نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ

 وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى

 الظَّالِمِينَ (٤٤)

ثمّ لمّا بيّن الله تعالى وعيد الكفّار بالنّار ووعد المؤمنين بالجنّة ، ذكر مخاطبة المؤمنين للكفّار بقوله : ﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ بعد استقرارهم فيها ، وإشرافهم على جهنّم فرحا بما هم فيه من النّعم ﴿أَصْحابَ النَّارِ﴾ المنكرين للتّوحيد والرّسالة والحشر ، توبيخا وشماتة لهم : ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنا﴾ وشهدنا بالعيان ﴿ما وَعَدَنا رَبُّنا﴾ في الدّنيا بلسان رسوله من الثّواب والكرامة على الإيمان والطاعة ﴿حَقًّا﴾ وصدقا ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ﴾ اليوم ، وشاهدتم أيّها المكذبون ﴿ما وَعَدَ رَبُّكُمْ﴾ من العقاب الشّديد على الكفر به وعصيانه وتكذيب رسله ﴿حَقًّا ﴾ وإنّما لم يقل سبحانه : ( ما وعدكم ربكم ) إشعارا بعدم قابليّتهم لأن يكونوا طرفا لوعد الله وتوجّهه ﴿قالُوا﴾ وهم في النّار تحسّرا وتندّما : ﴿نَعَمْ﴾ وجدنا جميع ما وعده حقّا ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ من قبل ربّ العزّة ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وفي وسطهم ، أو من بينهم أذانا يسمع الخلائق - كما عن القمّي (١) - ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللهِ﴾ وعذابه ثابت أو مستقرّ ﴿عَلَى﴾ الكفارين ﴿الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بتعريضها للهلاك.

عن الكاظم والرضا عليهما‌السلام : « المؤذّن أمير المؤمنين عليه‌السلام » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنا ذلك المؤذّن » (٣) .

﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)

ثمّ ذمّ الله الظّالمين بقوله : ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ النّاس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ ودين الإسلام ، ويمنعونهم عن قبوله بالقهر أو التّطميع أو غيرهما من الحيل ﴿وَيَبْغُونَها عِوَجاً﴾ ويطلبون فيها ميلا وانحرفا عمّا هي عليه من الاستقامة ، بإلقاء الشّكوك والشّبهات فيها وفي دلائل صحّتها ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ﴾ ودار الجزاء ﴿كافِرُونَ﴾ جاحدون. وفيه إشعار بعلّة ما سبق من سوء أعمالهم.

﴿وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ

 الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٣١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٧.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٤٧ / ١٥٨٣ ، الكافي ١ : ٣٥٢ / ٧٠ ، تفسير القمي ١ : ٢٣١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٧.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٦٥١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٨.

٦٠١

تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٦) و (٤٧)

ثمّ لمّا حكى الله تعالى مخاطبة أهل الجنّة لأهل النّار ، وكان مجال توهّم القرب بينهما ، وتلذّذ أهل النّار برائحة الجنّة ونعمها ، وتأذّي أهل الجنّة من نتن الجحيم وحرّها ، دفع التوهّم بقوله : ﴿وَبَيْنَهُما حِجابٌ﴾ وسور كسور المدينة ﴿وَعَلَى الْأَعْرافِ﴾ وأعالي ذلك السّور - كما عن ابن عبّاس (١) - أو المأمورون على تعريف الفريقين ﴿رِجالٌ﴾ من أشراف أهل الإيمان والطّاعة قيل : هم الأنبياء يجلسهم الله على أعالي ذلك السّور تميّزا لهم عن سائر أهل القيامة ، وإظهارا لشرفهم وعلوّ مرتبتهم ، وليكونوا مشرفين على أهل الجنّة والنّار ، مطّلعين على أحوالهم ومقدار ثوابهم وعقابهم (٢) ، وقيل : هم الشّهداء (٣)﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا﴾ من أهل الجنّة والنّار ﴿بِسِيماهُمْ﴾ وعلامتهم التي أعلمهم الله بها.

في معنى الأعراف والمراد من أصحابه

عن الصادق عليه‌السلام : « الأعراف : كثبان (٤) بين الجنّة والنّار ، والرجال : الأئمّة » (٥) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنّار ، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار » (٦) .

وعنه عليه‌السلام ، في هذه الآية : « نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الّذين لا يعرف الله عزوجل إلّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يوقفنا الله عزوجل يوم القيامة على الصّراط ، فلا يدخل الجنّة إلّا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار إلّا من أنكرنا وأنكرناه » (٧) .

وعن سلمان رضى الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعليّ عليه‌السلام أكثر من عشر مرات : « يا عليّ ، إنّك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنّة والنّار ، ولا يدخل الجنّة إلّا من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النّار إلّا من أنكركم وأنكرتموه » (٨) . إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة بهذا المضمون ، أو ما يقرب منه.

وفي بعضها : « الرّجال هم الأئمّة من آل محمّد ، والأعراف صراط بين الجنّة والنّار » (٩) .

وعن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل عن أصحاب الأعراف ، فقال : « إنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فقصرت بهم الأعمال » . الخبر (١٠) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عنهم ، فقال : « قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فإن أدخلهم النّار

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٤ : ٨٧.

(٤) الكثبان ، جمع الكثيب : هو الرمل المجتمع المحدودب.

(٥ و٦) . مجمع البيان ٤ : ٦٥٣ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٨.

(٧) الكافي ١ : ١٤١ / ٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٨.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ١٤٨ / ١٥٨٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٩.

(٩) بصائر الدرجات : ٥١٦ / ٥ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٩.

(١٠) تفسير الصافي ٢ : ١٩٩.

٦٠٢

فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته » (١) . وعليه جمع من مفسّري العامّة (٢) .

ويجمع بين الرّوايات ما في ( الجوامع ) عن الصادق عليه‌السلام قال : « الأعراف كثبان بين الجنّة والنّار ، يوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه ، كما يقف صاحب الجيش مع الضّعفاء من جنده ، وقد سيق المحسنون إلى الجنّة » . الخبر (٣) .

ففيه الدّلالة على أنّ الرّجال الّذين على الأعراف أشراف المؤمنين ، وأسفلهم الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم.

﴿وَنادَوْا﴾ أولئك السّفلة (٤)﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾ والمحسنين الّذين سبقوهم إليها ، إذا عاينوهم يدخلونها وهم بعد واقفون منتظرون للشّفاعة : ﴿أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ عن الصادق عليه‌السلام ، في الرّواية السّابقة : « فيقول الخليفة للمذنبين الواقفين معه : انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا (٥) إلى الجنّة ، فيسلّم عليهم المذنبون ، وذلك قوله : ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ (٦) . الخبر ﴿لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ أن يدخلهم الله أيّاها بشفاعة النبيّ والإمام.

﴿وَإِذا صُرِفَتْ﴾ ووقعت ﴿أَبْصارُهُمْ﴾ - حال كونهم على الأعراف ﴿تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ﴾ ومقابلهم - عليهم ﴿قالُوا﴾ تضرّعا إلى الله وتعوّذا به : ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا﴾ في النّار ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ .

عن الصادق عليه‌السلام ، في الرّواية السّابقة : « وينظر هؤلاء إلى أصحاب النّار فيقولون : ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا﴾ . الخبر (٧) .

﴿وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ

 جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ

 ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٨) و (٤٩)

ثمّ لمّا بيّن الله تعالى إشراف أشراف المؤمنين الّذين هم على الأعراف ، حكى توبيخهم أصحاب النّار ، وشماتتهم بهم إلتذاذا لأنفسهم ، وازديادا لعذاب هؤلاء الكفرة بقوله : ﴿وَنادى أَصْحابُ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٨٢ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٠.

(٢) تفسير الرازي ١٤ : ٨٨.

(٣) جوامع الجامع : ١٤٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٠.

(٤) السفلة : نقيض العلوة ، سفلة الناس أو سفلتهم : أسافلهم.

(٥) في جوامع الجامع : سبقوا.

(٦) جوامع الجامع : ١٤٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠١.

(٧) جوامع الجامع : ١٤٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠١.

٦٠٣

الْأَعْرافِ﴾ الّذين هم أشراف المؤمنين ﴿رِجالاً﴾ من رؤساء الكفار الّذين كانوا ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ﴾ تقريعا وتوبيخا ، و﴿قالُوا﴾ : لقد شاهدتم أيّها الرّؤساء أنّه ﴿ما أَغْنى﴾ ولم يكف في دفع العذاب ﴿عَنْكُمْ﴾ اليوم ﴿جَمْعُكُمْ﴾ الأعوان والأتباع والأموال في الدّنيا ﴿وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ به من النّسب والجاه ، على الأنبياء والأولياء والفقراء من المؤمنين.

وقيل : إن كلمة ( ما ) في ﴿ما أَغْنى﴾ استفهاميّة ، و( ما ) في ﴿ما كُنْتُمْ﴾ مصدريّة (١) .

ثمّ بالغوا في تقريعهم وتوبيخهم بقولهم ، مشيرين إلى فقراء المؤمنين : ﴿أَ هؤُلاءِ﴾ الفقراء الضّعفاء ﴿الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ وحلفتم على أنّه ﴿لا يَنالُهُمُ اللهُ﴾ ولا يصيبهم ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ منه وفضل أبدا ؟ ثمّ يلتفتون إلى فقراء المؤمنين ويقولون لهم : ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ على رغم هؤلاء الرّؤساء المتكبّرين عليكم ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾ حين يخاف الكفرة المتكبّرون ﴿وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ حين يحزن هؤلاء.

وعن الصادق عليه‌السلام ، في الحديث السّابق : « وينادي أصحاب الأعراف - وهم الأنبياء والخلفاء - رجالا من أهل النّار ورؤساء الكفّار ، يقولون لهم مقرّعين : ﴿ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ واستكباركم ، ﴿أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ﴾ إشارة لهم إلى أهل الجنّة الّذين كان الرّؤساء يستضعفونهم ويحقّرونهم لفقرهم ، ويستطيلون عليهم بدنياهم ، ويقسمون أنّ [ الله ] لا يدخلهم الجنّة ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين ، عن أمر من أمر الله عزوجل لهم بذلك : ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ أي لا خائفين ولا محزونين » (٢) .

﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا

 رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مخاطبة أهل الجنّة وأصحاب الأعراف لأصحاب النّار ، حكى مخاطبة أهل النّار لهم بقوله : ﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ﴾ بعد استقرارهم فيها ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾ بعد استغراقهم في نعمها : ﴿أَنْ أَفِيضُوا﴾ وصبّوا أيّها المؤمنون ﴿عَلَيْنا﴾ شيئا قليلا ﴿مِنَ الْماءِ﴾ البارد ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ وأنعم عليكم بفضله من سائر الأشربة ، أو منها ومن الفواكه والأطعمة ليخفّف عنّا به حرّ النّار ، أو العطش والجوع.

عن ابن عبّاس : لمّا صار أصحاب الأعراف إلى الجنة ، طمع أهل النّار بفرج بعد اليأس (٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ١٦٩.

(٢) جوامع الجامع : ١٤٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠١.

(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٩٢.

٦٠٤

وقيل : إنّ أهل النّار لمّا بقوا فيها جياعا عطاشا قالوا : يا ربّنا ، إنّ لنا قرابات في الجنّة فأذن لنا حتّى نراهم ونكلّمهم ، فأمر الله الجنّة فتزحزحت (١) فيؤذن في ذلك ، فينظرون إلى قراباتهم في الجنّة ، وإلى ما هم فيه من أنواع النّعيم ، فيعرفونهم ولا يعرفهم أهل الجنّة لسواد وجوههم ، فينادون قراباتهم من أهل الجنّة بعد إخبارهم بقرابتهم ويقولون : ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنا(٢) .

وقيل : إنّ المراد من ما ﴿رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ الأطعمة والفواكه (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام : « يوم التّناد يوم ينادي أهل النّار أهل الجنّة : ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ (٤) .

عن أحدهما عليه‌السلام قال : « إنّ أهل النّار يموتون عطاشا ، ويدخلون قبورهم عطاشا ، ويدخلون جهنّم عطاشا ، فيرفع لهم قراباتهم من أهل الجنّة ، فيقولون : ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ(٥) .

روي أنّه لا يؤذن لأهل الجنّة في الجواب أربعين سنة (٦) .

ثمّ يؤذن لهم في جوابهم ، كما حكى الله تعالى بقوله : ﴿قالُوا﴾ في جوابهم : ﴿أَنْ﴾ شراب الجنّة وطعامها ممنوعان منكم ؛ لأنّ ﴿اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ﴾ بأنّكم أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا وأستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تكفرون.

﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما

 نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)

ثمّ شرع الله تعالى في ذمّ الكفّار وقدحهم بأشنع ذمائمهم وصفاتهم ، وتهديدهم بأشدّ العذاب بقوله : ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ وجعلوا ﴿دِينَهُمْ﴾ الذي أمرهم الله بالتديّن به ، وهو دين الإسلام ﴿لَهْواً﴾ وبطرا ﴿وَلَعِباً﴾ وعبثا ، حيث إنّهم يحرّمون ما شاءوا ، ويحلّون ما شاءوا ، ولا يتّبعون أحكام الله ، بل يتّبعون هوى أنفسهم التي زيّنها الشّيطان لهم ، قيل : كان دينهم دين إسماعيل فغيّروه بهواهم. وقيل : إنّ المراد : أنّهم اتّخذوا اللهو واللّعب دينا لأنفسهم. وعن ابن عبّاس : يريد المستهزئين المقتسمين (٧) .

﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾ وشغلتهم ﴿الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ ولذّاتها وزخارفها عن ذكر الله ، والتدبّر في آياته ودلائل توحيده ، والتفكّر في عواقبهم ، فصار همّهم في تحصيل الجاه والمال وسائر المشتهيات ﴿فَالْيَوْمَ

__________________

(١) في النسخة : فتزخرفت.

(٢) تفسير الرازي ١٤ : ٩٢.

(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٩٣.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٥٠ / ١٥٩٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٢.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ١٤٩ / ١٥٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٢.

(٦) تفسير روح البيان ٣ : ١٧١.

(٧) تفسير الرازي ١٤ : ٩٣.

