نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

الخمس » (١) .

قيل : لبث يوسف في السجن اثنتي عشرة سنة عدد حروف اذكرني عند ربك (٢) .

وقيل : إن في هذا العدد كمال القوة والتاثير ، ولذا كان الأئمة اثني عشر ، والبروج اثني عشر ، والملائكة الموكّلون بالبروج اثني عشر (٣) .

أقول : ببالي أنه روي أنّ القائم يخرج في اولى القوة (٤) ، قيل : ما أولو القوة ؟ قال : اثني عشر ألفا (٥) . وقيل : هو عدد لا إله إلّا الله ، وعدد محمد رسول الله (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّ يوسف قال : أسألك بحقّ آبائي [ وأجدادي ] عليك إلّا فرّجت عنّي ، فأوحى الله إليه ما يكون (٧) أي حق لآبائك وأجدادك عليّ ، إن كان أبوك آدم فانّي خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، وأسكنته جنّتي ، وأمرته أن لا يقرب شجرة منها ، فعصاني وسألني فتبت عليه. وإن كان أبوك نوح فإني انتجبته من بين خلقي ، وجعلته رسولا اليهم ، فلمّا عصوا دعاني فاستجبت له وأغرقتهم وأنجيته ومن معه في الفلك. وإن كان أبوك إبراهيم ، فإنّي اتخذته خليلا ، وأنجيته من النار وجعلتها عليه بردا وسلاما ، وإن كان [ أبوك ] يعقوب فإنّي وهبت له اثني عشر ولدا ، فغيّبت عنه واحدا ، فما زال يبكي حتى ذهب بصره ، وقعد في الطريق يشكوني إلى خلقي ، فأي حقّ لآبائك [ وأجدادك ] عليّ.

قال : فقال له جبرئيل : قل يا يوسف أسألك بمنّك العظيم ، وإحسانك (٨) القديم ، فقالها فرأى الملك الرؤيا » (٩) .

وعنه عليه‌السلام : « لمّا انقضت المدّة وأذن الله له في دعاء الفرج ، وضع خدّه على الأرض ، ثمّ قال : للهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فانّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ففرج الله عنه » (١٠) .

﴿وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ

 خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا

 تَعْبُرُونَ (٤٣)

__________________

( ١و٣ ) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٣٦ ، تفسير العياشي ٢ : ٣١٩ / ٢٠٤٢.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٤.

(٧) في تفسير القمي وتفسير الصافي : يا يوسف و.

(٨) في تفسير القمي : وسلطانك.

(٩) تفسير القمي ١ : ٣٥٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٢.

(١٠) تفسير القمي ١ : ٣٤٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٣.

٤٠١

﴿وَقالَ الْمَلِكُ﴾ بعد ما رأى رؤيا اضطرب منها قلبه وخاف من رؤيته غلبة الضعيف على القوي ذهاب ملكه وسلطانه ، وأحضر العلماء والحكماء والكهنة والمعبّرين والسّحرة والمنجّمين اجتهادا لتحصيل العلم بتعبيرها ﴿إِنِّي﴾ كنت ﴿أَرى﴾ البارحة - وهي ليلة الجمعة على ما قيل (١) - في المنام ﴿سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ﴾ خرجن عن النهر اليابس على قول - أو من البحر على آخر (٢) - ثمّ أرى سبع بقرات عجاف مهازيل خرجن من المكان الذي خرجت السّمان ، ثم رأيت أنّه ﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ﴾ مهازيل ويبتلعهن بحيث لم تبق من البقرات السّمان شيء ﴿وَ﴾ أرى أيضا ﴿سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ﴾ رطاب قد انعقدت حبّاتها ، ﴿وَ﴾ سبع ﴿أُخَرَ يابِساتٍ﴾ فالتوت على الخضر حتى غلبن عليها على ما قيل (٣) .

ثمّ أمر الحضّار بتعبير رؤياه وقال : ﴿يا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والجماعة الحاضرة من الأشراف ﴿أَفْتُونِي﴾ وأخبروني ممّا تتفرّسون وتعتقدون ﴿فِي﴾ تعبير ﴿رُءْيايَ﴾ هذه ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ﴾ وعلى تأويلها تقدرون.

ثمّ لمّا أراد الله خلاص يوسف من السجن ، وكانت الرؤيا من توجّه النفس وتصاعدها إلى عالم الملكوت والمثال بعد قلّة اشتغالها بتدبير البدن ، فكلّما رأت شيئا من المعاني الحقيقية في تلك العالم ، فإما أن لا تتصرف القوة الخيالية فيه ، فتقع عيناه في الخارج ، ولا تحتاج إلى التعبير ، وإما أن تتصرف فيه القوة الخيالية بتصوير المعاني العقلية بصور مناسبة لها ، كتصوير العلم بصورة اللبن ، والزوجة بصورة النعل ، والمال بصورة القاذورات وأمثال ذلك ، فهي محتاجة إلى التعبير ، وهو الانتقال من الصور إلى ما يناسبها من المعاني ، وكلّما تلقى النفس الشياطين حين صعودها فيرونها امورا باطلة مشوّشة مختلطة ، أو تطالع الصور الخيالية المرتكزة في الخاطر ، فهي الرؤيا الكاذبة ، وتسمّى بالأضغاث والأحلام.

﴿قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ * وَقالَ الَّذِي نَجا

 مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ

 أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ

 يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً

 فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ

__________________

( ١ و٢ و٣ ) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٥.

٤٠٢

سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٤) و (٤٨)

ولمّا ذكر من تقدير خلاص يوسف ، عجز الحكماء والعلماء والكهنة عن تعبير رؤيا الملك و﴿قالُوا﴾ أيها الملك رؤياك هذه ﴿أَضْغاثُ أَحْلامٍ﴾ وتخاليط الرّؤى وأباطيلها ﴿وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ﴾ وتعبير أباطيل الرّؤى التي هي من الشيطان أو من قوة الخيال ﴿بِعالِمِينَ﴾ وإنّما الذي نعلم هو تعبير الرؤيا الصادقة الحاصلة من رؤية المعاني الحقيقية في عالم الملكوت.

﴿وَ﴾ إذن ﴿قالَ﴾ الساقي ﴿الَّذِي﴾ كان أحد الفتيين و﴿نَجا مِنْهُما﴾ من السجن ﴿وَادَّكَرَ﴾ وتذكّر ما أوصاه به يوسف بعد تأويل رؤياه في السجن ، أو حين خروجه منه ومفارقته يوسف ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ وأوقات كثيرة من نجاته منه : ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ﴾ واخبركم أيها الملأ الحاضرون العاجزون عن تعبير رؤيا الملك ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ وتعبيره.

