نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

وعن الصادق عليه‌السلام : ﴿كانَ مَيْتاً﴾ عنّا ، ﴿فَأَحْيَيْناهُ﴾ بنا » (١) .

وعن القمّي قال : جاهلا عن الحقّ والولاية ، فهديناه إليها (٢) . قال : النّور : الولاية ، و﴿فِي الظُّلُماتِ﴾ يعني ولاية غير الأئمّة عليهم‌السلام (٣) .

وعنه عليه‌السلام - في حديث - : « قال الله تعالى : ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ(٤) فالحيّ : المؤمن الذي تخرج طينته من طينة الكافر ، والميت : الذي يخرج من الحيّ [ هو ] الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحيّ : المؤمن ، والميت : الكافر ، وذلك قوله عزوجل : ﴿أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ﴾ فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر ، وكانت حياته حين فرّق [ الله ] بينهما بكلمته ، وكذلك يخرج الله عزوجل المؤمن في الميلاد من الظّلمة بعد دخوله فيها إلى النّور ، ويخرج الكافر من النّور إلى الظّلمة بعد دخوله في النّور ، وذلك قوله عزوجل : ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٥) .

﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ

 بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ

 ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ

 عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)

ثمّ لمّا كان أبو جهل من أكابر قريش ، وكان يفتخر بعظمته بينهم ، نبّه سبحانه على أنّ العظمة والرّئاسة من موجبات الفتنة والخذلان بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ النّحو الذي فعلنا في مكّة من جعل أكابرها وصناديدها مجرمين ماكرين في إطفاء نور الهداية ﴿جَعَلْنا﴾ في القرون السالفة ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ وبلدة ﴿أَكابِرَ﴾ ها وأعاظمها ﴿مُجْرِمِيها﴾ ومذنبيها وماكريها في الإخلال بأمر نبيّها ، وقيل : إنّ المراد : كما زينا للكافرين أعمالهم ، جعلنا مجرمي كلّ قرية أكابرها ، بأن خلّيناهم وأنفسهم ﴿لِيَمْكُرُوا﴾ ويغدروا ﴿فِيها﴾ ويحتالوا في إضلال أهلها ، ومعارضة الأنبياء كبرا وحسدا عليهم وحفظا لرئاستهم(٦).

قيل : إن صناديد قريش أجلسوا على كلّ طريق من طرق مكّة أربعة نفر ليصرفوا النّاس عن الإيمان

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ٢٧٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٣.

(٢) في النسخة : إلينا.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢١٥ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٣.

(٤) يونس : ١٠ / ٣١.

(٥) الكافي ٢ : ٤ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٤ ، والآية من سورة يس : ٣٦ / ٧٠.

(٦) تفسير الرازي ١٣ : ١٧٤.

٥٤١

بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يقولون لكلّ من يقدم : إيّاك وهذا الرّجل ، فإنّه كاهن ساحر كذّاب (١) .

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ لأنّ وبال مكرهم يحيق بهم ولا يتعدّاهم ﴿وَما يَشْعُرُونَ﴾ بذلك أصلا ، بل يزعمون أنّهم يمكرون بك وبالمؤمنين.

ثمّ بيّن سبحانه بعض جرم الأكابر بقوله : ﴿وَإِذا جاءَتْهُمْ﴾ من عند الله ﴿آيَةٌ﴾ ومعجزة دالّة على صدق نبوّتك ﴿قالُوا﴾ عنادا ولجاجا : ﴿لَنْ نُؤْمِنَ﴾ بك وبهذه الآية ﴿حَتَّى نُؤْتى﴾ من جانب الله ﴿مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ﴾ من الوحي ومنصب الرّسالة ، فتكون متبوعا لا تابعا. ففيه دلالة على أنّ إصرارهم على الكفر كان لغاية الحسد لا لطلب الحجّة.

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال : والله ، لو كانت النّبوّة حقّا لكنت أحقّ بها (٢) . وقد مرّ ما حكي عن أبي جهل من قوله : زاحمنا بنو عبد مناف في الشّرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبيّ اوحي إليه (٣) .

