ، وفيه تأكيد معنى البغتة.

﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما

 أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد تسليه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وذمّ المشركين بإعراضهم عن الآيات الدالّة على توحيده وكمال صفاته ، وتهديدهم عليه ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالثبات على الدعوة إلى توحيده رغما لانوفهم وعدم المبالاة بجحدوهم بقوله : و﴿قُلْ﴾ يا محمد للمشركين والمكذّبين لك ﴿هذِهِ﴾ السبيل التي أسلكها ، والطريق التي أنا فيها ﴿سَبِيلِي﴾ التي لا انحراف لي منها أبدا ما دمت حيا ، وهي أنّي ﴿أَدْعُوا﴾ جميع

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٤ / ٢١٦٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٢ / ٢١٦٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٤ / ٢١٧٠ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٣ / ٢١٦٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

٤٥١

أهل العالم من الأبيض والأسود والعرب والعجم ﴿إِلَى﴾ توحيد ﴿اللهِ﴾ ذاتا وصفاة وأفعالا ، وإلى دينه وطاعته ، حال كوني ﴿عَلى بَصِيرَةٍ﴾ كاملة ، وحجّة قاطعة ، وبرهانا واضحا ، بل على تنوّر القلب وشهود به لما اعتقده وأدعو إليه ، ولا أكون متفرّدا بهذه الطريقة ، بل ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ من الأنبياء السابقين والأولياء اللاحقين والمؤمنين الكمّلين عليها.

روى العلامة في ( نهج الحق ) عن العامة قوله تعالى : ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ هو علي (١) .

عن الباقر عليه‌السلام : « ذاك رسول الله وأمير المؤمنين والأوصياء من بعدهما » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « عليّ اتّبعه » (٣) .

وعن الجواد عليه‌السلام حين أنكروا عليه حداثة سنّة قال : « وما تنكرون ؟ قال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي﴾ الآية ، فو الله ما تبعه إلّا عليّ وله تسع سنين ، وأنا ابن تسع سنين » (٤) .

ثمّ بالغ في الاعلان بتوحيد الله بتنزيهه عن الشرك بقوله : ﴿وَسُبْحانَ اللهِ﴾ عمّا يقول الظالمون من الإشراك ، ثمّ بالتبرّي منه بقوله : ﴿وَما أَنَا﴾ أيها الناس ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين اتّخذوا لله ضدّا وندّا وولدا.

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام في تفسير ﴿سُبْحانَ اللهِ﴾ قال : « تنزيهه » (٥) .

وفي رواية اخرى ، قال : « أنفة الله ، أما ترى الرجل إذا عجب من الشيء قال : سبحان الله»(٦).

﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي

 الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ

 اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ

 نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٠٩) و (١١٠)

ثمّ لمّا كان من شبهات المشركين في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الله لو أراد أن يرسل رسولا لأرسل ملكا ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا﴾ إلى الناس ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ وفي الأزمنة السابقة على إرسالك لتبليغ التوحيد والمعارف والأحكام وهداية البشر ﴿إِلَّا رِجالاً﴾ مثل سائر الرجال يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وإنّما كانوا يمتازون من غيرهم بأنّا كنّا ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ العلوم والمعارف

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ١٩٦.

(٢) الكافي ١ : ٣٥٢ / ٦٦ ، مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣٧٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٣) روضه الواعظين : ١٠٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٤) الكافي ١ : ٣١٥ / ٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

(٥) الكافي ١ : ٩٢ / ١١ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٤.

(٦) الكافي ٣ : ٣٢٩ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٣.

٤٥٢

والأحكام لامتيازهم بكمال العقل ونزاهة النفس من الراذئل ، وتزيّنهم بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ، وكانوا ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرى﴾ من الأمصار والرساتيق ، لا البوادي ، ولا الملائكة ، ولا الجنّة (١) ولا النساء ، ومع ذلك كيف يتعجّب هؤلاء المشركون من إرسالك رسولا إليهم.

ثمّ استدلّ سبحانه على رسالة هؤلاء الرجال بتعذيب مكذّيبهم بقوله : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ هؤلاء المشركون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يسافروا إلى البلاد ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ الامم المكذّبة ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ بتكذيبهم اولئك الرجال المرسلين إليهم ، فانّ آثار نزول عذاب الاستئصال عليهم باقية إلى الآن في محالّهم وأماكنهم ، وفيه تهديد مكذّبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ لمّا كان عمدة الباعت على تكذيب الرسل حبّ الدنيا وزخارفها ، وعظهم الله تعالى ورغّبهم في الآخرة بقوله : ﴿وَلَدارُ الْآخِرَةِ﴾ ونعمها (٢) الباقية ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ما حسن من الدنيا ونعيمها لو كان فيها حسن وفضيلة ، وإنّما هي ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشرك والمعاصي ، واحترزوا من مخالفة الله وأحكامه ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أيها المشركون الذين تدعون لأنفسكم العقل هذه الافضلية مع كمال وضوحها ، ولا تدركون هذه الخيرية مع بداهتها ، لأنّ العقل يحكم بالبديهة بأنّ الباقي وإن كان فى غاية القلّة خير من الزائل وإن كان في غاية الكثرة ، مع أنّ نعم الآخرة أكثر وأهنأ من نعم الدنيا.

ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بالعذاب بقوله : ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ﴾ وقوله : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وقد كانوا في أرغد عيش وطول عمر ، نبّه سبحانه على أنّ الحكمة مقتضية لتأخيره عنهم ، كما أخّر نزوله على الامم السابقة المهلكة.

﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ الذين كانوا قبلك من إيمان قومهم ، وانقطع رجاؤهم من قبولهم التوحيد ودخولهم في دين الحقّ ، وقومهم قد تجرأوا في تكذيبهم ﴿وَظَنُّوا﴾ وتوهّموا ﴿أَنَّهُمْ﴾ فيما أخبروا به على لسان رسلهم من نصر لرسلهم وهلاك أنفسهم العذاب الاستئصال ﴿قَدْ كُذِبُوا﴾ واجترأوا بما هو خلاف الواقع ﴿جاءَهُمْ﴾ ونزل على اولئك الرسل ﴿نَصْرُنا﴾ وإعانتنا لهم بنزول العذاب على قومهم ﴿فَنُجِّيَ﴾ من ذلك العذاب ﴿مَنْ نَشاءُ﴾ نجاته وهم الرسل وأتباعهم المؤمنون بهم ، وهلك به غيرهم ممّن خالفهم وكذّبهم ﴿وَلا يُرَدُّ﴾ ولا يصرف ﴿بَأْسُنا﴾ وعذابنا ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ والعاصين لنا بانكار التوحيد وتكذيب الرسل.

واعلم أنّ تفسير الآية المباركة بالوجه الذي ذكرنا بناء على القراءة المعروفة - وهي قراءة كذّبوا بالتخفيف - سليم من الاشكال. وأمّا سائر التفسيرات التي ذكرها المفسّرون - وإن كان بعضها منقولا

__________________

(١) في النسخة : الأجنة.

(٢) في النسخة : ونعيمها.

٤٥٣

عن ابن عباس ، وبعضها مرويا عن أئمتنا عليهم‌السلام - ففيها إشكالات عظيمة لا يمكن دفعها ، فلذا أعرضنا عن ذكرها ، وأطرحنا تلك الروايات لعدم صحّتها واعتبارها.

﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ

 الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر قصة يعقوب ويوسف مفصّلا في هذه السورة المباركة ، وذكر قصص سائر الأنبياء فيها مجملا وفي غيرها مفصلا ، بيّن الغرض من ذكرها بقوله : ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ وبيان أحوالهم ، وكيفية دعوتهم ومعاملتهم مع اممهم ، ومعارضة اممهم لهم ، وابتلاء المعارضين لهم بالعذاب ﴿عِبْرَةٌ﴾ وعظة وفائدة عظيمة من معرفة الله بالقدرة الكاملة والحكمة البالغة ، وغاية لطفه بعباده الصالحين ، وشدّة قهره على الكفّار والمجرمين ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ وذوي العقول السليمة ، فانّهم الذين يعتبرون بها ويستفيدون منها.

ثمّ مدح سبحانه كتابه المجيد المشتمل على تلك القصص بالصدق لتوقّف الاعتبار بها على العلم به بقوله : و﴿ما كانَ حَدِيثاً﴾ وقولا صادرا من البشر ﴿يُفْتَرى﴾ على الله وينسب إليه كذبا ﴿وَلكِنْ﴾ كان ﴿تَصْدِيقَ﴾ مطلق الكتاب ﴿الَّذِي﴾ نزل من السماء ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ومن قبل نزوله ، ومطابقا له ، أو سببا لكون الأخبار التي في الكتاب بنزول هذا القرآن في آخر الزمان صدقا ، لأنّه لو لم ينزل لكان جميع تلك الأخبار كذبا ، أو سببا لتصديق الناس نزول الكتب السابقة من الله لثبوت صحّة هذا القرآن المخبر بنزول التوراة والانجيل والزّبور وصحف إبراهيم من السماء ، لاشتمال هذا القرآن على الاعجاز بجهات عديدة دون سائر الكتب ، وانقطاع تواتر كون سائر الكتب نازلا من الله ، فلولا تصديق القرآن المشتمل على الاعجاز لها ، لم يكن لأحد طريق إلى تصديقها وأنّها ممّا أتى بها الرسل.

﴿وَ﴾ في القرآن يكون ﴿تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من امور الدين ، بل تبين جميع ما يحتاج إليه البشر من العلوم والآداب ، لأنّه ما من علم إلّا وفيه أصله ، بل فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنّما يختصّ استفادتها عنه بالراسخين في العلم ، بل لا يعلمون شيئا إلّا من القرآن ﴿وَ﴾ يكون هو ﴿هُدىً﴾ ورشادا من الضلال لمن استهدى به ، ودلالة إلى جميع الخيرات الدنيوية والاخروية لمن تدبّر فيه واستدلّ به ﴿وَرَحْمَةً﴾ وسببا للفوز بالمراتب العالية من الكمالات الانسانية وبالدرجات الرفيعة من القرب ، وبالنّعم الدائمة والراحة الأبدية ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ به ، العاملون بما فيه ، فالكتاب الذي له هذه الصفات الجليلة والآثار الكريمة والبركات العظيمة ، لا يمكن أن يكون

٤٥٤

باختلاق البشر ومن مفترياتهم على الله ، سيما إذا جاء به الامّي الذي لم يقرأ كتابا ولم يجالس عالما ، ولم يتلمذ عند أحد باتفاق من أهل الانصاف من الأحبّاء والأعداء.

عن الصادق عليه‌السلام : « من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم ، أو في كلّ ليلة ، بعثه الله يوم القيامة وجماله على جمال (١) يوسف ، ولا يصيبه فزع يوم القيامة ، وكان من خيار عباد الله الصالحين » (٢) . وزاد العياشي : « واومن في الدنيا أن يكون زانيا أو فحّاشا » (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف ولا تقرئوهنّ إياها ، فانّ فيها الفتن ، وعلّموهن سورة النّور ، فان فيها المواعظ » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « يكره لهنّ تعلّم سورة يوسف » (٥) .

الحمد لله على التوفيق لاتمام تفسيرها.

__________________

(١) في تفسير العياشي : كجمال ، وفي ثواب الأعمال : مثل جمال.

(٢) ثواب الأعمال : ١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٥.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٢١ / ٢٠٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٥.

(٤) الكافي ٥ : ٢١٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٥.

(٥) الخصال : ٥٨٦ / ١٢ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٥.

٤٥٥
٤٥٦

في تفسير سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

 لا يُؤْمِنُونَ (١)

ثمّ لمّا نبّه سبحانه إجمالا بقوله : ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(١) إلى آخره ، على أن العالم مملوء من آيات توحيده وقدرته وحكمته وكمال صفاته ، ثمّ وصف في آخر السورة كتابه العزيز بأنّه تفصيل كلّ شيء ، وكانت آيات أوائل سورة الرعد تفصيل الآيات السماوية والأرضية ، أردف سورة يوسف بها ، فابتدأها تيمّنا وتبرّكا بذكر أسمائه المباركات بقوله : ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ثمّ أفتتحها بالحروف المقطّعات من قوله : ﴿المر﴾ وقد مرّ تأويلها وبيان حكمة الابتداء بها (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « معناه أنا المحيي المميت الرازق » (٣) .

وعن ابن عبّاس : أي أنا الله أعلم وأرى (٤) .

وفي نقل آخر : أنا الله الملك الرحمن (٥) .

ثمّ أنه تعالى بعد جلب القلوب بذكر الحروف إلى الاستماع ، شرع في بيان أهمّ المطالب ، وهو عظمة الكتاب المجيد ، الدالّ على صحّة نبوة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحّة دين الاسلام بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ الآيات المرتّبة في هذه السورة المباركة ﴿آياتُ الْكِتابِ﴾ المنزل عليك يا محمّد ، ليكون معجزة باقية لك إلى آخر الدهر ، أو آيات الكتاب المنير الذي هو اللوح ، أو الذي بشّر الله الأنبياء بنزوله في آخر الزمان ﴿وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ في ذلك الكتاب من المعارف والأحكام والقصص والمواعظ هو ﴿الْحَقُ﴾ الثابت الذي يجب على الناس التمسّك به والاتّباع له ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وأغلبهم ، وهم

__________________

(١) يوسف : ١٢ / ١٠٥.

(٢) راجع الطرفة (١٨) من مقدمة المفسّر.

(٣) معاني الأخبار : ٢٢ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٦.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ٢٣٠ ، تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٤.

(٥) تفسير الرازي ١٨ : ٢٣٠.

٤٥٧

المتّبعون للشهوات ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ به بغيا وحسدا واستكبارا وعنادا.

﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ

 الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ

 بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)

ثمّ أنه تعالى بعد ذمّ الأكثر بعدم الايمان بالكتاب وما فيه ، وكان أهمّ ما فيه الدعوة إلى التوحيد والمعاد ، [ شرع ] في الاستدلال عليهما بقوله : ﴿اللهُ﴾ والمعبود بالاستحقاق هو القادر ﴿الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ على الأرض مسيرة خمسمائة عام على ما قيل (١) ، بقدرته القاهرة ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾ واسطوانة مع غاية عظمة أجرامها ، وأنتم ﴿تَرَوْنَها﴾ مرفوعة بلا عمد ، فلولا قدرة الله القاهرة لا ستحال رفعها وإبقاؤها مرفوعة بلا عمد.

وقيل : إنّ ﴿تَرَوْنَها﴾ صفة للعمد ، والضمير راجع إليها ، والمعنى أنّه تعالى رفع السماوات بغير عمد مرئية (٢) .

وعن الرضا عليه‌السلام « فثمّ عمد ، ولكن لا ترونها » (٣) .

ويمكن أنّ يراد بالعمد غير المرئية قدرة الله تعالى. وقيل : إنّها معتمدة على جبل قاف ، وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولا يراه أحد (٤) ، وعليه يكون الاستدلال برفعه ووضعه على الجبل لوضوح عدم اقتضاء طبيعتها الرفع والوضع ، وإلّا لاشتركت الأجسام فيها لاشتراك جميعها في مقتضيات الطبيعة ، ويمكن أن يكون عمدها كونها كروية ، فإنّ كلّ جزء من الكرة معتمد على الأجزاء الاخر.

﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ سبحانه ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ واستولى على عالم الوجود بالقدرة والقهر والعلم والتدبير والحفظ ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ مع عظم جرمهما تحت قدرته بأن سيّرهما بكيفية خاصة بارادته ، فلولا كونهما مقهورين تحت إرادة القادر لا متنع اختصاصهما بالحركة دون السكون ، واختصاص ﴿كُلٌ﴾ منهما بحركة خاصة ، وكلّ منهما ﴿يَجْرِي﴾ ويسير ﴿لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وإلى مدّة معينة ، تتمّ فيها أدوارهما.

قيل : هي القيامة التي تكوّر فيها الشمس ، وتتكدّر فيها النجوم (٥) ، وحينئذ تنقطع حركتهما ، وينقضي سيرهما.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٥.

(٢) تفسير الرازي ١٨ : ٢٣٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٧٨ / ٢١٨٢ ، تفسير القمي ٢ : ٣٢٨ ، تفسير الصافي ٣ : ٥٦.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ٢٣٢.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٤٢١.

٤٥٨

عن ابن عبّاس : للشمس مائة وثمانون منزلا (١) ، فالمراد ب ﴿كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ هذا.

﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ في عالم الوجود وينظّمه ، بأن يعطي كلّ موجود من المجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات ما يحتاج إليه في بقائه وكماله ، ويخصّص كلا منهما بوضع وموضع وصفة وحلية مناسبة له ، وينظّم الدنيا بالايجاد والاعدام ، والإمانة والإحياء ، والإغناء والإفقار وغيرها ، ولا يشغله شأن عن شأن ، فانظروا - أيّها العقلاء - كيف بلطفه ﴿يُفَصِّلُ الْآياتِ﴾ ويبيّن الدلائل على وحدانيته وكمال قدرته وحكمته وسائر صفاته ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ﴾ والحضور في القيامة عند مدبّر اموركم ﴿تُوقِنُونَ﴾ فانّ اليقين بكمال قدرته وحكمته الموجبة لتنزّهه عن اللغو والعبث ، مستلزم لليقين بإعادة الخلق للحساب وجزاء الأعمال.

﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ

 فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال بالآيات السماوية ، استدلّ بالآيات الأرضية بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ الواحد القادر ﴿الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾ وبسطها من تحت الكعبة يوم دحو الأرض على الماء ، لتثبت عليها الأقدام ، ويعيش عليها الانسان ، وينقلب فيها الحيوان. ثمّ كانت تكفأ بأهلها كما تكفأ السفينة ، فأثقلها بأن خلق ﴿وَجَعَلَ فِيها﴾ بقدرته جبالا ﴿رَواسِيَ﴾ وثوابت كالأوتاد لها ، تمنعها عن الاضطراب والانكفاء.