قيل : إنّه لمّا رأى الملك متفكّرا ، تذكّر حال يوسف وتأويله رؤياه في السجن ، وما وصاه به ، فجلس بين يدي الملك على ركبتيه ، وخاطب الملك بقوله : أنا انبئكم ، وإنّما أتى في خطاب الملك بضمير الجمع للتعظيم ، فان أردتم تعبير الرؤيا ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ وابعثوني إلى السجن ، فان فيه رجلا حكيما عارفا بتعبير الرؤيا (١) ، فأرسله الملك إلى يوسف ، فلمّا جاءه واعتذر إليه من نسيانه قال : يا ﴿يُوسُفُ﴾ ثمّ عظّمه بقوله : ﴿أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ المبالغ في الصدق في تأويل الرؤيا ﴿أَفْتِنا﴾ وأخبرنا برأيك ﴿فِي﴾ تأويل رؤيا ﴿سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ﴾ تأويل رؤيا ﴿سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ﴾ وعلّمني تعبيره ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ﴾ من عندك ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ وأهالي مصر واخبرهم ما اوّلت وعبّرت ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تعبيرها بتعليمك ، أو يعلمون مكانك وفضلك ، وكان من صبر يوسف ومتانته أنّه لم يعلّق إسعاف حاجته بإخراجه من السجن ، بل ﴿قالَ﴾ من غير ريث وتوان قل لهم ، أيها النّاس ﴿تَزْرَعُونَ﴾ في الأرض من الغلّات والحبوب ﴿سَبْعَ سِنِينَ﴾ حال كونكم ﴿دَأَباً﴾ ومستمرين على الزراعة بجد واجتهاد ، أو زراعة متوالية على عادتكم ﴿فَما حَصَدْتُمْ﴾ منها ﴿فَذَرُوهُ﴾ واتركوه ﴿فِي سُنْبُلِهِ﴾ ولا تدوسوه حتّى لا يفسد ولا يقع فيه السّوس ﴿إِلَّا﴾ قدرا ﴿قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ منه في تلك السنة ، هذا تعبير سبع بقرات سمان وسبع سنبلات خضر ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ السبع سنين الرّخص ﴿سَبْعٌ﴾ اخر من السنين ﴿شِدادٌ﴾ وصعاب على الناس لأجل الجدب والجوع والغلاء بحيث أنّ تلك السنين الشداد ﴿يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ﴾ وادّخرتم ﴿لَهُنَ﴾ من الحبوب والغلّات المتروكة في سنابلها ﴿إِلَّا﴾ مقدارا ﴿قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ وتحرزون للبذر ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٨.

٤٠٣

وهذه السبع الشداد تأويل سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات يابسات ، وإنّما أسند الأكل إلى السنين مع أنه فعل أهل السنين للتطبيق بين المعبّر والمعبّر به.

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ المذكور من السنين الشداد ﴿عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ﴾ ويمطرون أو ينقذون من الشدّة ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ ما من شأنه أن يعصر ويؤخذ ماؤه ودهنه كالعنب والرّمان والزيتون وأمثال ذلك ، وهذا التعبير كناية عن وفور النّعم ، لأنه إذا كان الناس في ضيق من المأكول يأكلون جميع ذلك ولا يعصرون شيئا ليفسد ما سوى مائه.

وقيل : يعني يحلبون الضّروع (١) .

وقيل : أي ينجون (٢) من الشدّة ، أو يمطرون (٣) ، وهذان المعنيان على قراءة ﴿يَعْصِرُونَ﴾ مبنيا للمفعول ، كما نسبها العياشي إلى الصادق عليه‌السلام (٤) .

وروي عنه عليه‌السلام أنه قال « أما سمعت قول الله تعالى : ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً»(٥).

والقمي رحمه‌الله عنه عليه‌السلام : « قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه‌السلام ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ - يعني على البناء للفاعل - فقال : ويحك وأيّ شيء ﴿يَعْصِرُونَ﴾ يعصرون الخمر ؟ قال الرجل : يا أمير المؤمنين ، كيف أقرؤها ؟ فقال : إنما أنزلت ﴿عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي يمطرون بعد [ سنين ] المجاعة ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً(٦) .

وإنّما كرّر سبحانه لفظ ﴿فِيهِ﴾ إمّا للاشعار بكون الإغاثة والعصر متغايرين ، أحدهما فعل الله ، والآخر فعل الناس ، وإما لأنّ المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ، ولذا قدّم في الموضعين.

ويحتمل أن يكون التقديم لبيان الحصر ، كأنه فرض أن الإغاثة والعصر في سائر السنوات بالنسبة إلى تلك السنة كالمعدوم ، أو لمراعاة الفواصل.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٨ : ١٥١ ، تفسير البيضاوي ١ : ٤٨٦.

(٢) جوامع الجامع : ٢١٨ ، تفسير البيضاوي ١ : ٤٨٦ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٢٨٣.

(٣) جوامع الجامع : ٢١٨ ، تفسير الرازي ١٨ : ١٥١ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٢٨٣.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٧ / ٢١٠٩ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٤.

(٥) تفسير الصافي ٣ : ٢٥ ، والآية من سورة النبأ : ٧٨ / ١٤.

(٦) تفسير القمي ١ : ٣٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥.

٤٠٤

﴿وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ

 النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)

ثمّ رجع الرسول إلى الملك ، وحكى له التعبير الذي بيّنه يوسف للرسول في ضمن الدستور الذي أمر به ، فلمّا سمع الملك التعبير سكن قلبه وفرح ﴿وَقالَ الْمَلِكُ﴾ لخدمه بعد اطّلاعه على فضيلة يوسف في العلم : ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾ وأحضروه عندي لأسمع التعبير منه واكرمه ﴿فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ﴾ من جانب الملك ليخرجه من السجن ويذهب به إلى الملك أبى يوسف من إجابته حتّى تظهر طهارة ذيله ممّا اتهموه ، ومظلوميته في الحبس و﴿قالَ﴾ للرسول : ﴿ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ﴾ وسيدك ﴿فَسْئَلْهُ﴾ أن يتفحّص من أنه ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ﴾ في مجلس ضيافة زليخا بالسكاكين ، وكيف كان حالهن وحالي ؟ حتّى يتحقّق عنده واقع الأمر ، وأنّي بريء من التّهمة والخيانة ، ثمّ استشهد بعلم الله بمكر النسوة واتهامهنّ له بقوله : ﴿إِنَّ رَبِّي﴾ وهو الله وحده لا الملك ولا العزيز ولا غيرهما ، بمكر النساء و﴿بِكَيْدِهِنَ﴾ في حقّي واتهامهن إياي ﴿عَلِيمٌ

قيل : فيما قاله يوسف للرسول لطائف ، منها أنه أمر الرسول أن يسأل الملك عن حال النسوة ، ولم يقل قل له تفحّص عن ذلك ، لئلّا يكون في كلامه أمر للملك حتّى يلزم خلاف الأدب (١) . ومنها : أنه لم يذكر اسم زليخا تأدّبا ، ومراعاة لحقّها (٢) ، واحترازا من أن تبالغ في المكر به مع كونها قادرة على ما لم تقدر عليه غيرها. ومنها : أنه لم يشك من النسوة مع أنّهنّ على ما قيل دعينه إلى أنفسهن ، وبالغن في ترغيبه إلى موافقة زليخا ، بل قيل : إنّهن اتّهمنه بالفحش عند الملك (٣) .

روى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له ، حين سئل عن البقرات السّمان والعجاف ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني من السجن ، ولقد عجبت [ منه ] حين أتاه الرسول فقال : ﴿ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ﴾ الآية ، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الاجابة وبادرتهم إلى الباب وما ابتغيت العذر ، إنّه كان حليما ذا أناة » (٤) .

قيل : إن هذا الكلام من الرسول على سبيل التواضع لا إظهار أنه كان مستعجلا في الامور غير متأن فيها (٥) ، وإنّما لم يسرع يوسف في الخروج ليزول عن قلب الملك ما كان متّهما به ولا ينظر إليه بعين

__________________

(١) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٢.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧١.

(٣) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٢.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ١٥١.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٢.

٤٠٥

الصّغار والذّل (١) .

عن العياشي عنهما عليهما‌السلام : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عن رؤياه ما حدّثته حتّى اشترط عليه أن يخرجني من السجن ، وتعجبت (٢) لصبره عن شأن امرأة الملك حتّى أظهر الله عذره » (٣) .

