نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

 يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها

 وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) و (١٦)

ثمّ لمّا كان غرض الكفّار - من معارضة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتكذيب القرآن ، واقتراحهم عليه بجعل جبال مكّة ذهبا ، وتعييره بعدم نزول كنز عليه - طلب الدّنيا وحبّ زخارفها ، لا طلب الحقّ والآخرة ، هدّدهم بغاية الخسران ، وعذاب النّيران في الآخرة بقوله : ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ﴾ ويطلب ﴿الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها﴾ وزخارفها بأعماله الخيريّة ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ﴾ ونعطهم كاملا ما يساوي ﴿أَعْمالَهُمْ﴾ من الأجر الدّنيوي ﴿فِيها﴾ لأنّ هممهم مقصورة على تحصيل الدنيا ﴿وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ﴾ ولا ينقصون شيئا من اجورهم ، بحيث إذا خرجوا منها لم يكن معهم أثرها ، حتّى لا يستحقّون شيئا من الثّواب الموعود عليها في الآخرة ﴿أُولئِكَ﴾ الطّالبون للدنيا هم ﴿الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾ لعدم لياقتهم إلّا لها ﴿وَحَبِطَ﴾ وفسد ﴿ما صَنَعُوا فِيها﴾ من الأعمال الصّالحة ، لعدم كونها لوجه الله ﴿وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ رياء وسمعة ، لعدم صلوحه في نفسه لترتيب الأجر عليه.

﴿أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً

 وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ

 فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة وغاية خسرانهم ، وضعة محلّهم ، بيّن حسن حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، ورفعة مقامهم ، بإنكار التّساوي بينهما بقوله : ﴿أَ فَمَنْ كانَ﴾ قادرا ومستوليا ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾ وحجّة واضحة كائنة ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ على صحّة دينه ، وبرهان على كلّ حقّ وصواب ، ويتبع ذلك البرهان ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ أو يتبع ذلك الذي كان على بيّنة ﴿شاهِدٌ﴾ ومصدّق ﴿مِنْهُ﴾ يشهد له على صدقه ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ تشهد له التّوراة التي هي ﴿كِتابُ مُوسى﴾ حال كونه ﴿إِماماً﴾ وتبعا ﴿وَرَحْمَةً﴾ ونعمة للنّاس ، كمن يريد الكفر والضّلال طلبا للدّنيا وزينتها ، لا يكون ذلك أبدا ، فكيف وبينهما بون بعيد ؟

وقيل : إنّ وجه النّظم بين الآيتين وسابقتهما ، أنّه لمّا أمر الله المؤمنين بأن يزدادوا يقينا بنزول القرآن بعلم الله ، بعد ظهور عجز البشر عن الإتيان بمثله ، وبيّن أنّ الكفّار لا حظّ لهم في الآخرة ، كان مجال توهّم الحظّ لهم فيها بسبب الأعمال الخيريّة ، دفع الله ذلك التوهّم بقوله : ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ

٣٠١

الدُّنْيا ...﴾ الآية (١) ، ثمّ عاد سبحانه إلى التّرغيب في الايمان بالقرآن والتّوحيد والإسلام بقوله : ﴿أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ

ثمّ أنّه قد كثر الاختلاف بين مفسّري العامّة في المراد من الآية ، فمنهم من قال : إنّ المراد من من ﴿كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ هو النبيّ ، ومن البينة هو القرآن ، ومن التلاوة قراءة القرآن ، ومن الشاهد جبرئيل (٢) ، وقيل : لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، وقيل : معجزاته (٤) ، وقيل : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ كما نقله الفخر الرازي ، وقال : المراد بكلمة ( منه ) تشريف الشّاهد بأنّه بعض [ من ] محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، فيكون حاصل المراد : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على بيّنة عظيمة على نبوّته ، وصحّة دينه وهي القرآن ، ويتلوه ويقرأه أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو جزء من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبمنزلة نفسه.

وروى العلّامة في ( نهج الحق ) ، عن الجمهور : أنّ من ﴿كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشاهد عليّ عليه‌السلام (٦) .

وقال القاضي في ( إحقاق الحق ) ، بعد نقل إنكار فضل بن روزبهان الناصبي كونه من تفاسير أهل السنة : إنّ ما نسب المصنّف روايته إلى الجمهور ، قد رواه ابن جرير الطّبري ، وذكره الثّعلبي ، وكذا الحافظ أبو نعيم بثلاثة طرق عن عبد الله بن عبد الله الأسدي ، والفلكي المفسّر عن مجاهد وعن عبد الله بن شدّاد ، وغيرهم من قدماء أهل السّنة ، ومن المتأخّرين فخر الدّين الرازي ، ثمّ نقل عبارة الفخر التي ملخصها ما ذكرنا.

ثمّ قال القاضي : ولا ريب أنّ شاهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على امّته يكون أعدل الخلائق سيّما إذا تشرّف بكونه بعضا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ذكر الرّازي ، فكيف يتقدّم عليه غيره ؛ مع كون ذلك الشّاهد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ ( من ) هاهنا لتبيين الجنس ، فيؤذن بأنّ عليّ بن أبي طالب من جنس الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله : ﴿وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ﴾ فيه بيان لكون عليّ عليه‌السلام تالي الرّسول من غير فصل بينهما بتال آخر ، فمن جعله تاليا بعد ثلاثة فعليه الدّلالة ، لأنّ التالي هو من يلي غيره على أثره من غير فصل بينهما (٧) .

أقول : الظّاهر أن ( من ) للتّبعيض - كما ذكره الفخر - ودلالته على فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام أقوى من كون ( من ) لتبيين الجنس ، وكون عليّ عليه‌السلام بعضا من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه نفسه ، كما دلّت عليه آية المباهلة ، فما دام كون نفس النبيّ - التي هي بعض مجموع من نفسه وبدنه - موجودا بين النّاس ، كان

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ : ١٩٤.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٧ : ٢٠١.

(٤) تفسير أبي السعود ٤ : ١٩٥.

(٥) تفسير الرازي ١٧ : ٢٠١.

(٦) نهج الحق : ١٩٥.

(٧) إحقاق الحق ٣ : ٣٥٧ و٣٥٨.

٣٠٢

النبي موجودا بينهم ، فلا معنى لرجوع النّاس إلى غيره.

ولو قلنا أنّ (يتلوه) مأخوذ من تلاوة القرآن وقراءته - كما ذكره الفخر - فمعناه أنّه كالرّسول وبمنزلته في تبليغ كتاب الله إلى الامّة ، فيكون مفاده مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما من رجل من قريش إلّا وقد انزلت فيه آية أو آيتان من كتاب الله. فقال رجل من القوم : فما نزل فيك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أما تقرأ الآية التي هي في هود ﴿أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ﴾ محمّد على بيّنة من ربّه ، وأنا الشّاهد » (١) .

وفي ( الأمالي ) : « وأنا الشّاهد ، وأنا منه » (٢) .

وفي ( البصائر ) : « وأنا الشّاهد له فيه ، وأنا أتلوه معه » (٣) .

وفي ( الاحتجاج ) ، أنّه سئل عن أفضل منقبة له ، فتلا هذه الآية وقال : « أنا الشّاهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٤) .

وفيه ، في حديث : قال له بعض الزّنادقة : وأجد الله يخبر أنّه يتلو نبيّه شاهد منه ، وكان الذي تلاه عبدة الأصنام برهة من دهره. فقال : « وأمّا قوله : ﴿وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ﴾ فذلك حجّة الله ، أقامها الله على خلقه ، وعرّفهم أنّه لا يستحقّ مجلس النبيّ إلّا من يقوم مقامه ، ولا يتلوه إلّا من يكون في الطّهارة مثله وبمنزلته ، لئلّا يتّسع من مسّه رجس الكفر في وقت من الأوقات ، انتحال الاستحقاق لمقام الرّسول » .الخبر (٥) .

وعن الكاظم والرضا عليهما‌السلام : أمير المؤمنين ؛ الشّاهد على رسول الله ، ورسول الله على بيّنة من ربّه » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « إنّما انزل ﴿أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ﴾ إماما ورحمة ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى(٧) .

أقول : هذه الرّواية محمولة على أنّ قوله : ﴿إِماماً وَرَحْمَةً﴾ حالان للشّاهد ، لوضوح عدم التّحريف في الكتاب المجيد.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٣ / ١٩٩٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

(٢) أمالي الطوسي : ٣٧٢ / ٨٠٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

(٣) بصائر الدرجات : ١٥٣ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

(٤) الاحتجاج : ١٥٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

(٥) الاحتجاج : ٢٤٥ و٢٥١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٨.

(٦) الكافي ١ : ١٤٧ / ٣ عن أبي الحسن عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

(٧) تفسير القمي ١ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٧.

٣٠٣

وقيل : إنّ المراد من من ﴿كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن ( البينة ) القرآن ، ومن ( الشاهد ) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وقيل : إنّ الشّاهد اشتمال القرآن على أعلى مرتبة الفصاحة والبلاغة ، بحيث لا يقدر البشر على إتيان مثله (٢) .

عن الحسين بن عليّ عليه‌السلام : « الشّاهد من الله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

وقيل : إنّ المراد من من ﴿كانَ عَلى بَيِّنَةٍ﴾ مؤمنو ٩ أهل الكتاب كعبد الله بن سلّام وأضرابه (٤) ، واستشهدوا له بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون بكونهم على بيّنة على الدّين الحقّ من مذهب التّوحيد والإسلام ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ حقّ الايمان ، لتوافق البرهان ونصّ القرآن المشتمل على إعجاز البيان ، ودلالة توراة موسى بن عمران على صحّته ، وصدق النبيّ الجائي به ، ولذا بلغ في القوة والظّهور إلى ما لا مزيد عليه.

ثمّ هدّد سبحانه الكافرين بالقرآن بقوله : ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ ويجحده ﴿مِنَ الْأَحْزابِ﴾ والقبائل من أهل مكّة ، الذين تحزّبوا واجتمعوا على إبطال الحقّ وإطفاء نور الرّسول ، أو المراد حزب أهل الكتاب ، وحزب المشركين ، وحزب المنافقين ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ يوم القيامة حسبما وعدهم الله بقوله : ﴿لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد صدق القرآن ، أو صدق الوعيد المذكور بقوله : ﴿فَلا تَكُ﴾ يا محمّد ، أو يا إنسان ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ وشكّ ﴿مِنْهُ﴾ بعد ظهور صدقه ، وكونه من عند الله بالشّواهد المذكورة ، أو بعد وضوح كون الكافرين بالقرآن من أعداء الله ، ومن المتوعّدين بالنّار. وعن الصادق عليه‌السلام : ﴿فِي مِرْيَةٍ﴾ من ولاية عليّ عليه‌السلام » (٥)﴿إِنَّهُ الْحَقُ﴾ الثّابت ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ اللّطيف بك ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ لقصور عقلهم ونظرهم ، أو لعنادهم ولجاجهم.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ

 الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)

ثمّ قيل : إنّ بعض الكفّار كانوا شديدي الحرص على الدّنيا ، فردّهم الله بقوله : ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ الآية ، وبعضهم كانوا قادحين في معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فردّهم الله بقوله : ﴿أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١٧ : ٢٠٢.

(٣) مجمع البيان ٥ : ٢٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٨.

(٤) تفسير الرازي ١٧ : ٢٠١.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٣ / ١٩٩٧.

٣٠٤

مِنْ رَبِّهِ﴾ وبعضهم كانوا مفترين على الله بالقول بشفاعة الأصنام ، فردّهم الله بقوله : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على الله ، وعلى نفسه ﴿مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ بقوله : هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند الله. لا والله ، لا يكون أحد أظلم منه ، لأنّ الشّرك ظلم عظيم (١) .

ثمّ هدّدهم الله بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الظّالمون ﴿يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ﴾ ويحضرون عنده ﴿وَيَقُولُ﴾ أهل الموقف ، أو الملائكة الحفظة ، أو الأنبياء ، أو الأئمّة الّذين هم ﴿الْأَشْهادُ﴾ على النّاس يوم القيامة تفضيحا لهم : ﴿هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم ، المحسن بنعمه عليهم ، المالك لنواصيهم بقولهم : الأصنام شركاء الله في الالوهيّة ، وشفعاؤنا عنده ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ﴾ وغضبه وعذابه ﴿عَلَى﴾ هؤلاء ﴿الظَّالِمِينَ﴾ على الله بالافتراء عليه ، وعلى أنفسهم بتعريضها للهلاك.

روي أنّ الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة ، فيستره من النّاس فيقول : أي عبدي ، أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم يا ربّ. فإذا أقرّه بذنوبه قال : فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا ، وقد غفرتها لك اليوم ، ثمّ يعطى كتاب حسناته. وأمّا الكفّار والمنافقون ، فيقول الأشهاد : ﴿هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ يفضحونهم بما كانوا عليه في الدّنيا ويبيّنون أنّهم ملعونون عند الله بسبب ظلمهم(٢) .

القمّي : يعني بالأشهاد الأئمّة عليهم‌السلام ﴿أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ آل محمّد حقّهم (٣) .

﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)

ثمّ ذمّهم سبحانه بأسوأ أعمالهم بقوله : ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ ويمنعون النّاس بشبهاتهم ﴿عَنْ﴾ الدّخول في ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ ودين الحقّ وقبوله ﴿وَيَبْغُونَها﴾ ويطلبون لها ﴿عِوَجاً﴾ وانحرافا ، بأن يصفوها بالبعد عن الحقّ ، أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها بتعويج دلائلها المستقيمة.

القمّي : ﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ عن طريق الله ؛ وهي الإمامة ﴿يَبْغُونَها عِوَجاً﴾ حرّفوها إلى غيرها(٤) .

﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ﴾ بالخصوص ﴿كافِرُونَ﴾ ليس كفر غيرهم في جنب كفرهم بشيء.

﴿أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ

 يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ * أُولئِكَ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٧ : ٢٠٣ - ٢٠٤.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ١١٢.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٩.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٩.

٣٠٥

 الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٠) و (٢١)

ثمّ عاد إلى تهديدهم بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الملعونون ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ﴾ الله ومانعيه من تنفيذ إرادته ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بالهرب منه والمدافعة عن عذابه ﴿وَما كانَ لَهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سوا بعضا ﴿مِنْ أَوْلِياءَ﴾ وأنصار ينجونهم من العذاب بالقهر ، فلا حيلة لهم في الخلاص منه ، بل هم لكفرهم بالمبدأ والمعاد ، وجمعهم بين ضلال أنفسهم وإضلال غيرهم ﴿يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ﴾ وقيل : تضعيف العذاب حكمة تأخيره عنهم (١) .

ثمّ بيّن سبحانه علّة شدّة كفرهم وتماديهم في الضّلالة بقوله : و﴿ما كانُوا﴾ لفرط تصاممهم عن الحقّ ، وامتناعهم عن الإذعان بالقرآن الذي طريق تلقّيه السّمع ﴿يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾ والإصغاء إليه ﴿وَما كانُوا﴾ لشدّة بغضهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿يُبْصِرُونَ﴾ معجزاته ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ﴾ اشتروا الضّلالة بالهدى ، وعبادة الأصنام بعبادة الله ، والعذاب بالمغفرة ، فلذا ﴿خَسِرُوا﴾ وأضرّوا ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ غاية الخسران ، وأشدّ الضّرر ﴿وَضَلَ﴾ وضاع ﴿عَنْهُمْ﴾ في ذلك اليوم ﴿ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من الآلهة وشفاعتها.

وعن القمّي : بطل الذين دعوا [ غير ] أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) .

﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

 وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٢) و (٢٣)

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلام بغاية خسرانهم بقوله : ﴿لا جَرَمَ﴾ ولا بدّ ، أو لا شكّ ، أو حقّا ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ بحيث لا يدانيهم أحد في الخسران.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء حال الكفّار في الآخرة وغاية خسرانهم ، بيّن حسن حال المؤمنين وكثرة ربحهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا﴾ وأطمأنّوا ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾ ورحمته ، أو خضعوا له ﴿أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ وملازموها ، و﴿هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ ومقيمون أبدا لا يخافون الخروج منها.

﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا

 تَذَكَّرُونَ (٢٤)

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ : ١٩٧.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٣٩.

٣٠٦

ثمّ أوضح سبحانه سوء حال الكفّار وحسن حال المؤمنين ، بضرب المثل بقوله : ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ فريق الكفّار وفريق المؤمنين وحالهم العجيبة ، ببيان أوضح : أنّ فريق الكفّار ﴿كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ﴾ الذي يكون متحيّرا في جميع اموره ، لا يهتدي إلى شيء من مصالحه ومنافعه ﴿وَ﴾ فريق المؤمنين مثل ﴿الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ﴾ الذي يهتدي إلى كلّ خير ﴿هَلْ﴾ الفريقان ﴿يَسْتَوِيانِ مَثَلاً﴾ وحالا ؟ كلّا ، لوضوح أنّ الأوّل يتخبّط في المسالك ويقع في المهالك ، والثاني يمشي مطمئنّا ويهتدي إلى جميع مطالبه إلى أقطار الأرض ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟﴾ قيل : إنّ التقدير : أتعقلون عن هذا التّفاوت بينهما ، فلا تذكّرون ؟ أو فلا تتألّمون في هذا المثل ، مع أنّ العاقل لا ينبغي له الغفلة وعدم التذكّر. وفي المثل تقرير لعدم التّساوي بين من كان على بيّنة ، وغيره (١) .

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي

 أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ

 بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ

 عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ * قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي

 وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٥) و (٢٨)

في بيان كيفية دعوة نوح ومعارضته قومه

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد الكفّار بالعذاب الاخروي ، ذكر قصّة نوح وهلاك قومه ، عبرة وتهديدا لهم بالعذاب الدّنيوي ، وتسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ﴾ فقال : يا قوم ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ﴾ ومخوّف بالعذاب على الشّرك والطّغيان ﴿مُبِينٌ﴾ لإنذاري أكمل بيان ، وموضّح له أوضح تبيان.

وقيل يعني : مبين ما أعدّ الله للمطيعين من الثّواب (٢) .

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة إنذاره ، وما أنذر به بقوله : ﴿أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ﴾ ولا تشركوا به شيئا ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن خالفتموني ﴿عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ من جهة ما يقع فيه من العذاب ﴿فَقالَ الْمَلَأُ﴾ والأشراف ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وكانوا ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ في جوابه ، تماديا في الكفر ، وعنادا للحقّ : ﴿ما نَراكَ﴾ يا نوح ﴿إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا﴾ تأكل وتنام وتمشي ﴿وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ﴾ وآمن بك ﴿إِلَّا﴾ الصعاليك ﴿الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا﴾ وأدانينا ﴿بادِيَ الرَّأْيِ﴾ وظاهر الأنظار من غير تعمّق ، أو بلا حاجة إليه لوضوحه ، فلا عبرة باتّباعهم لك ، لأنّهم ليسوا بذوي عقل رزين ، ورأي أصيل ﴿وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا

__________________

(١) تفسير أبي السعود ١ : ١٩٩.

(٢) تفسير الرازي ١٧ : ٢١٠.

٣٠٧

مِنْ فَضْلٍ﴾ ومزيّة من حيث العقل والشّرف والمال ، توجب اختصاصكم بالنبوّة ، والقرب من الله ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ﴾ جميعا ﴿كاذِبِينَ﴾ في دعوى التّوحيد والنبوّة.

﴿قالَ﴾ لهم نوح بلطف ولين : ﴿يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني عن عقل وإنصاف ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ في دعوى نبوّتي ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾ عظيمة ، وحجّة واضحة من كمال العلم والمعرفة ، والمعجزة الباهرة ﴿مِنْ رَبِّي﴾ ومليكي الذي أرسلني إليكم ﴿وَآتانِي رَحْمَةً﴾ عظيمة ، ونعمة جسيمة ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ وبلطفه وقدرته ، من النبوّة والمعجزة ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ واشتبهت حقيقة الأمر ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لسوء أخلاقكم ، وتقولون إنّه لم تظهر عندكم نبوّتي ﴿أَ نُلْزِمُكُمُوها﴾ ونجبركم على قبولها والاهتداء بها ﴿وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ﴾ وعنها معرضون ، لعدم إقبال قلوبكم إليها ، وعدم تأمّلكم فيها.

وحاصل الجواب : أخبروني إن كانت لي حجّة ظاهرة ، وأنتم لا تسلّمون لها لخفائها عنكم ، بسبب حسدكم وعنادكم ، هل نقدر على إلزامكم بقبولها ، مع عدم نظركم إليها ، وعدم تأمّلكم فيها ، وإعراضكم عنها ؟ كلا ، لا نقدر على ذلك. وفيه إظهار غاية تمرّدهم ، واليأس عن إيمانهم.

وقيل : إنّ المقصود صرفهم عن الإعراض ، وحثّهم على التدبّر في حججه ومعجزاته (١) .

﴿وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ

 آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)

ثمّ لمّا كان من موجبات الإعراض أو توهّم الكذب توهّمهم طمعه في أموالهم ، أعلمهم ببراءته عن الطّمع في أموالهم بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ﴾ إن كان سبب إعراضكم عنّي ، وتكذيبكم قولي توهّم طمعي في أموالكم ، فاعلموا أنّي مأمور من قبل ربّي بتبليغ دينه ، ولذا ﴿لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً﴾ وإن كان يسيرا ؛ لأنّ عملي ليس لكم حتّى استحقّ عليكم أجره ﴿إِنْ أَجرِيَ﴾ وما جزاء عملي على أحد ﴿إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ لأنّي عامل له ، فلا تحرموا أنفسكم عن السّعادة في الدّارين ، باحتمال طمعي في أموالكم ، وتضرّركم بسبب قبول قولي والإيمان بي ، وأمّا اعتراضكم بأن أتباعي الفقراء وأداني النّاس ، فلا وقع له ، لأنّي رسول الله إلى النّاس ، وإنّما غرضي هدايتهم ، ولذا لا يتفاوت في نظري كون المهتدي غنيا أو فقيرا ، شريفا أو وضيعا ﴿وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيّته من مجلسي ومن حولي ، وإن كانوا أفقر خلق الله وأرذلهم ، حيث ﴿إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة ، فيشكون إليه طاردهم ويخاصمونه.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٠١.

٣٠٨

أو المراد : كيف أطردهم ، مع أنّهم أعظم الناس قدرا ، وأعلاهم منزلة ؟ لأنّهم ملاقو ربّهم ، والفائزون بقرب مليكهم ، بسبب إيمانهم وحسن عملهم. ثمّ أنتم ترون أنفسكم أعقل وأعلم منّي ومنهم ﴿وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ بالواقعيّات ، وما وراء المحسوسات ، وعواقب الامور ، وتغترّن بالظّواهر لقصور نظركم ، وعدم تدبّركم ، ولذا تدّعون أنهم أرذل النّاس وتسألون طردهم.

﴿وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي

 خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي

 أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ

 الظَّالِمِينَ (٣٠) و (٣١)

ثمّ بالغ في الاعتذار عن عدم طردهم بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي﴾ وينجيني ﴿مَنْ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ ويدفع عنّي عقابه ﴿إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾ وأبعدتهم من حولي ، مع أنّي مأمور بتقريبهم وإكرامهم ؟ ﴿أَ فَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أنّ هذا أبلغ الإعذار في ترك طردهم ؟

ثمّ لمّا كان في قوله : ﴿لا أَسْئَلُكُمْ﴾ إيهام بغناه المطلق ، وفي دعوى رسالته إيهام بكونه ملكا في اعتقاد القائلين بأنّه بشر ، وفي قوله : إني ﴿أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ إيهام بكونه عالما بالبواطن والمغيّبات ، وفي قوله : ﴿ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيهام بكونه عالما بما في أنفسهم من الخلوص في الإيمان ، وكلّ ذلك كان موردا لتكذيبهم ؛ لغاية استبعاده في نظرهم ، دفع جميع التوهّمات بقوله : ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ﴾ وبيدي مفاتيح كنوزه ، ولي الغنى المطلق ، حتّى تجحدوا ذلك وتقولوا : ﴿ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ﴾ فإنّ النبوّة لا تنال بالمال والجاه ﴿وَلا﴾ أقول : إنّي ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ حتّى تستبعدوه منّي ﴿وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ من الملائكة ، حتّى تكذّبوني وتقولوا : ﴿ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ﴾ فإنّ البشريّة من مبادئ النبوّة لا من موانعها ﴿وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ وتسترذلوهم في أنظاركم : ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً﴾ كما تقولون ذلك في شأنهم ، أو آتاهم جميع الخيرات بخلوص إيمانهم. وإنّما أنظر أنا بظاهر حالهم ومقالهم ، و﴿اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من الخلوص والنّفاق ﴿إِنِّي إِذاً﴾ والله ﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على نفسي بادّعاء ما ليس لي ، وعلى المؤمنين بطردهم وتحقيرهم.

﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ

 الصَّادِقِينَ * قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٢) و (٣٣)

٣٠٩

فلمّا ردّ نوح شبههم ، وألزمهم بالحجج والبيّنات الواضحة ، ضاقت عليهم الحيل و﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا﴾ وخاصمتنا في إثبات نبوّتك ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا﴾ وأطلته حتّى مللتنا ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ من العذاب العاجل ، عى ترك إيماننا بك ، وبما ادّعيت من التّوحيد ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى نبوّتك ووعيدك ، فإنّ مواعظك ومناظرتك لا تؤثّر فينا ﴿قالَ﴾ نوح : أنا لا أقدر على إتيان العذاب ، بل ﴿إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿إِنْ شاءَ﴾ إتيانه عاجلا أو آجلا ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ له ومانعيه من تعذيبكم بالهرب والدّفاع.

﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ

 رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)

ثمّ نبّههم بكونه ناصحا لهم لا مجادلا ، وأظهر يأسه عن إيمانهم متأسّفا عليهم بقوله : ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ﴾ ولا يؤثّر فيكم ﴿نُصْحِي﴾ وموعظتي ﴿إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾ وأرشدكم بما فيه خيركم ، وأزجركم عمّا فيه ضرّكم وشرّكم ، لا تسمعوا قولي ، ولا تعتنوا إلى نصحى ﴿إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ويضلّكم عن صراط الحقّ لخبث طينتكم وسوء اختياركم وإعمالكم له ذلك ، إذ ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ ومالك أمركم ، العالم بطينتكم وسوء أخلاقكم وأعمالكم ، حيث إنّه خلقكم أوّلا ، وربّاكم في مدّة عمركم ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ آخرا ؛ فيجازيكم بما تستحقّون.

عن الرضا عليه‌السلام : « يعني : الأمر إلى الله يهدي من يشاء » (١) .

﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية محاجّة نوح مع قومه - التي [ هي ] من الأخبار الغيبيّة بالنّسبة إلى النبيّ الامّي ، والدّلائل الواضحة على صدق القرآن - وبّخ المشركين بنسبة الافتراء إليه بقوله : ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ هؤلاء المشركون في شأن القرآن العظيم : إنّ محمّدا ﴿افْتَراهُ﴾ واختلقه من عند نفسه ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المعاندين المصرّين على الكفر واللّجاج : ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ كما تقولون ﴿فَعَلَيَّ إِجْرامِي﴾ وعقوبة ذنبي ، وإن كنت صادقا في نسبة القرآن إلى ربّي ؛ وأنتم تكذّبوني ، فعليكم عقاب ذنبكم ووبال جرمكم ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ من إسناد الافتراء إليّ ، فلا وجه لمعاداتكم لي.

وقيل : هذه الآية تتمّة قول نوح ، والضّمير المنصوب في ﴿افْتَرَيْتُهُ﴾ راجع إلى الوحي الذي ادّعاه (٢) .

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٤ / ٢٠٠٢ ، وفيه : يهدي ويضلّ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٢.

(٢) تفسير الرازي ١٧ / ٢٢٠.

٣١٠

﴿وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا

 يَفْعَلُونَ (٣٦)

ثمّ لمّا كان يئس نوح عليه‌السلام من إيمان معارضيه دون غيرهم من الكفّار ومن في أصلابهم ، أخبره سبحانه بعدم إيمان الموجودين في عصره ، ولا من في أصلابهم أبدا بقوله : ﴿وَأُوحِيَ﴾ من قبل الله ﴿إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ﴾ ومن في أصلابهم أحد أبدا ﴿إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ بك ، فلا تحتمل في حقّهم وفي حقّ نسلهم الإيمان ، ثمّ أنّهم إن عصوك وكذّبوك ﴿فَلا تَبْتَئِسْ﴾ ولا تحزن ﴿بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ من العصيان والإيذاء ، وبما كانوا يرتكبون من التّكذيب والاستهزاء ، لأنّه قد انتهت مدّة إمهالهم ، وقربت ساعة مجازاتهم.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ نوحا [ كان ] إذا جادل قومه ضربوه حتّى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهمّ اهد قومي فانّهم لا يعلمون » (١) .

قيل : لمّا جاء هذا الوحي ، دعا عليهم فقال : ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ...﴾ الآية (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ نوحا عليه‌السلام لبث فى قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، يدعوهم سرّا وعلانية ، فلمّا أبوا وعتوا قال : رب ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ فأوحى الله تعالى إليه ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ ...

الآية. فلذلك قال نوح : ﴿وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً(٣) . الخبر (٤) .

﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ *

 وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا

 نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٧) و (٣٨)

ثمّ أمره الله بصنع الفلك بقوله : ﴿وَاصْنَعِ﴾ يا نوح ﴿الْفُلْكَ﴾ حال كونك محفوظا ﴿بِأَعْيُنِنا﴾ وحفظنا إيّاك من أن يمنعك الكفّار من صنعه ، أو من الخطأ فيه ، أو بحفظ الملائكة المؤيّدين لك الموكّلين بحفظك وإعانتك ، وليكن صنعك إيّاه بتعليمنا ﴿وَوَحْيِنا﴾ إليك كيفيّة صنعه.

عن ابن عبّاس : لم يعلم نوح كيفيّة صنعة الفلك ، فاوحي إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر ، فأخذ القدوم وجعل يضرب ولا يخطأ (٥) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٢.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٢ ، والآية من سورة نوح : ٧١ / ٢٦.

(٣) سورة نوح : ٧١ / ٢٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٥ / ٢٠٠٤ ، الكافي ٨ : ٢٨٢ / ٤٢٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٢.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٣.

٣١١

وروي أنّه أمر بغرس الأشجار ، فنمت تلك الأشجار ، في مدّة عشرين سنة ، فلم يولد في تلك المدّة مولود ، وبلغت الأطفال التي ولدت من قبل ، وكفروا وعارضوا نوحا تبعا لآبائهم (١) .

ثمّ لمّا كان نوح عليه‌السلام كثير الشّفقة على قومه ، أوحى الله إليه بقوله : ﴿وَلا تُخاطِبْنِي﴾ ولا تراجعني ﴿فِي﴾ شأن ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر والطّغيان ، ولا تشفع لهم في دفع العذاب عنهم ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بالطّوفان لا محالة في حكمي وقضائي ، فلا يمكن صرفه عنهم.

﴿وَ﴾ كان نوح ﴿يَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾ التي أمر بصنعها ﴿وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ﴾ وأشراف ﴿مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ إمّا لعدم معرفتهم بنفعها - قيل : إنّ قومه قالوا : ما تصنع يا نوح ؟ فقال : أصنع بيتا يمشي على الماء ، فتعجّبوا وسخروا منه - وإمّا لأنّه كان يصنعها في أبعد موضع من الماء في وقت غاية عزّته (٢) ، وكان القوم يتضاحكون ويقولون : يا نوح ، صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا ، ويقولون : أتجعل للماء إكافا (٣) ، فأين الماء (٤) ؟ !

وعن الباقر عليه‌السلام : « أنّ نوحا عليه‌السلام لمّا غرس النّوى ، مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون : قد قعد غرّاسا ، حتّى إذا طال النّخل ، وكان جبّارا طوالا ، قطعه ثمّ نحته ، فقالوا : قد قعد نجّارا. ثمّ ألّفه فجعله سفينة ، فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون : قد قعد ملّاحا في فلاة الأرض ؛ حتّى فرغ منها » (٥) .

وقيل : إنّه كان ينذرهم بالغرق ، فلمّا طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عينا ولا أثرا ، عدّوه من المحالات ، ثمّ لمّا رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص منه سخروا منه (٦) .

فلمّا رأى نوح عليه‌السلام سخريتهم ﴿قالَ﴾ لهم : ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا﴾ اليوم ﴿فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ﴾ إذا وقع عليكم الغرق في الدّنيا ، والحرق في الآخرة ﴿كَما تَسْخَرُونَ﴾ منّا.

﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وعن قريب تشهدون ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ﴾ عظيم في الدّنيا ﴿يُخْزِيهِ﴾ ويذلّه ، وهو الطّوفان ﴿وَيَحِلُ﴾ ويرد ﴿عَلَيْهِ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ﴾ بالنّار ﴿مُقِيمٌ﴾ دائم لا انقطاع له أبدا.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٣.

(٢) أي قلّته.

(٣) الإكاف : البرذعة أو البردعة ، وهي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه كالسّرج للفرس.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٥.

(٥) الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٣.

(٦) تفسير الرازي ١٧ : ٢٢٤.

٣١٢

قيل : صنع نوح السفينة في سنتين ، واستأجر اجراء ينحتون معه (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات ممّا يلي غربي الكوفة ، وكان نوح رجلا نجّارا ، فجعله الله نبيّا وانتجبه ، ونوح أوّل من عمل سفينة تجرى على ظهر الماء » .

قال : « ولبث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الهدى ، فيمرّون به ويسخرون منه ، فلمّا رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال : ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ...(٢) ، فأوحى الله إليه : يا نوح ، اصنع الفلك وأوسعها وعجّل عملها بأعيننا ووحينا ، فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده يأتي بالخشب من بعد ، حتّى فرغ منها.

فسئل [ عليه‌السلام ] : في كم عمل نوح سفينته حتّى فرغ منها ؟ قال : في دورين. قيل : وكم الدّوران ؟ قال : ثمانون سنة. قيل : إنّ العامّة يقولون : عملها في خمسائة عام ، فقال : كلّا والله ، كيف والله يقول : ﴿وَوَحْيِنا(٣) .

قيل : إنّ المراد بالوحي السّرعة والعجلة (٤) .

وعن ( حياة الحيوان ) : أنّ أوّل من اتّخذ الكلب للحراسة نوح عليه‌السلام ، قال : يا ربّ أمرتني أن أصنع الفلك ، وأنا في صناعته أصنع أيّاما فيجيئون باللّيل فيفسدون كلّ ما عملت ، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به ، قد طال عليّ أمري ؟ فأوحى الله إليه : يا نوح ، اتّخذ كلبا يحرسك. فاتّخذ نوح كلبا ، وكان يعمل بالنّهار وينام باللّيل ، فإذا جاء قومه ليفسدوا باللّيل ينبحهم الكلب ، فينتبه نوح فيأخذ الهراوة (٥) ويثب إليهم فينهزمون منه ، فالتأم ما أراد ، وفعل السّفينة (٦) .

﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ

 وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)

ثمّ أنّه كان مشتغلا بصنع الفلك ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا﴾ للتنّور بالفوران ، أو عذابنا ﴿وَفارَ التَّنُّورُ﴾ ونبع الماء منه بشدّة كغليان القدر. قيل : كان التنّور في مسجد الكوفة ، والسّفينة أيضا فيه (٧).

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد » يعني مسجد الكوفة ، فقيل له : فإنّ ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ سئل : أو كان بدو خروج الماء من ذلك

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٣.

(٢) نوح : ٧١ / ٢٧.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٥ / ٢٠٠٥ ، الكافي ٨ : ٢٨٠ / ٤٢١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٦.

(٤) تفسير الصافي ٢ : ٤٤٦.

(٥) الهراوة : العصا الضّخمة.

(٦) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٣.

(٧) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٠٨.

٣١٣

التنّور ؟ قال : « نعم ، إنّ الله أحبّ أن يري قوم نوح آية » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « جاءت امرأة نوح إليه ، وهو يعمل السّفينة ، فقالت له : إن التنّور قد خرج منه ماء ، فقام إليه مسرعا حتّى جعل الطّبق عليه ، فختمه بخاتمه فقام الماء (٢) ، فلمّا فرغ من السّفينة جاء إلى خاتمه ، ففضّه وكشف الطّبق ففار الماء » (٣) .

في بيان ركوب نوح في السفينة وحمل الحيوانات فيها

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ نوحا لمّا فرغ من السّفينة ، وكان ميعاده فيهما بينه وبين ربّه في إهلاك قومه أن يفور التنّور ، ففار فقالت امرأته : إنّ التنّور قد فار ، فقام إليه فختمه ، فقام الماء » . الخبر (٤) .

ثمّ ﴿قُلْنَا﴾ لنوح : ﴿احْمِلْ فِيها﴾ معك ﴿مِنْ كُلٍ﴾ من أنواع الحيوان التي لا بدّ من وجودها في الأرض ﴿زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ الذّكر والانثى ، لئلّا ينقرض نسلها.

روي أنّ نوحا عليه‌السلام قال : يا ربّ ، كيف أحمل من كلّ زوجين اثنين ؟ فحشر الله إليه السّباع والطّير ، فجعل يضرب يديه في كلّ جنس ، فيقع الذّكر في يده اليمنى والانثى في اليسرى ، فيجعلها في السّفينة (٥) .

وقيل : لم يحمل فيها إلّا ما يلد ويبيض ، دون ما يتولّد من التراب كالحشرات (٦) .

وقيل : أوّل ما حمله الذرة (٧) ، وآخر ما حمله الحمار ، فلمّا دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم تستقلّ رجلاه ، فجعل نوح عليه‌السلام يقول : ويحك ادخل ، فينهض فلا يستطيع ، حتّى قال نوح عليه‌السلام ادخل والشّيطان معك ، فلمّا قال نوح عليه‌السلام ذلك خلّى الشّيطان سبيله ، فدخل ودخل الشّيطان معه ، فقال نوح عليه‌السلام : ما أدخلك يا عدوّ الله ؟ قال : ألم تقل : ادخل والشّيطان معك ؟ قال : اخرج عنّي يا عدوّ الله. قال : مالك بدّ من أن تحملني معك (٨) .

ونقل أنّه عليه‌السلام قال للحمار : ادخل يا ملعون ، فدخل الحمار [ السفينة ] ودخل معه إبليس ، فلمّا كان بعد ذلك رأى نوح إبليس في السّفينة ، فقال له : دخلت السّفينة بغير أمري ؟ فقال إبليس : ما دخلت إلّا بأمرك ، فقال له : أنا ما أمرتك ، فقال : أمرتني حين قلت للحمار : ادخل يا ملعون ، ولم يكن ثمّة ملعون

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٨١ / ٤٢١ ، مجمع البيان ٥ : ٢٤٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٣.

(٢) قام الماء : إذا ثبت لا يجد منفذا.

(٣) تفسير العياشي : ٢ : ٣٠٧ / ٢٠٠٨ ، الكافي ٨ : ٢٨٢ / ٤٢٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٣.

(٤) الكافي ٨ : ٢٨١ / ٤٢٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٣.

(٥ و٦) . تفسير روح البيان ٤ : ١٢٦.

(٧) الذرّ : صغار النّمل.

(٨) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٦.

٣١٤

إلّا أنا فدخلت ، فتركه (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « حمل نوح في السفينة الأزواج الثّمانية التي قال الله : ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ(٢) ، فكان من الضّأن اثنين ؛ زوج داجنة يربّيها النّاس ، والزّوج الآخر التي تكون في الجبال وحشيّة ، احلّ لهم صيدها » (٣) .

القمّي : عنه عليه‌السلام : « لمّا أراد الله هلاك قوم نوح عقّم أرحام النّساء أربعين سنة ، فلم يولد لهم مولود ، ولمّا فرغ نوح عليه‌السلام من إيجاد السّفينة أمره الله أن ينادي بالسّريانيّة أن تجتمع جميع الحيوانات ، فلم يبق حيوان إلا حضر ، فأدخل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين ، ما خلا الفأر والسّنّور ، وإنّهم لمّا شكوا من سرقين (٤) الدّواب والقذر ، دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس ، فسقط من أنفه فأر ، فتناسل ، فلمّا كثروا شكوا إليه منها ، فدعا بالأسد فمسح جبينه فعطس ، فسقط من أنفه زوج سنّور ».

وفي رواية : « شكوا العذرة (٥) ، فأمر الله الفيل فعطس فسقط الخنزير » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومأتي ذراع ، وعرضها ثمانمائة ومائتي [ ذراع ] ، وطولها في السّماء ثمانين [ ذراعا ] » (٧) .

وفي رواية اخرى : « طولها ثمانمائة [ ذراع ] ، وعرضها خمسمائة [ ذراع ] » (٨) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « اتّخذ نوح عليه‌السلام في الفلك تسعين بيتا للبهائم » (٩) .

وفي رواية : « وكان نوح عليه‌السلام قد اتّخذ لكلّ ضرب من أجناس الحيوان موضعا في السّفينة ، وجمع لهم فيها ما يحتاجون إليه من الغذاء » (١٠) .

وقيل : كانت من خشب السّاج ، وجعلت ثلاثة بطون ؛ حمل في البطن الأوّل الوحوش والسّباع والهوامّ ، وفي البطن الأوسط الدّوابّ والأنعام ، وفي البطن الأعلى هو ومن معه ، مع ما يحتاجون إليه من الزّاد ، وحمل معه جسد آدم (١١) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٧.

(٢) الزمر : ٣٩ / ٦.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٨ / ٢٠١٢ ، الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٥.

(٤) السّرقين : السّرجين ، وهو زبل الحيوان.

(٥) العذرة : الغائط.

(٦) مجمع البيان ٥ : ٢٤٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٥ ، تفسير القمي ١ : ٣٢٦ « قطعة منه » .

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣١٠ / ٢٠٢٢ ، الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٦.

(٨) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٤ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٦.

(٩) الخصال : ٥٩٨ / ١ ، عن ابن عباس ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٥.

(١٠) تفسير القمي ١ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٤.

(١١) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٠٦.

٣١٥

وقيل : جعل في الأوّل الدّوابّ والوحوش ، وفي الثّاني الإنس ، وفي الأعلى الطّير (١) .

﴿وَ﴾ احمل معك ﴿أَهْلَكَ﴾ وهم : امرأته وبنوه ونساؤهم - عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كانوا ثمانية : نوح وأهله : وبنوه الثّلاثة ، ونساؤهم » (٢) - ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ﴾ في علمي ﴿عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ والحكم بأنّه من المغرقين ، وهو ابنه كنعان ، وامّه غائلة ، لأنّهما كانا كافرين ﴿وَ﴾ احمل ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بك من سائر النّاس ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ

وعن الصادق عليه‌السلام ، في رواية : « وكان الّذين آمنوا به من جميع الدّنيا ثمانين رجلا » . الخبر (٣).

وعنه عليه‌السلام : « آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « ليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح ، قال الله في كتابه : ﴿احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ...﴾ إلى قوله : ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ وقال : ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ...(٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ نوحا حمل الكلب في السّفينة ، ولم يحمل ولد الزّنا » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « ينبغي لولد الزّنا أن لا تجوز له شهادة ، ولا يوم النّاس ، لم يحمله نوح في السّفينة ، وقد حمل فيها الكلب والخنزير » (٧) .

﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ

 تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ

 مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ * قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا

 عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ

 الْمُغْرَقِينَ (٤١) و (٤٣)

ثمّ أنّه روي عن الصادق عليه‌السلام : « ثمّ [ إنّ الله ] أرسل [ عليهم ] المطر يفيض فيضا ، وفاض الفرات فيضا ، والعيون كلّهنّ فيضا » (٨) .

وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : « وانكسفت الشّمس ، وجاء من السّماء ماء منهمر صبّ بلا قطر،

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٠٦.

(٢) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٨.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٢٧.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٢٤٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٤.

(٥) تفسير الصافي ٢ : ٤٤٤ ، والآية من سورة الأسراء : ١٧ / ٣.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٩ / ٢٠١٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٥.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٩ / ٢٠١٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٥.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٧ / ٢٠٠٧.

٣١٦

وتفجّرت الأرض عيونا ﴿فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(١) .

﴿وَقالَ﴾ نوح لمن معه من المؤمنين بعد حمل الأزواج في السّفينة : ﴿ارْكَبُوا﴾ أيّها المؤمنون ، وادخلوا ﴿فِيها﴾ حال كونكم مستعينين ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ أو قائلين : له ﴿مَجْراها﴾ وحين سيرها على الماء ﴿وَمُرْساها﴾ ووقت وقوفها عليه.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أي مسيرها وموقفها » (٢) .

وقيل : إن المعنى : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، فكان عليه‌السلام إذا أراد أن تجري قال : بسم الله ؛ فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله ؛ فرست (٣) .

ثمّ بيّن نوح عليه‌السلام علّة نجاتهم بقوله : ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ﴾ للذّنوب ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين ، ولذا أنجاكم مع زلّاتكم وفرطاتكم.

قيل : سارت السّفينة لأوّل يوم من رجب ، أو لعشر منه (٤) .

فركب نوح عليه‌السلام والمؤمنون في السّفينة مسمّين ﴿وَهِيَ﴾ كانت ﴿تَجْرِي﴾ على الماء ، وتسير ﴿بِهِمْ فِي﴾ خلال ﴿مَوْجٍ﴾ ومياه مرتفعة على الماء لشدّة الرّياح ، وكانت الأمواج في عظمتها وارتفاعها ﴿كَالْجِبالِ

عن الرضا عليه‌السلام : « أنّ نوحا عليه‌السلام لمّا ركب السّفينة أوحى الله إليه : يا نوح ، إن خفت الغرق فهلّلني ألفا ، ثمّ سلني النّجاة ، انجك ومن آمن معك من الغرق. قال : فلمّا استوى نوح ومن آمن معه في السّفينة ورفع القلس (٥) ، عصفت الرّيح عليهم ، فلم يأمن نوح عليه‌السلام [ الغرق ] ، وأعجلته الرّيح فلم يدرك أن يهلّل [ الله ] ألف مرّة ، فقال بالسريانيّة هيلوليلا (٦) ألفا ألفا ، يا ماريا اتقن (٧) . قال : فاستوى القلس واستقرّت السّفينة ، فقال نوح عليه‌السلام : إنّ كلاما نجّاني الله به من الغرق لحقيق أن لا يفارقني. قال : فنقش في خاتمه : لا إله إلّا الله ألف مرّة ، يا ربّ أصلح » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ نوحا عليه‌السلام لمّا ركب السّفينة وخاف الغرق ، قال : اللهمّ إنّي أسألك بمحمد (٩) وآل محمّد لمّا أنجيتني من الغرق ، فنجّاه الله عزوجل » (١٠) .

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٤ ، والآية من سورة القمر : ٥٤ / ١٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٧.

(٣) تفسير روح البيان ٤ : ١٢٩.

(٤) تفسير الرازي ١٧ : ٢٢٩.

(٥) القلس : العظيم من حبال السّفينة.

(٦) في تفسير الصافي وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام : هيلوليا.

(٧) في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : أيقن.

(٨) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٥٥ / ٢٠٦ ، وفيه : يا رب أصلحني ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٧.

(٩) في الاحتجاج : بحقّ محمد.

(١٠) الإحتجاج : ٤٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٧.

٣١٧

﴿وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ﴾ كنعان ، وقيل : اسمه يام (١) .

وقيل : إنّه كان ربيبه (٢) ، ابن واغلة (٣) الكافرة (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه قرأ : « ابنها » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ليس بابنه ، إنّما هو ابن امرأته ، وهو لغة طيّئ ، يقولون لابن المرأة : ابنه» (٦) .

﴿وَكانَ فِي مَعْزِلٍ﴾ وناحية بعيدة من نوح : ﴿يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا﴾ في السّفينة ﴿وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ﴾ وتغرق وتهلك. عن الصادق عليه‌السلام : « نظر نوح إلى ابنه يقع ويقوم ، فقال له : ﴿يا بُنَيَّ ارْكَبْ ...(٧) الآية » . ﴿قالَ﴾ ابنه : ﴿سَآوِي﴾ وألتجئ ﴿إِلى جَبَلٍ﴾ من الجبال العظيمة المرتفعة ، فإنّه ﴿يَعْصِمُنِي﴾ ويحفظني بارتفاعه ﴿مِنَ الْماءِ﴾ والغرق ، فلا أحتاج إلى سفينتك ﴿قالَ﴾ نوح : يا بني ﴿لا عاصِمَ﴾ ولا حافظ ﴿الْيَوْمَ﴾ لأحد ﴿مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ وعذابه ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ العباد ، وهو الله تعالى.

قيل : إنّ المعنى : لا معصوم من العذاب إلّا من رحمه‌الله (٨) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّه قال حين أشرف على النّجف : هو الجبل الذي اعتصم به ابن جدّي نوح عليه‌السلام ، فقال : ﴿سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ﴾ فأوحى الله إليه : يا جبل ، أيعتصم بك منّي أحد ، فغار في الأرض وتقطّع إلى الشّام » (٩) .

﴿وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾ فانقطع كلامهما بسبب الحيلولة ﴿فَكانَ﴾ كنعان بن نوح ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الْمُغْرَقِينَ﴾ والمهلكين.

عن ابن عبّاس أنّه قال : أمطرت السّماء أربعين يوما وليلة ، وخرج ماء الأرض كذلك ، فارتفع الماء على أطول جبل في الأرض بخمسة عشر ذراعا ، أو بثلاثين ، أو بأربعين ، وطافت بهم السّفينة الأرض كلّها في خمسة أشهر لا تستقرّ على شيء ، حتّى أتت الحرم فلم تدخله ، ودارت حول الحرم اسبوعا ، وقد اعتق الله البيت من الغرق (١٠) .

القمّي : عن الصادق عليه‌السلام في حديث : « فدارت السّفينة وضربتها الأمواج ، حتّى وافت مكّة وطافت بالبيت ، وغرق جميع الدّنيا إلّا موضع البيت ، وإنّما سمّي البيت العتيق ، لأنّه اعتق من الغرق ، فبقي الماء

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٢٤٩ ، تفسير روح البيان ٤ : ١٣٠.

(٢) الرّبيب : ابن امرأة الرّجل من غيره.

(٣) في تفسير روح البيان : واعلة.

(٤) تفسير روح البيان ٤ : ١٣٠.

(٥) تفسير الرازي ١٧ : ٢٣١.

(٦) تفسير القمي ١ : ٣٢٨ ، تفسير العياشي ٢ : ٣٠٩ / ٢٠١٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٧ ، وابنه : بفتح الهاء ، أي : ابنها.

(٧) تفسير القمي ١ : ٣٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٨.

(٨) تفسير روح البيان ٤ : ١٣٢.

(٩) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٣٥١ / ١٦١٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٨.

(١٠) تفسير روح البيان ٤ : ١٣٣.

٣١٨

ينصبّ من السّماء أربعين صباحا ، ومن الأرض العيون ، حتّى ارتفعت السّفينة فسحّت (١) السّماء. قال: فرفع نوح عليه‌السلام يده فقال : يا رهمان أتقن ، وتفسيرها : يا ربّ ، أحسن » (٢) .

وعنه عليه‌السلام : « ارتفع الماء على كلّ جبل وكلّ سهل خمسة عشر ذراعا » (٣) .

وقيل : رفع البيت الذي بناه آدم إلى السّماء السّادسة (٤) ، واستودع الحجر الأسود أبا قبيس إلى زمن إبراهيم (٥) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ نوحا كان في السّفينة ، وكان فيها ما شاء الله ، وكانت السّفينة مأمورة ، فطافت بالبيت ، وهو طواف النّساء » (٦) .

وفي رواية : وسعت بين الصّفا والمروة (٧) .

﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ

 وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

وعن الصادق عليه‌السلام ، بعد حكاية دعاء نوح عليه‌السلام : « فأمر الله عزوجل الأرض أن تبلع ماءها بقوله : ﴿وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ﴾ قال : نزلت بلغة الهند : اشربي » (٨) . ﴿وَيا سَماءُ أَقْلِعِي﴾ وأمسكي ماءك ﴿وَغِيضَ﴾ ونقص ﴿الْماءُ﴾ من وجه الأرض ﴿وَقُضِيَ﴾ وتمّ ﴿الْأَمْرُ﴾ وهو إنجاز ما وعد ، وفرغ من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين.

وفي رواية : « فبلعت الأرض ماءها ، فأراد ماء السّماء أن يدخل في الأرض ، فامتنعت الأرض من قبوله ، وقالت : إنّما أمرني الله أن ابلع مائي ، فبقي ماء السّماء على وجه الأرض ﴿وَاسْتَوَتْ﴾ السّفينة ، واستقرّت ﴿عَلَى﴾ جبل ﴿الْجُودِيِ﴾ وهو جبل عظيم بالموصل ، فبعث الله عزوجل جبرئيل ، فساق الماء إلى البحار حول الدّنيا » (٩) .

وفي رواية عن الكاظم عليه‌السلام : « فأوحى الله إلى الجبال : إنّي واضع سفينة نوح عبدي على جبل منكنّ ، فتطاولت وشمخت ، وتواضع الجوديّ ، وهو جبل عندكم ، فضربت السّفينة بجؤجؤها (١٠) الجبل ، قال :

__________________

(١) سحّت السماء : صبّت الماء.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٢٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٨.

(٣) الكافي ٨ : ٢٨٤ / ٤٢٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٥٠.

(٤) زاد في تفسير روح البيان : وهو البيت المعمور.

(٥) تفسير روح البيان ٤ : ١٣٣.

(٦) الكافي ٢ : ١٠١ / ١٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٩.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٣١٠ / ٢٠٢٢ ، الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٥٠.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ٣١٠ / ٢٠٢٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٨.

(٩) تفسير القمي ١ : ٣٢٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٩.

(١٠) الجؤجؤ : صدر السّفينة.

٣١٩

فقال نوح عند ذلك : يا ماري أتقن ، وهو بالسّريانيّة : ربّ أصلح » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « سمع نوح صرير السّفينة على الجوديّ ، فخاف عليها ، فأخرج رأسه من كوّة كانت فيها ، فرفع يده وأشار بإصبعه وهو يقول : يا رهمان (٢) أتقن ، تأويلها : ربّ أحسن » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل أوحى إلى نوح وهو في السّفينة أن يطوف بالبيت اسبوعا ، فطاف كما أوحى [ الله تعالى ] إليه ، ثمّ نزل في الماء إلى ركبتيه ، فاستخرج تابوتا فيه عظام آدم عليه‌السلام ، فحمله في جوف السّفينة ، حتّى طاف ما شاء الله أن يطوف ، ثمّ ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها ، ففيها قال الله للأرض : ﴿ابْلَعِي ماءَكِ﴾ فبلعت [ ماءها ] من مسجد الكوفة كما بدأ الماء منه ، وتفرّق الجمع الذي كان مع نوح عليه‌السلام في السّفينة » الخبر (٤) .

﴿وَقِيلَ﴾ على سبيل اللّعن والطّرد : ﴿بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(٥) قيل : إنّ القائل هو الله (٦) ، وقيل : نوح (٧) .

عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل : كم لبث نوح عليه‌السلام ومن معه في السّفينة حتّى نضب الماء وخرجوا منها ؟ فقال : « لبثوا فيها سبعة أيّام ولياليها ، وطافت بالبيت اسبوعا ، ثمّ استوت على الجوديّ ، وهو فرات الكوفة » (٨) .

﴿وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ

 الْحاكِمِينَ * قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما

 لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ * قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ

 أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ

 الْخاسِرِينَ (٤٧)

ثمّ حكى سبحانه اعتراض نوح عليه‌السلام عند هلاك كنعان بالغرق ، مع وعده إيّاه بإنجاء أهله ؛ بقوله: ﴿وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ﴾ حزنا على ابنه ﴿فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي﴾ كنعان - أو يام - كان ﴿مِنْ أَهْلِي﴾ الّذين وعدتني إنجاءهم في قولك : ﴿وَأَهْلَكَ وَإِنَّ وَعْدَكَ﴾ هذا ، بل جميع وعودك (٩)﴿الْحَقُ﴾ والصّدق ، لا يمكن تطرّق الخلف إليه ﴿وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ﴾ وأعدلهم ﴿قالَ﴾ الله : ﴿يا نُوحُ إِنَّهُ

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٠١ / ١٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٩.

(٢) في تفسير العياشي : ربعمان.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٣١١ / ٢٠٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٥٠.

(٤) التهذيب ٦ : ٢٣ / ٥١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٩.

(٥) تفسير الرازي ١٧ : ٢٣٥.

(٦) مجمع البيان ٥ : ٢٥٠.

(٧) مجمع البيان ٥ : ٢٥٠.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٧ / ٢٠٠٧ ، الكافي ٨ : ٢٨١ / ٤٢١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٥٠.

(٩) في النسخة : وعدك.

٣٢٠