وقيل : كان اضطرابها من مهابة الله وعظمته (٢) .

قيل : إنّ الله خلق الماء ، فأرسل عليه ريحا هفّافة ، فصفقت الريح الماء ، وضرب بعضه ببعض ، فأبرز منه حجارة في موضع الكعبة كأنّها قبّة ، فبسط سبحانه من ذلك الموضع جميع الأرض طولا وعرضا(٣) .

وعن ابن عباس : أوّل جبل وضع على الأرض أبو قبيس (٤) .

وقيل : أفضل الجبال جبل أحد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « احد يحبّنا ونحبّه » (٥) .

ثمّ لمّا كانت الأنهار متولدة من الجبال ، أردفها بذكرها بقوله : ﴿وَأَنْهاراً﴾ جارية كثيرة لحياة الأرض

__________________

(١) تفسير الرازي ١٨ : ٢٣٣.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٨.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٧.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٨ ، وأبو قبيس : جبل مشرف على مسجد مكة.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٨.

٤٥٩

ومن عليها.

قيل : إنّ الأبخرة تتصاعد من قعر الأرض فتقبل إلى الجبل فتحتبس ، فلا تزال تتناسب فتقلب ماء حتّى تحصل مياه عظيمة ، ثمّ لكثرتها وقوّتها تثقب الجبل ، وتسيل على الأرض (١) .

وقيل : إنّ الله ينزل الأمطار والثلوج فتشربها الأرض ، فتجتمع المياه الكثيرة في عروقها ، ثمّ تنشقّ عنها في المكان الذي تؤمر بالانشقاق ، فيه فتظهر على وجه الأرض (٢) .

وقيل : إنّ الله ينزل الأمطار والثلوج لانتفاع الخلق ، والملك الموكّل بالمياه ميكائيل وأعوانه (٣) .

أقول : الظاهر أن تكوّن الماء في الأرض يكون بكلّ واحد من السببين ، ولا ينحصر بأحدهما.

قيل : إنّ الأنهار العظيمة في الدنيا خمسة : الفرات ، ودجلة ، وسيحون بالهند ، وجيحون ببلخ ، والنيّل بمصر (٤) .

ثمّ استدلّ سبحانه بالنباتات المتولّدة من الأرض والماء بقوله : ﴿وَمِنْ كُلِ﴾ نوع من ﴿الثَّمَراتِ﴾ كالتّمر والعنب والمشمش والخوخ ونظائرها ﴿جَعَلَ﴾ سبحانه وخلق ﴿فِيها﴾ بفضله ﴿زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وصنفين مختلفين بالطبع كالحارّ والبارد ، أو بالطعم كالحلو والحامض ، أو باللون كالأبيض والأحمر.

قيل : إنّ الله خلق من كلّ نوع في بدو الخلق اثنين لا أقلّ ولا أزيد ، كما خلق من نوع الانسان اثنين آدم وحوّاء ، فكذلك القول في جميع الأشجار والزروع (٥) .

ثمّ لمّا كان الليل والنهار موجودين بحركة السماوات والشّمس ، وبهما وبتعاقبهما يتمّ النظام ويكمل الإنعام ، استدلّ سبحانه بهما على قدرته وحكمته بقوله : ﴿يُغْشِي﴾ ويستر الله ﴿اللَّيْلَ﴾ وظلمته ﴿النَّهارَ﴾ أو يلبس ظلمة الليل ضياء النهار فتذهب به.

ثمّ لمّا كان بعض الناس يسندون الحوادث إلى الاختلافات الحاصلة في أشكال الكواكب من غير تفكّر ، نبّه سبحانه بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من الحوادث ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة ودلالات واضحة على وحدانية الصانع وقدرته وحكمته ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها حقّ التفكّر ، لا لمن لا فكر له ولا تأمّل ، وفيه دلالة على وجوب التفكّر فيها ، فانّ من نظر إلى فوائدها ومصالحها والحكم التي اعملت فيها ، لا مناصّ له من الإذعان بوجود صانع قادر واحد حكيم.

أمّا الأرض فمن حيث امتدادها ورخاوتها وملائمة طبعها لما عليها ، وكونها كالبساط لساكنيها ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٨.

( ٢و٤ ) تفسير روح البيان ٤ : ٣٣٨.

(٥) تفسير الرازي ١٩ : ٥.

٤٦٠