﴿قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ

 سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ

 الصَّادِقِينَ (٥١)

ثمّ قيل : إنه لمّا رجع الرسول إلى الملك وأخبره بالتماس يوسف ، أمر باحضار النسوة (٤) . و﴿قالَ﴾ لهن ﴿ما خَطْبُكُنَ﴾ وأي شأن شأنكنّ ﴿إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ قيل : إنّ الخطاب في الواقع والظاهر للنسوة ؛ لأنّ كلّ واحدة منهنّ كنّ يدعين يوسف إلى نفسه أو كلّ يراودنّ (٥) يوسف ليهيجنه لإجابة زليخا (٦) .

وقيل : إنّ الخطاب وإن كان في الظاهر إليهنّ إلّا أنه أريد به واحدة منهنّ (٧) وهي زليخا (٨) ، وعلى أي تقدير ﴿قُلْنَ﴾ جميعهنّ في جواب الملك : ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ وننزّهه عن العجز من خلق هذا البشر العفيف ﴿ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ وذنب وخيانة ، فلمّا شهدن (٩) كلّهن ببراءة يوسف وتنزّهه ﴿قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ وكانت حاضرة في المجلس بعد ما رأت رعايه يوسف حقّها بتركه ذكر اسمها مع النسوة مع أنّها كانت أكثر إساءة إليه ، وأنّه لا ينفع الكتمان : ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ﴾ وانكشفت حقيقية الواقع ﴿أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وطلبت منه القرب ﴿وَإِنَّهُ﴾ - في قوله : هي راودتني - والله ﴿لَمِنَ الصَّادِقِينَ

﴿ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)

قيل : إن الملك أرسل إلى يوسف بأن النسوة اعترفن بذنبهن وبراءتك ، فاحضر حتى اعاقبهن بحضورك بما تريد. قال يوسف للرسول في جواب الملك : ﴿ذلِكَ﴾ الالتماس الذي صدر منّي لم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٢.

(٢) في تفسير العياشي : وعجبت.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٦ / ٢١٠٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٥.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٣.

(٥) في النسخة : يراودون.

(٦) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٣.

(٧) في النسخة : منهم.

(٨) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٣.

(٩) في النسخة : شهدت.

٤٠٦

يكن لأن اعاقب النسوة بما صدر منهن (١) بل ﴿لِيَعْلَمَ﴾ العزيز المنعم عليّ ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ في عرضه ﴿بِالْغَيْبِ﴾ وفي الخطأ منه ، أو لم أخن الملك ، فإنّ الخيانة بالوزير خيانة بالملك ﴿وَ﴾ ليعلم ﴿أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ ولا ينفذ ﴿كَيْدَ الْخائِنِينَ﴾ ولا يجعله مؤثّرا في حصول المقصود ، بل يبطله كما أبطل مكائد زليخا حتّى أقرّت بأنّها خانت زوجها.

وقيل : إنه قال هذا الكلام في محضر الملك كما روي عن ابن عباس ، وإنما ذكره على لفظة الغيبة تعظيما للملك عن الخطاب (٢) .

وقيل : إنّ الآيه من تتمة كلام امرأة العزيز ، والمعنى أنّي وإن بالغت في إثبات الذنب على يوسف في حضوره إلّا أنّ ذلك الاعتراف منّي بذنبي ليعلم يوسف أنّي لم أخنه ولم أقل في حقّه خلاف الحقّ وهو في السجن ، ثمّ بالغت في تأكيد الحقّ بقولها : ﴿وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ(٣) ولذا افتضحت أنا لأنّي كنت خائنة ، وإنه طهّر يوسف من الذنب وأخرجه من السجن ، لأنّه كان بريئا.

أقول : هذا في غاية البعد.

﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ

 رَحِيمٌ (٥٣)

ثمّ قال يوسف تواضعا لله وهضما للنفس وتحديثا بانعام الله عليه بالتوفيق والعصمة : ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ ولا انزّهها عن السوء ولا ازكيها من الخطأ والذنب من حيث هي ومقتضى طبعها ﴿إِنَّ النَّفْسَ﴾ بجنسها وبذاتها والله ﴿لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ وباعثه إلى القبايح والشهوات لميلها إليها والتذاذها بها ﴿إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي﴾ من النفوس بعصمتها من الوقوع في الهلكات وارتكاب المنكرات ، وهي نفوس الأنبياء والأولياء المعصومين ، فانّها لا تميل إليها ، ولا تأمر بها.

وقيل : إنّ كلمة ﴿ما﴾ بمعنى الزمان ، والمعنى إلّا زمان رحمة ربي (٤) وعصمته لها بتقويته القوة العاقلة وإعلامها بحقائق الأشياء والأعمال.

وقيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى ولكن رحمة ربي تصرفها عن السوء (٥) .

﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ﴾ وستّار لخطايا النفوس ﴿رَحِيمٌ﴾ لها بعصمتها من الزلل.

قيل : هذه الآية أيضا بقية كلام زليخا (٦) ، والمعنى وما ابرئ نفسي من الخيانة بزوجي والإساءة

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٣.

(٢ و٣) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٤.

(٤) جوامع الجامع : ٢١٩.

(٥) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٨٦.

(٦) جوامع الجامع : ٢١٩.

٤٠٧

بيوسف ، والمقصود اعتذارها ممّا صدر منها ، أو تأكيد تصديقها إياه.

ثمّ أنّه روي أنّ جبرئيل أتى يوسف في السجن وقال : قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا ، وارزقني من حيث احتسب ومن حيث لا احتسب (١) ، فقبل الله دعاءه ، فعظم يوسف في عين الملك علما من حيث تعبيره الرؤيا ، وصبرا وثباتا من حيث عدم مبادرته إلى الخروج من السجن ، وأدبا من حيث عدم أمره للملك بالتفتيش للحقّ ، ومراعاة للحقوق من حيث عدم ذكره اسم زليخا مع علم الملك بأنّها أكثر النسوه إساءة إليه ، وعفّة من حيث ظهور براءته من التهمة مع وفور أسباب ارتكابه للزنا بمثل زليخا ، ونسيا لذكر الساقي نسبة له ، فلذا اشتاق إلى لقائه غاية الاشتياق.

﴿وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا

 مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)

﴿وَقالَ الْمَلِكُ﴾ لخدمه : اذهبوا إلى يوسف و﴿ائْتُونِي بِهِ﴾ واحضروه لديّ ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ وأخصّه بقربي.

روي أنّ الرسول - وقيل : كان هو الساقي - قال ليوسف : قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة (٢) .

وقيل : إنّ الملك أرسل سبعين حاجبا على سبعين مركبا ، ومعهم تاج وثياب فاخرة إلى السجن ، فلمّا أتوه وضعوا التاج على رأسه ، وألبسوه الثياب النظيفة ، ثمّ قالوا : أجب الملك. فقام وودّع أهل السجن ودعا لهم ، وقال : اللهم اعطف قلوب الصالحين عليهم ، ولا تستر الأخبار عنهم ، فخرج من السجن وكتب على بابه : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، وتجربة الأصدقاء. ثمّ اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جديدة ، وركب مركبا فارها مكلّلا بالدّر والجواهر ، فلمّا قرب من الملك استقبله وأكرمه غاية الإكرام (٣) .

روي أنّه لمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي سألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزّتك وقوّتك من شرّه. ثمّ سلّم على الملك ودعا له بالعبرانية ، وكان يوسف يتكلّم باثنين وسبعين لسانا ، فلم يفهمها الملك فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ثمّ كلّمه بالعربيّة فلم يفهمها الملك ، فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان عمّي إسماعيل ، وكان الملك يتكلّم بسبعين لسانا ، فكلّمه بها

__________________

(١) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٨.