٦٠٥

نَنْساهُمْ﴾ ولا نعتني بهم ، ولا نلتفت إليهم ، كما لا يلتفت الناسي إلى المنسي ، أو نتركهم في النار أبدا ﴿كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا﴾ ولم يلتفتوا إليه ، ولم يعتنوا بما ينفعهم فيه ، ولم يستعدوا له.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله ، وخافوه في الغيب ، وقد يقول العرب في باب النسيان : قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به » (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا ، وقال : إنما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم ، كما قال تعالى : ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ (٢) .

﴿وَ﴾ مثل ﴿ما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿بِآياتِنا﴾ ودلائل توحيدنا ، ورسالة رسلنا ﴿يَجْحَدُونَ﴾ وإياها ينكرون عنادا واستكبارا.

﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)

ثم أنه تعالى بعد شرح أحوال الكفار والمؤمنين في القيامة ببيان معجز ، أعلن بانقطاع عذر الكفار في ترك الإيمان بالنبوة والكتاب بقوله : ﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ﴾ عظيم الشأن ﴿فَصَّلْناهُ﴾ وشرحنا ما فيه من المعارف والأحكام والمواعظ ، وغيرها من العلوم واحدا بعد واحد مبنيا ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ كامل منا بتفاصيله وو اقعيات الأمور ، ومنافع ما فيه ، ليكون ذلك الكتاب ﴿هُدىً﴾ ورشادا إلى الحق ، وسعادة الدنيا والآخرة ﴿وَرَحْمَةً﴾ ونعمة تامة وفضلا عظيما ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ به ، المصدقين بأنه من الله ، فإنهم المنتفعون والمتدبرون في آياته ، المقتبسون من أنواره.

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ

 رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ

 الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)

ثم وبخهم الله على ترك الإيمان مع انقطاع عذرهم فيه بقوله : ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ ويتوقعون شيئا آخر بعد هذا القرآن يكون باعثا لهم على الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر ، مع أنه ليس شيء أبعث من

__________________

(١) التوحيد : ٢٥٩ / ٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٥ / ١٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٢ ، والآية من سورة الحشر : ٥٩ / ١٩.

٦٠٦

هذا الكتاب ﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ وو قوع ما هددوا به فيه ، من عذاب الاستئصال في الدنيا ، أو مجيء يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ﴾ كفروا به و﴿نَسُوهُ﴾ وتركوا العمل بما فيه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي دار الدنيا إيمانا واعترأ فا بصدق الرسل : ﴿قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا﴾ لهدايتنا ﴿بِالْحَقِ﴾ والدين القويم ، أو بالمعجزات الباهرات. فلما رأوا أنه لا ينفعهم إيمانهم ، ولا مخلص لهم من العذاب ، قالوا تمنيا وتحسرا : ﴿فَهَلْ لَنا﴾ اليوم ﴿مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا﴾ ويدفعوا بشفاعتهم العذاب عنا ؟ ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ ونرجع إلى الدنيا ﴿فَنَعْمَلَ﴾ فيها عملا ﴿غَيْرَ﴾ العمل ﴿الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ ونتدين بدين غير الذي كنا نتدين به ، فإنه لا يمكن الخلاص إلا بأحد هذين الأمرين.

ثم نبه الله سبحانه على امتناع مطلوبهم ومأمولاهم بقوله : ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بصرف أعمارهم التي كانت بمنزلة رأس ما لهم ، في الكفر والعصيان ﴿وَضَلَ﴾ وغاب أو فآت ﴿عَنْهُمْ﴾ منافع ﴿ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ على الله أن يقبل شفاعته من الأصنام ، وظهر لهم بطلان الأديان التي كانوا ينصرونها.

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى

 الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ

 مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)

ثم لما كان الاعتقاد بالمعاد متوقفا على معرفة الله بالوحدانية وكمال القدرة والعلم ، عرف ذاته المقدسة بتلك الصفات بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾ هو ﴿اللهُ الَّذِي﴾ بقدرته الكاملة ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾ السبع بما فيها من الكواكب وغيرها ﴿وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ عن القمي رحمه‌الله : في ستة أوقات (١) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أن الله خلق الخير يوم الأحد ، وما كان ليخلق الشر قبل الخير ، وفي الأحد والاثنين خلق الأرضين ، وخلق أقواتها يوم الثلاثاء ، وخلق السماوات يوم الأربعاء ويوم الخميس ، وخلق أقواتها يوم الجمعة » (٢) . الخبر.

أقول : الظاهر أن المراد من الأيام في الروآية : الأوقات التي لو كانت الشمس - التي بطلوعها وغروبها توجد الأيام وتتعدد - موجودة لكانت تلك الأوقات [ هي ] تلك الأيام. وأما تقدير الأوقات فيحتمل أنه كان إما بنسبة كل موجود إلى الآخر ، وإما بالنسبة إلى حركة فلك الأفلاك. وإرادة غيره من قوله ﴿خَلَقَ السَّماواتِ﴾ .

وقيل : إن الله خلق الموجودات تدريجا ، ليعلم العباد التأني في الأمور.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٣٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٣.

(٢) الكافي ٨ : ١٤٥ / ١١٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٣.

٦٠٧

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ولو شاء أن يخلقها في أقل من لمح البصر لخلق ، ولكنه جعل الأناة والمداراة مثالا لا منائه ، وإيجابا للحجة على خلقه » (١) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين ، ولكنه عزوجل خلقها في ستة أيام ليظهر على الملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء ، فيستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة»(٢) .

وقيل : للتنبيه على أن لكل شيء حدا محدودا وو قتا معينا ، فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه ، فتأخير ثواب المطيعين وعقاب العاصين لذلك.

﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ واستولى بعلمه وتدبيره ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ . عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « استوى تدبيره ، وعلا أمره » (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « استولى على ما دق وجل » (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « استوى على كل شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء » (٥) .

وفي روآية : « لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب » (٦) .

فحاصل الروايتين (٧) : أن المراد بالعرش جميع الموجودات ؛ كما مر في آية الكرسي أنه أحد معنييه.

وقيل : إن المراد بالعرش هو السرير (٨) ، كما هو معناه لغة ، وكنى به عن الملك ، فإنه إذا اختل ملك ملك يقال : ثل عرشه ، وإذا استقام ملكه واطرد أمره وحكمه يقال : استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إن الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش كما يظن كهيئة السرير ، ولكنه شيء محدود مخلوق مدبر ، وربك عزوجل مالكه ، لا أنه عليه ؛ ككون الشيء على الشيء » (٩) .

ثم استشهد سبحانه على كمال قدرته وتدبيره بقوله : ﴿يُغْشِي﴾ ويغطي ﴿اللَّيْلَ﴾ بظلمته ﴿النَّهارَ﴾ ويذهب بنوره ، وهو مع ذلك ﴿يَطْلُبُهُ﴾ ويشتاق إلى مجيئه بعده ﴿حَثِيثاً﴾ وسريعا لا يفصل بينهما شيء ، فإن في تنظيم تعاقب الليل والنهار - مع وضوح أن فيه منافع عظيمة ؛ إذ به يتم أمر الحياة ،

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٥٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٤ / ٣٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٣.

(٣) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٤.

(٤) الاحتجاج : ٣٨٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٤.

(٥) الكافي ١ : ٩٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٤.

(٦) الكافي ١ : ٩٩ / ٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٤.

(٧) أي اللتين عن الامامين الكاظم والصادق عليهما‌السلام.

(٨) تفسير روح البيان ٣ : ١٧٤.

(٩) التوحيد : ٣١٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٥.

٦٠٨

وكمال صلاح الموجودات - دلالة واضحة على كمال قدرته وحكمته.

ثم قرر ذلك بقوله : ﴿وَالشَّمْسَ﴾ التي هي سلطان الكواكب ﴿وَالْقَمَرَ﴾ الذي هو نائبها ﴿وَالنُّجُومَ﴾ التي هي خدمها ، خلقهن حال كونهن ﴿مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ﴾ مقهورات تحت إرادته.

ثم لما كان ما سوى الله إما جسماني له مائدة ومدة وحجم ومقدار ؛ ويسمى بعالم الخلق ، وإما روحاني لا مائدة له ولا مدة له ولا حجم ؛ ويسمى بعالم الأمر ، بالغ سبحانه في تعريف ذاته المقدسة بالوحدانية ، وكمال القدرة والتدبير والسلطنة فيهما بقوله : ﴿أَلا لَهُ﴾ تعالى خاصة ﴿الْخَلْقُ﴾ وعالم الجسمانيات ﴿وَالْأَمْرُ﴾ وعالم الروحانيات ، إيجادا أو إعداما ، وتصرفا وتدبيرا ، لا مالك شيء منهما غيره ﴿تَبارَكَ﴾ وتعالى بالوحدانية في الالوهية والقدرة ، وتعظم بالفردانية في السلطنة والربوبية ﴿اللهُ﴾ الذي هو ﴿رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ وخالقها ومدبرها.

ففيه رد على الذين اتخذوا من دون الله أربابا ، ودعوتهم إلى القول بتوحيده في الربوبية لجميع الكائنات ، وتنظيم عالم الوجود ، كالملك المتمكن في مملائكته بتدبيره.

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)

ثم لما بين الله سبحانه أن تدبير العالم بيده وجميع الخيرات نازل منه ، أمر الناس بسؤاله ورفع حوائجهم إليه ، وقطع طمعهم عن غيره بقوله : ﴿ادْعُوا﴾ وسئلوا ﴿رَبَّكُمْ﴾ اللطيف بكم ، السميع لدعائكم ، القادر على إجابتكم جميع حوائكم الدنيوية والآخروية ، وليكن دعاؤكم له ﴿تَضَرُّعاً﴾ وخضوعا وتذللا ﴿وَخُفْيَةً﴾ وسرا بحيث بلا يسمعه غيركم ، فإنه أقرب إلى الخلوص والاستجابة ، ولا تعتدوا في دعائكم ، ولا تجاوزوا فيه عن حد ما امرتم ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ولا يرضى عن المتجاوزين عن الحد ؛ بالاقتراح عليه ، وطلب ما لا ينبغي طلبه.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرأ أن يقول : اللهم إني أسئلك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل » (١) .

في استحباب الاخفات في الدعاء

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه كان في غزاة ، فأشرف على واد ، فجعل الناس يهللون ويكبرون ، ويرفعون أصواتهم ، فقال : « يا أيها الناس ، أربعوا (٢) على أنفسكم ، أما إنكم لا تدعون أصما (٣) ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا إنه معكم » (٤) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٣ : ٢٣٣.

(٢) اربعوا : تريثوا وانتظروا.

(٣) كذا ، وفي المجمع : الأصم ، وفي الصافي : أصم.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٦٦٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٦.

٦٠٩

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « استعن بالله في جميع امورك تضرعا (٢) إليه آناء الليل والنهار ، قال الله : ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ والاعتداء من صفة قراء زماننا هذا وعلامتهم»(٣).

﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ

 قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

ثم أنه تعالى بعد بيان كونه مدبر امور العالم ومصلحها ، نهى الناس عن الإفساد بقوله : ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بقتل ونهب ، وهتك عرض ، وإشاعة الكفر ﴿بَعْدَ إِصْلاحِها﴾ وتنظيم امورها على أحسن نظام.

وقيل : يعني لا تفسدوا فيها باختيار الكفر ، وارتكاب المعاصي بعد إصلاحها ببعث الرسل وتشريع الأحكام.

عن الباقر عليه‌السلام : « أن الأرض كانت فاسدة ، فأصلحها الله بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله. الخبر (٤) .

والقمي رحمه‌الله : أصلحها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥) .

ثم لما كان داعي الإفساد تحصيل المنافع الدنيوية ، وهو يكون في الدعاء ، أكد الترغيب إليه بقوله: ﴿وَادْعُوهُ﴾ وسئلوه كل ما تحتاجون إليه من المنافع ﴿خَوْفاً﴾ من أن ترد دعوتكم بسوأ أعمالكم ﴿وَطَمَعاً﴾ ورجاء أن يستجاب لسعة رحمته ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ومن الأعمال الحسنة : الدعاء بأدائه.

وفيه ترجيح للطمع ، وتغليب جانب الرحمة ، وتنبيه على وسيلة الإجابة ، وهو القيام بوظائف العبودية.

﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً

 سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ

 الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)

__________________

(١) تفسير الرازي ١٤ : ١٣١.

(٢) في مصباح الشريعة : متضرعا.

(٣) مصباح الشريعة : ٥٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٥٠ / ١٥٩٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٦.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢٣٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٦.

٦١٠

ثم لما بشر سبحانه بسعة رحمته ، قرره بما أراهم من إنزال الأمطار النافعة التي منها حياة كل شيء ، وفيها الشهادة على سعة رحمته ، وكمال قدرته ، وتدبيره لمصالح خلقه بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر المدبر الرحيم ﴿الَّذِي يُرْسِلُ﴾ بقدرته وحسن تدبيره ﴿الرِّياحَ﴾ الأربعة ، حال كونها ﴿بُشْراً﴾ وإعلاما للناس بما يسرون به ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ وقدام المطر المحيي للأرض ﴿حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ﴾ الرياح وحملت بسهولة ﴿سَحاباً﴾ وغماما سارية في العلو ، حال كونها ﴿ثِقالاً﴾ بحمل الماء ﴿سُقْناهُ﴾ وسيرناه ﴿لِبَلَدٍ﴾ وإلى أرض ﴿مَيِّتٍ﴾ حاف (١) لا نبات فيها ، أو لأجل الأرض اليابسة ﴿فَأَنْزَلْنا بِهِ﴾ أي بسبب السحاب أو بالبلد ﴿الْماءَ﴾ والمطر النافع ﴿فَأَخْرَجْنا بِهِ﴾ من الأرض ما تعيشون به ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ وجميع أنواعها.

ثم استدل سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها وإخراج الثمرات منها ، على إحياء الرمم ، وإخراج الموتى منها للحشر ، وجزاء الأعمال بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ الإحياء والإخراج ﴿نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾ من الأرض إلى الحشر بعد إحيائهم في القبور. وإنما ضربنا لكم المثل ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ أيها الناس ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ وتتنبهون على أن من قدر على ذلك قدر على هذا بلا ريب.

عن ابن عباس رضى الله عنه : إذا مات الناس كلهم في النفخة الاولى مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال ، فينبتون من قبورهم بذلك المطر ، كما ينبتون في بطون أمهاتهم ، وكما ينبت الزرع من الماء ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ، ثم تلقى عليهم نومة فينائمون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية - وهي نفخة البعث - جاشوا وخرجوا من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم كما يجده النائم إذا استيقظ من نومه ، فعند ذلك يقولون : ﴿مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ﴾ فيناديهم المنادي : ﴿هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(٢) .

﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ

 نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)

ثم أنه تعالى بعد بيان رحمته العامة بإنزال المطر وإخراج الثمار من الأرض ، نبه على أن عدم نبت الثمار من الأرض الصلبة أو السبخة ليس لعدم نزول المطر عليها ، أوعدم النفع فيه ، بل إنما هو لخباثة الأرض ، وعدم قابليتها للتأثر به بقوله : ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ والأرض الخيّرة لرخاوتها ، وقوّة استعدادها

__________________

(١) كذا ، ولعلّه من قولهم : حفا شاربه ، فهو حاف ، إذا بالغ في قصّه. أو تصحيف ( جاف ) من الجفاف. وينبغي تأنيث هذه الكلمة نظرا إلى قوله : ( أرض ) ثمّ قوله : ( لا نبات فيها ) .

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ١٨٠ ، والآية من سورة يس : ٣٦ / ٥٢.

٦١١

﴿يَخْرُجُ نَباتُهُ﴾ من الأشجار والزّروع والرّياحين والأزهار ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ وقدرته وإرادته ، ﴿وَ﴾ البلد ﴿الَّذِي خَبُثَ﴾ بأن كان سبخا أو صلبا لا تأثّر بنزول المطر عليه ، ﴿لا يَخْرُجُ﴾ نباته منه ﴿إِلَّا﴾ نباتا ﴿نَكِداً﴾ قليلا غير نافع.

في أن النفوس صنفان طيبة وخبيثة

قيل : هو مثل الاختلاف في الذّات والطّينة وتشبيههما في الطّيب والخبث بالأراضي الطيّبة والخبيثة ، فإنّ النّفوس البشريّة بعضها بذاتها وجوهرها طيّبة نقيّة نورانية ، مستعدّة لقبول الحقّ والتأثّر بالمواعظ والحكم ، والتنوّر بآيات القرآن الذي هو ماء الحياة للقلوب الميّتة ؛ كنفوس المؤمنين على اختلاف مراتبهم ، فإنّهم إذا تليت عليهم آيات القرآن وذكرت لهم دلائل التّوحيد والمعاد ، ظهر منهم الانقياد والخضوع ، وأشرقت قلوبهم بأنوار العقائد الحقّة والمعارف الإلهية ، وخرجت من جوارحهم أزهار الطّاعة والأعمال الحسنة.

وبعضها خبيثة سجّينيّة ظلمانيّة ، لا تتأثّر بشيء من المواعظ والحكم ، ولا تنقاد لقبول الحقّ ، بل لا تزيده آيات القرآن ودلائل التّوحيد وغيره من المعارف إلّا بعدا وكفرا وطغيانا ؛ كنفوس الكفّار المصرّين على الكفر. فالنّفس الطيّبة الطاهرة يخرج نباتها من المعارف الحقّة ، والأخلاق الكريمة ، والأعمال الصّالحة بإذن ربّها وتوفيقه وتفضّله ، والنّفس الخبيثة لا يخرج منها إلّا نباتا نكدا قليل الفائدة.

وقيل : إنّ المراد من المثل أنّ الأرض الخبيثة مع قلّة نفعها لا يهملها صاحبها ، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا في تحصيل ما يليق بها. فمن طلب النّفع اليسير بالمشقّة العظيمة كان طلبه للمنافع العظيمة الاخرويّة بالمشقّة أولى.

﴿كَذلِكَ﴾ التّصريف البديع ﴿نُصَرِّفُ الْآياتِ﴾ الدالّة على المعارف والحكم والأحكام ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ ألطاف الله ونعمه الجسمانيّة والرّوحانيّة.

وإنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد ، وختم هذه الآية بقوله : ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة والرّوحانيّة.

وإنّما ختم سبحانه الآية السّابقة بقوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ لكونها متضمّنة لدليل صحّة المعاد ، وختم هذه الآية بقوله : ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ لكونها متضمّنة لبيان النّعمة الجسمانيّة والرّوحانيّة.

عن القمّي رحمه‌الله : مثل للأئمّة يخرج علمهم بإذن ربّهم ، ولأعدائهم لا يخرج علمهم إلّا كدرا فاسدا(١).

وفي ( المناقب ) : قال عمرو بن العاص للحسين عليه‌السلام : ما بال لحاكم أوفر من لحانا ؟ فقرأ عليه‌السلام هذه الآية (٢) .

وروي أنّ معاوية سأل الحسن عليه‌السلام عن ذلك ، فقرأ عليه‌السلام هذه الآية.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٣٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٨.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٦٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٨.

٦١٢

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي

 أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ

 مُبِينٍ * قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ *

 أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٥٩) و (٦٢)

في قصة نوح وكيفية دعوته

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان خبث ذات الكفار ، ذكر سبحانه قصص الامم الماضية وسوء عاقبة المصرّين منهم على الكفر ، تهديدا لمشركي عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسلية لخاطره الشّريف ، وإثباتا لنبوّته ؛ لأنّ ذكرها مع امّيته من الإخبار بالمغيّبات ، فابتدأ سبحانه بذكر معارضة قوم نوح وهلاكهم بقوله : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ﴾ لهدايتهم إلى التّوحيد ودين الحقّ ، فدعاهم أوّلا إلى التّوحيد الذي هو أهمّ الاصول ﴿فَقالَ﴾ لقومه رحمة وشفقة : ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ وحده ، وخصّوه بالخضوع والطّاعة ، فإنّه ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ﴾ مستحقّ للعبادة والطّاعة في عالم الوجود ﴿غَيْرُهُ﴾ تعالى.

ثمّ هدّدهم على الاشراك ببيان معلن بغاية شفقته عليهم بقوله : ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأصنام من أن ينزّل الله عليكم ﴿عَذابَ﴾ الاستئصال في ﴿يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ من أيام الدّنيا لعظمة عذابه ، أو عذاب النّار في يوم القيامة الذي هو أعظم الأيام وأشدّها ﴿قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ والأكابر من طائفته : ﴿إِنَّا لَنَراكَ﴾ ونعتقدك يا نوح منغمرا ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ عن الحقّ ، وانحراف واضح عن الصّواب حيث خالفت العامّة في قولك ، وخرجت عن ربقة تقليد آبائنا الأقدمين في رأيك.

﴿قالَ﴾ نوح مبالغا في استمالتهم بندائهم وإضافتهم إلى نفسه ، بعد تغليظهم عليه في القول المقتضي للتّغليظ عليهم في الجواب : ﴿يا قَوْمِ﴾ كيف تنسبونني إلى الضّلال والحال أنّه ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ أبدا وانحراف عن الصّواب بوجه ﴿وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ﴾ رسل ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ مبعوث من قبله إليكم لارشدكم إلى الحقّ وأهديكم إلى التّوحيد ، فأنا على حسب وظيفتي ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ وأؤدي إليكم ﴿رِسالاتِ رَبِّي﴾ من توحيده وأحكامه ومواعظه ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ واشير إليكم ما فيه خيركم وصلاحكم ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ﴾ عقوبة ﴿اللهِ﴾ أو من معارفه وأحكامه بوحيه وتعليمه ﴿ما لا تَعْلَمُونَ﴾ قيل : كانوا لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب من قبلهم ، ولذا كانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علمه نوح عليه‌السلام.

٦١٣

﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ

 تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا

 الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٣) و (٦٤)

ثمّ لمّا كان القوم تعجّبوا من أدّعائه الرّسالة وبالغوا في تكذيبه ، أنكر عليهم بقوله : ﴿أَ وَعَجِبْتُمْ﴾ - قيل : إنّ التّقدير : أكذّبتم وعجبتم (١) - من ﴿أَنْ جاءَكُمْ﴾ ونزل عليكم ﴿ذِكْرٌ﴾ وموعظة ، أو وحي ، أو كتاب ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وخالقكم اللّطيف بكم ﴿عَلى﴾ لسان ﴿رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾ وبشر مثلكم ﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾ من بأس الله ، ويخوّفكم من عقوبته ﴿وَلِتَتَّقُوا﴾ مخالفة الله ، وتحترزوا سخطه بإنذاره ، ولأجل أنّه ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بالتّقوى ، وتفوزون بأكمل السّعادة وأفضل النّعم بطاعته.

وفي ذكر ( لعلّ ) إشعار بعدم علّيّة التّقوى لشمول الرّحمة.

﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ بعد الإبلاغ والإنذار والإعذار ، وأصرّوا على معارضتة حتّى حقّ عليهم العذاب ، فصنع نوح الفلك وفار التنّور ﴿فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ﴾ آمنوا ﴿مَعَهُ﴾ من أهله وغيرهم ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ قيل : هم أربعون (٢)﴿وَأَغْرَقْنَا﴾ بالطّوفان الكفّار ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ وأستمرّوا على التّكذيب.

ثمّ نبّه سبحانه على علّة إهلاكهم بقوله : ﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ﴾ في البصيرة ، مكفوفين عن رؤية المعجزات ، قاصرين عن فهم المواعظ ، لم يكونوا يرجى منهم الهداية والإيمان.

﴿وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ

 الْكاذِبِينَ * قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ *

 أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ  (٦٥) و (٦٨)

في قصة هود

ثمّ أردف سبحانه قصّة قوم نوح بقصّة هود وتكذيب قومه ، وابتلائهم بالعذاب بقوله : ﴿وَإِلى﴾ قوم ﴿عادٍ﴾ بن إرم بن سام بن نوح ، أو ابن شالخ بن أرفخشد بن سام ، وهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف ؛ وهو الرّمل الذي كان بين عمان وحضرموت - كذا قيل (٣) - أرسلنا ﴿أَخاهُمْ﴾ في النّسب كان اسمه ﴿هُوداً﴾ قيل : هو ابن عبد الله بن رباح (٤) بن خلود بن عاد (٥) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٤ : ١٥٢.

(٢) تفسير البيضاوي ١ : ٣٤٤ ، وفيه : كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة.

(٣) تفسير الرازي ١٤ : ١٥٥.

(٤) في روح البيان : رياح.

(٥) تفسير البيضاوي ١ : ٣٤٤ ، تفسير روح البيان ٣ : ١٨٥.

٦١٤

عن السجاد عليه‌السلام أنّه قيل له : إنّ جدّك قال : « إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم على بغيهم » ، فقال : « ويلك ، أما تقرأ القرآن ﴿وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً(١) ، ﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً(٢) فهو مثلهم ، كانوا إخوانهم في عشيرتهم ، وليسوا إخوانهم في دينهم » (٣) .

عن الباقر عليه‌السلام - في حديث - « وبشّر نوح ساما بهود وقال : إنّ الله باعث نبيّا يقال له هود ، وأنّه يدعو قومه إلى الله فيكذّبونه » . الخبر (٤) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا حضرت نوحا الوفاة دعا الشيعة فقال لهم : [ اعلموا ] أنّه سيكون من بعدي غيبة يظهر فيها الطّواغيب ، وإنّ الله عزوجل سيفرّج عنكم بالقائم من ولدي ، اسمه هود ، له سمت وسكينة ووقار ، يشبهني في خلقي وخلقي » (٥) .

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ الأنبياء بعثوا خاصّة وعامّة ، وأمّا هود فإنّه ارسل إلى [ عاد ] بنبوّة خاصّة»(٦) .

في كيفية دعوة هود ومحاجته

﴿قالَ﴾ هود لقومه : ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ وحده ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ ولمّا كان قومه مطّلعين على واقعة الطّوفان وهلاك قوم نوح ، هدّدهم على الشّرك بقوله : ﴿أَ فَلا تَتَّقُونَ﴾ بأس الله وعذابه ، أشار به إلى التّخويف بمثل واقعة قوم نوح المشهورة عندهم ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بتوحيد الله ورسالة هود ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ في جوابه مغلّظين له في القول : يا هود ﴿إِنَّا لَنَراكَ﴾ متمكّنا وراسخا ﴿فِي سَفاهَةٍ﴾ وخفّة العقل ، حيث فارقت الجماعة ، وخالفت العامّة ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ﴾ ألبتّة ﴿مِنَ الْكاذِبِينَ﴾ في دعوى توحيد المعبود ، ورسالتك.

﴿قالَ﴾ هود لهم بلين وعطوفة ، بعد ما سمع منهم الكلام الشّنيع : ﴿يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ﴾ أبدا ﴿وَلكِنِّي﴾ لكمال عقلي وغاية رشدي ﴿رَسُولٌ مِنْ﴾ رسل ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ فإنّه لا يكون الرّسول إلّا من كمل عقله وتمّ رشده وصلاحه ، وما أقول لكم شيئا من قبل نفسي ، بل ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ وأؤدّي إليكم ﴿رِسالاتِ رَبِّي﴾ على حسب وظيفتي ﴿وَأَنَا﴾ مع ذلك ﴿لَكُمْ﴾ فيما أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له ﴿ناصِحٌ﴾ ومشير إلى محض خيركم ﴿أَمِينٌ﴾ وثقة عند الله في تأدية رسالته ، وعندكم في النّصح ، لا أغشّ ولا أخون أبدا.

﴿أَ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ

 جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٨٥.

(٢) هود : ١١ / ٦١.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٥٠ / ١٥٩٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٩.

(٤) الكافي ٨ : ١١٥ / ٩٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٩.

(٥) كمال الدين : ١٣٥ / ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٩.

(٦) كمال الدين : ٢١٩ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢٠٩.

٦١٥

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)

ثمّ لمّا كانوا متعجّبين من ادّعاء الرّسالة ، أنكر عليهم تعجّبهم بقوله : ﴿أَ وَعَجِبْتُمْ﴾ واستبعدتم ﴿أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ﴾ ووعظ ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّكُمْ﴾ اللّطيف بكم ﴿عَلى﴾ لسان ﴿رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾ ويحذّركم من عقوبة الله على الشّرك به والطّغيان عليه.

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد التّهديد والتّوعيد بالعذاب على الكفر ، شرع في ترغيبهم إلى الإيمان بالله وطاعته بقوله : ﴿وَاذْكُرُوا﴾ نعمة الله عليكم ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ﴾ وسكّان في الأرضين متمتّعين بما فيها ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ إهلاك ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ بالطّوفان عقوبة على شركهم وطغيانهم وتكذيبهم نوحا عليه‌السلام.

وقيل : إنّ المعنى : أنّ الله سلّطكم في محالّهم بأن جعلكم ملوكا فيها.

قيل : إنّ شدّاد بن عاد ملك معمورة الأرض (١) .

ثمّ بالغ في ترغيبهم بقوله : ﴿وَزادَكُمْ﴾ على سائر النّاس ﴿فِي الْخَلْقِ﴾ والجثّة ﴿بَصْطَةً﴾ وعظمة من حيث القامّة والقوّة.

قيل : لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام ؛ كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع ، وقامة الصغير ستّون ذراعا (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام : « كانوا كالنّخل الطّوال ، وكان الرّجل منهم ينحو (٣) الجبل بيده فيهدم منه قطعة » (٤) .

ألا ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ*﴾ ونعمه الجسام عليكم ، كي يبعثكم ذكر نعمه إلى القيام بشكره ، وبذل الجهد في طاعته ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتفوزون بالمقصد الأعلى ؛ وهو النّجاة من العذاب ، والدّخول في الجنّة والنّعم الدّائمة.

في ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أتدري ما آلاء الله ؟ » قيل : لا ، قال : « هي أعظم نعم الله على خلقه ؛ وهي ولايتنا » (٥) .

﴿قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ

 مِنَ الصَّادِقِينَ * قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي

 أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ١٨٦.

(٢) تفسير الرازي ١٤ : ١٥٧ ، تفسير روح البيان ٣ : ١٨٦.

(٣) في تفسير الصافي : ينحر ، يقال : نحا إليه ، أي مال إليه ، وأنحى عليه : أقبل عليه ، ويقال : نحر الشيء : قابله.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٦٧٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٢١٠.

(٥) الكافي ١ : ١٦٩ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٢١١.

٦١٦

مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧٠) و (٧١)

ثمّ أنّهم بعدما سمعوا تلك المواعظ البليغة والنّصائح الجليلة ، بالغوا في معارضتة وتكذيبه و﴿قالُوا﴾ مجيبين عنه إنكارا عليه واستبعادا لقوله بالتّوحيد ، حبّا لما ألفوه ، وتمسّكا بتقليد الآباء : ﴿أَ جِئْتَنا﴾ يا هود من مكان اعتزالك ، أو من السّماء ؟ ، قالوه استهزاء له ، أو المراد : حضرت في مقابلنا ، أو في محافلنا وقلت ما قلت ﴿لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ﴾ ونخصّه بالخضوع والضّراعة ﴿وَنَذَرَ﴾ ونترك عبادة ﴿ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ الأقدمون ، من الكواكب أو الأصنام ، ونعرض عن سيرتهم ، ونخرج عن ربقه تقليدهم ، لا يكون ذلك أبدا ، فإذا علمت أنّا نكون ثابتين على ما نحن عليه من الشّرك ، غير معتنين بما تدعونا إليه ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ وتهدّدنا به من العذاب الذي أمرتنا بالاتّقاء منه ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى رسالتك ووعيدك ، وكانوا مستهزئين به في سؤالهم نزول العذاب ، مظهرين عدم احتمالهم صدقه.

فلمّا رآهم مصرّين على كفرهم ، مجدّين في تكذيبه ، يئس من إيمانهم و﴿قالَ﴾ تأسّفا عليهم : يا قوم ﴿قَدْ وَقَعَ﴾ ووجب ﴿عَلَيْكُمْ مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّكُمْ﴾ مع سعة رحمته ﴿رِجْسٌ﴾ وعذاب ، أو الرّين في القلوب ﴿وَغَضَبٌ﴾ شديد لأجل كفركم وإصراركم عليه وعلى معارضة رسوله.

ثمّ بالغ في توبيخهم على عبادة الجمادات وتسميتها آلهة ، ومجادلتهم في ذلك بقوله : ﴿أَ تُجادِلُونَنِي﴾ وتعارضونني ﴿فِي﴾ شأن ﴿أَسْماءٍ﴾ وألفاظ ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾ ووضعتموها للجمادات ﴿أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ﴾ من قبل أنفسكم وبمقتضى شهواتكم ، مع أنّه لا معنى لها في الحقيقة ولا مسمّيات ، لعدم إمكان تعقّل تحقّق الألوهيّة في الممكن ولو كان أعلى وأشرف بمراتب من الجمادات فضلا عنها ، مع أنّكم لم تكتفوا بالتّسميّة ، بل التّزمتم بعبادتها ، والحال أنّه ﴿ما نَزَّلَ اللهُ بِها﴾ وبجوار عبادتها ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾ بيّن ، وحجّة واضحة ، وبرهان قاطع ، ومن الواضح أنّه لا ينبغي للعاقل أن يلتزم بدين ليس عليه بيّنة ساطعة وحجّة قاطعة ، فإن كنتم مصرّين على ما أنتم عليه من اللّجاج وعبادة الجماد ، ومستهزئين بما أدعوكم إليه من التّوحيد ، وسائلين منّي إنزال العذاب ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ نزوله عليكم و﴿إِنِّي﴾ أيضا ﴿مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ له حتّى ترون وأرى هلاككم واستئصالكم.

﴿فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا

 مُؤْمِنِينَ (٧٢)

٦١٧

ثمّ أخبر سبحانه بنزول عذاب الاستئصال عليهم ، وإكرام هود ومن آمن به تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتهديدا لمعارضيه من مشركي مكّة بقوله : ﴿فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ وآمنوا به من عذاب الخزي ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ عظيمة ﴿مِنَّا﴾ عليهم ، وإكرامنا إيّاهم بسبب إيمانهم وطاعتهم ﴿وَقَطَعْنا﴾ بالعذاب ﴿دابِرَ﴾ القوم ﴿الَّذِينَ﴾ كفروا و﴿كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ من دلائل التّوحيد ومعجزات هود ، واستأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم ﴿وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ بشيء من الحقّ ، ولم يرج لهم (١) الإيمان أبدا.

وكان هلاكهم بالرّيح العقيم تخرج من تحت الأرضين السّبع ، وما خرجت منها ريح قطّ إلّا على قوم عاد حين غضب الله عليهم ، فأمر الخزّان عليهم أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم فعتت على الخزّان ، فخرج على مقدار منخر الثّور تغيّظا منها على قوم عاد ، فضجّ الخزنة إلى الله تعالى من ذلك فقالوا : ربّنا إنّها عتت عن أمرنا ونحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك وعمّار بلادك ، فبعث الله إليها جبرئيل فردّها بجناحه فقال لها : اخرجي على ما امرت به ، وأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم.

وعن ( المجمع ) : عنه عليه‌السلام (٢) : « أنّ لله تعالى بيت ريح مقفل [ عليه ] لو فتحت لأذرت (٣) ما بين السّماء والأرض ، فما ارسل إلى عاد إلّا قدر خاتم » قال : « وكان هود وصالح وشعيب وإسماعيل ونبيّنا صلّى الله عليهم أجمعين يتكلّمون بالعربيّة » (٤) .

﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ

 جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا

 تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)

ثمّ ذكر سبحانه قصة دعوة صالح ومعارضة قومه وهلاكهم بالعذاب بقوله : ﴿وَإِلى﴾ قوم ﴿ثَمُودَ﴾ وهم قبيلة من العرب سمّوا باسسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاد بن إرم بن سام - وقيل : سمّوا به لقلّة مائهم (٥) - أرسلنا ﴿أَخاهُمْ﴾ في النّسب ﴿صالِحاً﴾ .

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّه ارسل إلى ثمود ، وهي قرية واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة » (٦) .

وقيل : كانت مساكنهم بين الحجاز والشّام إلى وادي القرى ، فبعث الله إليهم صالحا ، وكان من

__________________

(١) في النسخة : بهم.

(٢) في مجمع البيان : عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٣) أذرت الريح التراب : أطارته وفرّقته.

(٤) مجمع البيان ٤ : ٦٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٢١٢.

(٥) تفسير الرازي ١٤ : ١٦١.

(٦) اكمال الدين : ٢٢٠ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٢١٢.

٦١٨

أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا ، فدعاهم إلى عبادة الله ، و﴿قالَ﴾ لهم بلطف وعطوفة : ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ وحده ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ .

في كيفية دعوة صالح ومحاجته ومعارضته قومه

قيل : لمّا دعاهم إلى التّوحيد طالبوه بالمعجزة فقال : ما تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا في عيدنا ، ونخرج أصنامنا ، وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا ، فإذا ظهر دعاؤك اتّبعناك ، وإن ظهر أثر دعائنا اتّبعتنا ، فخرج معهم فسألوه أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معيّنة ، فأخذ مواثيقهم أنّه إن فعل ذلك آمنوا به فقبلوا ، فصلّى ركعتين ودعا الله ؛ فتمخّضت تلك الصّخرة كما تتمخّض الحامل ، ثمّ انفرجت وحرّكت النّاقة من وسطها ، وكانت في غاية الكبر (١) .

فبعد ظهور هذه المعجزة قال صالح : يا قوم ﴿قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾ عظيمة ، وحجّة واضحة على صدقي في دعوى الرّسالة والتّوحيد ﴿مِنْ﴾ قبل ﴿رَبِّكُمْ﴾ فلا عذر لكم في ترك الإيمان بعدها ، فإنّكم سألتم أن اخرج من الصّخرة ناقة لتكون آية على صدقي ، فانظروا ﴿هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً﴾ ظاهرة ، ومعجزة باهرة ﴿فَذَرُوها﴾ ودعوها ﴿تَأْكُلْ﴾ وترتع من الكلأ والعشب ﴿فِي أَرْضِ اللهِ﴾ وأكرموها ﴿وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ ولا تقربوها بإيذاء ومكروه فضلا عن القتل والجرح ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾ ويصيبكم إذن ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ .

﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ

 سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

 مُفْسِدِينَ  قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ

 مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قالَ

 الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٤) و (٧٦)

ثمّ أنّه بعد تهديدهم على العصيان رغّبهم في الطّاعة والانقياد بتذكيرهم نعم الله الموجبة لشكره بقوله : ﴿وَاذْكُرُوا﴾ نعمة الله عليكم ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ﴾ إهلاكه قوم ﴿عادٍ﴾ بشركهم وطغيانهم ﴿وَبَوَّأَكُمْ﴾ وأسكنكم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ التي كانوا يسكنونها ، وهي أرض حجر بين الحجاز والشّام ، وأنتم ﴿تَتَّخِذُونَ﴾ وتبنون ﴿مِنْ سُهُولِها﴾ والمسطّحات الليّنات منها لأنفسكم ﴿قُصُوراً﴾ وأبنية رفيعة ﴿وَتَنْحِتُونَ﴾ وتنجرون من ﴿الْجِبالَ﴾ والصّخور ﴿بُيُوتاً﴾ ومساكن.

نقل أنّه لمّا أهلك الله تعالى عاد ، أقام ثمود مقامهم وعمّروا بلادهم وأخلفوهم في أرضهم في

__________________

(١) تفسير الرازي ١٤ : ١٦٢.

٦١٩

خصب وسعة ، وطالت أعمارهم وكثرت نعمهم ، وبنوا قصورا في الأرض السّهلة لصيفهم ، ونحتوا في الجبال بيوتا لشتائهم.

وقيل : إنّهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا من الجبال بيوتا ؛ لأن السّقوف والأبنيّة كانت تبلى قبل فناء أعمارهم ، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض.

ثمّ بالغ صالح في ترغيبهم بقوله : ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ﴾ ونعمه العظام عليكم ، واجتهدوا في أداء شكرها بالتّوحيد والقيام بالطّاعة ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾ ولا تسعوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حال كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾ فيها.

﴿قالَ الْمَلَأُ﴾ والأشراف ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وترفّعوا عن الإيمان به واتّباعه ، وهم ﴿مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ واستحقروا لفقرهم ﴿لِمَنْ آمَنَ﴾ به ﴿مِنْهُمْ﴾ واتّبعوه ، إنكارا واستهزاء بهم : ﴿أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ ولمّا كانت رسالته لشهادة معجزاته واضحة ، عدل المؤمنون عن جواب سؤالهم ، وأخبروا بإيمانهم بما جاء به و﴿قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ﴾ صالح ﴿بِهِ﴾ من التّوحيد والأحكام ﴿مُؤْمِنُونَ﴾ مصدّقون ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عنادا أو لجاجا : ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ﴾ من رسالة صالح وصدق دعواه من التّوحيد ووعد العذاب ﴿كافِرُونَ﴾ وجاحدون.

﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ

 الْمُرْسَلِينَ  فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ

 وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ

 النَّاصِحِينَ (٧٧) و (٧٩)

في كيفية عقر ناقة صالح

ثمّ أنّه روي أنّه زيّنت عقر الناقة امرأتان لمّا أضرّت بمواشيهما ، وكانتا كثيرتي المواشي ، وكانت إحداهما جميلة الخلق ، فطلبت ابن عمّ لها يقال له مصدع ابن دهر ، وجعلت له نفسها إن عقر النّاقة ، فأجابها إلى ذلك ، ثمّ طلبت قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا ، يزعمون أنّه ولد زنا ، ولكنّه ولد في فراش سالف ، فقالت : يا قدار ، أزوّجك أي بناتي شئت على أن تعقر النّاقة ، وكان متّبعا في قومه ، فأجابها أيضا ، فانطلق قدار ومصدع فاستعانا بطغاة ثمود ، فأتاهم تسعة رهط فاجتمعوا على عقر النّاقة ، فأوحى الله تعالى إلى صالح : أنّ قومك سيعقرون الناقة ، فقال لهم صالح ذلك ، فقالوا : ما كنّا لنفعل (١) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ١٩٢.

٦٢٠