قيل : إنّ المراد برسل الله : خصوص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والجمع للتّعظيم (٤) .

ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿اللهُ أَعْلَمُ﴾ من كلّ شيء ﴿حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ فإنّ استحقاقها ليس بكثرة المال والجاه الدّنيوي ، بل إنّما هو بالفضائل النّفسانيّة ، ولذا خصّها بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيره من أكابر مكّة الفاقدين لها.

ثمّ هدّد سبحانه الأكابر المتكبّرين بقوله : ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وعصوا الله بالاستكبار والحسد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥)﴿صَغارٌ﴾ وذلّ وحقارة ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ في الآخرة ، أو من عند الله ، مكان ما تمنّوا من عزّ النّبوّة وشرف الرّسالة في الدّنيا ، ﴿وَعَذابٌ﴾ بالنّار ﴿شَدِيدٌ﴾ غايته ﴿بِما كانُوا﴾ في الدّنيا ﴿يَمْكُرُونَ﴾ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحسدونه.

عن القمّي رحمه‌الله : « أي يعصون الله في السرّ » (٦) .

﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ

 ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا

 يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ

 يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٩٨.

(٢) تفسير الرازي ١٣ : ١٧٥.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٩٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٤.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٩٩.

(٥) في النسخة : والحسد على النبيّ.

(٦) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٥.

٥٤٢

ثمّ نبّه سبحانه على كمال سلطنته ببيان أنّ إيمان المؤمن وكفر الكافر بإرادته وتوفيقه وخذلانه بقوله : ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾ إلى السّعادة الأبديّة ومقام قربه ورحمته بتعريفه وتوفيقه للإيمان ﴿يَشْرَحْ﴾ ويوسّع ﴿صَدْرَهُ﴾ وقلبه ﴿لِلْإِسْلامِ﴾ بتجليته من الأخلاق الرّذيلة ، وتجلية عين بصيرته بنور العقل ، فيرى الحقّ ويبادر إلى قبوله بسهولة ورغبة.

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن شرح الصّدر [ ما هو ] . فقال : « [ نور ] يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له [ صدره ] وينفسح » . فقالوا : هل لذلك أمارة يعرف بها ؟ فقال : « نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتّجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله » (١) .

﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ ويحرفه عن طريق الحقّ ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ﴾ بسبب تراكم الأخلاق السّيّئة كالكبر والحسد وحبّ الجاه والمال فيه ﴿ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ شديد الضّيق بحيث لا يبقى فيه مجال لتمكّن الحقّ ، أو منسدّ المنافذ بحيث لا تدخل فيه المواعظ والمعارف.

عن الصادق عليه‌السلام ، [ أنه ] قال لموسى بن أسمر (٢) : « أتدري ما الحرج ؟ » قال : قلت : لا ، فقال بيده وضمّ أصابعه ، كالشيء المصمت الذي لا يدخل فيه شيء ، ولا يخرج منه شيء (٣) .

وعنه عليه‌السلام ، في هذه الآية ، قال : « قد يكون ضيّقا وله منفذ يسمع منه ويبصر ، والحرج هو الملتئم الذي لا منفذ له يسمع به ولا يبصر منه » الخبر (٤) ولذا ينبو عن قبول الحقّ ، ويكون إيمانه في امتناعه منه وثقله عليه ﴿كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ﴾ ويعرج إليها ﴿كَذلِكَ﴾ الضّيق الذي جعل الله لصدر الكافر ﴿يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ﴾ والشكّ. كما عن الصادق عليه‌السلام (٥) . أو العذاب ، أو اللّعنة في الدّنيا والعذاب في الآخرة. وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : هو الشّيطان ، أي يسلّطه (٦)﴿عَلَى الَّذِينَ﴾ يعلم أنهم بسبب خبث ذاتهم وسوء اختيارهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ودين الإسلام أبدا.

عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « من ﴿يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾ بإيمانه في الدّنيا إلى جنّته ودار كرامته [ في الآخرة ]﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ للتّسليم لله والثّقة به ، والسّكون إلى ما وعده من ثوابه حتّى يطمئنّ إليه ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ عن جنّته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدّنيا ﴿يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً﴾ حتّى يشكّ في كفره ، ويضطرب من اعتقاده قلبه حتّى يصير ﴿كَأَنَّما

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٦١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٥.

(٢) في تفسير العياشي : لموسى بن أشيم.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١١٩ / ١٤٩٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٥.

(٤) معاني الأخبار : ١٤٥ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٥.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ١١٩ / ١٤٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٦.

(٦) تفسير الرازي ١٣ : ١٨٤.

٥٤٣

يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(١) .

وعن الصادق عليه‌السلام - في حديث - « واعلموا أنّ الله إذا أراد بعبد خيرا شرح صدره للإسلام ، فإذا أعطاه ذلك نطق لسانه بالحقّ ، وعقد قلبه عليه فعمل به ، فإذا جمع الله له ذلك تمّ له إسلامه ، وكان عند الله إن مات على ذلك الحال من المسلمين حقّا ، وإذا لم يرد الله بعبد خيرا ، وكله إلى نفسه فكان صدره ضيّقا حرجا ، فإن جرى على لسانه [ حقّ ] لم يعقد قلبه عليه ، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يعطه الله العمل به ، فإذا اجتمع ذلك عليه حتّى يموت وهو على تلك الحال ، كان عند الله من المنافقين ، وصار ما جرى على لسانه من الحقّ الذي لم يعطه الله أن يعقد عليه قلبه ولم يعطه العمل به حجّة عليه ، فاتّقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام ، وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحكمة (٢) حتّى يتوفّاكم وأنتم على ذلك » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ الله عزوجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور ، فأضاء لها سمعه وقلبه حتّى يكون أحرص على ما في أيديكم منكم ، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء فأظلم لها سمعه وقلبه » ثم تلا : ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾ الآية (٤) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور (٥) ، وفتح مسامع قلبه ، ووكّل به ملكا يسدّده ، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء ، وسدّ مسامع قلبه ، ووكّل به شيطانا يضلّه » ، ثمّ تلا هذه الآية (٦) .

﴿وَهذا﴾ التّشريح لصدور المؤمنين ، والتّضييق لقلوب الكافرين ، وجعل الرّجس عليهم ﴿صِراطُ رَبِّكَ﴾ ودأبه الذي يستمرّ عليه ﴿مُسْتَقِيماً﴾ لا عوج فيه ولا انحراف عنه ، أو هذا البيان الذي يكون في القرآن صراط ربّك ؛ كما عن ابن مسعود (٧) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : هذا الذي أنت عليه يا محمّد دين ربّك مستقيما (٨) .

وعن القميّ : « يعني الطّريق الواضح » (٩) .

﴿قَدْ فَصَّلْنَا﴾ وشرحنا ﴿الْآياتِ﴾ والمطالب الكثيرة واحدا بعد واحد ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ ويتنبّهون بالآيات والنّذر ، فانّهم المنتفعون بها.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣١ / ٢٧ ، التّوحيد : ٢٤٢ / ٤.

(٢) في الكافي : بالحق.

(٣) الكافي ٨ : ٤٠٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٦.

(٤) الكافي ٢ : ١٧٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٦.

(٥) في تفسير العياشي : نكتة بيضاء.

(٦) الكافي ١ : ١٢٦ / ٢ ، تفسير العياشي ٢ : ١١٨ / ١٤٨٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٦.

(٧) مجمع البيان ٤ : ٥٦٢.

(٨) تفسير الرازي ١٣ : ١٨٧.

(٩) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٧.

٥٤٤

﴿لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)

ثمّ بشّر سبحانه المتذكّرين بقوله : ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿دارُ السَّلامِ﴾ ومنزل مصون من جميع المكاره والآفات ، قيل : إنّ السّلام اسم من أسماء الله (١) . وإضافة الدّار إليه تعالى مبالغة في تشريفها وتعظيمها ، والمراد الجنّة.