(٢) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٩ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٧.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٧.

٤٠٨

فأجابه بجميعها فتعجّب منه (١) .

قيل : لمّا دخل على الملك كان ابن ثلاثين سنة ، فلمّا رآه الملك شابا قال للساقي : هذا الذي علم تأويل رؤياي مع أنّ السحرة والكهنة ما علموها ؟ قال : نعم. فأقبل على يوسف وقال : إنّي أحبّ أن أسمع التعبير منك ﴿فَلَمَّا﴾ أجابه و﴿كَلَّمَهُ﴾ وعبّر عنده الرؤيا شفاها ، وشهد قلبه بصحّة تعبيره ﴿قالَ﴾ ليوسف : ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ(٢) وذو منزلة رفيعة ﴿أَمِينٌ﴾ على كلّ شيء في مملكتي بحيث لا تتّهم.

قيل : لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك : فما ترى أيّها الصديق ؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا ، وتأخذ من الناس خمس زروعهم ، وتذر الجميع في سنبله ، وتبني الخزائن ، وتجمع فيها الطعام ، فإذا جاءت السنين المجدبة تبيع الغلّات لأهل مصر ، وتحفظهم من المخمصة ، ويحصل لك مال عظيم. فقال الملك : من لي لهذا الشّغل (٣) .

﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥)

﴿قالَ﴾ يوسف : ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ﴾ هذه ﴿الْأَرْضِ﴾ وتلك المملكة ، وولّني أمرها من الايراد والحفظ والصرف ، وإنّما طلب الولاية لكونها وسيلة إلى هداية الناس ، ونفوذ قوله ، وقبول دعوته إلى الحقّ ، ونشر الأحكام الالهية ، ووضع الحقوق مواضعها ، وبسط العدل ، وإعانة الخلق وحفظهم من التلف في السنين المجدبة شفقة عليهم.

عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية ، أنّه قال : « رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض ، لاستعمله من ساعته ، لكنّه لمّا قال ذلك أخّره عنه سنة » (٤) .

ثمّ وصف نفسه بما يوجب أهليته لذلك بقوله : ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾ لخزائنك من التلف والضّياع والصرف في غير المصرف ﴿عَلِيمٌ﴾ بوجوه التصرف فيها.

عن الرضا عليه‌السلام : « حفيظ لما تحت يدي ، عليم بكلّ لسان » (٥) .

جواز تزكية المرء نفسه عند الاضطرار

عن الصادق عليه‌السلام : « يجوز أن يزكّي الرجل نفسه إذا اضطرّ إليه ، أما سمعت قول يوسف : ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وقول العبد الصالح :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٧.

(٢) تفسير الرازي ١٨ : ١٥٩.

(٣) تفسير الرازي ١٨ : ١٦٠ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٨.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ١٦٠.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٨ / ٢١١٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٩ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧.

٤٠٩

﴿وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ(١) .

عن ابن عباس : لمّا انصرمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة ، دعاه الملك فتوجّه وختمه بخاتمه ، وردّاه بسيفه ، ووضع له سريرا من ذهب مكلّلا بالدّرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع ، ليه ثلاثون فراشا ، فقال يوسف : أمّا السرير فأشدّ به ملكك ، وأمّا الخاتم فأدّبر به أمرك ، وأمّا التاج فليس من لباسي ولباس آبائي ، فقال الملك : فقد وضعته إجلالا لك ، وإقرارا بفضلك. فجلس عليه وأتت له الملوك (٢) .

وروي أنّ الملك لمّا عيّن يوسف لأمر الخزائن توفّى قطفير عزيز مصر في تلك الليالي (٣) .

﴿وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ

 نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

ثمّ لمّا كانت رفعة مكان يوسف مستندة في الظاهر إلى الملك ، نبّه الله على أنّها كانت بقدرته وإنعامه عليه بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ التمكين العظيم ، ومثل هذا الإنعام الجسيم الذي على يوسف من تقريبنا إياه من الملك ، وتحبيبنا إياه في قلبه ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ وأقدرناه على إنفاذ ما أراد ﴿فِي﴾ تلك ﴿الْأَرْضِ﴾ والمملكة ، وهي أربعين فرسخا في أربعين على ما قيل (٤) ، فهو ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْها﴾ وينزل من بلادها ﴿حَيْثُ يَشاءُ﴾ وأيّ مكان يريد ، لا يدافعه مدافع (٥) ، ولا ينازعه منازع ، رحمة منّا عليه ، وجزاء منّا على صبره على البلاء وتسليمه للقضاء وقيامه بوظائف العبودية ، فإنّا ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا﴾ وفضلنا ﴿مَنْ نَشاءُ﴾ أن نرحمه ونتفضّل عليه على حسب استعداده وقابليته وعمله ﴿وَلا نُضِيعُ﴾ ولا نبطل ﴿أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وجزاءهم على إحسانهم من الصبر والقيام بوظائف العبودية.

﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)

ثمّ بيّن سبحانه أفضلية الأجر الاخروي على الدنيوي بقوله : ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ﴾ والثواب الذي نعطيهم فيها ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل بمراتب من أجر الدنيا وثوابه فيها ، ولكن إنما يكون أجر الآخرة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيته ﴿وَكانُوا يَتَّقُونَ﴾ السيئات والقبائح ، وهم الأنبياء وأتباعهم.

قيل : إنّ يوسف أمر أهل كلّ قرية وبلدة بالاشتغال بالزّرع وترك غيره ، فلم يدعوا مكانا إلّا زرعوه

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٨ / ٢١١٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٧ ، والآية من سورة الأعراف : ٧ / ٦٨.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٣.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٩.

(٤) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٨٧ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٣.

(٥) في النسخة : دافع.

٤١٠

حتى بطون الأودية ورؤوس الجبال مدة سبع سنين ، وهو يأمرهم أن يدعوه في سنبله ، وكان ياخذ منهم الخمس ويجعله في الأهراء (١) ، وكذا ما زرعه السلطان وأعوانه وخدمه ، ثمّ أقبلت السنون المجدبة ، فحبس الله عنهم القطر من السماء ، والنبات من الأرض حتى لم ينبت لهم في جميع أراضي مصر حبّة واحدة (٢) من المأكولات.

قيل : إن زليخا بعد وفاة قطفير زوجها انقطعت عن كلّ شيء وسكنت خرابة سنين كثيرة ، وكانت لها جواهر كثيرة [ جمعت في زمان زوجها ] فاذا سمعت من أحد خبر يوسف أو اسمه ، بذلت منها حبا له حتّى نفدت ، وكانت تبكي شوقا إلى يوسف.

ثمّ لمّا اشتدّ حالها لشدائد الخلوة في الخرابة اتخذت بيتا من القصب على الطريق التي هي ممرّ يوسف ، وكان يوسف يركب في بعض الأحيان وله فرس لا يصهل إلّا وقت ركوبه ، ويسمع صهيله على ميلين ، فيعلم الناس بركوبه ، فتقف زليخا على قارعة الطريق ، فاذا مرّ بها يوسف تناديه بأعلى صوتها ، فلا يسمع لكثرة اختلاط أصوات الناس ، فأقبلت يوما على صنمها الذي كانت تعبده ، وقالت له : تبا لك ولمن يسجد لك ، أما ترحم كبري وعماي وفقري وضعفي ، فأنا اليوم كافرة بك ومؤمنة بربّ يوسف ، وصارت تذكر الله صباحا ومساء.

فبعد ذلك ركب يوسف يوما ، فلمّا صهل فرسه اجتمع الناس للنظر إلى جماله واحتشامه ، فخرجت زليخا من بيتها ، فلمّا مرّ بها يوسف نادت بأعلى صوتها : سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا ، فأمر الله الريح فألقت كلامها في مسامع يوسف ، فأثّر فيه فبكى ، ثمّ التفت فرآها ، فقال لغلامه : اقض حاجة المرأة : فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إنّ حاجتي لا يقضيها إلّا يوسف. فذهب بها إلى دار يوسف.

فلمّا رجع يوسف إلى قصره نزع ثياب الملك ، ولبس مدرعة من الشعر ، وجلس في بيت عبادته يذكر الله تعالى ، فذكر العجوز ودعا بالغلام وقال له : ما فعلت بالعجوز ؟ فقال : إنّها زعمت أنّ حاجتها لا يقضيها غيرك. فقال : إئتني بها ، فأحضرها فسلمت عليه وهي منكّسة الرأس ، فرقّ لها ، وردّ عليها‌السلام ، وقال لها : يا عجوز ، إنّي سمعت منك كلاما فأعيديه. فقالت : إنّي قلت : سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا.

في تزويج يوسف بزليخا

فقال : نعم ما قلت ، فما حاجتك ؟ قالت : يا يوسف ، ما أسرع ما نسيتني ! فقال : من

__________________

(١) الأهراء : جمع هري ، وهو بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٣.

٤١١

أنت ؟ ما لي بك معرفة. قالت : زليخا. فقال يوسف : لا إله إلّا الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، أنت بعد في الدنيا [ يا ] رأس الفتنة وأساس البلية ! فقالت : يا يوسف ، أبخلت عليّ بحياة الدنيا ! فبكى يوسف وقال : ما صنع حسنك وجمالك ومالك ؟ قالت : ذهب به الذي أخرجك من السجن وأورثك هذا الملك. فقال لها : ما حاجتك ؟ قالت : أو تفعل ؟ قال : نعم وحقّ شيبة إبراهيم. فقالت : لي ثلاث حاجات : الاولى والثانية أن تسأل الله أن يردّ عليّ بصري وشيابي وجمالي ، فانّي بكيت عليك حتّى ذهب بصري ونحل جسمي. فدعا لها يوسف فردّ الله عليها بصرها وشبابها وحسنها. قالت : والثالثة أن تتزوجني. فسكت يوسف وأطرق رأسه ، فأتاه جبرئيل ، وقال : يا يوسف ، ربك يقرئك السّلام ، ويقول لك : لا تبخل عليها بما طلبت ، فتزوّج بها فانّها زوجتك في الدنيا والآخرة ، فدعا ملك مصر وجميع الأشراف فعقد عليها لنفسه ، ونزلت الملائكة عليه تهنّئه بزواجها ، وقالوا : هنّأك الله بما أعطاك ، فهذا ما وعدك ربّك وأنت في الجب. فقال يوسف : الحمد لله الذي أنعم عليّ وأحسن إلي وهو أرحم الراحمين.

ثمّ قال : إلهي وسيدي أسألك أن تتمّ هذه النعمة ، وتريني وجه يعقوب ، وتقرّ عينه بالنظر إليّ ، وتسهّل لإخوتي طريقا إلى الاجتماع بي ، فانّك سميع الدعاء ، وأنت على كلّ شيء قدير ، وأرسل زليخا إلى بيت الخلوة فاستقبلتها الجواري بأنواع الحليّ والحلل ، فتزيّنت بها ، فلمّا جنّ الليل دخل يوسف عليها ، وقال لها : أ ليس هذا خيرا ممّا كنت تريدين ؟ فقالت : أيّها الصدّيق ، لا تلمني فإنّي كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك ودنيا ، وكان زوجي عنينا لا يصل إلى النساء ، وكنت كما جعلك الله في صورة حسنة ، فغلبتني نفسي ، فلما بني بها وجدها عذراء (١) .

وعن الهادي عليه‌السلام : « لمّا مات العزيز في السنين الجدبة ، افتقرت امرأة العزيز واحتاجت حتى سألت [ الناس ] فقالوا لها : لو قعدت للعزيز ؟ وكان يوسف يسمّى العزيز. فقالت : أستحي منه ، فلم يزالوا بها حتّى قعدت له [ على الطريق ] ، فأقبل يوسف في موكبه ، فقامت إليه وقالت : سبحان الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، وجعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال يوسف لها : أنت تيك ؟ فقالت : نعم. فقال لها : هل لك فيّ رغبة ؟ قالت : دعني بعد ما كبرت أتهزأني ! قال : لا ، [ قالت : نعم ] فأمر بها فحوّلت إلى منزله وكانت هرمه ، فقال لها [ يوسف ] : الست فعلت [ بي ] كذا وكذا ؟ فقالت : إني بليت بثلاثة لم يبل بها أحد. قال : وما هي ؟ قالت : بليت بحبّك ولم يخلق الله لك في الدنيا نظيرا ، وبليت [ بحسني ] بأنّه لم تكن بمصر امرأة أجمل منّي ولا أكثر مالا منّي ، وبليت بزوج عنين. فقال لها يوسف : فما تريدين ؟

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٧٩ - ٢٨٢.

٤١٢

فقال : تسأل الله أن يردّ عليّ شبابي. فسأل الله ، فردّ عليها شبابها ، فتزوّجها وهي بكر » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « استأذنت زليخا على يوسف ، فقيل لها : إنّا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه قالت : إنّي لا أخاف ممن يخاف الله. فلمّا دخلت قال لها : يا زليخا ، مالي أراك قد تغيّر لونك ؟ قالت : الحمد الله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا. فقال لها : ما الذي دعاك إلى ما كان منك ؟ قالت : حسن وجهك. فقال : كيف لو رأيت نبيا يقال له محمد يكون في آخر الزمان أحسن منّي وجها ، وأحسن منّي خلقا ، واسمح [ مني ] كفّا ؟ قالت : صدقت. قال : وكيف علمت أنّي صدقت ؟ قالت : لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي فأوحى الله عزوجل إلى يوسف أنّها قد صدقت ، وأني قد أحببتها لحبّها محمّدا ، فأمره الله عزوجل أن يتزوّجها » (٢) .

قيل : فحملت من يوسف وولدت له ابنين في بطن واحد ، أحدهما افرائيم ، والآخر ميشا ، وكانا كالشمس والقمر في الحسن والبهاء ، وباهى الله بحسنهما الملائكة في السماوات السبع ، وأحبّ يوسف زليخا حبا شديدا ، وتحوّل عشق زليخا وحبّها الأول إليه حتّى لم يبق له بدونها قرار ، وحوّل الله تعالى عشق زليخا وميلها إلى الطاعة والعبادة ، وراودها يوسف يوما ففرّت منه فتبعها وقدّ قميصها من دبر ، فقالت : إن قددت قميصك من قبل ، فقد قددت قميصي الآن ، فهذا بذاك (٣) .

ثمّ أقبلت السنون المجدبة ، فحبس الله عنهم قطر السماء ونبات الأرض حتى لم ينبت لهم حبة واحدة ، فاجتمع الناس إليه ، وقالوا : يا يوسف ، قد فنى ما في أموالنا من الطعام ، فبعنا ممّا عندك ، فأمر يوسف بفتح الأهراء (٤) ، وباع من أهل مصر ، ولا يبيع من أحد أكثر من حمل بعير ، تقسيطا على الناس ، وكان لم يشبع مدة القحط مخافة نسيان الجياع (٥) .

عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا صارت الأشياء ليوسف بن يعقوب ، جعل الطعام في بيوت ، وأمر بعض وكلائه ببيعه ، وكان يقول : بع بكذا وكذا ، والسعر قائم ، فلمّا علم أنّه يزيد في ذلك اليوم كره أن يجري الغلاء على لسانه ، فقال له : اذهب وبع ، ولم يسمّ له سعرا ، فذهب الوكيل غير بعيد ، ثمّ رجع إليه ، فقال له : اذهب وبع ، وكره أن يجري الغلاء على لسانه ، فذهب الوكيل فجاء أوّل من اكتال ، فلمّا بلغ دون ما كان بالأمس بمكيال قال المشتري : حسبك إنّما أردت بكذا وكذا ، فعلم الوكيل أنّه قد غلا بمكيال ، وهكذا » (٦) الخبر.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٥٧.

(٢) علل الشرائع : ٥٥ / ١.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٢.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٣.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٤.

(٦) الكافي ٥ : ١٦٣ / ٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٧.

٤١٣

عن الرضا عليه‌السلام : « باعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق في مصر وما حولها دينار ولا درهم إلّا صار في ملكيّة يوسف ، وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر حتّى لم يبق بمصر وما حولها حليّ ولا جواهر إلّا صار في ملكيّة يوسف ، وباعهم في السنة الثالثة بالدوابّ والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابّة ولا ماشية إلّا صار في ملكية يوسف. وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتّى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا أمة إلّا صار في ملكيّة يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتّى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلّا صار في ملكيّة يوسف ، وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلّا صار في ملكيّة يوسف ، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ إلّا صار عبد يوسف [ فملك ] أحرارهم وعبيدهم وأموالهم ، وقال الناس : ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما [ وعلما ] وتدبيرا » (١) الخبر.

أقول : إنّما صيّر الله أهل مملكة مصر عبيدا وإماء له ، لأنّهم في البدو نظروا إليه بعنوان العبودية ، ثمّ قال يوسف للملك : أيّها الملك ، ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها ، أشر عليّ برأيك ، فإنّي لم اصلحهم لا فسدهم ، ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم. قال له الملك : الرأي رأيك. قال يوسف : إنّي اشهد الله واشهدك أيّها الملك أنّي قد اعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت إليك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي ، ولا تحكم إلّا بحكمي.

فقال الملك : أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّك رسوله ، فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين (٢) .

قيل : إنّه سرى القحط إلى كنعان وبلاد الشام وضاق المعاش على يعقوب وأولاده ، فقالوا لأبيهم : إنّا سمعنا أنّ في مصر ملكا يعين الناس ويبيع الطعام من المحتاجين ، فأذن لنا أن نذهب إليه ونشترى منه الطعام بالبضاعة التي عندنا ، فأذن لهم جميعا إلّا بنيامين ليقوم بخدمته ، فتجهّزوا للسفر ، وأخذوا معهم أحد عشر بعيرا لكلّ منهم بعير ، وبعير لبنيامين ، وحملوا عليها البضاعة (٣) ، قيل : كانت نعالا وأدما(٤).

وقيل : دراهم (٥) . وقيل : مقلا (٦) .

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٣٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٣٧٣ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٨.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٥.

(٤) تفسير الرازي ١٨ : ٢٠١ ، تفسير البيضاوي ١ : ٤٨٩ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٢٨٩.

(٥) تفسير الرازي ١٨ : ٢٠١ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٨.

(٦) تفسير الرازي ١٨ : ٢٠١ ، تفسير البيضاوي ١ : ٤٩٤ ، والمقل : حمل شجرة الدّوم ، وهي تشبه النخلة ، وثمرتها في - غلظ التفاحة ذات قشر صلب أحمر ، وله نواة ضخمة ذات لبّ اسفنجي ، يكثر في صعيد مصر وفي بعض بلاد العرب.

٤١٤

وقيل : لمّا أجدبت بلاد الشام وغلت أسعارها ، جمع يعقوب بنيه ، وقال لهم : اذهبوا إلى مصر ، واشتروا منها طعاما من العزيز. قالوا : يا نبي الله ، كيف يطيب قلبك بأن (١) ترسلنا إلى الفراعنة ، وأنت تعلم عداوتهم لنا ، ولا نأمن أن ينالنا منهم شرّ ؟ فقال : بلغني أنّه ولي أهل مصر ملك عادل ، فاذهبوا إليه ، وأقرئوه منّي السّلام ، فانّه يقضي حاجتكم ، ثمّ جهّز أولاده العشر ، وأرسلهم إلى مصر ، وكان بين مصر وكنعان ثماني - أو اثنى عشر - مراحل (٢) .

وعن القمي : ثمانية عشر يوما (٣) ، وكان يوسف أوّل من صنع القرطاس ، ومع ذلك أخفى الله أمر يوسف على يعقوب ، ولم يأذن ليوسف أن يخبره عن حاله إلى الأجل المعين.

القمي : كان الناس من الآفاق يخرجون إلى مصر ليمتاروا (٤) طعاما ، وكان يعقوب وولده نزولا في بادية فيها مقل ، فأخذ إخوة يوسف من ذلك المقل ، وحملوه إلى مصر ليمتاروا به ، وكان يوسف يتولّى البيع بنفسه (٥) .

﴿وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)

﴿وَجاءَ﴾ إذن ﴿إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ ممتارين في مصر ﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ وهو في مجلس حكومته على زينة واحتشام ﴿فَعَرَفَهُمْ﴾ يوسف في أول نظرة لكمال فراسته ، وترصّده لمجيئهم ، وتقارب حال مفارقتهم وحال لقائهم ، وتشابه هيئاتهم وزيّهم في الحالين ﴿وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ غير عارفين به لبعد عهدهم منه - عن ابن عباس : كان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة (٦) - ولتباين حاله عند مفارقتهم له ، لأنّه كان في سنّ الحداثة وغاية الضعف والحالة التي زاده عليها من الكبرو والسّلطان.

عن الباقر عليه‌السلام : « لم يعرفه إخوته لهيبة الملك وعزّه » (٧) .

قيل : إنّهم رأوه على السرير ، وعليه ثياب الحرير ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج من ذهب (٨) .

روي أنّهم كلّموه بالعبرانية ، فقال لهم : من أنتم ، وما شأنكم ؟ قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة ، أصابنا الجهد فجئنا للميرة فقال : لعلكم جئتهم عيونا تنظرون إلى عورة بلادي ؟ قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو شيخ صدّيق نبي اسمه يعقوب. قال : كم أنتم ؟ قالوا : كنّا اثني عشر ، فهلك منّا

__________________

(١) في النسخة : فان ، ولم ترد في المصدر.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٥.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩.

(٤) زاد في النسخة : به.

(٥) تفسير القمي ١ : ٣٤٦ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٦.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٩ / ٢١١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٢٩.

(٨) تفسير الرازي ١٨ : ١٦٦.

٤١٥

واحد. قال : كم أنتم هاهنا ؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الآخر الحادي عشر ؟ قالوا : عند أبيه يتسلّى به من الهالك. قال : فمن يشهد لكم أنّكم لستم بعيون ، وأنّ الذي تقولون حقّ ؟ قالوا : نحن أهل بلاد بعيدة لا يعرفنا هنا أحد ، فأمر أن يعطى كلّ واحد منهم حمل بعير من الحنطة (١) .

