نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)

ثمّ أنّه أخبر الله بإسلام بعض هوازن بقوله : ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ﴾ توبته بتوفيقه لقبول الإسلام ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ ومتجاوز عمّا سلف منهم من الكفر والمعاصي ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم بإعطائهم الثّواب الجزيل.

روي أنّ اناسا منهم جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبايعوه على الاسلام ، وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير النّاس وأبرّهم ، وقد سبي أهلونا وأولادنا ، واخذت أموالنا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ عندي ما ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم ، وإمّا أموالكم » . قالوا : ما كنّا نعدل بأحسابنا شيئا.

فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « إنّ هؤلاء جاءونا مسلمين ، وإنّا خيّرناهم بين الذّراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يردّه فشأنه [ وليفعل ما طاب له ] ومن لا فليعطنا ولكن قرضا علينا ، حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه » . قالوا : رضينا وسلّمنا.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّا لا ندري لعلّ فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا » ، فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

ثمّ قال لوفد هوازن : « ما فعل مالك بن عوف ؟ » قالوا : يا رسول الله ، هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله ، وأعطيته مائة [ من ] الإبل » ، فلمّا بلغه هذا الخبر نزل من الحصن مستخفيا خوفا من أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال ، وركب فرسه وركضه حتّى أتى الدّهناء - محلا معروفا - وركب راحلته ولحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأدركه بالجعرانة فأسلم ، فردّ عليه أهله وماله ، واستعمله على من أسلم من هوازن ، وكان هو ممّن فتح عامّة الشّام (١) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ

 عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ

 حَكِيمٌ (٢٨)

ثمّ منع الله المشركين من دخول المسجد الحرام بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ وقذر ، عن ابن عباس قال : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير (٢)﴿فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ﴾ فضلا عن أن يدخلوا فيه ﴿بَعْدَ عامِهِمْ هذا﴾ الذي أنتم فيه.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٤٠٨.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ٢٤.

١٤١

ثمّ قيل : إن اناسا قالوا لأهل مكّة : ستلقون الشدّة من انقطاع السّبل ، وفقد الحمولات (١) ، فوعد الله سدّ خلّة (٢) المؤمنين بقوله : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ على أنفسكم ﴿عَيْلَةً﴾ وفقرا وحاجة بسبب منع المشركين من الحجّ ، وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق ، وتعطيل المكاسب ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ﴾ عنهم في إرزاقكم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده ﴿إِنْ شاءَ﴾ غناءكم وسعة معائشكم.

وفي تعليق إغنائهم على مشيئته تنبيه على وجوب كونهم راجين بكرمه ، متضرّعين إليه ، وأنّ ما يصل إليهم يكون بتفضّله ، وأنّ الوعد لا يعمّ جميع الناس وجميع الأمكنة والأزمان ، بل هو لبعض دون بعض.

في إيجاب الجزية على أهل الكتاب

قيل : إنّ الله أنجز وعده بأن أرسل السّماء عليهم مدرارا ووفّق أهل تبالة وجرش (٣) للاسلام ، وامتاروا (٤) لهم ، ثمّ فتح عليهم البلاد ، ورزقهم الغنائم الوفيرة ، ووجّه إليهم النّاس من أقطار الأرض (٥) .

﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ﴾ بأحوال عباده ومصالحهم ﴿حَكِيمٌ﴾ يعطي ويمنع على حسب صلاح الأشخاص ونظام العالم.

﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ

 وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ

 وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بقتال المشركين حتّى يقتلوا أو يسلموا ويتوبوا ، أمر بقتال أهل الكتاب حتّى يعطوا الجزية بقوله : ﴿قاتِلُوا﴾ يا أهل الإسلام ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ حقّ الإيمان به ﴿وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ كما ينبغي ﴿وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ﴾ عليهم في كتابه ﴿وَرَسُولُهُ﴾ في سنّته ﴿وَلا يَدِينُونَ﴾ ولا يعتقدون أو لا يقبلون ﴿دِينَ الْحَقِ﴾ الثّابت من الله وهو الاسلام ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ السّماوي من التّوراة والإنجيل وغيرهما ، واستمرّوا على قتالكم ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ والمال المضروب عليهم منكم ، حال كون عطائهم إيّاه ﴿عَنْ يَدٍ﴾ منهم وبمباشرتهم الإعطاء ﴿وَهُمْ

__________________

(١) الحمولات : جمع الحمولة ، وهي الإبل وغيرها التي تحمل المؤن ، وتطلق الحمولة على نفس المؤن المحمولة على الإبل.

(٢) الخلّة : هي الفقر الحاجة.

(٣) في النسخة : بتالة وحريش ، وتبالة : موضع ببلاد اليمن ، وجرش : من مخاليف اليمن من جهة مكة ، قال المهلّبي : أسلم أهل تبالة وجرش من غير حرب ، فأقرّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيدي أهلها على ما أسلموا عليه ، وجعل على كلّ حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا ، واشترط عليهم ضيافة المسلمين. معجم البلدان ٢ : ١٠ و١٤٧.

(٤) أى جمعوا الميرة لأنفسهم ، وهي الطعام والمؤن.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٤١١.

١٤٢

صاغِرُونَ﴾ ذليلون عندكم.

في أحكام الجزية

عن الباقر عليه‌السلام : « بعث الله محمّدا بخمسة أشياء » (١) إلى أن قال : « قال الله تعالى : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً(٢) نزلت هذه الآية في أهل الذمّة ، ثمّ نسخها قوله سبحانه : ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية ، فمن كان منهم في دار الإسلام لم يقبل منهم إلّا الجزية أو القتل ، وما لهم فيء ، وذراريهم سبي ، فإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرّم علينا سبيهم ، وحرّمت أموالهم ، وحلّت لنا مناكحتهم ، ومن كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم وأموالهم ، ولم تحلّ مناكحتهم ، ولم يقبل منهم إلّا الدّخول في الاسلام أو الجزيه أو القتل » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن المجوس : أكان لهم نبيّ ؟ فقال : « نعم ، أما بلغك كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أهل مكّة : أن أسلموا وإلّا فأذنوا بحرب ، فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن خذ منّا الجزية ودعنا على عبادة الأوثان ، فكتب إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لست آخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب ، فكتبوا إليه ، يريدون تكذيبه : زعمت أنّك لا تأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب ، ثمّ أخذت الجزية من مجوس هجر ؟ ! فكتب إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه ، وكتاب أحرقوه » (٤) .

وفي ( العلل ) : عنه عليه‌السلام ، أنّه سئل عن النّساء : كيف سقطت الجزية ورفعت عنهن ؟ فقال : « لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن قتل النّساء والولدان في دار الحرب إلّا أن تقاتل ، وإن قاتلت [ أيضا ] » فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا ، فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب كان ذلك في دار الإسلام أولى ، ولو امتنعت أن تؤدّي الجزية لم يمكن قتلها ، فلمّا لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها ، ولو امتنع الرّجال وأبوا أن يؤدّوا الجزية كانوا ناقضين للعهد ، وحلّت دماؤهم وقتلهم ، لأنّ قتل الرّجال مباح في دار الشّرك ، وكذلك المقعد من أهل الشّرك والذّمة ، [ والأعمى ] والشيخ الفاني ، والمرأة والولدان في أرض الحرب. ومن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « جرت السنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ، ولا من المغلوب على عقله » (٦) .

والقمّي رحمه‌الله : عنه عليه‌السلام ، أنّه سئل : ما حدّ الجزية على أهل الكتاب ، وهل عليهم في ذلك [ شيء ] موظّف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره ؟

فقال : « ذلك إلى الإمام ، يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق ، إنّما هم قوم فدوا

__________________

(١) في الكافي : أسياف.

(٢) البقرة : ٢ / ٨٣.

(٣) الكافي ٥ : ١١ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٤.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٧ / ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٤.

(٥) علل الشرائع : ٣٧٦ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٦٧ / ٣ ، من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٨ / ١٠١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٥.

١٤٣

أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا ، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يؤخذ منهم بها حتى يسلموا ، فإنّ الله تعالى قال : ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ﴾ وكيف يكون وهو لا يكترث لما يؤخذ منه ، لا حتّى يجد ذلّا لما يؤخذ منه فيألم لذلك فيسلم » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في أهل الذّمّة : أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم شيء سوى الجزية ؟ قال : « لا»(٢) .

﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ

 بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)

ثمّ بيّن سبحانه عدم إيمانهم بقوله : ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ﴾ واعتقدت أنّه ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ

عن ابن عبّاس : أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وهم سلّام بن مشكم ، والنّعمان بن أوفى ، ومالك بن الصّيف ، وقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أنّ عزيرا ابن الله ؟ فنزلت الآية (٣) .

وقيل : إنّ هذا القول كان شائعا بينهم في ذلك العصر ثمّ انقطع ، ولا عبرة بإنكار اليهود ، فإنّ حكاية الله عنهم أصدق.

وفي ( الاحتجاج ) : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طالبهم فيه بالحجّة ، فقالوا : لأنّه أحيى [ لبني إسرائيل ] التّوراة بعدما ذهبت ، ولم يفعل بها هذا إلّا لأنّه ابنه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كيف صار عزير ابن الله دون موسى ، وهو الذي جاءهم بالتوراة ، ورأوا منه [ من ] المعجزات ما [ قد ] علمتم ، فإن كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه من إحياء التّوراة ، فلقد كان موسى بالنبوّة أحقّ وأولى » (٤) .

﴿وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ ثمّ ردّهم بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ القول الباطل الذي صدر منهم ﴿قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ﴾ وألسنتهم بلا مساعدة برهان عليه ، بل البراهين القاطعة على خلافه ، وهم في هذا القول ﴿يُضاهِؤُنَ﴾ ويشابهون ، يعني قولهم هذا يشابه ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ بأنّ الملائكة ، أو اللّات والعزّى بنات الله.

ثمّ أظهر الغضب بالدّعاء عليهم بقوله : ﴿قاتَلَهُمُ اللهُ﴾ وأهلكهم كيف تصدر من لسانهم هذه الأباطيل ، و﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وإلى أين يصرفون من الحقّ.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٥.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٨ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٥.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ٣٣.

(٤) الاحتجاج : ٢٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٥.

١٤٤

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث : « أي لعنهم ، فسمّى اللّعنة قتالا » (١) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا : ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ﴾ واشتدّ غضب الله على النّصارى حين قالوا : ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ﴾ واشتدّ غضب الله على من أراق دمي وآذاني في عترتي » (٢).

﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا

 إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)

ثمّ قدح الله فيهم بإثبات شرك آخر لهم بقوله : ﴿اتَّخَذُوا﴾ هؤلاء اليهود والنّصارى ﴿أَحْبارَهُمْ﴾ وعلماءهم ﴿وَرُهْبانَهُمْ﴾ وزهّادهم ﴿أَرْباباً﴾ ومطاعين كأنّهم معبودون لهم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ ومتجاوزين عنه.

عن الصادق عليه‌السلام : « أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون » (٣) .

﴿وَ﴾ اتّخذوا ﴿الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أيضا ربّا ومعبودا بعد ما قالوا إنّه ابن الله.

القمّي : عن الباقر عليه‌السلام : « أمّا المسيح فعصوه ، وعظّموه في أنفسهم ، حتّى زعموا أنّه إله ، وأنّه ابن الله ، وطائفة منهم قالوا : ثالث ثلاثة [ وطائفة منهم قالوا : هو الله ] ، وأمّا أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوهم ، وأخذوا بقولهم ، واتّبعوا ما أمروهم به ، ودانوا بما دعوهم إليه ، فاتّخذوهم أربابا بطاعتهم لهم ، وتركهم أمر الله وكتبه ورسله ، فنبذوه وراء ظهورهم » . قال : « وإنّما ذكر هذا في كتابه لكي نتّعظ بهم»(٤) .

﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿ما أُمِرُوا﴾ من قبل الله ، وبحكم عقولهم ، بشيء ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا﴾ وليطيعوا ﴿إِلهاً واحِداً﴾ ولا يطيعون غيره ، وأمّا طاعة غيره بأمره فهي (٥) في الحقيقة طاعته.

ثمّ أكّد سبحانه وحدانيّته في الالوهيّة والربوبيّة والعبادة بقوله : ﴿لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ثمّ نزّه ذاته المقدّسة عن الشّرك بقوله : ﴿سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ به في الالوهيّة والعبادة ، وتعالى شأنه عن ذلك.

﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٢٩ / ١٨١٠ ، أمالى الطوسي : ١٤٢ / ٢٣١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٦.

(٣) الكافي ١ : ٤٣ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٦.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٨٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٦.

(٥) زاد في النسخة : بأمره.

١٤٥

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان سوء عقيدتهم ، بيّن سوء أفعالهم الموجب لاستحقاقهم القتل والذلّة بقوله : ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا﴾ ويخمدوا ﴿نُورَ اللهِ﴾ ويبطلوا براهين توحيده وتنزّهه عن اتّخاذ الولد ، ويخفوا أدلّة صدق النبيّ عن عوامّهم ، ويشوّشوا شواهد صحّة شريعته بأقاويلهم الباطلة وشبهاتهم الفاسدة التي يقولونها ﴿بِأَفْواهِهِمْ﴾ مع عدم اعتقاد صحّة معانيها في قلوبهم ، كأنّهم يسعون أن يطفئوا نور الشّمس بنفخهم ﴿وَيَأْبَى اللهُ﴾ ويمتنع ﴿إِلَّا أَنْ﴾ يثبت دينه ، و﴿يُتِمَّ نُورَهُ﴾ ببلوغه الغاية في الإضاءة والإنارة ، ويحقّ الحقّ بنصرة رسوله ، وظهور معجزاته ، وإعلاه كلمته ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ ذلك فضلا عن أن لا يكرهوه.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في هذه الآية : « يعني [ أنّهم ] أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة ، فأعمى الله قلوبهم حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوا فيه وحرّفوا منه » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « جعل [ الله ] أهل الكتاب المقيمين به ، والعالمين بظاهره وباطنه ، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السّماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها ، أي يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت ، وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونه الّذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم فأبى الله إلّا أن يتمّ نوره » (٢) .

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

 الْمُشْرِكُونَ (٣٣)

ثمّ بيّن الله إتمام نور بظهور رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ الذي جاءكم ﴿بِالْهُدى﴾ ودلائل الصّدق من القرآن العظيم ، والمعجزات الباهرة الكثيرة ﴿وَدِينِ الْحَقِ﴾ المرضيّ عند الله ، والأحكام الموافقة لصلاح العباد ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ وليغلبه بالحجّة والسّيف ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ بحيث لا يبقى على وجه الأرض غيره.

قيل : إنّ المراد ظهور الإسلام على سائر الأديان في جزيرة العرب ، أو غلبته على سائر الأديان في الجملة ، فإنّه لم يكن أهل دين إلّا وقهرهم المسلمون ؛ أمّا اليهود فقد قهرهم المسلمون حتى أخرجوهم من جزيرة العرب ، وأمّا النّصارى فقد غلبوهم على بلاد الشّام وما والاها إلى ناحية الرّوم والمغرب ، وامّا عبدة الأوثان فقد غلبوهم على كثير من بلادهم ممّا يلي التّرك والهند ، وكذلك سائر الأديان.

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٤٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٧.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٧.

١٤٦

وروت العامة عن أبي هريرة أنّه قال : هذا وعد من الله بأنّه تعالى يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان ، وتمام هذا يحصل عند نزول عيسى (١) .

وعن السدي قال : ذلك عند خروج المهدي ، لا يبقى أحد إلّا دخل في الاسلام ، أو أدّى الخراج (٢) .

القمّي قال : نزلت في القائم من آل محمّد. قال : وهو الذي ذكرناه ممّا تأويله بعد تنزيله (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في هذه الآية : « والله ما نزل تأويلها بعد ، وما ينزل حتى يخرج القائم ، فإذا خرج القائم لا يبقى كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه ، حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت : يا مؤمن ، في بطني كافر فاكسرني واقتله » (٤) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وغاب صاحب هذه الأمر بإيضاح الغدر له في ذلك ؛ لاشتمال الفتنة على القلوب ، حتّى يكون أقرب النّاس إليه أشدّهم عداوة له ، وعند ذلك يؤيّده الله بجنود لم تروها ، ويظهر دين نبيّه على يديه على الدّين كلّه ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في هذه الآية : « أنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمّد ، فلا يبقي أحد إلّا أقرّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٦) .

وعن العياشي : عنه عليه‌السلام ، ما في معناه ، قال : وفي خبر آخر قال : « ليظهره الله في الرّجعة»(٧).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله الإسلام إمّا بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل ، إمّا يعزّهم فيجعلهم الله من أهله فيعزّوا به ، أو يذلّهم فيدينون له » (٨) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « القائم منّا منصور بالرّعب ، مؤيّد بالنّصر ، تطوى له الأرض ، وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله به دينه على الدّين كلّه ، فلا يبقى في الأرض خراب إلّا عمّر ، وينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه » (٩) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « أظهر ذلك بعد ؟ » قالوا : نعم ، قال : « كلا ، فو الذي نفسي بيده ، حتّى لا تبقى قرية إلّا وتنادي بشهادة أن لا إله إلّا الله ، ومحمّد رسول الله ، بكرة وعشيّا»(١٠) .

وعن الكاظم عليه‌السلام ، في هذه الآية : « هو الّذي أمر رسوله بالولاية لوصيّة ، والولاية هي دين الحقّ ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم ، والله متمّ ولاية القائم ولو كره الكافرون بولاية عليّ عليه‌السلام» .

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١٦ : ٤٠.  (٣) تفسير القمي ١ : ٢٨٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

(٤) كمال الدين : ٦٧٠ / ١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.   (٥) الاحتجاج : ٢٥٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

(٦) مجمع البيان ٥ : ٣٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.  (٧) تفسير العياشي ٢ : ٢٣١ / ١٨١٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

(٨) مجمع البيان ٥ : ٣٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

(٩) إكمال الدين : ٣٣١ / ١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٩.

(١٠) تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

١٤٧

قيل : هذا تنزيل ؟ قال : « نعم ، هذا الحرف تنزيل ، وأما غيره فتأويل » (١) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ

 بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا

 يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ

 فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا

 ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٤) و (٣٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب باتّخاذهم علمائهم أربابا بالمعنى الذي ذكرنا ، ذمّ علماءهم وزهّادهم بأكل الرّشا وغيره من المال الحرام بإضلال النّاس ؛ بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ﴾ وعلماء اليهود ﴿وَالرُّهْبانِ﴾ وزهّاد النّصارى والله ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ﴾ وطريق الحرام كالرّشوة للحكم بالجور ، وتغيير الأحكام الإلهيّة ، وتحريف الكتب السماويّة ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ ويمنعون النّاس بتسويلاتهم وشبهاتهم ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ وقبول دين الحقّ.

ولمّا كان استمرارهم على أخذ الحرام مشعرا بغاية حرصهم على جمع الدّراهم والدّنانير ، هدّد سبحانه من له هذه الرّذيلة بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ ويدّخرون ﴿الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ [ سواء أ ] كانا مسكوكين كالدّينار والدّرهم ، أو غير مسكوكين كالسّبائك ﴿وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ والوجوه الخيريّة ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ يا محمّد ﴿بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ الذي يشتاقون إليه باشتياقهم إلى سببه الذي هو جمع الدّراهم والدّنانير ﴿يَوْمَ يُحْمى﴾ ويوقد ﴿عَلَيْها﴾ نار ذات لهب وشدّة حرارة ﴿فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى﴾ وتحرق ﴿بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ

قيل : خصّ الله الكيّ بتلك المواضع ، لأنّ المقصود من الأموال حصول الفرح الذي يحصل أثره في الوجه ، والشّبع الذي ينتفخ به الجنبان ، وتحصيل ثياب فاخرة تطرح على الظّهر (٢) .

وقيل : إنّ البخيل الموسر إذا رأى الفقير قبض جبينه ، وإذا جلس بجنبه تباعد منه ، وولّاه ظهره(٣).

وقيل : لأنّ في داخل هذه الأعضاء آلات ضعيفة يعظم تألّمها إذا وصل أدنى مولم إليها (٤) .

وقيل : لأنّ ألطف أعضاء الإنسان جبينه ، ومتوسّطها في اللّطافة جنبه ، وأصلبها ظهره ، والمراد بيان إحاطة الكيّ بجميع الأعضاء (٥) .

وقيل : لأنّ كمال بدن الإنسان بالجمال والقوّة ، ومحلّ الجمال الوجه ، وأعزّ الأعضاء منه الجبهة،

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥٨ / ٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٣٨.

( ٢و٥ ) تفسير الرازي ١٦ : ٤٨.

١٤٨

ومحلّ القوّة الجنب والظّهر ، فإذا وقع الكيّ في تلك الأعضاء ذهب الجمال والقوة (١) .

أقول : يمكن كون العلّة جميع الامور المذكورة.

وعلى أيّ تقدير ، يقال لهم ازديادا لتحسّرهم : ﴿هذا﴾ المال هو ﴿ما كَنَزْتُمْ﴾ وادّخرتم ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ لا تنفقونه وتلتذّون به ﴿فَذُوقُوا﴾ واطعموا طعم ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿تَكْنِزُونَ﴾ من الدّنانير والدّراهم المحماة بالنّار.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تبّا للذّهب وتبّأ للفضّة » قالها ثلاثا ، فقالوا له : أيّ مال نتّخذ ؟ قال : « لسانا ذاكرا ، وقلبا خاشعا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه » (٢) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها » .

وتوفّي رجل وفي مئزره دينار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كيّة » . وتوفّي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كيّتان » (٣) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدّينار والدّرهم أهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم » (٤) .

والقمّي : عن الباقر عليه‌السلام ، في هذه الآية : « أنّ الله حرّم كنز الذّهب والفضّة ، وأمر بإنفاقه في سبيل الله » .

قال : « كان أبو ذرّ الغفاري يغدو كلّ يوم وهو بالشام فينادي بأعلى صوته : بشّر أهل الكنوز بكيّ في الجباه ، وكيّ في الجنوب ، وكىّ في الظّهور أبدا حتّى يتردّد الحرّ في أجوافهم » (٥) .

وفي ( المجمع ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تبّا للذّهب ، تبّا للفضّة » يكرّرها ثلاثا ، فشقّ ذلك على أصحابه ، فسألوه : أيّ المال نتّخذ ؟ فقال : « لسانا ذاكرا ، وقلبا خاشعا ، وزوجة مؤمنة ، تعين أحدكم على دينه » (٦) .

وفي ( الخصال ) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدّينار والدّرهم أهلكا من كان قبلكم ، وهما مهلكاكم » (٧) .

والقمّي رحمة الله ، في حديث : « نظر عثمان إلى كعب الأحبار فقال له : يا أبا إسحاق ، ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء ؟ فقال : لا ، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ما وجب عليه شيء ، فرفع أبو ذرّ عصاه فضرب بها رأس كعب ، ثمّ قال له : يا بن اليهوديّة الكافرة ، ما أنت والنّظر في أحكام المسلمين ، قول الله أصدق من قولك حيث قال : ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...﴾ الآية » (٨) .

عن أمير المؤمنين ، بطريق عامي قال : « كلّ مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز ، أدّيت زكاته أو لم

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٤٨.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٦ : ٤٤.

(٤) الخصال : ٤٣ / ٣٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٨٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

(٦) مجمع البيان ٥ : ٤٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

(٧) تقدم أنفا.  (٨) تفسير القمي ١ : ٥٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

١٤٩

تؤدّ » (١) .

العيّاشي عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « إنّما عنى بذلك ما جاوز ألفي درهم»(٢) .

وفي ( الأمالي ) : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ مال تؤدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكلّ مال لا تؤدّى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام : « موسّع على شيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم بالمعروف ، فإذا قام قائمنا حرّم على [ كلّ ] ذي كنز كنزه حتّى يأتيه به ، فيستعين به على عدوّه ، وهو قول الله : ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...(٤) .

أقول : يمكن حمل الأخبار الدالّة على حرمة الكنز على جمع المال في وقت يجب إنفاقه في الجهاد ، وحفظ شوكة الإسلام والنّفوس المحترمة ، وغير ذلك من المصارف التي يجب صرف المال فيها ، كعصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام وما شابهه ، والأخبار الدالّة على الجواز على غيره.

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ

 وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا

 الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)

ثمّ لمّا أمر الله بقتال المشركين وأهل الكتاب ، ذكر الشّهور التي يجوز فيها القتال ، والتي لا يجوز بقوله : ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ القمريّة التي هي ما بين الهلالين ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي حكمه وقضائه ﴿اثْنا عَشَرَ شَهْراً﴾ من غير زيادة ونقصان ، مثبتة تلك العدّة ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾ عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّه اللّوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التّفصيل (٥)﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ وحين أبدع الأجرام اللّطيفة والكثيفة ؛ لأنّ الشّمس والقمر الّذين بهما مدار الأيام والشّهور جرمان في السّماوات ﴿مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ يحرّم القتال فيها ، وتعظّم حرمتها ، ثلاثة منها سرد (٦) متعاقبة : ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، وواحد فرد وهو شهر رجب.

قيل : كانت حرمة تلك الأشهر عند العرب بحيث لو لقي الرجل فيها قاتل ابنه ، لم يكن يتعرّض له.

﴿ذلِكَ﴾ المذكور من كون الأشهر اثني عشر ، والحرم منها أربعة معيّنة ، هو ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ والشّرع

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٤٥.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٣١ / ١٨٢٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

(٣) أمالي الطوسي : ٥١٩ / ١١٤٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٠.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢٣١ / ١٨٢١ ، الكافي ٤ : ٦١ / ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤١.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ٥١.

(٦) السّرد : المتتابع والمتعاقب.

١٥٠

الباقي المستقيم الذي جاء به إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، لا يغيّر ولا يبدّل ﴿فَلا تَظْلِمُوا﴾ أيّها العرب ﴿فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ بتضييع حرمتها وتغيير شهورها.

ثمّ بيّن الله حكم قتال المشركين فيها بقوله : ﴿وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ حال كونكم ﴿كَافَّةً﴾ ومجتمعين ومتناصرين ، مستحلّين لقتالها (١)﴿كَما يُقاتِلُونَكُمْ﴾ حال كونهم ﴿كَافَّةً﴾ ومجتمعين على قتالكم ، مستحلّين له فيها.

ثم وعد الله المؤمنين النّصر بقوله : ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿أَنَّ اللهَ﴾ بنصره وتأييده ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ والخائفين من الله في مخالفة أوامره.

﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ

 عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ

 لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)

ثمّ أنّ رجلا من كنانة ، كان يقف بالموسم ويقول : قد أحللت دماء المحلّين طي وخثعم في شهر المحرّم وأنسأته ، وحرّمت بدله صفرا ، فإذا كان العام المقبل يقول : قد أحللت صفرا وأنسأته ، وحرمت بدله شهر المحرّم. على رواية القمي (٢) .

فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾ والتّأخير في الشّهر الحرام ﴿زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ وبدعة مضافة إليه.

وقيل : إنّ أوّل من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني ، كان يقوم على جمل أحمر في الموسم فينادي : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه ، ثمّ ينادي في القابل : إنّ آلهتكم قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه (٣) .

وهذا التّأخير والنّسيء ﴿يُضَلُّ بِهِ﴾ من قبل الله ، أو الشّيطان ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا

ثمّ فسّر سبحانه النّسيء بقوله : ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ ويجوّزون القتال فيه ﴿عاماً﴾ ويمنعون عن القتال بدله في شهر حرام ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ﴾ ويمنعون القتال في ذلك الشّهر الذي أحلّوه ﴿عاماً﴾ آخر ﴿لِيُواطِؤُا﴾ ويوافقوا ﴿عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ﴾ من الأشهر. [﴿فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ﴾]

عن ابن عبّاس : أنّهم ما أحلّوا شهرا من الحرام إلّا حرّموا مكانه شهرا آخر من الحلال ، ولم يحرّموا

__________________

(١) كذا ، والظاهر : لقتالهم فيها.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٩٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٢.

(٣) تفسير الصافي ٢ : ٣٤٢.

١٥١

شهرا من الحلال إلّا أحلّوا مكانه شهرا آخر من الحرام ، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله (١) .

ثمّ نسب سبحانه هذا النسيء المضاف إلى الكفر إلى تزيين الشّيطان بقوله : ﴿زُيِّنَ لَهُمْ﴾ بتسويلات الشّيطان ﴿سُوءُ أَعْمالِهِمْ﴾ وقبح أفعالهم ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ إلى خير ، ولا يوصل إلى صلاح ﴿الْقَوْمَ الْكافِرِينَ

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى

 الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ

إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ

 شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان عقائدهم السيّئة وأعمالهم الشّنيعة ، حثّ المؤمنين على قتالهم بإنكار التّثاقل والتّواني عليهم فيه ؛ بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ﴾ من العذر والحالة المانعة عن الامتثال ﴿إِذا قِيلَ لَكُمُ﴾ من قبل الله والرسول ﴿انْفِرُوا﴾ واخرجوا جميعا إلى الجهاد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلبا لمرضاته ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ وتباطأتم كأنّكم لثقل أبدانكم متمائلون ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ مخلدين فيها حبّا للحياة ، وطلبا للرّاحة ، وكراهة لمشاقّ السّفر ، وخوفا من العدوّ ﴿أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا﴾ واطمأنتم إليها ، وسكنت قلوبكم إلى شهواتها ونعيمها ، بدلا ﴿مِنَ الْآخِرَةِ﴾ ونعيمها الدائم (٢)﴿فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ ولذائذها ونعمها ﴿فِي﴾ جنب لذائذ ﴿الْآخِرَةِ﴾ ونعيمها ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ غير معتدّ به عند العقل والعقلاء.

عن ابن عبّاس : أنّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك ، وذلك لأنّه لمّا رجع [ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] من الطّائف أقام بالمدينة ، وأمر بجهاد الرّوم ، وكان ذلك الوقت زمان شدّة الحرّ ، وطابت ثمار المدينة وأينعت ، واستعظموا غزو الرّوم وهابوه. فنزلت (٣) .

وفي ( الجوامع ) : كان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر ، بعد رجوعهم من الطّائف ، استنفروا في وقت قحط وقيظ ، مع بعد الشّقّة ، وكثرة العدوّ ، فشقّ ذلك عليهم (٤) .

القمّي رحمه‌الله : وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسافر سفرا أبعد ولا أشدّ منه ، وكان سبب ذلك أنّ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٥٨.

(٢) في النسخة : الدائمة.

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ٥٩.

(٤) جوامع الجامع : ١٧٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٢.

١٥٢

الصيّافة (١) كانوا يقدمون المدينة من الشّام معهم الدّرموك (٢) والطّعام وهم الأنباط ، فأشاعوا بالمدينة أنّ الرّوم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عسكر عظيم ، وأنّ هرقل قد سار في جنوده وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وعاملة ، وقد قدم عساكره البلقاء ، ونزل هو حمص ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بالتهيّوء إلى تبوك ، وهي من بلاد البلقاء ، وبعث إلى القبائل حوله وإلى مكّة وإلى من أسلم من خزاعة ومزينة وجهينة ، وحثّهم على الجهاد ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسكره فضرب في ثنيّة الوداع ، وأمر أهل جدّة أن يعينوا من لا قوّة له ، ومن كان عنده شيء أخرجه ، وحملوا وقوّوا وحثّوا على ذلك. ثمّ خطب خطبة ورغّب النّاس في الجهاد. قال : وقدمت القبائل من العرب ممّن استنفرهم ، وقعد عنه قوم من المنافقين (٣) .

فهدّدهم الله سبحانه على التّقاعد عنه بقوله : ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا﴾ أيّها المؤمنون ، ولا تخرجوا إلى الجهاد ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ الله في الدّنيا ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾ ويهلككم إهلاكا فظيعا بالقتل وغلبة العدوّ والقحط - كما قيل (٤) - ﴿وَيَسْتَبْدِلْ﴾ بكم بعد إهلاككم ﴿قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ خيرا منكم ، وأطوع لأمر الله ﴿وَلا تَضُرُّوهُ﴾ بتثاقلكم عن الجهاد ونصرة دينه ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا من الضّرر ، لكونه تعالى غنيّا عن العالمين ، لا يحتاج في إنفاذ إرادته إلى معين ، أو المراد : لا تضرّوا النبيّ شيئا ، لأنّ الله عصمه من النّاس ، ووعده النّصر.

عن ابن عبّاس قال : المراد من القوم الآخرين التّابعون (٥) . وقيل : أهل اليمن (٦) . وقيل : أبناء فارس (٧) .

واحتمل بعض أن يكون المراد : أن يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بين أهل المدينة وينصره بالملائكة (٨) .

ثمّ أكّد غناه بقوله : ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من التّعذيب والتّبديل وغيرهما ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء ، فإذا وعد بالعقاب لا يخلف وعده. وهو غاية التّهديد.

﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ

 إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ

تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ

 حَكِيمٌ (٤٠)

__________________

(١) أي الذين يأتون في الصيف.

(٢) الدّرموك : الثياب والبسط.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٩٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٢.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٤٢٩.

(٥) تفسير الرازي ١٦ : ٦١.

(٦ و٧) . تفسير الرازي ١٦ : ٦١ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٦٥.

(٨) تفسير الرازي ١٦ : ٦١.

١٥٣

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار غناه عن نصرتهم بقوله : ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾ في غزوة تبوك ، فإنّ الله ناصره ، وليست نصرته من الله تعالى أمرا بديعا ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ﴾ وأعانه على أعدائه ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش من مكّة ، بأن اجتمعوا على قتله فخرج منها ، حال كونه ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ واحد الرّجلين ، ولم يكن معه إلّا أبو بكر.

في ذهاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الغار

روت العامّة : أنّ بعد تفرّق قريش عن دار النّدوة ، واتّفاقهم على قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في اللّيل ، أتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بمكر قريش ، وأمره بمفارقة مضجعه تلك اللّيلة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : نم على فراشي واتّشح بردائي هذا الحضرمي ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يشهد العيدين في ذلك الرّداء ، فلمّا مضت عتمة (١) من اللّيل - يعني ثلثه - اجتمعت (٢) قريش على باب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا مائة ، فجعلوا يتطلّعون من شقّ الباب ويرصدون متى ينام فيثبون عليه ويقتلونه ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم وهم ببابه ، وقرأ ﴿يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ إلى قوله : ﴿فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(٣) ، فأخذ الله أبصارهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يبصروه حتّى خرج من بينهم (٤) .

وفي رواية : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ قبضة من تراب فذرّها عليهم ، فأتاهم آت فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا: محمّدا ، قال : فقد خيّبكم الله ، والله خرج من بينكم محمّد ، ثمّ ما ترك رجلا منكم إلّا وضع في رأسه التّراب ، وانطلق لحاجته ، أفما ترون ما بكم ، فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التّراب.

فدخلوا على عليّ عليه‌السلام فقالوا له : يا عليّ ، أين محمّد ؟ قال : « لا أدري أين ذهب » وكان قد انطلق إلى بيت أبي بكر ، فلمّا دخل عليه قال : « إنّ الله أذن لي في الخروج » فقال أبو بكر : الصّحبة يا رسول الله ، بأبي أنت وامّي ، قال : نعم ، قال أبو بكر : خذ إحدى راحلتي هاتين ، فإنّي أعددتهما للخروج ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم ، بالثّمن » وهي الناقة القصوى أو الجدعاء ، وأمّا الناقة العضباء فقد جاء أنّ ابنته فاطمة تحشر عليها.

ثمّ استأجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر رجلا من بني الدّئل ليدلّهما على الطريق للمدينة ؛ وكان على دين قريش ، فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار جبل ثور بعد ثلاث ليال أن يأتي بالرّاحلتين صباح اللّيلة الثّالثة ، فمكث صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت أبي بكر إلى اللّيلة القابلة ، فخرجا إلى طرف الغار ، فمشى صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلته على طرف أصابعه حتّى حفيت رجلاه. إلى أن قالوا : ولمّا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغار ، أمر الله شجرة - وهي التي يقال لها القتاد ، وقيل : امّ غيلان - فنبتت في وجه الغار ، فسترته بفروعها (٥) .

__________________

(١) في النسخة : مضى قسمة.

(٢) في النسخة : اجتمع.

(٣) يس : ٣٦ / ١ - ٩.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٤٣١.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٤٣٢.

١٥٤

وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا تلك اللّيلة شجرة كانت أمام الغار ، فأقبلت حتّى وقفت على باب الغار ، وكانت مثل قامة الإنسان (١) .

وقيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ على ثمامة - وهي شجرة صغيرة ضعيفة - فأمر أبا بكر أن يأخذها معه ، فلمّا صار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار ، وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها نسجا متراكبا كنسج أربعين سنة (٢) .

فلمّا فقد المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شقّ عليهم وخافوا ، وطلبوه بمكّة أعلاها وأسفلها ، وبعثوا القافة في كلّ وجه ليقفوا أثره ، فوجد الذي ذهب إلى جبل ثور أثره انتهى إلى الغار ، فقال : هاهنا انقطع الأثر ، ولا أدري ذهب يمينا أو شمالا ، أو صعد على الجبل ، فأقبل فتيان قريش من كلّ بطن بعصيّهم وسيوفهم ، فلمّا انتهوا إلى الغار قال قائل منهم : ادخلوا الغار ، فقال اميّة بن خلف : ما أرى أنّه أتى الغار ، إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمّد ، ولو دخل فيه لما نسج العنكبوت ، وعند ما حاموا حول الغار حزن أبو بكر خوفا على رسول الله (٣) .

أقول : لم يكن له بحال الخوف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن كان مؤمنا برسالته وصدق أخباره ، مع مشاهدته المعجزات العظيمة منه ؛ كمجيء الشجر على باب الغار ، ونسج العنكبوت عليه ، بل إنّما كان خوفه دليلا على عدم إيمانه بالرّسول ، وحمله معجزاته على السّحر ، وعليه كان خوفه على نفسه ، بحيث كاد أن يعلو صوته ويطّلع المشركون على كون الرسول في الغار ، فنصر الله رسوله.

﴿إِذْ هُما فِي الْغارِ﴾ والمشركون على بابه ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ الرّسول ﴿لِصاحِبِهِ﴾ والذي معه فيه وهو أبو بكر : ﴿لا تَحْزَنْ﴾ ولا تخف ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بحفظه وعونه ﴿مَعَنا

وإنّما قال : ﴿مَعَنا﴾ ولم يقل : « معي » لعلمه بعدم سكون قلبه بقوله : « إنّ الله معي » ، ولو كان خوفه على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لكفى في زواله قوله : « إن الله معي » ، كما أنّه كفى في تسكين قلب عليّ عليه‌السلام حين نومه في فراش الرّسول أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بشّره بسلامة نفسه.

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل يقول لأبي بكر في الغار : اسكن ، فإنّ الله معنا وقد أخذته الرّعدة وهو لا يسكن ، فلمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حاله قال له : أتريد أن اريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون ، واريك جعفرا وأصحابه في البحر يغوصون ؟ قال : نعم ، فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيده على وجهه ، فنظر إلى الأنصار يتحدّثون ، وإلى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون » . الخبر (٤) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٤٣٣.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٤٣٣ ، وفيه : أربع سنين.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٤٣٤.

(٤) الكافي ٨ : ٢٦٢ / ٣٧٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٤.

١٥٥

في استدلال العامة على فضيلة أبي بكر وردّه

ثمّ أعلم أنّه استدلّت العامّة بهذه الآية على فضيلة أبي بكر ، وأن إيمانه كان حقيقيّا بوجوه ضعيفة نقلها الفخر الرازي (١) :

الأوّل : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما ذهب إلى الغار لأجل أنّه كان يخاف الكفّار من أن يقدموا على قتله ، فلولا أنّه كان قاطعا على باطن أبي بكر بأنّه كان من المؤمنين المحقّين الصادقين الصدّيقين لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع ؛ لأنّه لو جوّز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدلّ عليه أعداءه ، وأيضا لخافه من أن يقدم على قتله (٢) .

وفيه : أنّه يمكن أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاطعا بأنّه لو لم يصحبه معه مع استدعائه المصاحبة كان يفسد في أمره ، وكان عالما بأنّه يحفظه من أعماله السيّئة ، ومن أن يخبر الكفّار بمكانه إذا صحبه ، مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم قدرته مع ضعف بدنه وقلبه على الإساءة إليه وإصابته بمكروه.

الثّاني : أن الهجرة كانت (٣) بأمر الله ، وكان في خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. جماعة من المؤمنين المخلصين ، وكانوا في النّسب إلى شجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب من أبي بكر ، فلولا أنّ الله أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك القضيّة الهائلة لما كان يستصحبه ، ولا يخصّه بهذه الصّحبة ، وتخصيص الله إيّاه بهذا التّشريف دلّ على منصب عال له في الدّين (٤) .

وفيه : أنّ صريح روايتهم أنّه حين ملاقاته النبيّ واطّلاعه على هجرته ، التمس منه الصّحبة ، فأجابه النبيّ إليها ، ولو كان استصحابه بأمر الله لبشّره النبيّ به في بدو ملاقاته ، مع أنّه يمكن أنّ الله أمر النبي باستصحابه خاصّة لحكم ؛ منها أنّه لو لم يستصحبه وأبقاه في مكّة ، لم يكن على إسلامه الظّاهري ؛ لأنّه كان منه على حرف ، فاقتضت الحكمة حفظ إسلامه ليقضي [ الله ] أمرا كان مفعولا.

الثّالث : أنّ كلّ من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا هو فما سبق رسول الله كغيره ، بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته ، عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد (٥) .

وفيه : أنّ المراد من الخوف الشّديد الذي لم يبق معه أحد ، هو الحاصل من اتّفاق قريش على قتله في دار النّدوة ، واجتماعهم على باب داره ، لذلك فالظّاهر أنّه لم يطّلع عليه أحد من الأصحاب حتّى أبي بكر ؛ لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اطّلع عليه في مساء ذلك اليوم بإخبار جبرئيل ، ولم يكن أبو بكر في ملازمته وخدمته ، بل ذهب النبيّ - على ما رووه - إلى بيت أبي بكر في قرب من نصف اللّيل ، بعد أن أمر عليّا عليه‌السلام بالمبيت على فراشه. وعلى صدق الرّواية لعلّه كان ذهابه إلى بيته لأجل شرائه ناقته

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٦٣.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ٦٣.

(٣) في النسخة : كان.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ١٦ : ٦٣.

١٥٦

والاختفاء عنده.

الرّابع : أنّه تعالى سمّاه ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ فجعله ثاني محمّد ، حال كونهما في الغار (١) .

وفيه : أنّ المراد بيان أنّ الله نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق خارق للعادة ، حيث أخرجه من بين أظهر الكفّار ولم يكن معه إلّا رجل واحد وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانيه. وعليه ،

فلا شبهة في أنّ المراد من ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ الثاني في العدد لا الثاني في الفضيلة والرّتبة والمنزلة عند الله.

ولعمري إنّ هذا في الوضوح بمكان لا يخفى على أحد حتّى الأحمق العيّ ، فكيف بالفاضل الزكيّ ؟ والعجب من الفخر وأضرابه أنّهم تخيّلوا أنّ المراد الثاني في المنزلة ، مع أنّهم قالوا : إذا حضر اثنان يقال لكلّ واحد أنّه ثاني اثنين ، أي هو أحدهما.

ثمّ قال الفخر : والعلماء أثبتوا أنّ أبا بكر كان ثاني محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر المناصب الدّينيّة ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن به أبو بكر ، ثمّ ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزّبير وعثمان بن عفّان وجماعة آخرين من أجلّة الصّحابة ، والكلّ آمنوا على يديه ، ثمّ إنّه جاء بهم إلى رسول الله بعد أيام قلائل ، فكان هو ثاني اثنين في الدّعوة إلى الله (٢) .

أقول فيه : أولا : لا نسلّم أنّه آمن بدعوته [ أحد ] إلّا قليل ممّن كان إيمانه كإيمانه ؛ كطلحة الذي قال : إنّ محمّدا يحرّم علينا نساءه ويتزوّج هو بنسائنا ، لئن أمات الله محمّدا لنركضنّ بين خلاخيل نسائه ، كما ركض بين خلاخيل نسائنا (٣) . وكعثمان الذي ملأت مطاعنه الدّفاتر.

وثانيا : كان جعفر بن أبي طالب أولى منه بأن يكون ثاني اثنين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدّعوة ، حيث إنّه هاجر إلى الحبشة وآمن بدعوته النّجاشي وجماعة كثيرة.

ثمّ قال : وأيضا كلّما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ولا يفارقه ، فكان ثاني اثنين في مجلسه (٤) .

أقول فيه : إنّ وقوفه عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغزوات كان لجبنه وضعف قلبه ، وعدم كونه من رجال الحرب وباذلا مهجته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا لم يكن ممّن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت في غزوة احد ، مع كونه عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال : ولمّا مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام مقامه في إمامة النّاس في الصلاة ، فكان ثاني اثنين (٥) .

أقول : العجب ممّن لا يستحي من القول الباطل ، كيف لم يقل إنّه أقامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مقامه في

__________________

(١) تفسير الرازي ١٦ : ٦٤.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ٦٤.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٩٥ ، بحار الأنوار ١٧ : ٢٧.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ١٦ : ٦٤.

١٥٧

الإمامة ، ليثبت له الفضل ؟ فإنّ قيامه مقامه في الإمامة بغير إذن الرّسول لا فضل فيه ، مع توهّم النّاس أنّه أرسله الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمامة ، بل هو غصب لمقامه وجرأة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّه جلس مجلسه وغصب محرابه ومنبره وخلافته.

ثمّ قال الفخر : وطعن بعض الحمقى من الرّوافض في هذا الوجه ، وقال : كونه ثاني اثنين للرّسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعا لكلّ ثلاثة في قوله : ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ(١) ، ثمّ أنّ هذا الحكم عام في حقّ الكافر والمؤمن ، فلمّا لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالّا على فضيلة الإنسان ، فلأن لا يدلّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على فضيلة الإنسان كان أولى.

والجواب : أنّ هذا تعسّف بارز ، لأنّ المراد هناك : كونه تعالى مع الكلّ بالعلم والتّدبير ، وكونه مطّلعا على ضمير كلّ أحد ، أما هاهنا فالمراد بقوله تعالى : ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ تخصيصه بهذه الصّفة في معرض التّعظيم ، وأيضا قد دلّلنا بالوجوه الثلاثة المتقدّمة ، على أنّ كونه معه في هذا الموضع ، دليل قاطع على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاطعا بأنّ باطنه كظاهره ، فأين أحد الجانبين من الآخر (٢) .

أقول فيه : إنّه قد بيّنا أن المراد من كون النبي ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ﴾ كونه أحد الرّجلين ، ولا دلالة له على أنّ أبي بكر ثاني النبي وتاليه في الفضيلة والمنزلة عند الله ، وإنّما كان سوق الكلام في بيان عظمة النبيّ وأنّ الله ينصره ولو لم يكن معه أحد ؛ كما نصره يوم الغار ولم يكن معه إلّا رجل كان وجوده كعدمه ، فأين هذا من بيان الفضيلة لأبي بكر ؟ وقد أوضحنا أنّ الوجوه الثلاثة التي ذكرها من التّرّهات التي لا تصدر من العقلاء.

ولعمري ، إنّ الاعتماد عليها في إثبات الفضيلة لمن له شائبة الفضل من أقوى الشّواهد على غاية الحمق ، بل الآية دالّة على عدم فضيلة لأبي بكر ، وكونه ساقطا من نظر الرّحمة حيث خصّ سبحانه النبي بنزول السّكينة والتأييد بالملائكة بقوله : ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ﴾ ورحمته الخاصّة التي توجب اطمئنان قلب نبيّه ﴿عَلَيْهِصلى‌الله‌عليه‌وآله دون صاحبه ﴿وَأَيَّدَهُ﴾ وقومه في بدر وغيره من المواطن ﴿بِجُنُودٍ﴾ من الملائكة لإعانته على أعدائه ، وأنتم ﴿لَمْ تَرَوْها

عن الرضا عليه‌السلام (٣) : [ قيل له ] : إنّهم يحتجّون علينا بقول الله : ﴿ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ﴾ [ فقال عليه‌السلام ] : « وما لهم في ذلك من حجّة ، فو الله لقد قال الله : ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ﴾ وما

__________________

(١) المجادلة : ٥٨ / ٧.

(٢) تفسير الرازي ١٦ : ٦٤.

(٣) في النسخة : عن الصادق عليه‌السلام.

١٥٨

ذكره - يعني : أبا بكر - فيها بخير » . قيل : هكذا تقرأونها ؟ قال : « هكذا قرأتها » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، ﴿فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ﴾ قال : « ألا ترى أنّ السكينة [ إنّما ] نزلت على رسوله » (٢) .

أقول : الرّوايتان محمولتان على إرادة بيان مرجع ضمير ﴿عَلَيْهِ﴾ لا بيان أنّه كانت في الآية ﴿عَلى رَسُولِهِ﴾ بدل ﴿عَلَيْهِ﴾ فحرّفت.

ثمّ بيّن سبحانه نتيجة نصرته لرسوله بقوله : ﴿وَجَعَلَ﴾ الله بقدرته الكاملة ﴿كَلِمَةَ﴾ الشّرك التي قالها ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هي ﴿السُّفْلى﴾ والدّنيا أبدا إلى آخر الدّنيا ﴿وَكَلِمَةُ اللهِ﴾ وهي توحيده ، ورسالة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصحّة دينه ﴿هِيَ﴾ بالخصوص الكلمة ﴿الْعُلْيا﴾ والأقوى بحيث لا تعلو عليها كلمة باطل ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ﴾ وغالب على أمره ، وقادر على اضمحلال الباطل وتجلية الحقّ ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره وقضائه.

﴿انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ

 لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)

ثمّ أكّد سبحانه الأمر بالجهاد بقوله : ﴿انْفِرُوا﴾ أيّها المؤمنون ، واخرجوا إلى الجهاد جميعا ، حال كونكم ﴿خِفافاً وَثِقالاً﴾ وركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا ، أو أغنياء وفقراء ، أو أصحّاء ومرضى ، أو نشّاطا وغير نشّاط ، أو عزّابا ومتأهّلين ، أو مقلّين لسلاح أو مكثرين. وقيل يعني : على كلّ حال (٣) - ﴿وَجاهِدُوا﴾ الكفّار ﴿بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ وابذلوهما ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ونصرة دينه ﴿ذلِكُمْ﴾ الجهاد وبذل الأموال والأنفس ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وأنفع في الدّنيا والآخرة من تركه والاستراحة والاشتغال بلذّات الدّنيا ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ عواقب الامور ونتائج الأعمال ، وتدركون الخير والنّفع.

﴿لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ

 وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ

 لَكاذِبُونَ (٤٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد التّرغيبات الكثيرة إلى الجهاد ، والتّهديد على التخلّف عنه ، وبّخ المتخلّفين عنه

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٣٢ / ١٨٢٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٤.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٣٣ / ١٨٢٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٤.

(٣) تفسير أبي السعود ٤ : ٦٧.

١٥٩

والمتباطئين فيه بقوله : ﴿لَوْ كانَ﴾ ما دعيتم (١) إليه من غزوة تبوك ﴿عَرَضاً﴾ وغنما من أموال الدّنيا ﴿قَرِيباً﴾ إليهم ، وسهلا عليهم ﴿وَ﴾ كان ﴿سَفَراً قاصِداً﴾ ومتوسّطا لا تعب فيه ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ فيه ، وأطاعوا أمرك به طمعا في الغنيمة ﴿وَلكِنْ بَعُدَتْ﴾ مسافة تبوك وكثرت ﴿عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ والكلفة ، ولذا يتخلّفون عنك ، ويتقاعدون فيه ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ﴾ اعتذارا إليك بعد رجوعك إليهم فاتحا ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا﴾ وأمكننا الخروج من حيث التّهيئة وصحّة البدن ﴿لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ إلى السّفر والغزو ، وما تخلّفنا عنكم. وهم بتخلّفهم عن الغزو ، وعصيانهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحلفهم الكاذب ، ويمينهم الفاجرة ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ بالعذاب الدّنيوي والاخروي ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ﴾ في دعوى عدم استطاعتهم للخروج.

﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ

 الْكاذِبِينَ (٤٣)

ثمّ لمّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمورا بالرّفق والمداراة مع البرّ والفاجر ، فلهذا أذن للمنافقين في التخلّف رفقا ومداراة لهم وتقبّلا لأعذارهم ، أظهر الله سبحانه غاية الغضب عليهم بتوجيه العتاب إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإذن ، بعد المبالغة في تعظيم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلا بقوله : ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ﴾ حيث إنّ هذا الدّعاء - على ما قيل - كان شائعا في مقام تعظيم الأعاظم والملوك. ثمّ وجّه العتاب بقوله : ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ في التخلّف عنك في هذا الغزو ، ولم تتأنّ في الإذن ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ﴾ ويظهر ﴿لَكَ﴾ المعتذرون ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في اعتذارهم من عدم خروجهم إلى السّفر بعدم استطاعتهم للخروج من حيث المال والبدن ﴿وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ﴾ منهم في اعتذارهم ، فإنّك لو توقّفت في إذنهم لعلمت أن جميعهم كانوا كاذبين ، وافتضح كلّهم عندك بالنّفاق.

عن الباقر عليه‌السلام : « يقول لتعرف أهل العذر (٢) ، والذين جلسوا بغير عذر » (٣) .

وفي ( الجوامع ) : هذا من لطيف المعاتبة الذي بدأه بالعفو قبل العتاب ، ويجوز العتاب من الله فيما غيره [ منه ] أولى لا سيّما للأنبياء ، وليس كما قال جار الله من أنّه كناية عن الجناية ، وحاشا سيّد الأنبياء وخير بني حوّاء من أن ينسب إليه الجناية ، انتهى (٤) .

ومن التّفسير الذي ذكرنا يعلم أنّه لا يحتاج المقام إلى الالتزام بصدور خلاف الأولى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) في النسخة : ما دعوتم.

(٢) في تفسيري العياشي والصافي : الغدر.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٩٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٥.

(٤) جوامع الجامع : ١٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٥.

١٦٠