وعن القمّي : « يعني : [ في ] الجنّة ، والسّلام الأمان والعافية والسّرور » (٢) .

وهي معدّة ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم حاضرة لديه ، أو المراد أنّه تعالى متكفّل بها ، وقيل : عند ربّهم كناية عن غاية شرفها وكرامتها (٣) .

ثمّ بالغ سبحانه في التّبشير بقوله : ﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ ومحبّهم ، أو النّاظر في صلاحهم ، وعن القمّي رحمه‌الله : « يعني : أولى بهم » (٤) جزاء ﴿بِما كانُوا﴾ في الدّنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الخيرات والحسنات.

﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ

 أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا

 قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذلِكَ

 نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٨) و (١٢٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد البشارة بغاية لطفه بالمؤمنين ، أوعد بعتابه وشدّة عذابه للمشركين بقوله : ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ إلى القيامة ﴿جَمِيعاً﴾ ويقول عتابا وتوبيخا لهم : ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِ﴾ وجماعة الشّياطين ، أنتم ﴿قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ﴾ وأضفتم إلى جماعتكم كثيرا ﴿مِنَ الْإِنْسِ﴾ بإغوائكم وتسويلاتكم ، وصيّرتموهم أولياءكم وأتباعكم.

عن القمّي رحمه‌الله : « من والى قوما فهو منهم ، وإن لم يكن من جنسهم » (٥) .

﴿وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ﴾ وأتباعهم ﴿مِنَ الْإِنْسِ﴾ بعد استماع العتاب والتّوبيخ إظهارا للنّدامة : ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ﴾ وانتفع ﴿بَعْضُنا بِبَعْضٍ﴾ أمّا انتفاع الجنّ بالإنس فبإغوائهم وطاعتهم إيّاهم ، وأمّا انتفاع الإنس من الجنّ فبإعانتهم إيّاهم على نيل الشّهوات ﴿وَبَلَغْنا﴾ الآن ﴿أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا﴾ وأدركنا الوقت الذي وقّته لنا من يوم القيامة ، بعدما كنّا مكذّبين به طاعة للشّياطين واتّباعا للشّهوات.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ١٨٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٧.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ١٨٩.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٧.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٨.

٥٤٥

ثمّ كأنّهم قالوا : ماذا تعامل معنا بعد إفراطنا في عصيانك ؟ ﴿قالَ﴾ الله لهم وللشّياطين الّذين والوهم : ﴿النَّارُ مَثْواكُمْ﴾ ومنزل إقامتكم ، حال كونكم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ أبدا ﴿إِلَّا ما شاءَ اللهُ﴾ عدم كونكم فيها.

قيل : هو وقت المحاسبة (١) ، وقيل : هي الأوقات التي يخرجون منها لشوب من حميم ، ثمّ يكون مرجعهم إلى الجحيم (٢) ، وقيل : هو وقت الانتقال من النّار إلى الزّمهرير (٣) .

روي أنّهم يدخلون واديا فيه برد شديد ، فهم يطلبون الردّ من ذلك البرد إلى الجحيم (٤) .

ويحتمل أن يكون المراد من المستثنى : العصاة من المؤمنين ؛ فإنّهم من أولياء الشّيطان ، ولا خلود لهم.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : استثنى الله قوما سبق في علمه أنّهم يسلمون ويصدّقون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله(٥).

ثمّ لمّا كان مجال توهّم الظّلم في تخليد الكفّار في النّار ، دفعه سبحانه بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ في فعاله لا يصدر منه الظّلم ، وإنّما يعاقب على حسب الاستحقاق ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوال الثّقلين وأعمالهم ، وبما يستحقّون من الجزاء ﴿وَكَذلِكَ﴾ التولّي الذي كان بين الجنّ والإنس ، أو الذي بين الله تعالى وبين المؤمنين ﴿نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً﴾ آخر منهم.

قيل : يعني نجعل المحبّة والنّصرة بينهم (٦) ، وقيل : نكل بعضهم إلى بعض في القيامة (٧) ، وقيل : نقرن بينهم في النّار ؛ كلّ ذلك للسّنخيّة التي تكون بينهم طينة وأعتقادا وأخلاقا وعملا ، وقيل : يعني نسلّط بعضهم على بعض ، فنأخذ من الظالم بالظّالم (٨) .

عن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « ما انتصر الله من ظالم إلّا بظالم ، وذلك قول الله عزوجل : ﴿وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً (٩) .

وعن القمّي رحمه‌الله قال : « نولّي كلّ من تولّى أولياءهم فيكونون معهم » (١٠) جزاء ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ويرتكبون من الظلم والقبائح.

قيل : إنّ الآية تدلّ على أنّ الرعيّة إذا كانوا ظالمين ، سلّط الله عليهم ظالما مثلهم ، وأيضا تدلّ على أنّه لا بدّ في الخلق من أمير ؛ لأنّه تعالى إذا لم يخل أهل الظّلم من أمير ظالم ، فبأن لا يخلي أهل

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٢.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ١٠٣.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٢ ، تفسير روح البيان ٣ : ١٠٣.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٢.

(٥) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٢.

(٦) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٣.

(٧) مجمع البيان ٤ : ٥٦٥.

(٨) تفسير روح البيان ٣ : ١٠٤.

(٩) تفسير العياشي ٢ : ١١٨ / ١٤٨٧ ، الكافي ٢ : ٢٥١ / ١٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٨.

(١٠) تفسير القمي ١ : ٢١٦ ، وزاد فيه : يوم القيامة ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٨.

٥٤٦

الصّلاح من أمير يحملهم على زيادة الصّلاح ، كان أولى (١) .

في لزوم وجود السلطان في الأرض ولو كان جائرا والنهي عن سبّ السلطان

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يصلح للنّاس إلّا أمير عادل أو جائر » ، فأنكروا قوله : « أو جائر » فقال : « نعم ، يؤمّن السّبيل ، ويمكّن من إقامة الصّلاة وحجّ البيت » (٢) .

وعن مالك بن دينار ، [ جاء ] في بعض كتب الله تعالى : أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك ، لكن توبوا إليّ اعطّفهم عليكم (٣) .

﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي

 وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

 وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ العذاب في القيامة لا يكون إلّا بعد إتمام الحجّة بقوله : ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ وجماعة الثّقلين المنكرين للبعث ﴿أَ لَمْ يَأْتِكُمْ﴾ في الدّنيا من قبلنا ﴿رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ وأنبياء يجانسونكم حتّى تميلوا إليهم ، وتستفيدوا منهم ، وهم كانوا ﴿يَقُصُّونَ﴾ ويتلون ﴿عَلَيْكُمْ آياتِي﴾ وكتابي ﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ﴾ ويخوّفونكم ﴿لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ وشدّة أهواله وعذابه ؟

قيل : إنّ الله كما أرسل رسلا من الإنس ، أرسل رسلا من الجنّ ، وأستدلّ بهذه الآية وبقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ(٤) والأكثر على أنّه ما كان من الجنّ رسول ، وإنّما كان الرّسول من الإنس خاصّة.

وضمير ( منكم ) راجع إلى مجموع الثّقلين ، فيكفي كونه من الإنس ، أو إلى أحد الثّقلين لا كلّ منهما ، أو إلى كلّ منهما ، أو كان رسل الجنّ رسل الإنس ؛ للإجماع على اختصاص الرّسل بالإنس ، وما روي من أنّ الله بعث نبيّا إلى الجنّ يقال له يوسف فقتلوه (٥) ، وأرسل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الثّقلين ، لا دلالة فيه على أنّ ذلك النبيّ كان من الجنّ.

ثمّ لمّا لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالرّسل وتبليغاتهم ﴿قالُوا﴾ مجيبين : بلى ