نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-761-7
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٥٢

عن العيّاشي : عن السجّاد عليه‌السلام : « لمّا عطش القوم يوم بدر ، انطلق عليّ عليه‌السلام بالقربة يستسقي وهو على القليب (١) ، إذ جاءت ريح شديدة ثمّ مضت فلبث ما بدا له ، ثمّ جاءت ريح اخرى [ ثمّ مضت ، ثمّ جاءت اخرى ] كادت أن تشغله وهو على القليب ، ثمّ جلس حتّى مضت ، فلمّا رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا الرّيح الاولى ففيها جبرئيل مع ألف من الملائكة ، والثّانية فيها ميكائيل مع ألف من الملائكة ، والثّالثة فيها إسرافيل مع ألف من الملائكة ، وقد سلّموا عليك ، وهم مدد لنا ، وهم الذين رآهم إبليس فنكص على عقبيه يمشي القهقرى حين يقول : ﴿إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ(٢) .

ثمّ قيل : إنّ قوما من الأوس والخزرج كانوا منافقين ، وأسلم قوم من قريش وكان في قلوبهم شكّ ، ولذا لم يهاجروا. ثمّ لمّا حثت (٣) قريش إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال اولئك : نخرج مع قومنا ، فإن كان محمّد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلّة أقمنا في قومنا (٤) .

فحكى الله تعالى قولهم حين رأوا قلّة المسلمين بقوله : ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ﴾ من الأوس والخزرج ﴿وَ﴾ يقول ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ الشكّ من قريش ، حين رأوا كثرة المشركين وقلّة المسلمين : ﴿غَرَّ هؤُلاءِ﴾ المسلمين ﴿دِينُهُمْ﴾ عن ابن عبّاس رضى الله عنه : معناه أنّه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل ، وما ذلك إلّا أنّهم اعتمدوا على دينهم (٥) .

وقيل : معناه أنّ هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ، ويثابون على هذا القتل (٦) .

وقيل : إنّهم قالوا : هؤلاء المؤمنون خرجوا مع قلّة عدهم لحرب قريش مع كثرتهم وشوكتهم ، ولا شكّ أنّ قريشا تغلبهم. فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ ويثق به ، ويسلّم إليه اموره ﴿فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ﴾ وغالب على أمره ، لا يخذل من توكّل عليه واستجار به ﴿حَكِيمٌ﴾ في فعاله ، يفعل ما فيه صلاح خلقه وإن كان خارقا للعادة.

وقد سبق عن القمّي : أنّ فتية من قريش أسلموا بمكّة. فاحتبسهم آباؤهم ، فخرجوا مع قريش إلى بدر وهم على الشكّ والارتياب والنّفاق ؛ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه ، والحارث بن ربيعة ، وعلي بن اميّة بن خلف ، والعاص بن المنبّه ، فلمّا نظروا إلى قلّة أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : مساكين هؤلاء غرّهم دينهم ، فيقتلون السّاعة. فأنزل الله [ على رسوله ] : ﴿إِذْ يَقُولُ

__________________

(١) القليب : البئر.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٠٣ / ١٧٥٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٠٨.

(٣) في النسخة : حث.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ١٥ : ١٧٦.

(٦) تفسير الرازي ١٥ : ١٧٧.

١٠١

الْمُنافِقُونَ(١) إلى آخره.

﴿وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ

 وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ

 لِلْعَبِيدِ(٥٠) و (٥١)

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة موت المشركين في بدر وتعذيبهم ، بقوله : ﴿وَلَوْ تَرى﴾ يا محمّد ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ويقبض أرواحهم ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ الموكّلون على قبض الأرواح ، وهم بعد قبض أرواحهم ﴿يَضْرِبُونَ﴾ بمقامع من حديد تلتهب منها النّار - على ما قيل - ﴿وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ﴾ وظهورهم - وعن العيّاشي : إنّما أراد وأستاههم (٢) ، إنّ الله كريم يكنّي (٣) - ﴿وَ﴾ يقولون : ﴿ذُوقُوا﴾ واطعموا أيّها المشركون بعد القتل والخزي في الدّنيا ﴿عَذابَ الْحَرِيقِ﴾ وألم النّار المحرقة.

عن ابن عبّاس : قول الملائكة : ﴿ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ﴾ إنّما صحّ لأنّه كان مع الملائكة مقامع كلّما ضربوا بها التهبت النّار في الأجزاء والأبعاض (٤) .

ثمّ بيّن سبحانه علّة استحقاقهم بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الضّرب ، وذوقهم عذاب النّار ، يكون ﴿بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وما كسبت جوارحكم باختياركم ؛ من الشّرك والمعاصي ، ومعارضة الرّسول ﴿وَ﴾ بسبب ﴿أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ يعطي كلّا ما يستحقّه ، فلا يدخل المطيع النّار ، ولا المسيء الجنّة.

﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ

 اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)

ثم بيّن سبحانه أنّ عادة قريش ودأبهم في معاندة الحقّ ، ومعارضة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وسيرتهم في تكذيب آيات الله ومعجزات الّرسول ، تكون كسيرتهم.

ثمّ كأنّه قيل : ما كان دأب آل فرعون وأضرابهم ؟ فأجاب بقوله : ﴿كَفَرُوا﴾ وكذّبوا ﴿بِآياتِ اللهِ﴾ ومعجزات رسله ﴿فَأَخَذَهُمُ اللهُ﴾ وعذّبهم بالغرق والرّيح والصّاعقة ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ الموبقة ، كما أخذ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٦٦.

(٢) الاست : العجز.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٠٩.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ١٧٨.

١٠٢

هؤلاء المشركين بالقتل والخزي ، بشركهم ومعارضتهم الرّسول ﴿إِنَّ اللهَ قَوِيٌ﴾ لا يعجزه شيء ﴿شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ على المشركين به ، المعارضين لرسله. وفيه تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتهديد سائر الكفّار.

﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ

 اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)

ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم ابتلاء العاصي قبل المعصية بالعذاب ، وعدم أخذه بالشّقاوة الذاتيّة التي تكون له في بطن امّه ، بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ التّعذيب بعد النّعمة ، والأخذ بعد الاسترسال ، معلّل ﴿بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ﴾ من دأبه ومقتضى حكمته أن يكون ﴿مُغَيِّراً﴾ ومبدّلا ﴿نِعْمَةً أَنْعَمَها﴾ وتفضّل بها ﴿عَلى قَوْمٍ﴾ من العقل والصحّة ، والرّاحة وسعة العيش ، وغيرها ﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ من الأحوال والأخلاق والأعمال التي كانوا عليها حين وجدان تلك النّعمة ، إلى أسوأها ، كما غيّرت قريش حالها (١) في صلة الرّحم وعدم التعرّض للآيات ، إلى قطع الرّحم والتّكذيب بالآيات ومعجزات الرّسول ، ﴿وَ﴾ نظائرها ﴿أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ لما يقولون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يفعلون في السّابق واللّاحق ، فيرتّب على كلّ منهما ما يليق به من إبقاء النّعمة عليه وتغييرها.

﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

 وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا

 فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ

 لايَتَّقُونَ (٥٤) و (٥٦)

ثمّ أكّد سبحانه مشابهة دأب مشركي قريش بدأب كفّار الامم السّابقة بقوله : ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ كقوم نوح وعاد وثمود ، من حيث إنّهم ﴿كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ المنعم عليهم ، وجحدوها ﴿فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ كما أهلكنا عتاة قريش ﴿وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ ومن معه من القبط في البحر ﴿وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ﴾ على الله (٢) بتضييع حقوق نعمه ، وعلى أنفسهم بتعريضها للهلاك.

قيل : هذه الآية تفصيل للآية الأولى (٣) .

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مساواة الكفّار في الظّلم ، بيّن أنّ شرّهم الناقضون للعهد ، بقوله : ﴿إِنَّ شَرَّ

__________________

(١) في النسخة : حالهم.

(٢) في النسخة : على أنّه.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ١٨١.

١٠٣

 الدَّوَابِ﴾ والحيوانات المتحرّكة (١) على وجه الأرض ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي حكمه ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ﴿فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أبدا ، لخبث ذاتهم ، وشدّة عنادهم ولجاجهم ﴿الَّذِينَ عاهَدْتَ﴾ بعضا ﴿مِنْهُمْ﴾ مرّات ﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ﴾ ويخالفون ﴿عَهْدَهُمْ﴾ الذي أخذت منهم ﴿فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ من مرّات المعاهدة ﴿وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ الله ، ولا يحترزون سيّئة الغدر ، ولا يبالون العار والنّار.

عن ابن عبّاس : هم يهود قريظة (٢) .

قيل : إنّهم عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا يعينوا عليه عدوّا ، فنقضوا [ العهد ] وأعانوا أهل مكّة يوم بدر بالسّلاح ، ثمّ قالوا : نسينا وأخطأنا ، ثمّ عاهدهم عليه مرّة اخرى فنكثوا وأعانوا المشركين عليه يوم الخندق ، وذلك أنّهم لمّا رأوا غلبة المسلمين على المشركين يوم بدر قالوا : إنّه هو النبيّ الموعود ، بعثه [ الله ] في آخر الزّمان ، فلا جرم يتمّ أمره ، ولا يقدر أحد على محاربته ، ثم [ أنهم ] لمّا رأوا يوم احد ما وقع من نوع ضعف المسلمين شكّوا ، وقد كان احترق كبدهم بنار الحسد من ظهور دينه وقوّة أمره ، فركب كعب بن أسد سيّد بني قريظة مع أصحابه إلى مكّة ، وواثقوا المشركين على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأدّى ذلك إلى غزوة الخندق (٣) .

وعن القمّي : هم أصحابه الذين فرّوا يوم احد (٤) .

﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخافَنَّ

 مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٧) و (٥٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار النّاقضين للعهد بأنّهم شرّهم ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّغليظ والتشديد عليهم ، بقوله : ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ وتظفرنّ بهم ﴿فِي﴾ تضاعيف ﴿الْحَرْبِ﴾ والقتال ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾ وفرّق بسبب قتلهم وتنكيلهم ﴿مَنْ﴾ يكون ﴿خَلْفَهُمْ﴾ ومن ورائهم من أعدائك ، وأوقع بالناقضين من النّكاية والقهر ما يضطرب به حال غيرهم من الكفّار ، ويخاف منك أمثالهم ، بحيث يذهب عنهم بالكليّة ما يخطر ببالهم من معاداتك ومحاربتك ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ ويتّعظون بما شاهدوا من معاملتك مع النّاقضين ، فيرتدعوا من نقض العهد ﴿وَإِمَّا تَخافَنَ﴾ وتعلمنّ بالأمارات ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ عاهدوك على أمر ﴿خِيانَةً﴾ ونقض عهد ﴿فَانْبِذْ﴾ واطرح ﴿إِلَيْهِمْ﴾ عهدهم ﴿عَلى سَواءٍ﴾ وبطريق الاقتصاد ، بأن تخبرهم إخبارا واضحا بأنّك ألغيت عهدهم ، وقطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ، ولا

__________________

(١) في النسخة : المتحركين.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٢.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٣٦٢.

(٤) تفسير القمي ١ : ٣٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١١.

١٠٤

تقدم على حربهم في حال كونهم على توهّم بقاء العهد ، كي لا يتوهّم في حقّك شائبة الخيانة ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ﴾ وفي هذا التذييل (١) دلالة على قبح الخيانة ومبغوضيّتها لله مطلقا ، سواء كانت في العهد أو غيره ، مع الرّسول أو مع غيره. القمّي : نزلت في معاوية لمّا خان أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) .

﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتشديد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على النّاقضين للعهد ومعاملته معهم معاملة يعتبر بها غيرهم ، وقد فاته تعالى يوم بدر بعض من بلغ في أذيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقض عهده مبلغا عظيما ، سلّاه سبحانه ووعده بالظّفر بهم ، لئلّا يبقى في قلبه الشّريف حسرة ، بقوله : ﴿وَلا يَحْسَبَنَ﴾ ولا يتوهّم (٣)﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ونقضوا عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يظفر بهم أنّهم ﴿سَبَقُوا﴾ وأفلتوا من أن يعاقبوا ، فليعلموا ﴿إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ﴾ الله من أن يظهر بعد ، أو المراد : لا يجدون الله الذي هو طالبهم عاجزا من إدراكهم.

وقيل : إنّ المراد أنّهم لا يحسبوا بتخلّصهم من الأسر والقتل أنّهم يخلصون من عقاب الله وعذابه في الآخرة ، إنّهم لا يعجزون الله بهذا السّبق والتخلّص ، من الانتقام منهم في الآخرة.

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ

 وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي

 سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)

ثمّ أنه تعالى لمّا أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتشريد النّاقضين للعهد ، ونقض عهد من يخاف منه النّقض ، أمر المؤمنين بالإعداد لهؤلاء الكفّار والتهيؤ لقتالهم ، بقوله : ﴿وَأَعِدُّوا﴾ لقتال الكفّار وهيّئوا ﴿لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وما بلغ وسعكم ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ وعدّة ، كائنا ما كان من سلاح وقسيّ وترس وغيرها.

قيل : إنّه لمّا اتّفق لأصحاب (٤) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضية (٥) بدر أن قصدوا الكفّار بلا آلة ولا عدّة ، أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله ، وأن يعدّوا [ للكفار ] ما يمكنهم من آلة وقوّة (٦) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قرأ هذه الآية على المنبر وقال « ألا أنّ القوّة الرّمي » ثلاثا (٧) . وقيل : هي الحصون (٨) .

__________________

(١) في النسخة : التذليل.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١١.

(٣) في النسخة : ولا يتوهن.

(٤) في تفسير الرازي : أصحاب.

(٥) في تفسير الرازي : قصة.

(٦) تفسير الرازي : ١٥ / ١٨٥.

(٧) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٥ ، تفسير أبي السعود ٤ : ٣٢.

(٨) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٥.

١٠٥

وعن الصادق عليه‌السلام : « سيف وترس » (١) . وفي الفقيه : عنه عليه‌السلام : « منه الخضاب بالسّواد » (٢) .

وعن القمّي : السّلاح (٣) .

وقيل : عامّ ، في كلّ ما يتقوّى به على حرب العدوّ (٤) من الآلات ، والحصون ، والعلوم المربوطة به.

﴿وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾ وأفراس مربوطة في سبيل الله. وعن عكرمة : الإناث منه (٥) .

وروي : عليكم بإناث الخيل ، فإنّ ظهورها حرز وبطونها كنز (٦) .

وفي الحديث : « من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا به وتصديقا بوعده ، فإنّ شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه [ يوم القيامة ] » (٧) .

ثمّ بيّن سبحانه علّة إيجاب الإعداد للحرب بقوله : ﴿تُرْهِبُونَ﴾ بالإعداد وترعبون ﴿بِهِ﴾ كفّار قريش الّذين يكونون ﴿عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ لكونكم أولياء الله ﴿وَ﴾ أعداء ﴿آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ وممّن عداهم من الكفرة ؛ كاليهود والنّصارى والمنافقين ﴿لا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ ولا تعرفونهم جميعا لنفاقهم ﴿اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ ويعرفهم.

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بتحصيل القوّة للحرب ، رغّب المسلمين ببذل المال [ بقوله : ]﴿وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ووجوه الخير التي أهمّها الجهاد ﴿يُوَفَ﴾ ويوصل ﴿إِلَيْكُمْ﴾ جزاؤه كاملا في الآخرة ﴿وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ بترك الإثابة أو تنقيصها.

عن ابن عبّاس قال : ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أي لا يضيع في الآخرة أجره ، ويعجّل الله عوضه في الدّنيا (٨) ، ﴿وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ أي لا تنقصون من الثّواب.

وروي أنّه « من أعان مجاهدا في سبيل الله ، أو غارما ف عسرته ، أو في مكاتبا في رقبته ، أظلّه الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه » (٩) .

﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالإعداد للحرب ، أمر بإجابة الكفّار إذا سألوا الصّلح بقوله : ﴿وَإِنْ جَنَحُوا﴾ ومالوا ﴿لِلسَّلْمِ﴾ والمصالحة وطلبوها منك ﴿فَاجْنَحْ لَها﴾ ومل إليها إن رأيت الصّلاح فيها ﴿وَتَوَكَّلْ

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٧٠ / ٢٨٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٢.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٢.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ١٥ : ١٨٥.

(٦) تفسير روح البيان ٣ : ٣٦٥.

(٧) تفسير روح البيان ٣ : ٣٦٥.

(٨) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٧.

(٩) تفسير روح البيان ٣ : ٣٦٦.

١٠٦

عَلَى اللهِ﴾ وفوّض الأمر في معاهدتك معهم إليه ، فإنّه ينصرك عليهم إذا نقضوها وعدلوا عن الوفاء بها ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ لمقالاتهم الخفيّة الخداعية ، وبضمائرهم السيّئة من إبطانهم المكر في الصّلح.

قيل : إنّها منسوخة بقوله : ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ(١) ، وقوله : ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ(٢) .

وعن القمّي : أنّها منسوخه بقوله : ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ(٣) .

أقول : في الجميع نظر.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : ما السّلم ؟ قال : « الدّخول في أمرنا » (٤) .

أقول : الرّواية مناسبة لقوله : ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً(٥) ، ولا ربط لها بهذه الآية.

﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ

* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ

 وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٢) و (٦٣)

ثمّ أكّد سبحانه وجوب التوكّل عليه عند الخوف من نقضهم العهد بقوله : ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾ في طلب الصّلح ، ويمكروا بك بنقض العهد ، فلا تبال بهم ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ وكفاك من شرّهم ، وينصرك عليهم ، فإنّه تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ﴾ وقوّاك ﴿بِنَصْرِهِ﴾ يوم بدر وغيره من أيّام عمرك ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ من المهاجرين والأنصار بعد بعثتك ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ بعد أن كان بينها من التّباعد والبغضاء قبل الإيمان بك ، بحيث ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ لتؤلّف قلوبهم ﴿ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ لا متناعه بالأسباب العاديّة ﴿وَلكِنَّ اللهَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ قلبا وقالبا ، فصاروا بقدرته وتوفيقه كنفس واحدة ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ﴾ وغالب على أمره ، لا يستعصي شيء ممّا يريد ﴿حَكِيمٌ﴾ وعالم بمصالح الأمور وتدابيرها.

القمّي : كان بين الأوس والخزرج حرب شديدة وعداوة في الجاهلية ، فألّف الله بين قلوبهم ونصر بهم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

__________________

(١) التوبة : ٩ / ٥.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٧ ، والآية من سورة التوبة : ٩ / ٢٩.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٢ ، والآية من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٤٧ / ٣٥.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٢.

(٥) البقرة : ٢ / ٢٠٨.

(٦) تفسير القمي ١ : ٢٧٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٣.

١٠٧

قيل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى قوم أنفتهم شديدة ، وحميّتهم عظيمة ، حتّى لو لطم رجل من قبيلة لطمة ، قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ، ثمّ انقلبوا من تلك الحالة حتّى قاتل الرّجل [ أخاه و] أباه وابنه واتفقوا على طاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصاروا أنصارا ، وعادوا أعوانا (١) .

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد ما وعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصر عند خديعة الأعداء ، وعده بالنّصر في جميع الأوقات ، وعلى جميع الكفار بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ﴾ وكافيك في دفع شرّ أعدائك ، ﴿وَ﴾ كافيك ﴿مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقيل : إنّ المعنى : أنّ الله كافيك وكافي أتباعك (٢) .

قيل : نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال تقوية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتسلية لأصحابه (٣) .

وقيل : لمّا أسلم عمر وبلغ بإسلامه عدد المؤمنين أربعين نزلت الآية (٤) .

وفي ( نهج الحقّ ) : روى الجمهور أنّها نزلت في عليّ عليه‌السلام (٥) . وذكره (٦) صاحب ( كشف الغمّة ) عن كتاب عزّ الدين بن عبد الرزّاق المحدّث الحنبلي (٧) .

﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ

 يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ

 لا يَفْقَهُونَ (٦٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد تقوية قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بتحريض المؤمنين على القتال بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وحثّهم ﴿عَلَى الْقِتالِ﴾ مع أعداء الله ، وبالغ في ترغيبهم إليه بوعد الثّواب العظيم على فعله ، والعقاب الشّديد على القعود عنه ، وقل لهم : ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿عِشْرُونَ صابِرُونَ﴾ على المنازلة في معركة القتال ﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ من الذين كفروا ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾ صابرة ﴿يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهذا الضّعف في الكفّار معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ ولا يدركون الحقّ ، ولا يعرفون الله ، ولا يعتقدون باليوم الآخر حتّى يقاتلوا تقرّبا (٨) إلى الله ، وتوكّلا (٩) عليه ، ورجاء للثّواب ، بل يقاتلون بهوى النّفس ، وبالأغراض الدّنيويّة ، ولذا يستحقّون الخزي والقتل ، ولا يستحقّون النّصر.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ١٨٩.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١٩١.

(٣ و٤) . تفسير روح البيان ٣ : ٣٦٨.

(٥) نهج الحق : ١٨٥.

(٦) في النسخة : وذكر.

(٧) كشف الغمة ١ : ٣١٢.

(٨) في النسخة : متقربا.

(٩) في النسخة : ومتوكلا.

١٠٨

وقيل : إذا كانوا يقاتلون لهذه (١) الأغراض الفاسدة يشحّون على أنفسهم وحياتهم ، ولا يعرّضونها للزّوال ؛ ولذا أمر المسلمون بالثّبات في مقابل عشر أمثالهم منهم.

﴿الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا

 مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ

 الصَّابِرِينَ (٦٦)

ثمّ لمّا شقّ التّكليف على المسلمين حتّى ضجّ المهاجرون - كما عن ابن عبّاس - وقالوا : يا ربّ ، نحن جياع وأعداؤنا شباع ، ونحن في غربة وأعداؤنا في أهليهم ، ونحن قد اخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وأعداؤنا ليسوا كذلك. وقال الأنصار : شغلنا بعدوّنا ، وواسينا إخواننا ، فنزل التّخفيف (٢) بقوله : ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ﴾ برفع التّكليف السّابق ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾ عن المقاومة في قبال عشر أمثالكم بأن يقاتل الواحد عشرا ، والعشرة مائة ، والمائة ألفا ﴿فَإِنْ يَكُنْ﴾ من بعد ﴿مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ﴾ على مشاقّ الحرب ، ثابتة الأقدام في معركة النّزال ﴿يَغْلِبُوا﴾ ويقهروا ﴿مِائَتَيْنِ﴾ من الكفّار ﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ﴾ في ميدان القتال ﴿يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ من الكفّار ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ وقدرته وتيسيره وتسهيله ﴿وَاللهُ﴾ بنصره وتأييده ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ في جهاد أعدائه.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث العشرة إلى وجه المائة ، وبعث حمزة رضى الله عنه في ثلاثين راكبا قبل بدر إلى قوم ، فلقيهم أبو جهل في ثلاثمائة راكب ، وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة ، فابتدر عبد الله وقال : يا رسول الله ، صفه لي ، فقال : « إنّك إذا رأيته ذكرت الشّيطان ، ووجدت لذلك قشعريرة ، وقد بلغني أنّه جمع لي ، فاخرج إليه واقتله » ، قال : فخرجت نحوه ، فلمّا دنوت منه وجدت القشعريرة ، فقال لي : من الرّجل ؟ قلت له : من العرب ، سمعت بك وبجمعك. ومشيت معه حتّى إذا تمكّنت منه قتلته بالسّيف ، وأسرعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكرت أنّي قتلته ، فأعطاني عصا وقال : « أمسكها ، فإنّها آية بيني وبينك يوم القيامة » (٣) .

ثمّ إنّ هذا التّكليف شقّ على المسلمين فأزاله الله بهذه الآية.

وقال ابن عبّاس : أيّما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفرّ ، فإنّ فرّ من اثنين فقد فرّ (٤) . وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

__________________

(١) في النسخة : بهذه.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ١٩٤.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ١٩٤.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ١٩٤.

١٠٩

« من فرّ من رجلين في القتال من الزّحف فقد فرّ من الزّحف ، ومن فرّ من ثلاثة رجال [ في القتال من الزّحف ] فلم يفرّ » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في حديث ذكر فيه هذه الآية فقال : « نسّخ الرّجلان العشرة » (٢) .

قيل : كان فيهم قلّة أوّلا ، فأمروا بذلك ، ثمّ لمّا كثروا خفّف الله عنهم.

أقول : يشمّ ذلك من الآيتين ، حيث ذكر في الآية الاولى غلبة العشرين على مائتين ، ومائة على ألف ، وفي الثّانية غلبة مائة على مائتين ، وألف على ألفين.

﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا

 وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حكم الجهاد ، والأمر بالمسالمة إذا طلبها الكفّار ، بيّن حكم الأسارى والغنائم بقوله : ﴿ما كانَ لِنَبِيٍ﴾ من الأنبياء ، وما صحّ له ﴿أَنْ يَكُونَ﴾ ويثبت ﴿لَهُ أَسْرى﴾ وسبايا ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ ويكثر القتل ويبالغ فيه ، حتّى يذلّ الكفر ويقلّ حزبه ويعزّ الإسلام.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أتي يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العبّاس بن عبد المطّلب وعقيل بن أبي طالب ، فاستشار فيهم ، فقال أبو بكر : [ هم ] قومك وأهلك ، استبقهم لعلّ الله يهديهم إلى الإسلام ، وخذ منهم فدية تقوّي بها أصحابك. وقال عمر : كذّبوك ، وأخرجوك من ديارك ، وقاتلوك ، فاضرب أعناقهم ، فإنّهم أئمّة الكفر ، مكّنّي من فلان ؛ نسيب لي ، و[ مكّن ] عليا من عقيل ، وحمزة من العبّاس ، فلنضرب أعناقهم فلم يهو ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « إنّ الله ليليّن قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّبن ، وإنّ الله ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة ، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٣) ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال : ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً(٤) .

فخيّر أصحابه بأن قال لهم : « إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم أطلقتموهم ، بأن تأخذوا من كلّ أسير عشرين اوقية - والاوقية أربعون درهما في الدّراهم ، وستّة دنانير في الدّنانير - على (٥) أن يستشهد منكم بعدّتهم » ، فقالوا : بل نأخذ الفداء ويدخل منّا الجنّة سبعون ، فاستشهدوا يوم أحد بسبب قولهم هذا وأخذهم الفداء ، فنزلت الآية في فداء اسارى بدر ، فدخل عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو وأبو بكر

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٠٧ / ١٧٥٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٣.

(٢) الكافي ٥ : ٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٣.

(٣) إبراهيم : ١٤ / ٣٦.

(٤) نوح : ٧١ / ٢٦.

(٥) في تفسير روح البيان : إلّا.

١١٠

يبكيان ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني ، فإن أجد بكاء أبكي وإلّا تباكيت ، فقال : « أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة » (١) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا تخرجوا أحدا منهم إلّا بفداء ، أو بضرب عنق » ، فقال ابن مسعود : إلّا سهيل (٢) بن بيضاء ، فإنّي سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واشتدّ خوفي ، ثمّ قال من بعد : « إلّا سهيل بن بيضاء » (٣) .

وعن ابن سيرين : كان فداؤهم مائة اوقية (٤) .

ونقل : أنّ الأسرى منهم من فدي ، ومنهم من قتل ، ومنهم من خلّي سبيله من غير فداء ، ومنهم من مات (٥) .

ثمّ لا مهم سبحانه على أخذ الفداء بقوله : ﴿تُرِيدُونَ﴾ أيّها المؤمنون بأسرهم وأخذ الفداء منهم ﴿عَرَضَ الدُّنْيا﴾ وزخارفها التي تزول ولا تبقى ﴿وَاللهُ يُرِيدُ﴾ لكم ﴿الْآخِرَةَ﴾ وثوابها الذي يكون قليله خيرا من الدّنيا وما فيها ، فعليكم بطلب الآخرة ﴿وَاللهُ عَزِيزٌ﴾ وقادر يجمع لكم الدّنيا والآخرة ، ويغلّبكم على أعدائكم ﴿حَكِيمٌ﴾ بحكمته يدبّر مصالح عباده وأوليائه.

قيل : إنّ الله أمرنا بالإتخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشّوكة للمشركين ، ولمّا تحوّلت الحال وصارت الغلبة للمسلمين ، خيّر بين المنّ والفداء (٦) .

في الردّ على القول بعمل الأنبياء باجتهاد

قال بعض العامّة : الآية دالّة على أنّ الأنبياء مجتهدون ، لأنّ اللّوم لا يكون على ما صدر عن الوحي ، ولا على فعل ما هو صواب ، بل يكون على ما كان خطأ (٧) .

وفيه : أنّه بعد ما ثبت عصمة النبيّ بالأدلّة العقليّة والنقليّة عن الخطأ لا يمكن نسبته إليه ، فلا بدّ من القول بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالما بخطأ الصّحابة في الإصرار بأخذ الفداء ، ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا كان رحمة للعالمين كان مأمورا بموافقتهم وعدم تخطئتهم ، كي تنزل آية فيها تخطئتهم والعتاب عليهم ، ويظهر للمسلمين أنّ أبا بكر وأضرابه كانوا طالبين للدّنيا دون الآخرة.

﴿لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ

 حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ

 مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ١٩٧ ، تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٢.

(٢) في النسخة : إسماعيل ، وكذا ما بعدها.

(٣ و٤) . تفسير الرازي ١٥ : ١٩٨.

( ٥و٧ ) . تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٣.

١١١

لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ

 مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٨) و (٧١)

ثمّ عاتبهم الله على أخذ الفداء بقوله : ﴿لَوْ لا كِتابٌ﴾ وحكم وقضاء ﴿مِنَ اللهِ سَبَقَ﴾ بحلّ الغنائم ، أو بأن لا يعذّب من أذنب بجهالة ، أو بأن يمهل طالبي الدّنيا حتّى يقوم بهم الاسلام ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ ولأصابكم ﴿فِيما أَخَذْتُمْ﴾ من الفداء وبسببه ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ

ثمّ روي أنّ الصّحابة لمّا عوتبوا على أخذ الفداء أمسكوا عن الغنائم (١) ، حتّى صرّح الله سبحانه بحلّها لهم بقوله : ﴿فَكُلُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ واستفدتم من أمتعة الكفّار وأموالهم في الحرب ، حال كونه ﴿حَلالاً﴾ ومباحا لكم من الله و﴿طَيِّباً﴾ وغير مكروه لطباعكم ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفة أحكامه ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ لمن فرّط منكم في استباحة الفداء قبل إذنه ﴿رَحِيمٌ﴾ بكم بإحلاله الغنائم لكم ، مع أنّها كانت محرّمة على الامم الذين من قبلكم.

عن ابن عبّاس : كانت الغنائم حراما على الأنبياء ، فكانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للقربان ، فكانت تنزل النّار من السّماء فتأكله ، ولله عنايات بهذه الامّة لا تحصى (٢) .

ثمّ أنّه روي أنّه اسر العبّاس بن عبد المطّلب يوم بدر ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام من خرج من مكّة لحماية العير ، وكان قد خرج بعشرين اوقيّة من ذهب ليطعم بها الكفّار ، فوقع القتال قبل أن يطعم بها ، وبقيت العشرون اوقيّة معه ، فأخذت منه في الحرب ، فكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يحتسب العشرين أوقيّة من فدائه ، فأبى صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « إنّما هو شيء خرجت به لتستعين به علينا ، فلا أتركه لك » . فكلّفه أن يفدي نفسه بمائة اوقيّة زائدا على فداء غيره لقطع الرّحم ، وكلّفه أن يفتدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، كلّ واحد بأربعين أوقيّة ، فقال : يا محمّد ، تتركني أتكفّف قريشا ما بقيت !

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فأين [ الذهب ] الذي دفعته إلى امّ الفضل وقت خروجك من مكّة ، وقلت لها : إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم ؟ » فقال العبّاس : وما يدريك ؟ قال : « أخبرني به ربّي » ، قال : أشهد أنّك صادق ، وأن لا إله إلّا الله ، وأنّك رسول الله ، والله لم يطّلع عليه أحد إلّا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد اللّيل ، ولقد كنت مرتابا في أمرك ، وأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب (٣) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٢٠٣.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٤.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٥.

١١٢

فنزلت ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى﴾ كالعبّاس وغيره : ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ من الإيمان والخلوص والنّصح للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ ويعطيكم في الدّنيا وفي الآخرة ، أو فيهما من الثّواب ما يكون ﴿خَيْراً﴾ وأفضل ﴿مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ من الفداء والغنيمة ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنوبكم التي سلفت منكم ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لذنوب المذنبين ﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده المؤمنين.

عن السجّاد عليه‌السلام قال : « أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمال دراهم (١) فقال : يا عبّاس ابسط رداءك وخذ من هذا المال طرفا ، فبسط رداءه وأخذ طائفة منه ، ثمّ قال رسول الله : هذا من الذي قال الله : ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ... مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ(٢) .

وروي أنّ العبّاس قال : فأبدلني الله خيرا ممّا اخذ منّي ، لي الآن عشرون عبدا ، وإنّ أدناهم ليضرب - أي يتّجر - في عشرين ألف درهم ، وأعطاني سقاية زمزم ، ما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال أهل مكّة ، أنجز الله لي أحد الوعدين ، وأنا أرجو أن ينجز لي الوعد الثّاني (٣) .

وروي أنّه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مال البحرين ثمانون ألفا ، فتوضّأ لصلاة الظّهر وما صلّى حتّى فرّقه ، وأمر العبّاس أن يأخذ منه ، فأخذ ما قدر على حمله ، وكان يقول : « هذا خير ممّا أخذ منّي ، وأنا أرجو المغفرة » (٤) .

﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ﴾ بأن عزموا على الثّبات على الكفر ، وعدم الوفاء بما ضمنوا من الفداء ، أو بما عاهدتهم (٥) عليه من عدم العود إلى محاربتك ، وإلى معاهدة المشركين ، فليس بدعا منهم ﴿فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ﴾ بما أقدموا عليه من محاربتك يوم بدر ﴿فَأَمْكَنَ﴾ الله المؤمنين ﴿مِنْهُمْ﴾ قتلا وأسرا. وفيه بشارة للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتمكينه من كلّ من يخونه وينقض عهده. وعن القمّي رحمه‌الله : ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ﴾ في عليّ ، فقد خانوا الله من قبل فيك (٦)﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بضمائرهم من إبطان الخلوص والصّدق ، والخيانة والغدر ﴿حَكِيمٌ﴾ في فعاله ، يراعي ما هو صلاح مملكته ، ويجازيهم على حسب استحقاقهم.

وفي رواية عاميّة : أنّ العبّاس كان قد أسلم قبل وقعة بدر ، ولكن لم يظهر إسلامه ، لأنّه كان له ديون متفرّقة في قريش ، وكان يخشى إن أظهر الإسلام ضياعها ، وإنّما كلّفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الفداء ، لأنّه كان عليه ظاهرا لا له ، ولمّا كان يوم فتح مكّة وقهرهم الإسلام أظهر إسلامه ، ولم يظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلامه رفقا

__________________

(١) في النسخة : بمأتي درهم.

(٢) قرب الإسناد : ٢١ / ٧٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٥.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٦.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ٢٠٤.

(٥) في النسخة : عاهدتم.

(٦) تفسير القمي ١ : ٢٦٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٥.

١١٣

به ، كيلا يضيع ماله عند قريش ، وكان قد استأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الهجرة ، فكتب إليه : « يا عمّ أقم مكانك الذي أنت فيه ، فإنّ الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة » فكان كذلك (١) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ

 آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ

 مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ

 النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان قضيّة بدر وثبات المؤمنين فيها ، وبيان أحكام الجهاد والغنيمة والأسر ، شرع في مدح المؤمنين وذكر أقسامهم ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله وكتابه ﴿وَهاجَرُوا﴾ أوطانهم وأهليهم للالتزام بخدمة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيام بطاعته ﴿وَجاهَدُوا﴾ أعداء الله ﴿بِأَمْوالِهِمْ﴾ بأن صرفوها إلى المحتاجين ولوازم الجهاد ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ بأن باشروا القتال ، وخاضوا فى المهالك ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ وطلبا لنصرة دينه ، وحبّا لرسوله ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا﴾ وأسكنوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمهاجرين في بلدهم ومأواهم ﴿وَنَصَرُوا﴾ هم على أعدائهم ، وعاونوهم على مقاصدهم ﴿أُولئِكَ﴾ المؤمنون بتلك الصّفات الفائقة ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ﴾ ووارث ﴿بَعْضٍ

القمّي : لمّا هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة آخا بين المهاجرين والمهاجرين ، وبين الأنصار والأنصار ، وبين المهاجرين والأنصار ، وكان إذا مات الرّجل يرثه أخوه في الدّين ويأخذ المال ، وكان له ما ترك دون ورثته ، فلمّا كان بعد بدر أنزل الله : ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(٢) فنسخت آية الاخوّة ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(٣) .

وفي ( المجمع ) عن الباقر عليه‌السلام : « أنّهم كانوا يتوارثون بالمواخاة الاولى (٤) ، دون التّقارب ، حتّى نسخ ذلك [ بقوله ] : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(٥) .

وعن ابن عبّاس : المراد هو الولاية في الميراث ، وقال : جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنّصرة دون القرابة ، وكان القريب إذا آمن ولم يهاجر لم يرث ، من أجل أنّه لم يهاجر ولم ينصر (٦) .

كما بيّن الله ذلك بقوله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا﴾ كسائر المؤمنين ﴿ما لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٣٧٦.

(٢) الأحزاب : ٣٣ / ٦.

(٣) تفسير القمي : ١ : ٢٨٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٥.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٨٦٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٦.

(٥) تفسير الصافي ٢ : ٣١٦.

(٦) تفسير الرازي ١٥ : ٢٠٩.

١١٤

﴿مِنْ وَلايَتِهِمْ﴾ في الميراث ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ وإن كانوا أقرب أقاربكم ﴿حَتَّى يُهاجِرُوا

ثمّ لمّا كان مجال توهّم وجوب القطع منهم في جميع الجهات كالكفّار ، دفعه الله سبحانه بقوله : ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾ واستعانوا بكم (١) على من يعاديهم ﴿فِي الدِّينِ﴾ من الكفّار ﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ لهم ، وليس لكم أن تخذلوهم ﴿إِلَّا﴾ إذا استنصروكم ﴿عَلى قَوْمٍ﴾ من الكفّار الذين ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾ وعهد على أن لا تقاتلوهم ، فإنّه لا يجوز لكم نصر المؤمنين عليهم في هذه الصّورة ؛ لأنّ حرمة نقض الميثاق مانعة منه ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من الطّاعة والعصيان لأحكامه ﴿بَصِيرٌ﴾ ومطّلع فيجازيكم على ما صدر عنكم على حسب استحقاقكم.

وروي أنّ لمّا نزل قوله تعالى : ﴿ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا﴾ قام الزّبير وقال : فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا ؟ فنزل ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾ الآية (٢) .

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣)

ثمّ نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفّار ومعاونتهم بأيّ وجه ، وإن كانوا أقرب الأقارب بقوله :

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ليسوا أولياءكم لانقطاع العلاقة بينكم وبينهم بالإسلام ، بل ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ لاشتراكهم في السّنخيّة ، واتّفاقهم على الباطل ومعاداة الرّسول ومعارضته ، فيجب عليكم التّباعد منهم والتّعاند معهم و﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ بأن تخالطوهم وتوالوهم ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾ عظيمة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وهي ضعف المؤمنين وقوّة الكفّار ﴿وَفَسادٌ كَبِيرٌ﴾ من جهة رغبة المسلمين إلى الكفّار ، ورجوعهم عن الإسلام إلى الكفر بسبب المخالطة والموادّة.

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ

 هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا

 وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي

 كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٤) و (٧٥)

ثمّ مدح الله سبحانه المؤمنين من المهاجرين والأنصار بقوله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا﴾ الكفّار بأموالهم وأنفسهم ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ هم على الكفّار ﴿أُولئِكَ هُمُ

__________________

(١) في النسخة : عنكم.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ٢١١.

١١٥

الْمُؤْمِنُونَ﴾ إيمانا ﴿حَقًّا﴾ وصدقا وخالصا لقيامهم بلوازمه ، وعملهم بمقتضاه ﴿لَهُمْ﴾ بسبب الإيمان الخالص ، والعمل الصّالح ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ وستر لذنوبهم السّابقة ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ واسع كثير بلا منّ ولا تعب في الآخرة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ﴾ - عن ابن عبّاس : بعد الحديبية ، وقيل : بعد بدر ، وقيل : بعد نزول الآية (١) - ولحقوا بالسّابقين من المؤمنين في اعتقاد التّوحيد ، وتبعيّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطاعة أوامره ﴿وَهاجَرُوا﴾ من أوطانهم إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَجاهَدُوا﴾ أعداءه ﴿مَعَكُمْ﴾ وفي جماعتكم ﴿فَأُولئِكَ﴾ يعدّون ﴿مِنْكُمْ﴾ ويحسبون من زمرتكم ، ويكون لهم ما لكم.

ثمّ نسخ سبحانه حكم التّوارث بالهجرة والنّصرة بقوله : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ﴾ وذوو القرابات النسبيّة من المؤمنين ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلى﴾ وأحقّ في الإرث ﴿بِبَعْضٍ﴾ الأقرب إليهم ﴿فِي كِتابِ اللهِ﴾ وحكمه المنزل في القرآن ، أو المكتوب في اللّوح المحفوظ ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ، ومصلحة من المصالح ﴿عَلِيمٌ﴾ بذاته ، ومطّلع بإحاطته.

عن الصادق عليه‌السلام : « كان عليّ عليه‌السلام إذا مات مولى له وترك قرابة ، لم يأخذ من ميراثه شيئا ، ويقول : ﴿أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(٢) .

القمّي ، قال : هذه الآية نسخت : [ قوله ] : ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ(٣).

أقول : نسخت إطلاقه.

عن الصادق عليه‌السلام : « لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام أبدا ، إنّما جرت من علي بن الحسين عليهما‌السلام كما قال الله : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ﴾ فلا تكون بعد علي بن الحسين عليهما‌السلام إلّا في الأعقاب بعد الأعقاب » (٤) .

أقول : لعلّ المراد أنّ قضاء الله في نصب الأئمّة طابق حكمه في الميراث ؛ لأنّ الإمامة داخلة في حكم الإرث.

نقل الفخر الرّازي أن محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب تمسّك بهذه الآية في كتابه إلى [ أبي ] جعفر المنصور على أنّ الإمام بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال : قوله تعالى ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ﴾ يدلّ على ثبوت الأولويّة (٥) ،

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٣.

(٢) الكافي ٧ : ١٣٥ / ٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٧ ، والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٨١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٧ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٣٣.

(٤) الكافي ١ : ٢٢٥ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٧ ، وفيهما : إلّا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.

(٥) في المصدر : الولاية.

١١٦

وليس في الآية شيء معيّن في ثبوت هذه الأولويّة ، فوجب حمله على الكلّ إلّا ما خصّه الدّليل ، وحينئذ يندرج فيه الإمامة ، ولا يجوز أن يقال أنّ أبا بكر كان من اولي الأرحام ، لما نقل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاه سورة براءة ليبلّغها إلى القوم ، ثم بعث عليّا خلفه ، وأمر بأن يكون المبلّغ هو عليّ عليه‌السلام وقال : « لا يؤدّيها إلّا رجل منّي » وذلك يدلّ على أنّ أبا بكر ما كان منه.

ثم أجاب الفخر عنه : بأنّه إن صحّت هذه الدّلالة ، كان العبّاس أولى بالإمامة ؛ لأنّه كان أقرب إلى رسول الله [ من عليّ ] . ثمّ قال : وبهذا الوجه أجاب المنصور عنه (١) .

أقول : بالوجه الذي استدلّ محمّد بن عبد الله على أنّ أبا بكر ما كان منه ، له الاستدلال على أنّ العباس ما كان منه ، وإلّا لبعث العبّاس ليكون هو المبلّغ لبراءة ، على أنّ آية ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ﴾ تثبت الإمامة للرّحم إذا كان واجدا لشرائط الإمامة من العلم والعصمة وغيرهما ، فإذا فرض أنّ عليّا عليه‌السلام وأبا بكر كانا واجدين للشّرائط كان عليّ عليه‌السلام أولى بالآية ، كما أنّ شرط الإرث الإسلام ، وعدم كون الوارث قاتلا ، مع أنّ الآية تنفي الإمامة عن أبي بكر وتثبته في أرحام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيدور أمرها بين علي عليه‌السلام والعبّاس ، فإذا قارنها الإجماع على أنّ العبّاس لم يكن إماما ، دلّت الآية على إمامة عليّ عليه‌السلام ، وعلى أي تقدير أبطلت الآية إمامة أبي بكر ، وتجعلها في أرحام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا بطلت إمامة أبي بكر كان عليّ عليه‌السلام إماما بالإجماع المركّب ، على أنّه ثبت بالنصّ والإجماع عند أصحابنا أنّ ابن العمّ الأبويني أولى في الميراث من العمّ الأبي (٢) .

الحمد لله المتعال على التّوفيق لإتمام تفسير سورة الأنفال ، نسأله أن يجعله ذخرا ليوم لا بيع فيه ولا خلال.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٣.

(٢) يريد أن العباس أخو عبد الله ( والد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لأبيه فقط ، بينما أبو طالب ( والد علي عليه‌السلام ) أخو عبد الله لامّه ولأبيه.

١١٧
١١٨

في تفسير سورة براءة

﴿بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)

ثمّ لمّا ختمت سورة الأنفال اردفت بسورة البراءة لكونهما في الجهاد ، وما روي عن الصادق عليه‌السلام وسعيد بن المسيّب من أنّهما واحد (١) ، محمول على وحدتهما مطلبا ، لوضوح كونهما سورتين.

وقيل : إنّ في الأنفال ذكر العهود ، وفي البراءة نبذها ، فوضعت بجنب الأنفال (٢) .

وقيل : إنّه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا ، وأن يكونوا منقطعين عن الكفّار (٣) ، وفي البراءة التّصريح به.

ومن أسمائها سورة التوبة ؛ لذكر توبة المهاجرين والأنصار ، والثّلاثة الذين خلّفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن حذيفة : إنّكم تسمّونها سورة التوبة ، والله ما تركت أحدا إلّا نالت منه (٤) .

ومنها الفاضحة ؛ عن ابن عبّاس قال : إنّها الفاضحة ، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتّى حسبنا (٥) أن لا تدع أحدا (٦) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لم تنزل ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ على [ رأس ] سورة براءة ؛ لأنّ ﴿بِسْمِ اللهِ*﴾ للأمان والرّحمة ، ونزلت براءة لرفع الأمان بالسيف » (٧) .

وعن ابن عبّاس قال : سألت عليّا رضى الله عنه لم لم يكتب ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ بين الأنفال والبراءة ؟ قال : « لأنّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*﴾ أمان ، وهذه السّورة نزلت بالسّيف ونبذ العهود ، وليس فيها أمان » (٨) .

وحاصل الرّوايتين عدم المناسبة بين الرّحمة التي تدلّ عليها البسملة ، والإعلان بالحرب ونبذ العهود اللّذين يدلّ عليها الإعلان بالبراءة بقوله : ﴿بَراءَةٌ﴾ وقطيعة عظيمة ، ونبذة عهد كائنة ﴿مِنَ﴾ قبل ﴿اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ مرسلة أو موصولة ﴿إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ﴾ معهم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ من أهل مكّة ،

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٤.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٥ : ٢١٦.

(٤) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٥.

(٥) في تفسير الرازي : خشينا.

(٦) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٥.

(٧) مجمع البيان ٥ : ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٣١٨.

(٨) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٦.

١١٩

لظهور الخيانة منهم.

قيل : إنّ المسلمين كانوا عاهدوا المشركين من أهل مكّة وغيرهم بإذن الله وأمر الرّسول ، فنكثوا إلّا بني ضمرة وبني كنانة ، فأمر الله المسلمين بنبذ العهد إلى الناكثين.

وقيل : إنّ عهدهم كان مشروطا بعدم أمر الله بقطعه.

وقيل : إنّه قد انقضت مدّة عهدهم ، وإنّما أعلن الله بعدم إعادة العهد معهم ، وأنّ الرّسول مأمور بمحاربتهم.

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ

 مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)

ثمّ أخبرهم الله بإمهالهم في القتال أربعة أشهر بقوله : ﴿فَسِيحُوا﴾ وسيروا أيّها المشركون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ آمنين من القتل والغارة ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ غير خائفين فيها من قتال واغتيال ، وأمّا بعد انقضاء المدّة فليس إلّا الإسلام أو السّيف ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ﴾ بسياحتكم في أقطار الأرض ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ﴾ وغير فائتين منه بالهرب والتّحصين ﴿وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ﴾ ومذلّهم في الدّنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بعذاب أليم.

قيل : نزلت في أوّل شوال ، وكانت (١) الأشهر : شوال وذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ، وكان الإمهال صيانة للأشهر الحرم (٢) .

وقيل : كان أوّلها عاشر ذي الحجّة ، وآخرها عاشر ربيع الآخر ؛ لأنّ التّبليغ كان في يوم النّحر(٣).

روى الفخر الرّازي : أن فتح مكّة كان سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتّاب بن أسيد ، ونزول هذه السّورة سنة تسع ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر سنة تسع بأن يكون على الموسم ، فلمّا نزلت هذه السّورة أمر عليّا أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم ، فقيل له : لو بعثت [ بها ] إلى أبي بكر ؟ فقال : « لا يؤدّي عنّي إلّا رجل منّي » .

فلمّا دنا على سمع أبو بكر الرّغاء ، فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله ، فلمّا لحقه قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور ، ثمّ ساروا ، فلمّا كان قبل التّروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم ، وقام عليّ يوم النّحر عند جمرة العقبة فقال : « يا أيّها النّاس ، إنّي رسول رسول الله إليكم » فقالوا : بماذا ؟ فقرا

__________________

(١) في النسخة : وكان.

(٢) تفسير الرازي ١٥ : ٢١٩.

(٣) تفسير الرازي ١٥ : ٢٢٠ ، تفسير روح البيان ٣ : ٣٨٣.

١٢٠