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي

 الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩)

﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ﴾ وبذل لهم كلّ ما يحتاجون إليه من الزاد ومؤنة السفر ﴿قالَ :﴾ دعوا بعضكم عندي رهينة ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ ومعه رسالة من أبيكم على صدقكم ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، فخلّفوه عنده ، ثمّ حثّهم على إتيانه بقوله : ﴿أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي﴾ واتمّ لكم ﴿الْكَيْلَ﴾ ولا انقص شيئا من حقّ أحد ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ وأكرم المضيفين.

قيل : إنّه لمّا أعطى كلّ واحد حمل بعير سألوا حملا آخر لبنيامين ، فسألهم عنه قالوا : هو أخونا من أبينا بقي عنده لخدمته. قال يوسف : أنا أعطي على عدد الرؤوس لا عدد البعير ، ثمّ أعطاهم حملا آخر وشرط عليهم أن يأتوا به (٢) .

عن القمي رحمه‌الله : قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نحن بنو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق ، وجعلها الله عليه بردا وسلاما. قال : فما فعل أبوكم ؟ قالوا : شيخ ضعيف.

قال : ألكم أخ غيركم ؟ قالوا : لنا أخ من أبينا لا من امّنا. قال : فإذا رجعتم إليّ فأتوني به (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « قال لهم يوسف : قد بلغني أنّ لكم أخوين من أبيكم ، فما فعلا ؟ قالوا : أما الكبير منهما فانّ الذئب أكله ، وأمّا الصغير فخلّفناه عند أبيه ، وهو به ضنين ، وعليه شفيق. قال : فإنّي احبّ أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون » (٤) .

﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا

 لَفاعِلُونَ * وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا

 انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٠) و (٦٢)

ثمّ هدّدهم على التخلّف بقوله : ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ﴾ وخالفتم عهدكم ﴿فَلا كَيْلَ﴾ من الغلّة ﴿لَكُمْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٦.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٤٧ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٤٩ / ٢١١٥ ، تفسير الصافي ٣ : ٣٠.

٤١٦

عِنْدِي﴾ من بعد أصلا فضلا عن إيفائه ﴿وَلا تَقْرَبُونِ﴾ ولا تدخلون عليّ ، بل لا تدخلون بلادي ، وإنّما قال ذلك لعلمه بأنّهم مضطرّون إلى المراجعة للامتيار ، ولكونه مأمورا من الله أن يطلب أخيه ، ليعظم أجر أبيه على فراقه.

﴿قالُوا﴾ ليوسف : ﴿سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ﴾ ونحتال في انتزاعه من يد أبيه ، ونجتهد فيه ﴿وَإِنَّا﴾ والله ﴿لَفاعِلُونَ﴾ ذلك غير مفرطين ولا متوانين في طاعة أمرك.

﴿وَقالَ﴾ يوسف بعد أخذ العهد من إخوته على إتيان بنيامين ، سرّا منهم ﴿لِفِتْيانِهِ﴾ ومماليكه الموكلين على بيع الطعام وأخذ الأثمان : ﴿اجْعَلُوا﴾ ودسّوا ﴿بِضاعَتَهُمْ﴾ ومتاعهم الذي أخذتموه منهم ثمنا للحنطة ﴿فِي رِحالِهِمْ﴾ وجواليقهم تفضّلا عليهم ، وإكراما لهم ، وحثا لهم على الرجوع ، وإعانة لهم على مؤنته ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ يطّلعون على مكرمتهم و﴿يَعْرِفُونَها﴾ ويراعون حقّها ﴿إِذَا انْقَلَبُوا﴾ ورجعوا ﴿إِلى أَهْلِهِمْ﴾ وأقاربهم ، وفتحوا جواليقهم ورأوا ردّ أمتعتهم إليهم تفضّلا وإحسانا ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ لشكرهم ذلك الإنعام يجدّون في الوفاء بالعهد و﴿يَرْجِعُونَ﴾ إلينا مع أخيهم بنيامين.

﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا

 لَهُ لَحافِظُونَ * قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ

 خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٣) و (٦٤)

فوضع الغلمان بضاعتهم في أوعيتهم خفية منهم ، ثمّ أذن لهم يوسف بالرجوع إلى وطنهم وأهلهم ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا﴾ من مصر ﴿إِلى﴾ كنعان ودخلوا على ﴿أَبِيهِمْ﴾ يعقوب ﴿قالُوا﴾ له قبل فتح الأوعية واطّلاعهم على ردّ البضاعة : ﴿يا أَبانا﴾ أخذ منا العهد على أن نذهب ببنيامين معنا إلى مصر ، وإلّا ﴿مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ وحرمنا من الطعام فيما بعد ، و[ من ] رجوع شمعون إليك ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنا﴾ إلى مصر ﴿أَخانا﴾ بنيامين إذن ﴿نَكْتَلْ﴾ ما نشاء من الطعام ﴿وَإِنَّا﴾ والله ﴿لَهُ لَحافِظُونَ﴾ من كلّ آفة - ومكروه - ، وضامنون لسلامته وعوده إليك.

فامتنع يعقوب من إجابتهم ﴿قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ﴾ والحال أنه ليس تأمينكم على حفظه وردّه ﴿إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى﴾ حفظ ﴿أَخِيهِ﴾ يوسف وردّه إليّ ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وما اعتمادي على قولكم في حفظه ورده إلّا كاعتمادي على قولكم في حفظ يوسف في الزمان السابق ، وقد قلتم في حقّه ما قلتم ، وفعلتم ما فعلتم ، فلا ينبغي الوثوق بعد ما رأيت منكم بقولكم وعهدكم في حفظه ، فإن ارسله معكم فلا اعتمد في حفظه إلّا على الله.

٤١٧

﴿فَاللهُ خَيْرٌ﴾ منّي ومنكم لحفظه لكونه تعالى ﴿حافِظاً﴾ لكلّ شيء ، فأتوكّل عليه ، وافوّض أمر حفظه إليه ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ من أهل السماوات والأرضين بعباده ، فيرحم شيبتي وضعفي ، فلا يرضى بأن يجمع عليّ مصيبتين ، وفيه إشعار برضاه في ذهابهم به ، لاحتياجه إلى الطعام ، وإيناسه الخير والصلاح فيهم ، وعدم شدّة الحسد والحقد بينهم وبين بنيامين ، كذا قيل عن كعب ، لمّا قال يعقوب : ﴿فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً﴾ قال الله تعالى : وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ (١) .

﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ

 بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ

 يَسِيرٌ  قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ

 يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٥) و (٦٦)

ثمّ قيل : إنّ يعقوب قال لبنيه : يا بنيّ ، قدّموا أحمالكم لأدعو لكم فيها بالبركة ، فقدّموها إليه (٢)﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ﴾ وأبواب جواليقهم ﴿وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ﴾ التي سلّموها إلى ملك مصر ثمنا للطعام ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ بأن وضعت في رؤوس أجمالهم ، فلمّا رأوا ذلك ﴿قالُوا﴾ لأبيهم : ﴿يا أَبانا ما نَبْغِي﴾ ولا نطلب بمدحنا ملك مصر في الكرم كذبا ، أو لا نطلب منه إكراما وتفضلا فوق هذا الاكرام والتفضّل ، أو لا نطلب منك مؤنة الرجوع ﴿هذِهِ﴾ البضاعة التي ترى هي ﴿بِضاعَتُنا﴾ التي سلّمناها له عوض الطعام ﴿رُدَّتْ إِلَيْنا

أو المعنى أي شيء نطلب بعد إيفائه الكيل لنا وردّ ثمنه إلينا بأحسن وجه ، فاذا رجعنا إليه نأخذ ما نريد من الطعام ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنا﴾ ونأتيهم ما يكفيهم من الطعام ﴿وَنَحْفَظُ﴾ من كلّ مكروه ﴿أَخانا﴾ بنيامين ﴿وَنَزْدادُ﴾ على كيل أحمال أباعرنا ﴿كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ آخر بسبب حضوره عند الاكتيال ، فإنّ ﴿ذلِكَ﴾ الذي تحمله أباعرنا ﴿كَيْلَ﴾ وطعام ﴿يَسِيرٌ﴾ وقليل لا يكفي لحاجتنا ، أو ذلك الذي يعطينا الملك من الزيادة يسير وسهل عليه ، فانّه سخيّ كريم لا يضايقه من (٣) .

﴿قالَ﴾ يعقوب : ﴿لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ﴾ إلى مصر أبدا ﴿حَتَّى تُؤْتُونِ﴾ وتعطوني ﴿مَوْثِقاً﴾ وعهدا أكيدا منضما بالحلف بالله - أو بمحمد خاتم الأنبياء (٤) على قول - أو بالإشهاد (٥) أو بالإذن (٦)﴿مِنَ اللهِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٩ ، عن كعب.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٩١.

(٣) في النسخة : منّا.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٣٧٩.

(٥) تفسير الرازي ١٨ : ١٧١.

(٦) تفسير الرازي ١٨ : ١٧٠.

٤١٨

لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ وتردّونه صحيحا سالما إليّ على أيّ حال ﴿إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ ويغلب عليكم بحيث لا تقدرون على حفظه وإتيانه إليّ.

وقيل : يعني إلّا أن تهلكوا جميعا (١) .

قيل : البلاء موكل بالمنطق ، فانّه عليه‌السلام قال في حقّ يوسف : أخاف أن يأكله الذئب ، فابتلي بهذا القول ، وقال هنا : إلّا أن يحاط بكم ، فابتلي أيضا بهذا القول ، حيث إنّهم احيط بهم وغلبوا عليه(٢).

﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ وعاهدوه عهدا مؤكّدا بالحلف على حفظه وردّه سالما إليه ، حثّهم على الوفاء به بقوله : ﴿قالَ اللهُ﴾ القادر القاهر ﴿عَلى ما نَقُولُ﴾ من التعاهد ﴿وَكِيلٌ﴾ وشهيد ، أو مراقب وكاف ، يثيب على الوفاء به ، ويعاقب على الخلف.

﴿وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي

 عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

 الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)

ثمّ أذن عليه‌السلام في أن يذهبوا ببنيامين معهم إلى مصر ، فتهيّئوا للسفر ، فلمّا أرادوا أن يخرجوا خاف يعقوب عليهم العين ، لكونهم ذوي جمال فائق ، وكمال رائق ، وهيئة حسنة ، وبني أب واحد ، ﴿وَ﴾ لذا ﴿قالَ يا بَنِيَ﴾ اوصيكم بأنّه إذا وصلتم إلى مصر ﴿لا تَدْخُلُوا﴾ فيها ﴿مِنْ بابٍ واحِدٍ﴾ للمدينة على ما أنتم عليه من العدد والهيئة ﴿وَادْخُلُوا﴾ فيه متفرّقين ﴿مِنْ أَبْوابٍ﴾ متعدّدة ﴿مُتَفَرِّقَةٍ﴾ وطرق متشتته ، ومسالك مختلفة ، وإنّما وصّاهم في هذه الكرّة ، لأنّهم صاروا في السفر الأول مشتهرين في المصر بالقرب عند الملك ، وكانت ترفع إليهم الأبصار دون الكرّة الاولى ، فانّهم كانوا حين الورود مجهولين مقهورين بين الناس غير متجمّلين تجمّلهم في الثانية ، وإنّما كانت تلك الوصية بالنظر إلى حبّ الأبوة.

ثمّ التفت إلى أنّ التدبير لا يردّ التقدير ، وأنّ القضاء لا يدفع بالحيل والأداء ، فقال : ﴿وَما أُغْنِي﴾ ولا أنفعكم بتدبيري في دفع إصابة العين ﴿عَنْكُمْ﴾ إذا كان ﴿مِنْ﴾ قضاء ﴿اللهِ﴾ يسيرا ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الضّرر.

القمي : رحمه‌الله : أعلن بتفويضه الأمر إلى الله بقوله ﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ وما القضاء في الامور من النفع والضرّ والخير والشرّ لأحد ﴿إِلَّا لِلَّهِ﴾ وحده لا يشاركه فيه أحد ، ولا يمانعه عنه شيء ، فإذا كان ذلك فإنّي ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ وإليه فوّضت جميع اموري التي منها حفظ أولادي من الآفات في جميع

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٣٧٩.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٩١.

٤١٩

الأوقات ﴿وَعَلَيْهِ﴾ تعالى ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ البتّه بتبع أنبيائهم.

ثمّ لمّا أنكر بعض تأثير العين ، حملوا وصية يعقوب على أنّه لمّا علم اشتهارهم في المصر بالحسن والكمال خاف عليهم أن يحسدهم الناس ، ويسعوا عليهم عند الملك ، أو خاف أن يخافهم الملك الأكبر على ملكه فيحبسهم.

أقول : وإن كان هذا الوجه ممكنا ومحتملا إلّا أن إنكار تأثير العين إنكار لما هو ثابت بالشرع والتجربة ، فقد روى بعض العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « العين تدخل الرجل في القبر ، والبعير في القدر»(١).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أن جبرئيل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآه مغتما فقال : يا محمد ، ما هذا الغمّ الذي أراه في وجهك ؟ فقال : الحسن والحسين أصابتهما عين. فقال : صدقت ، فانّ العين حقّ » (٢) . إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة من طرق العامة والخاصة التي لا مجال لانكارها.

﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ

 حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا

 يَعْلَمُونَ (٦٨)

﴿وَلَمَّا﴾ وصل أولاد يعقوب إلى مصر ﴿دَخَلُوا﴾ فيها ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ﴾ وبنحو [ ما ] وصّاهم والدهم من دخولهم من أبواب متفرّقة ﴿ما كانَ﴾ رأي يعقوب وتدبيره في حفظهم من الابتلاء ﴿يُغْنِي﴾ وينفع ﴿عَنْهُمْ مِنَ﴾ قضاء ﴿اللهِ﴾ ومشيئته في حقّهم ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ يسير ، ولا يردّه عنهم بوجه ﴿إِلَّا حاجَةً﴾ قيل : إنّ الاستثناء منقطع ، والمعنى : ولكن حاجة كانت ﴿فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ﴾ وهو إظهار خوفه من أن تصيبهم العين أو يحسدهم أهل مصر (٣) ، وهو ﴿قَضاها﴾ بتلك التوصية.

عن ابن عباس : « ذلك التفرّق ما كان يردّ قضاء الله ، ولا أمرا قدّره الله (٤) . وفيه تصديق الله لما قال يعقوب : « ما اغني عنكم من الله شيء » ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ﴾ بأن التدبير لا يدفع التقدير ﴿لِما عَلَّمْناهُ﴾ ولاجل وحينا إليه.

وقيل : أي لذو حفظ ومراقبة لما علمناه ، أو لذو علم بفوائد ما علمناه ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم الجهّال غير العارفين ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ ما علم يعقوب ، أو أن يعقوب بهذه الصفة أو القضاء لا يردّ التدبير. وقيل : إنّ المراد أنّ المشركين لا يعلمون أنّ الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم النافعة لهم في

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٩٢ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٩٣.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٩٣.

(٣ و٤) تفسير الرازي ١٨ : ١٧٦.

٤٢٠