نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

على سواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل المسجد وصلّى ركعتين ، وكانت هذه عادته ، فلمّا رآهم موثقين سأل عنهم ، فذكر له أنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون الرّسول هو الذي يحلّهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وأنا اقسم أنّي لا أحلّهم حتّى اومر فيهم » . فنزلت هذه الآية.

فأطلقهم وعذرهم (١) لمّا أخبر الله بقبول توبتهم بقوله : ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ ويعود عليهم بالرّحمة والمغفرة ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لذنوب التّائبين ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم ومفضّل عليهم بالثّواب.

﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ

 لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)

روي أنّهم قالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا ، وإنّما تخلّفنا عنك بسببها ، فتصدّق بها وطهّرنا ، فقال : ما امرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فنزل قوله تعالى (٢) : ﴿خُذْ﴾ يا محمّد ﴿مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾ التي أعطوك ﴿صَدَقَةً﴾ حال كونك ﴿تُطَهِّرُهُمْ﴾ من الذّنوب التي خلطوها بأعمالهم الصّالحة ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ وتنمّي بتلك الصّدقة أنفسهم بالكمال ، وأموالهم في الدّنيا والآخرة بالبركة والثّواب - وقيل : يعني تبالغ في تطهيرهم (٣) ، أو تعظيم شأنهم وتثني عليهم بها ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ وادع لهم بالخير والبركة والغفران ﴿إِنَّ صَلاتَكَ﴾ عليهم ودعاءك لهم ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ وطمأنينة تطمئنّ بها قلوبهم. وعن ابن عبّاس : إنّ دعاءك رحمة لهم (٤)﴿وَاللهُ سَمِيعٌ﴾ لاعترافهم وتوبتهم ومقالاتهم عند إعطائهم الصّدقة ودعائك لهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في ضمائرهم من الصّدق والخلوص.

قيل : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ ثلث أموالهم لتكميل توبتهم ، وتكفير ذنوبهم التي منها تخلّفهم عن الغزو (٥) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : « اللهم صلّ عليهم » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية : أجارية في الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : نعم(٧).

﴿أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ

 التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ١٧٥.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ١٧٥.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ١٧٩ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٩٩.

(٤) تفسير الرازي ١٦ : ١٨٤.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٤٩٥.

(٦) مجمع البيان ٥ : ١٠٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧١.

(٧) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٥ / ١٨٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧١.

٢٠١

ثمّ لمّا لم يصرّح الله سبحانه في الآية السّابقة بقبول توبتهم ، صرّح به بقوله : ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ من الذّنوب ﴿عَنْ عِبادِهِ﴾ المؤمنين المذنبين التّائبين ﴿وَيَأْخُذُ﴾ منهم ﴿الصَّدَقاتِ﴾ الصّادرة منهم عن خلوص النيّة. ثمّ أكّد قبول توبتهم بقوله : ﴿وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾ على المذنبين ، ومبالغ في قبول توبتهم ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حكم بصحّة توبتهم ، قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا معنا بالأمس لا يكلّمون ولا يجالسون ، فما لهم ؟ فنزلت (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الله يقول : ما من شيء إلّا وقد وكّلت [ به ] من يقبضه غيري إلّا الصّدقة فإنّي أتلقّفها بيدي تلقّفا ، حتّى إنّ الرّجل ليتصدّق بالتّمرة أو بشقّ التّمرة فاربّيها له كما يربّي الرجل فلوه (٢) وفصيله ، فيأتي يوم القيامة وهو مثل احد وأعظم من احد » (٣) .

وعن السجّاد عليه‌السلام : « ضمنت على ربّي أنّ الصّدقة لا تقع في يد العبد حتّى تقع في يد الربّ ، وهو قوله : ﴿هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ(٤) .

وعنه عليه‌السلام : أنّه كان إذا أعطى السّائل قبّل يد السائل ، فقيل له : لم تفعل ذلك ؟ قال : « لأنّها تقع في يد الله قبل يد العبد » . وقال : « ليس من شيء إلّا وكّل به ملك إلّا الصّدقة فإنّها تقع في يد الله» (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كان أبي إذا تصدّق بشيء وضعه في يد السّائل ثم ارتدّه منه فقبّله وشمّه [ ثم رده في يد السائل ] » (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذا ناولتم السائل شيئا فاسألوه أن يدعو لكم فإنّه يجاب له فيكم ، ولا يجاب في نفسه - إلى أن قال : - وليردّ الذي ناوله يده إلى فيه فيقبّلها ، فإنّ الله تعالى يأخذها قبل أن تقع في يده ، كما قال : ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ(٧).

وعن الصادق عليه‌السلام في حديث : « والأخذ في وجه القبول منه ، كما قال : ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ﴾ أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها » (٨) .

وقيل : إنّ قوله ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ ذكر أنّ الآخذ هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي هذه ذكر أنّ الآخذ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ١٨٥.

(٢) الفلو : الجحش أو المهر يفطم أو يبلغ السنة.

(٣) الكافي ٤ : ٤٧ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٧ / ١٨٨٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٧ / ١٨٨٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ / ١٨٨٢ ، الكافي ٤ : ٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

(٧) الخصال : ٦١٩ / ١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

(٨) التوحيد : ١٦٢ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٢.

٢٠٢

هو الله ، فيفهم من الآيتين أنّ أخذ الرّسول أخذ الله ، ففيه التّنبيه على عظم شأن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ

 الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)

ثمّ رغّب سبحانه التّائبين على العمل بعد قبول توبتهم ، أو عموم العباد في مطلق الخيرات ، ورهّبهم من العصيان بقوله : ﴿وَقُلِ﴾ للتّائبين ، أو لعموم المؤمنين : ﴿اعْمَلُوا﴾ ما شئتم من الأعمال خيرا أو شرّا ﴿فَسَيَرَى اللهُ﴾ ويعلم البتّة ﴿عَمَلَكُمْ﴾ خيرا كان أو شرّا ، ظاهرا كان أو خفيّا ﴿وَرَسُولُهُ﴾ أيضا يراه ، بل ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ يرونه.

عن الباقر عليه‌السلام : « هو والله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هم الأئمّة عليهم‌السلام » (٣) .

وعنه عليه‌السلام قال : « إيّانا عنى » (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « تعرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعمال العباد كلّ صباح ، أبرارها وفجّارها ؛ فاحذروها ، وهو قوله تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا ...﴾ الآية » (٥) .

وعنه عليه‌السلام أنّه قرئ عنده هذه الآية فقال : « ليس هكذا هي ، إنّما هي (والمأمونون) ، فنحن المأمونون » (٦) .

أقول : ليس المراد تغيير اللّفظ ، بل بيان أن مادّة « مؤمنون » الأمن لا الإيمان.

وروي : لو أنّ رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولاكوّه ، لخرج عمله إلى النّاس كائنا ما كان (٧) .

﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ وترجعون البتّة بعد الموت ﴿إِلى﴾ جزاء أعمالكم ، أو إلى دار الآخرة التي هي معنى ﴿عالِمِ الْغَيْبِ﴾ لغيابه عن أنظار العامّة ، ﴿وَ﴾ عالم ﴿الشَّهادَةِ﴾ لحضوره عند النّاس ، أو لشهودهم حقائق الأعمال والأشياء فيه ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ ويخبركم الله ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بإراءتكم جزاءه.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ١٨٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٨ / ١٨٨٩ ، الكافي ١ : ١٧١ / ٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٣.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٩ / ١٨٩٣ ، الكافي ١ : ١٧١ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٣.

(٤) الكافي ١ : ١٤٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٣.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٩ / ١٨٩١ ، الكافي ١ : ١٧١ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٣.

(٦) الكافي ١ : ٣٥١ / ٦٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٣.

(٧) تفسير الرازي ١٦ : ١٨٩ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٠١.

٢٠٣

﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

 حَكِيمٌ (١٠٦)

ثمّ بيّن سبحانه القسم الآخر من النّاس بقوله : ﴿وَآخَرُونَ﴾ منهم قوم ﴿مُرْجَوْنَ﴾ ومؤخّرون في جزائهم ﴿لِأَمْرِ اللهِ﴾ وإلى نزول حكمه في شأنهم ، أو إلى إرادته التّعذيب أو العفو ، فهو تعالى ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ على ذنوبهم إن سوّفوا التّوبة إلى أن يموتوا على ما هم عليه ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ إن تابوا عن خلوص ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعل بهم من التّعذيب والعفو.

روي عنهما عليهما‌السلام في هذه الآية : « أنّهم قوم مشركون ، قتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ دخلوا في الإسلام ، فوحّدوا الله وتركوا الشّرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار ، فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم » (١) .

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ

 حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ

 لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ

 تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٧) و (١٠٨)

ثمّ ذمّ الله المنافقين على بناء مسجد ضرار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ وبنوا ﴿مَسْجِداً﴾ بجنب مسجد قبا (٢) ، ليكون أو ليضرّوا به ﴿ضِراراً وَكُفْراً وَ﴾ ليفرّقوا به ﴿تَفْرِيقاً﴾ ويوقعوا اختلافا ﴿بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ﴾ يترصّدوا وينتظروا ﴿إِرْصاداً﴾ وانتظارا ﴿لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ

في بيان علة بناء مسجد ضرار

عن ابن عبّاس وجمع من مفسّري العامّة قالوا : كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين ، بنوا مسجدا ليضارّوا مسجد قبا (٣) .

وقيل : إنّ أبا عامر الرّاهب - والد حنظلة ، الذي غسّلته الملائكة - وسمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الفاسق ، وقد تنصّر في الجاهليّة ، وترهّب وطلب العلم ، فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عاداه لأنّه زالت رئاسته ،

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٦١ / ١٩٠١ والكافي ٢ : ٢٩٩ / ١ عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير القمي ١ : ٣٠٤ عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٤.

(٢) مسجد قبا : أصله اسم بئر في قرية تجمّع حولها بنو عمرو بن عوف ، على ميلين من المدينة ، وفيها مسجد التقوى ، وهو أول مسجد صلّيت فيه صلاة الجمعة.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٣. عن ابن عباس ومجاهد وقتاده وعامة أهل التفسير.

٢٠٤

وقال : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ، ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمّا انهزمت هوازن خرج إلى الشّام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا ، فإنّي ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند فاخرج محمدا وأصحابه. فبنوا هذا المسجد ، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلّي بهم في ذلك المسجد (١) .

وعن ( الجوامع ) قال : روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا ، وصلّى فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وقالو : نبني مسجدا نصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ، وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهّز إلى تبوك : إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه ، فقال : « إنّي على جناح سفر » . ولمّا انصرف من تبوك نزلت الآية ، فأرسل من هدم المسجد وأحرقه ، وأمر أن يتّخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة (٢) .

ثمّ أخبر الله تعالى بنفاق البانين للمسجد بقوله : ﴿وَلَيَحْلِفُنَ﴾ بالله للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سؤاله عن علّة بنائه ﴿إِنْ أَرَدْنا﴾ وما قصدنا ببنائه ﴿إِلَّا﴾ الفعلة أو الخصلة أو الإرادة ﴿الْحُسْنى﴾ من الصّلاة والتّوسعة على ضعفاء المؤمنين وقيل : إنّهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة ، والشيخ الفاني ، واللّيلة الممطرة ، واللّيلة الشّاتية (٣) . فردّ الله سبحانه عليهم ، وكذّب قولهم وحلفهم بقوله : ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ فيما يقولون.

عن القمّي قال : كان سبب نزولها أنّه جاء قوم من المنافقين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله ، أتأذن لنا أن نبني مسجدا في بني سالم للعليل واللّيلة الممطرة ، والشيخ الفاني ؟ فأذن لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على جناح الخروج إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أتيتنا وصلّيت فيه ، فقال : « أنا على جناح السّفر ، فإذا وافيت - إن شاء الله - أتيته فصلّيت فيه » .

فلمّا أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك نزلت هذه [ الآية ] في شأن المسجد وأبي عامر الرّاهب ، وقد كانوا حلفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم يبنون ذلك للصّلاح والحسنى ، فأنزل الله على رسوله ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني : أبا عامر الرّاهب ، كان يأتيهم ويذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه (٤) .

قيل : إنّه كان من أشراف قبيلة الخزرج ، وكان له علم بالتّوراة والإنجيل (٥) . وكان يذكر صفات

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٣.

(٢) جوامع الجامع : ١٨٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٥.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ٤٢٠ ، تفسير الرازي ١٦ : ١٩٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٠٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٥.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٥.

٢٠٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل المدينة قبل هجرته إليها ، فلمّا هاجر إليها وآمن به أهلها ، تركوا صحبة أبي عامر (١) ، فحسد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال له : ما هذا الدّين الذي جئت به ؟ قال : « دين إبراهيم الخليل » . قال : لا والله ، ليس ذلك. فقال النبيّ : « بل جئت بها بيضاء نقيّة » . فقال أبو عامر : أمات الله من [ هو ] كاذب منّا طريدا وحيدا غريبا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « آمين » ، فهرب بعد غزوة بدر ولحق بكفّار مكّة(٢).

وعن تفسير الإمام عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان تأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل ، وكان ملك النواحي ، له مملكة عظيمة ممّا يلي الشام ، وكان يهدّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقصده وقتل أصحابه ، وكان أصحاب رسول الله خائفين وجلين من قبله ... ثمّ إنّ المنافقين اتّفقوا وبايعوا لأبي عامر الرّاهب الذي سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الفاسق ، وجعلوه أميرا عليهم ، وبخعوا له بالطّاعة ، فقال لهم : الرأي أن أغيب عن المدينة لئلّا اتّهم إلى أن يتمّ تدبيركم ، وكاتبوا أكيدر صاحب دومة الجندل ليقصد المدينة (٣) .

فأوحى الله إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرّفه ما أجمعوا عليه من أمره ، وأمره بالمسير إلى تبوك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما أراد غزوا ورّى بغيره إلّا غزوة تبوك ، فإنّه أظهر ما كان يريده ، وأمر أن يتزوّدوا لها ، وهي الغزاة التي افتضح فيها المنافقون ، وذمّهم الله في تثبطهم عنها ، وأظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما اوحي إليه أنّ الله سيظهره بكيدر - أو أكيدر - حتّى يأخذه ويصالحه على ألف اوقّية من ذهب في رجب ومائتي حلّة ، وألف أوقيّة في صفر ومائتي حلّة ، وينصرف سالما إلى ثمانين يوما ، وقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ موسى وعد قومه أربعين ليلة ، وأنا أعدكم ثمانين ليلة ، ثمّ أرجع سالما غانما ظافرا بلا حرب تكون ، ولا يستأسر أحد من المؤمنين. فقال المنافقون : لا والله ، ولكنّها آخر كرّاته [ التي ] لا ينجبر بعدها ، إنّ أصحابه ليموت بعضهم في الحرّ ورياح البوادي ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ، ومن سلم من ذلك فبين أسير في [ يد ] أكيدر ، وقتيل وجريح.

واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها ؛ بعضهم يعتلّ بالحرّ ، وبعضهم بمرض في جسده ، وبعضهم بمرض عياله ، وكان يأذن لهم.

فلمّا صحّ عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الرّحلة إلى تبوك ، عمد هؤلاء المنافقون فبنوا خارج المدينة مسجد ضرار ، يريدون الاجتماع فيه ، ويوهمون أنّه للصّلاه ، وإنّما كان ليجتمعوا فيه لعلّة الصلاة فيتمّ تدبيرهم وتقع هناك ما يسهل به لهم ما يريدون.

ثمّ جاء جماعة منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : يا رسول الله ، إنّ بيوتنا قاصية عن مسجدك ، وإنّا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٥.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٦.

(٣) زاد في المصدر : ليكونوا هم عليه ، وهو يقصدهم فيصطلموه.

٢٠٦

نكره الصّلاة في غير جماعة ، ويصعب علينا الحضور ، وقد بنينا مسجدا ، فإن رأيت أن تقصده وتصلّي فيه لنتيمّن ونتبرّك بالصّلاة في موضع مصلّاك ، فلم يعرّفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما عرّفه الله من أمرهم ونفاقهم ، فقال : ائتوني بحماري ، فأتي بيعفور فركبه يريد مسجدهم ، فكلّما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمشي ، فإذا صرف رأسه عنه إلى غيره سار أحسن سيره وأطيبه ، قالوا : لعلّ الحمار رأى من الطريق شيئا كرهه ولذلك لا ينبعث نحوه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائتوني بفرس فركبه ، فلمّا بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث ، وكلّما حرّكوه نحوه لم يتحرّك ، حتّى إذا فتلوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير ، فقالوا : لعلّ هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعالوا نمش إليه ، فلمّا تعاطى هو ومن معه المشي نحو المسجد جثوا في مواضعهم ولم يقدروا على الحركة ، فإذا همّوا بغيره من المواضع خفّت حركاتهم ، وخفّت أبدانهم ونشطت قلوبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا أمر قد كرهه الله ، وليس يريده الآن وأنا على جناح سفر ، فأمهلوا حتّى أرجع إن شاء الله ، ثمّ أنظر في هذا نظرا يرضاه الله.

وجدّ في العزم على الخروج إلى تبوك ، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا ، فأوحى الله تعالى إليه : يا محمّد ، العلي الأعلى يقرئك السّلام ، ويقول : إمّا أن تخرج أنت ويقيم عليّ ، وإمّا أن يخرج عليّ وتقيم أنت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذلك لعليّ ، فقال علي عليه‌السلام : السّمع والطّاعة لأمر الله وأمر رسوله ، وإن كنت أحبّ أن لا أتخلّف عن رسول الله في حال من الأحوال.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. قال : رضيت يا رسول الله ، فقال له رسول الله : يا أبا الحسن ، إنّ [ لك ] أجر خروجك معي في مقامك في المدينة ، وإنّ الله قد جعلك امّة وحدك ، كما جعل إبراهيم امّة ، تمنع جماعة المنافقين والكفّار هيبتك عن الحركة على المسلمين.

فلمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وشيّعه عليّ عليه‌السلام ، خاض المنافقون وقالوا : إنّما خلّفه محمّد بالمدينة لبغضه له وملاله منه ، وما أراد بذلك إلّا أن يبيّته المنافقون فيقتلوه. فاتّصل ذلك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عليّ عليه‌السلام : أتسمع ما يقولون يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما يكفيك أنّك جلدة ما بين عيني ، ونور بصري ، وكالرّوح في بدني.

ثمّ سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه ، وأقام عليّ عليه‌السلام بالمدينة ، فكان كلّما دبّر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من عليّ عليه‌السلام وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك ، وجعلوا يقولون فيما بينهم : هي كرّة محمّد التي لا يؤوب منها ... إلى أن عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غانما ظافرا ، وأبطل الله

٢٠٧

كيد المنافقين ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإحراق مسجد ضرار ، وأنزل الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ...﴾ الآيات.

ثمّ ذكر أنّ أبا عامر الرّاهب كان عجل هذه الامّة كعجل قوم موسى ، وأنّه دمّر الله عليه وأصابه بقولنج وبرص [ وفالج ] ولقوة (١) وبقي أربعين صباحا في أشدّ عذاب ، ثمّ صار إلى عذاب الله » (٢) . وقيل : إنّه مات بالشّام طريدا وحيدا (٣) .

وقيل : إنّه أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مالك بن الدخشم (٤) ومعن بن عديّ بخراب المسجد وإحراقه ، فألقوا فيه النّار فاحترق بعض من فيه (٥) .

قيل : إنّ مجمع بن جارية (٦) كان إمام مسجد ضرار ، ثمّ جاء إلى عمر وطلب منه إمامة مسجد قبا ، قال عمر : لا ، إنّك كنت إمام مسجد ضرار ، قال مجمع : مهلا لا تعجل عليّ ، إنّي كنت في ذلك الزّمان شابّا وكان المصلّون فيه شيوخا ، وكنت قارئا للقرآن وهم لا يعلمون منه شيئا ، وما كنت مطّلعا على أحوالهم ، ولو كنت مطّلعا ما أقمت معهم ساعة ، فقبل عمر عذره وأعطاه إمامة مسجد قبا(٧) .

ثمّ قيل : لمّا رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك همّ أن يذهب إلى مسجد ضرار ، فنهاه الله عنه (٨) بقوله :

﴿لا تَقُمْ﴾ يا محمّد للصّلاة ﴿فِيهِ أَبَداً﴾ والله ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ﴾ وبني ﴿عَلَى التَّقْوى﴾ وخلوص النيّة والأغراض الخيريّة ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ بني - عنهما عليهما‌السلام : يعني مسجد قبا (٩) - ﴿أَحَقُ﴾ وأولى ﴿أَنْ تَقُومَ﴾ للصّلاة ﴿فِيهِ﴾ من أن تقوم للصّلاة في مسجد اسّس على العصيان والضّرر على المسلمين.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا هاجر من مكّة وقدم قرية قبا - وهي قرية بقرب المدينة على نصف فرسخ - نزل في بني عمرو بن عوف ؛ وهم بطن من الأوس ، على كلثوم بن هرم (١٠) ، وكان شيخ بني عمرو بن عوف ، أسلم قبل وصول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قبا أو بعده - على خلاف فيه - فلمّا نزل قال عمّار بن ياسر : لا بدّ لرسول الله من أن يجعل له مكان يستظلّ به إذا استيقط ويصلّي فيه ، فجمع

__________________

(١) القولنج : مرض معويّ مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح ، وسببه التهاب القولون ، والبرص : بياض يقع في الجسد لعلّة ، واللّقوة : داء يعرض للوجه ، يعوجّ منه الشدق إلى أحد جانبي العنق ، فيخرج البلغم والبصاق من جانب واحد ، ولا يحسن التقار الشفتين ، ولا تنطبق إحدى العينين.

(٢) التفسير المنسوب إلى الامام العسكري عليه‌السلام : ٤٨١ - ٤٨٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٦.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ٤٢١ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٦.

(٤) في النسخة : مالك بن الدحثم ، تصحيف ، راجع : اسد الغابة ٤ : ٢٧٨.

(٥) تفسير مجمع البيان ٥ : ١١٠.

(٦) في النسخة : مجمع بن حارث ، تصحيف ، راجع : اسد الغابة ٤ : ٣٠٣.

(٧) الكشاف ٢ : ٣١٢.

(٨) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٥.

(٩) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٢ / ١٩٠٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٩.

(١٠) في النسخة : كلثوم بن الهند ، وفي تفسير روح البيان : كلثوم بن الهدم ، تصحيف ، راجع : اسد الغابة ٤ : ٢٥١.

٢٠٨

حجارة فأسّس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسجدا ، واستتمّ بنيانه عمّار ، فعمّار أوّل من بني مسجدا لعموم المسلمين ، وكان مسجد قبا أوّل مسجد صلّى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه جماعة ظاهرين ، فلبث رسول الله بقبا بقيّة يوم وروده وهو يوم الاثنين ويوم الثّلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس - وقيل : بضع عشرة ليلة ، وقيل : أربعة عشر يوما - فلمّا تحوّل منه إلى المدينة كان يأتيه يوم السّبت ما شيا أو راكبا ويصلّي فيه ، ثمّ ينصرف (١) .

وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأتيه في كلّ سنة ويصلّي فيه (٢) .

وقيل : إنّ المراد من المسجد مسجد الرّسول في المدينة (٣) .

وروي أنّ رجلين اختلفا فيه ، فقال أحدهما : مسجد قبا ، وقال آخر : مسجد الرّسول ، فسألاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : « هو مسجدي هذا » (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه وجه ترجيح مسجد المؤمنين بقوله : ﴿فِيهِ رِجالٌ﴾ مؤمنون ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ من الأقذار الجسمانيّة ؛ كالبول والغائط ، بالماء والأحجار ، ومن الأقذار الرّوحانيّة ؛ كالذّنوب والأخلاق الرّذيلة ، وأدناس الشكّ والشّرك ، بالتّوبة والرّياضة ، والجدّ في القيام بوظائف العبوديّة ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ ويحيط بهم فضله ورحمته.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال : مؤمنون أنتم ؟ فسكت القوم ، ثمّ أعادها ، فقال عمر : يا رسول الله ، إنّهم لمؤمنون ، وأنا معهم ، فقال : أترضون بقضاء الله ؟ قالوا : نعم ، قال : أتصبرون على البلاء ؟ قالوا : نعم ، قال : أتشكرون في الرّخاء ؟ قالوا : نعم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مؤمنون وربّ الكعبة. ثمّ قال : يا معشر الأنصار ، إنّ الله أثنى عليكم ، فما الذي تصنعون في الوضوء ؟ قالوا : نتبع الماء الحجر ، فقرأ النبيّ : ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ...﴾ الآية (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « هو الاستنجاء بالماء » (٦) .

وعن الباقر والصادق عليه‌السلام : ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا :﴾ بالماء عن الغائط والبول » (٧) .

وروي أنّ أوّل من استنجى بالماء إبراهيم عليه‌السلام (٨) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٤.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٥.

(٣) جوامع الجامع : ١٨٦ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٧.

(٤) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٥.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٦ ، تفسير البيضاوي ١ : ٤٢١ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٨.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٣ / ١٩٠٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٩.

(٧) مجمع البيان ٥ : ١١١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٧٩.

(٨) تفسير روح البيان ٣ : ٥٠٨.

٢٠٩

﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى

 شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)

ثمّ أنكر سبحانه اعتقاد التّساوي بين مسجد قبا ومسجد ضرار ، أو فضيلة الثاني على الأوّل تنبيها على فضيلة الأول على الثاني بقوله : ﴿أَ فَمَنْ﴾ والتقدير : أبعد ما علم حال المتّقين ، فمن ﴿أَسَّسَ﴾ وأحكم قواعد دينه ومسجده و﴿بُنْيانَهُ﴾ بوضعه ﴿عَلى تَقْوى﴾ وخوف ﴿مِنَ اللهِ﴾ في مخالفته ﴿وَرِضْوانٍ﴾ عظيم منه بالاشتغال بطاعته ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿أَمْ مَنْ أَسَّسَ﴾ ووضع أساس دينه ومسجده و﴿بُنْيانَهُ عَلى﴾ الباطل الذي هو مثل ﴿شَفا جُرُفٍ﴾ وشفير طين مجتمع في طرف السّيل ﴿هارٍ﴾ ومشرف على السّقوط ، في عدم الثّبات ﴿فَانْهارَ﴾ وأهوى باطل المبطل ، ونفاق المنافق ﴿بِهِ﴾ بعد موته بسرعة ﴿فِي نارِ جَهَنَّمَ ؟﴾ وحاصل المراد ، والله أعلم : أنّ البناء الذي كان بغرض التّقوى والخوف من الله ، وبقصد تحصيل مرضاته لازم الإبقاء ، ولبانيه الفضيلة ، والذي كان بغرض الكفر والنّفاق لازم الهدم ، ولبانيه النار والعقاب ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوصل إلى النّجاة والنّجاح والخير والصّلاح ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بمعصية الله والكفر والنّفاق.

﴿لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

 حَكِيمٌ (١١٠)

ثمّ بيّن الله سبحانه ضرر بناء مسجد ضرار على أنفس المنافقين بقوله : ﴿لا يَزالُ﴾ ويكون دائما ﴿بُنْيانُهُمُ﴾ ومسجدهم ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ ضرارا على أنفسهم ، لأنّه زاد ﴿رِيبَةً﴾ وشكّا ثابتا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ حالا بعد حال ، لا خلاص لهم منه ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ قطعا ، وتتفرّق أجزاؤهم (١) تفريقا بحيث لا يبقى لها قابليّة إدراك وإضمار ، أو قابلية حياة ، فما دامت قلوبهم سالمة لا تخلو من الرّيب.

قيل : إنّ المنافقين عظم فرحهم ببناء المسجد ، فلمّا أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتخريبه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بغضهم له وارتيابهم في نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقيل : إنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أمر بتخريب المسجد ، ظنّوا أنّه لأجل الحسد ، فارتفع أمانهم عنه ، وعظم خوفهم منه ، وصاروا مرتابين في أنّه هل يتركهم أو يقتلهم ويأمر بنهب أموالهم (٣) .

﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بنفاقهم وسوء ضمائرهم ﴿حَكِيمٌ﴾ في أمره بتخريب مسجدهم.

__________________

(١) في النسخة : أجزائه.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٦ : ١٩٧.

٢١٠

﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي

 سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ

 وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ

 الْعَظِيمُ (١١١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تخلّف المنافقين عن الغزو ، وإصرارهم على القعود عن الجهاد ، وتدبيرهم في تخريب الاسلام وذمّهم على ذلك ، بيّن فضيلة المؤمنين الخلّص (١) ، ورغّبهم في الجهاد بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الخلّص (٢) ببيعتهم ومعاهدتهم مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على نصرته ﴿أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ﴾ كي يبذلوهما في تقوية الإسلام وترويجه ، وحفظ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصرته ﴿بِأَنَّ لَهُمُ﴾ بالاستحقاق في الآخرة ﴿الْجَنَّةَ﴾ ونعمها أبدا ، فهم وفاء بهذه المعاملة والمبايعة ﴿يُقاتِلُونَ﴾ الكفّار والمشركين ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته ﴿فَيَقْتُلُونَ﴾ أعداءه ﴿وَيُقْتَلُونَ﴾ في نصرة رسوله وحماية دينه.

قيل : لمّا بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة الثانية بمكّة وهم سبعون - أو أربعة وسبعون - نفسا قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت ؟ فقال عليه‌السلام : « أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك ، فماذا لنا ؟ قال : « الجنّة » ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (٣) .

وفي التّعبير عن الأمر بالجهاد باشترائه أنفسهم وأموالهم ؛ مع كونه تعالى مالكهما ، غاية التلطّف في الدّعوة إليه ، والتّحريض عليه ، وإشارة إلى أنّ المؤمن مادام كونه متعلّق القلب بحياته وماله ، امتنع وصوله إلى الدّرجات العالية من القرب والنّعم الاخرويّة.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بالجنّة بقوله : ﴿وَعْداً﴾ واجب الوفاء ﴿عَلَيْهِ﴾ تعالى وفي عهدته ﴿حَقًّا﴾ وثابتا بحيث لا يمكن تخلّفه عنه وترك وفائه به.

ثمّ لمّا كان من لوازم البيع الذي يكون ثمنه مؤجلا أن يكتب في كتاب ، أخبر سبحانه عن الكتاب الذي كتب هذا البيع فيه بقوله : ﴿فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ والتّقدير : أنّه يثبت فيهما ﴿وَ﴾ في ﴿الْقُرْآنِ

وقيل : إنّ المراد أنّه تعالى ذكر في التّوراة والإنجيل أنّه اشترى من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنفسهم وأموالهم ،

__________________

(١ و٢) في النسخة : الخلّصين.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٩ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥١٢.

٢١١

بأنّ لهم الجنّة ، كما بيّن ذلك في القرآن (١) .

وعلى التفسير الأوّل تكون الآية دليلا على ثبوت الأمر بالجهاد في الشّريعتين السّابقتين على الاسلام.

ثمّ أكّد سبحانه وجوب وفائه بهذا العهد بقوله : ﴿وَمَنْ﴾ يكون ﴿أَوْفى﴾ وأعمل ﴿بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ﴾ والذّات المتّصف بالالوهيّة ؛ مع كون الحكمة والعدل المقتضيين للوفاء بالعهد ، وامتناع التخلّف عنه عينها ، فإذا كان الأمر كذلك يمتنع أن يساويه أحد في الوفاء فضلا عن أن يكون أوفى منه ، إذن ﴿فَاسْتَبْشِرُوا﴾ وافرحوا غاية الفرح أيّها المؤمنون ﴿بِبَيْعِكُمُ﴾ أنفسكم وأموالكم من الله بالجنّة ، وقيل : أي بالثّمن (٢)﴿الَّذِي بايَعْتُمْ﴾ أنفسكم وأموالكم ﴿بِهِ﴾ وفيه غاية التّقرير للبيع ، وإشعار بغاية الرّبح فيه ، حيث إنّه مبادلة الفاني بالباقي ، والزائل بالدائم ، مع كون البدلين له تعالى.

ثمّ قرّر ذلك بقوله : ﴿وَذلِكَ﴾ البيع ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والنّجاح الأكمل بأعلى المقاصد.

روى الخفر الرّازي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها إلّا بها»(٣) .

وروى بعض العامّة عنه عليه‌السلام أنّه كان يقول : « يابن آدم اعرف قدر نفسك ، فإنّ الله عرّفك قدرك ، لم يرض أن يكون لك ثمن إلّا الجنّة » (٤) .

﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ

 بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ

 الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)

ثمّ عرّف سبحانه المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بقوله : ﴿التَّائِبُونَ﴾ من الشّرك - كما عن ابن عبّاس ، أو منه ومن النّفاق ؛ كما عن بعض ، أو من كلّ معصية ؛ كما عن آخرين (٥) - و﴿الْعابِدُونَ﴾ لله المعظّمون له في السرّاء والضرّاء - وعن ابن عبّاس : الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم (٦) - و﴿الْحامِدُونَ﴾ له على كلّ حال ، الشّاكرون لنعمائه الدّنيويّة والاخرويّة ، و﴿السَّائِحُونَ﴾ وهم الصائمون - كما عن ابن عبّاس (٧) ، أو الطالبون للعلم ، السائرون في الأرض لطلبه ؛ كما عن عكرمة (٨) ، أو المجاهدون والمهاجرون ؛ كما عن بعض (٩) - و﴿الرَّاكِعُونَ﴾ لله ﴿السَّاجِدُونَ﴾ له ؛ وهم

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٢٠١.

(٢) تفسير مجمع البيان ٥ : ١١٤.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ١٩٩.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٥١٣.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ٢٠٢.

(٦ و٧) . تفسير الرازي ١٦ : ٢٠٣.

(٨) تفسير الرازي ١٦ : ٢٠٤ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥١٩.

(٩) تفسير الرازي ١٦ : ٢٠٤.

٢١٢

الحافظون للصّلاة ، المديمون عليها ، و﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ من الإيمان بالله والرّسول وطاعتهما ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ من الشّرك والعصيان ﴿وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ من تكاليفه وأحكامه ، المراعون لها ، المجدّون في العمل بها.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره المؤمنين بالاستبشار في الآية السّابقة ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ببشارتهم بأعلى المثوبات بقوله : ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمّد ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ بثواب يجلّ عن إحاطة الأفهام به ، وبلوغ الأوهام إليه ، والتّعبير بالكلام عنه.

عن الصادق عليه‌السلام : « لمّا نزلت هذه الآية ، يعني ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إلى آخره ، قام رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا نبي الله ، أرأيتك الرّجل يأخذ لله سيفه فيقاتل حتّى يقتل ، إلّا أنّه يقترف من هذه المحارم ، أشهيد هو ؟ فأنزل الله على رسوله ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ﴾ الآية ، فبشّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المجاهدين من المؤمنين الذين هذه صفتهم وحليتهم بالشّهادة والجنّة » .

وقال عليه‌السلام : ﴿التَّائِبُونَ﴾ من الذّنوب ، ﴿الْعابِدُونَ﴾ الذين لا يعبدون إلّا الله ، ولا يشركون به شيئا ، ﴿الْحامِدُونَ﴾ الذين يحمدون الله على كلّ حال في الشدّة والرّخاء ﴿السَّائِحُونَ﴾ الصّائمون ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ الذين يواظبون على الصّلوات الخمس ، الحافظون لها ، والمحافظون عليها بركوعها وسجودها ، والخشوع فيها ، وفي أوقاتها ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بعد ذلك ، والعاملون به ، ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ والمنتهون عنه. قال : فبشّر من قتل وهو قائم بهذه الشّروط بالشّهادة والجنّة»(١) .

عن العيّاشي قال : « هم الأئمّة » (٢) .

وعن القمّي قال : نزلت الآية في الأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّه وصفهم بصفة لا تجوز في غيرهم ، فالآمرون بالمعروف هم الذين يعرفون المعروف كلّه ، صغيره وكبيره ، والنّاهون عن المنكر هم الذين يعرفون المنكر كلّه ، صغيره وكبيره ، والحافظون لحدود الله هم الذين يعرفون حدود الله ، صغيرها وكبيرها ، دقيقها وجليلها ، ولا يجوز أن يكون بهذه الصّفة غير الأئمّة عليهم‌السلام (٣) .

﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ

 بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٥ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨١.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٥ / ١٩١١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨١.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٠٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨١.

٢١٣

عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ

 * وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ

 شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٤) و (١١٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالتبرّي عن المشركين ، والتّأكيد من أوّل السّورة إلى هنا في إظهار عداوتهم والقتال معهم ، وبيان عدم فائدة الاستغفار لهم ، نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين عن الاستغفار لهم ، وإن كانوا أقرب النّاس إليهم ؛ بقوله : ﴿ما كانَ﴾ يصحّ ﴿لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولا يستقيم لهم في حكمة الله وحكمه ﴿أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ المتجاهرين منهم بالشّرك ، أو المنافقين ﴿وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى﴾ ومنتسبين إليهم بالولادة أو المصاهرة ﴿مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ﴾ وظهر ﴿لَهُمْ﴾ بسبب إصرارهم على الشّرك وموتهم عليه ﴿أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ﴾ وأهل النّار.

روى الفخر الرازي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه سمع رجلا يستغفر لأبويه المشركين ، قال : « فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أليس استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت هذه الآية » (١)﴿وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ﴾ ناشئا عن سبب من الأسباب ﴿إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ

قيل : إن إبراهيم كان يرجو إيمان آزر ، ولذا وعده أن يستغفر له بقوله : ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي(٢) ، وقوله : ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ(٣) .

﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ﴾ لإبراهيم وظهر ﴿لَهُ﴾ بأن رآه مصرّا على الشّرك ﴿أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ ولا يؤمن به أبدا ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ وتنزّه عن الاستغفار له.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ما يقول النّاس في قول الله : ﴿وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ ؟﴾ فقيل : يقولون : إنّ إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له ، قال : ليس هو هكذا ، إنّ أبا إبراهيم وعده أن يسلم فاستغفر له ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ(٤) .

وفي رواية : « لمّا مات تبيّن له أنّه عدوّ لله فلم يستغفر له » (٥) .

وعن القمّي رحمه‌الله : إنّ إبراهيم عليه‌السلام قال لأبيه : إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك ، فلمّا لم يدع الأصنام

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٢٠٩.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٤٧.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٢ ، والآية من سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٦ / ١٩١٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٢.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٦ / ١٩١٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٢.

٢١٤

تبرّأ منه (١) .

أقول : لا منافاة بين التّفسيرين لجواز وقوع كلا الوعدين.

ثمّ بيّن سبحانه علّة استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه بقوله : ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ﴾ وكثير التفجّع على خلق الله ، وشديد الرّأفة والشّفقة على النّاس ﴿حَلِيمٌ﴾ وصبور على أذاهم ، ولذا كان يحلم على أذى أبيه ويترحّم له ، فيستغفر له.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الأوّاه الخاشع المتضرّع » (٢) . وفي رواية اخرى قال : « الدعاء»(٣).

وقيل : معناه أنّه كلّما ذكر لنفسه تقصيرا ، أو ذكر عنده شيء من شدائد الآخرة كان يتأوّه إشفاقا منه ، واستعظاما له (٤) . وعليه يكون قوله : ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ﴾ علّة للتبرّي من أبيه ، والمعنى : أنّه مع كونه بهذه الصّفات ، غلظ قلبه عليه ، وتبرّأ منه بعد ما ظهر إصراره على الشّرك ، فأنتم أولى بذلك.

ثمّ قيل : إنّ المؤمنين لمّا خافوا على أنفسهم من استغفارهم لآبائهم وأقربائهم ممّن مات على الكفر قبل نزول الآية ، وعلى المسلمين الذين ماتوا وكانوا في حياتهم يستغفرون للمشركين (٥) ، أزال الله خوفهم بقوله : ﴿وَما كانَ اللهُ﴾ وليس من شأنه ومقتضى حكمته وعدله ﴿لِيُضِلَ﴾ ويصرف عن طريق الجنّة ﴿قَوْماً﴾ من الأقوام ، ويأخذ بالعذاب طائفة من النّاس ﴿بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ﴾ للإسلام ووفقهم لقبوله ﴿حَتَّى يُبَيِّنَ﴾ ويوضّح ﴿لَهُمْ﴾ بتوسّط الرّسول الباطن ، أو الرّسول الظّاهر ﴿ما يَتَّقُونَ﴾ ويحترزون عنه من المحرّمات - وعن الصادق عليه‌السلام قال : « ما يرضيه ويسخطه » (٦) - فلا عقوبة من الله إلّا بعد إعلامهم بتكليفه ، وإزالة العذر عنهم ، فإنّ العقوبة بلا بيان - مع كون الجهل عن قصور الجاهل عذرا عقليّا - من الجهل ، ومن البيّن ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

في الاستدلال على البراءة في مشكوك الوجوب والحرمة

فالآية دالّة على أنّ الأصل في مشكوك الوجوب والحرمة البراءة. والجواب عنه بأنّه - بعد دلالة الأدلّة المعتبرة على وجوب الاحتياط عند الشكّ في الحرمة ، لا يكون العقاب عليه عقابا بلا بيان - فاسد ، بأنّه مبنيّ على كون وجوب الاحتياط نفسيا ، وأمّا مع كونه مقدّميّا علميّا ناشئا عن تنجّز الواقع المجهول ، فالعقاب يكون على الواقع المجهول الذي تنفي الآية صحّته ، ويحكم العقل أيضا بقبحه.

وما قيل من أنّ الإضلال غير العقوبة فلا ربط للآية بالبراءة المتنازع فيها. ففيه : أنّ الملاك واحد إن

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٣٠٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٢.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٦ : ٢١١.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٢.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٢.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٢٦٧ / ١٩١٩ ، الكافي ١ : ١٢٤ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٣.

٢١٥

لم نقل بالأولويّة ، فلا بدّ من حمل ما دلّ على وجوب الاحتياط في المقام على الاستحباب ، أو على الحرمة المعلومة بالإجمال.

﴿إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ

 وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)

ثمّ لمّا كان ارتكاب القبيح من العالم بالقبح قد يكون لأجل الحاجة ، نفاها عن نفسه بإثبات سعه ملكه ، وكمال قدرته بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا حاجة له إلى شيء ، و﴿يُحْيِي﴾ بقدرته الموتى ﴿وَيُمِيتُ﴾ الأحياء ، فليس له عجز عن تحصيل مراده.

ثمّ استدلّ على عدم إمكان صدور العقاب منه بلا بيان بغاية لطفه بعباده بقوله : ﴿وَما لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون في عالم الموجود ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿مِنْ وَلِيٍ﴾ وحافظ لصلاحكم ﴿وَلا نَصِيرٍ﴾ دافع للمضارّ عنكم.

وقيل : إنّه قال قوم من المسلمين : لمّا أمرتنا بالانقطاع عن المشركين فلا يمكننا مخالطة آبائنا وأبنائنا ؛ لأنّه ربّما كان كثير منهم كافرين ، فسلّى سبحانه قلوبهم : بأنّكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ونصرتهم ، فالإله الذي هو مالك السماوات والأرض ، والمحيي والمميت ، ناصركم ووليّكم ، فلا يضرّكم الانقطاع عنهم (١) .

أو المراد : أنّكم لا تخافوا من ضرر الكفّار بالتبرّي منهم ، فإنّ مالك عالم الوجود ؛ القادر على كلّ شيء ، هو ناصركم ووليّكم ، فلا يقدرون على إضراركم. وعلى أي تقدير ، فالآية دالّة على كمال لطفه بعباده المؤمنين.

﴿لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ

 الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ

 رَحِيمٌ (١١٧)

ثمّ أنّه تعالى أظهر غاية لطفه بخصوص المهاجرين والأنصار بقبول توبتهم ، ضامّا للنبي المعصوم عن كلّ ذنب بهم ، تعظيما لهم ، وتطييبا لقلوبهم ؛ بقوله ، ﴿لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ﴾ قيل : إنّ نكتة ضمّ النبيّ بهم ، أنّ قبول التّوبة فضل الله ورحمته المخصوصة به ، وكلّ فضل

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٣.

٢١٦

ورحمة ونعمة يريد إيصالها إلى العباد لا بدّ من أن يكون عبورها على ولاية النبوّة ، ثمّ يفيض منها على المهاجرين والأنصار وسائر الامّة (١) .

أقول : ولعلّه لتلك النّكتة والحكمة يستحبّ الابتداء بالصّلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند طلب الحاجة من الله تعالى ، وعليه يحمل ما روي عن الصادق عليه‌السلام ، والرضا عليه‌السلام من أنّهما قرءا : ( لقد تاب الله بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على المهاجرين والأنصار ) (٢) ، وما في ذيل رواية أبان بن تغلب ، عن الصادق عليه‌السلام من قوله : « إنّما تاب الله به على امّته » (٣) .

ثمّ وصف الله المهاجرين والأنصار بما يوجب قبول توبتهم ، وإنزال الرّحمة عليهم بقوله : ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ وخرجوا معه ﴿فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ ونصروه في زمان الشدّة - وهو غزوة تبوك - فإنّه قد أصابتهم فيها مشقّة عظيمة من شدّة الحرّ وقلّة المركب ؛ حتّى روي أنّه كانت العشرة تعتقب على بعير واحد (٤) ، ومن قلّة الزّاد ؛ حتّى روي أنّه ربّما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتّى لا يبقى منها إلّا النّواة ، وكان معهم شيء من شعير مسوّس ، فكان إذا وضع أحدهم اللّقمة في فيه أخذ أنفه من نتن تلك اللّقمة ، ومن قلّة الماء (٥) .

في ذكر بعض المتخلّفين في غزوة تبوك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

روي أنّ عمر قال : خرجنا في قيظ شديد ، وأصابنا فيه عطش شديد ، حتّى [ أن ] الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه (٦) .

عن القمّي رحمه‌الله : هم أبو ذرّ ، وأبو خيثمة ، وعمر بن وهب ، الذين تخلّفوا ثمّ لحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٧) .

قال : وتخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من أهل نيات (٨) وبصائر ، لم يكن يلحقهم شكّ ولا ارتياب ، ولكنّهم قالوا : نلحق برسول الله ، منهم أبو خيثمة وكان قويا ، وكان له زوجتان وعريشان (٩) ، وكانت زوجتاه قد رشّتا عريشيه [ وبرّدتا له الماء ، وهيئتا له طعاما ، فأشرف على عريشيه ، فلمّا نظر إليهما ] قال : والله ، ما هذا بإنصاف ، فإنّ رسول الله مع أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر قد خرج في الصخّ (١٠) والرّيح ، وقد حمل السّلاح يجاهد في سبيل الله ، وأبو خيثمة قويّ قاعد في عريشيه مع

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٥.

(٢) مجمع البيان ٥ : ١٢٠ ، الاحتجاج : ٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٣.

(٣) الاحتجاج : ٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٤.

(٤) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٥.

(٥ و٦) . تفسير الرازي ١٦ : ٢١٥.

(٧) تفسير القمي ١ : ٢٩٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٤.

(٨) في المصدر : ثبات.

(٩) العريش : كل ما يستظل به ، وفي المصدر : عريشتان ، والعريشة : الهودج.

(١٠) الصخّ : وهو الصوت الشديد يقرع السمع ، وهو صوت قرع الصخرة ، وضرب الحديد على الحديد.

٢١٧

امرأتين حسناوين ، لا والله ما هذا بإنصاف. ثمّ أخذ ناقته فشدّ عليها رحله فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر النّاس إلى راكب على الطريق ، فأخبروا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كن أبا خيثمة » ، فكان أبا خيثمة ، فأقبل وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما كان [ منه ] ، فجزاه خيرا ودعا له.

وكان أبو ذرّ تخلّف عن رسول الله ثلاثة أيّام ، وذلك أن جمله كان أعجف (١) ، ووقف عليه في بعض الطّريق ، فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ثلاثة أيّام ، فلمّا ارتفع النّهار ونظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كن أبا ذر » ، فقالوا : هو أبو ذر ، فقال رسول الله : « أدركوه بالماء فإنّه عطشان » ، فأدركوه بالماء ، فوافى [ أبو ذرّ ] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه إداوة (٢) فيها ماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا ذرّ ، معك ماء وعطشت ؟ » ، قال : نعم يا رسول الله ، بأبي أنت وأمّي ، انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السّماء فذقته ، فإذا هو عذب بارد ، فقلت : لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا ذرّ ، رحمك الله ، تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك ، وتدخل الجنّة وحدك ، يسعد بك قوم من العراق يتولّون غسلك وتجهيزك [ والصلاة عليك ] ودفنك » (٣) .

أقول : هؤلاء وإن تخلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ الظاهر أنّهم لم يكونوا من أهل الذّنب الذي أخبر الله عنه بقوله : ﴿مِنْ بَعْدِ ما كادَ﴾ وقرب ﴿يَزِيغُ﴾ ويميل ﴿قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ عن الثّبات مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن همّوا بالانصراف من الغزو بغير استئذان ، لشدائد أصابتهم في ذلك السّفر ، فعصمهم الله فصبروا وندموا على ما خطر ببالهم.

قيل : إنّه تعالى بشّر بقبول توبتهم قبل ذكر ذنبهم تطييبا لقلوبهم (٤) .

وقيل : لم يهمّوا بالرّجوع ، وإنّما خطر في قلوبهم ، فخافوا أن يكون معصية (٥) .

ثمّ أكّد الله البشارة بقوله : ﴿ثُمَّ تابَ﴾ الله ﴿عَلَيْهِمْ﴾ لئلّا يبقى في قلوبهم شكّ في قبول توبتهم. ثمّ بالغ سبحانه في التأكيد بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿بِهِمْ رَؤُفٌ﴾ لا يرضى بضررهم ، ولا اضطراب قلوبهم ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بإيصال جميع الخيرات إليهم.

روي أنّ الأصحاب شكوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عسرة الماء [ في غزوة تبوك ] فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنّ الله تعالى عوّدك في الدّعاء خيرا ، فادع لنا ، قال : « أتحبّ ذلك ؟ » قال : نعم ، فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتّى أرسل الله سحابة ، فمطرت حتّى ارتوى النّاس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه ، وتلك السّحابة لم

__________________

(١) الأعجف : الهزيل.

(٢) الإدواة : الإناء الصغير لحمل الماء.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٩٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٨٤.

(٤ و٥) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٦.

٢١٨

تتجاوز العسكر (١) .

وروي أنّهم نزلوا يوما في غزوة تبوك بفلاة من الأرض على غير ماء ، وكادت عتاق الخيل والرّكاب تقع عطشا فدعا صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « أين صاحب الميضأة » (٢) ؟ قيل : هو ذا يا رسول الله ، قال : « جئني بميضأتك ، فجاء بها وفيها شيء من الماء ، فوضع أصابعه الشّريفة عليها فنبع الماء من أصابعه العشرة ، فأقبل الناس واستقوا ، وفاض الماء حتّى رووا ورووا خيلهم وركابهم ، وكان في العسكر من الخيل اثني عشر ألفا ، ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير ، والنّاس ثلاثون ألف وقيل : سبعون (٣) .

وروي أنّهم لمّا أصابهم في غزوة تبوك مجاعة ، قالوا : يا رسول الله ، لو أذنت لنا نحرنا نواضحنا (٤) وركابنا وادّهنّا ، فقال عمر : يا رسول الله ، إن فعلت فنى الظهر ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ، وادعوا الله لهم فيها بالبركة ، لعلّ الله أن يجعلها في ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم » فدعا بنطع (٥) فبسطه ، ثمّ دعا بفضل أزوادهم ، فجعل الرجل يأتي بكفّ من ذرة ، ويجيء الآخر بكفّ من تمر ، ويجيء الآخر بميرة ، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير ، فدعا عليه‌السلام بالبركة.

ثمّ قال : « خذوا في أوعيتكم » ، فأخذوا حتّى ما تركوا في العسكر وعاء إلّا ملأوه ، وأكلوا حتّى شبعوا ، وفضلت فضلة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّي رسول الله ، لا يلقى الله بها عبد غير شاكّ إلّا وقاه النار » (٦) .

﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ

 وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ

 لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)

ثمّ عطف سبحانه على قبول توبة عموم المهاجرين والأنصار قبول توبة الثّلاثة الذين كانوا مرجون لأمر الله بقوله : ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ عن رسول الله وأقاموا بالمدينة ؛ وهم كعب بن مالك الشاعر ، ومرارة (٧) بن الرّبيع العنبري ، وهلال بن اميّة.

قيل : كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم ، فقال : يا أرضاه ، ما خلّفني عن رسول الله إلّا أمرك ، اذهبي فأنت في سبيل الله ، فلاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول الله ففعل. وكان للثّاني أهل ، فقال :

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٩.

(٢) الميضأة : إناء يتوضأ به.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٦.

(٤) النّواضح : جمع ناضح ، وهو البعير يستقى عليه.

(٥) النّطع : البساط من جلد.

(٦) تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٦.

(٧) في النسخة : زرارة ، وما أثبتناه موافق للمصدرين الآتيين ، وراجع : اسد الغابة ٤ : ٣٤٣.

٢١٩

يا أهلاه ، ما خلّفني عن رسول الله إلّا أمرك ولاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إليه وفعل. والثّالث ما كان له أهل ولا مال ، فقال : ما لي سبب إلّا الضنّ بالحياة ، والله لاكابدنّ المفاوز حتّى أصل إلى رسول الله ، فلحقوا بالرّسول ، فأنزل الله ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ(١) .

وآخر قبول توبتهم ﴿حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ﴾ ومع سعتها ؛ لأنّهم بسبب إعراض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين عنهم ، صاروا بحيث كأنّهم لم يجدوا فيها موضع قرار. وضيق الأرض كناية عن شدّة الحيرة والوحشة.

وقيل : إنّهم لم يلحقوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنهى صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مجالستهم ومكالمتهم ، وأمر بمباينتهم حتّى أمر نساءهم بذلك ، فضاقت عليهم الأرض (٢)﴿وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وامتلأت قلوبهم بالوحشة والغمّ بحيث لم يبق لهم فيها ما يسع شيئا من الرّاحة والسّرور ، ولخوفهم من الله ومن أن يموتوا ولا يصلّي عليهم النبيّ والمؤمنون - وقيل : جاءت امرأة هلال إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : يا رسول الله ، لقد بكى هلال حتّى خفت على بصره (٣) .

قيل : كانوا على تلك الحالة خمسون يوما (٤)﴿وَظَنُّوا﴾ واطمأنّوا ﴿أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ﴾ ومن سخطه ﴿إِلَّا إِلَيْهِ﴾ ولا مخلّص من نقمته إلّا الاستغفار والتضرّع لديه.

ثمّ أكّد سبحانه قبول توبتهم بقوله : ﴿ثُمَّ تابَ﴾ الله ﴿عَلَيْهِمُ﴾ بفضله ﴿لِيَتُوبُوا﴾ ويرجعوا إلى حالتهم السّابقة ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾ على المذنبين ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالتّائبين ولو عادوا في اليوم مائة مرّة.

عن القمّي قال : تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من المنافقين ، وقوم من المؤمنين المستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق ؛ منهم كعب بن مالك الشاعر ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن اميّة الواقفي ، فلمّا تاب الله عليهم.

قال كعب : ما كنت قطّ أقوى منّي في الوقت الذي خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك ، وما اجتمعت لي راحلتان إلّا ذلك اليوم (٥) ، فكنت أقول : أخرج غدا ، أخرج بعد غد ، فإنّي قويّ وتوانيت وبقيت بعد خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أياما أدخل السوق ولا أقضي حاجة ، فلقيت هلال بن أميّة ومرارة بن الرّبيع ، وقد كانا تخلّفا أيضا ، فتوافقنا أن نبكّر إلى السّوق ولم نقض [ حاجة ] ، فمازلنا نقول : نخرج غدا وبعد غد ، حتّى بلغنا إقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فندمنا.

فلمّا وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واستقبلناه نهنّئه بالسّلامة ، فسلّمنا عليه فلم يردّ علينا السّلام فأعرض

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٧ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٢٨.

( ٢و٤ ) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٨.

(٥) في النسخة : إلى ذلك اليوم.

٢٢٠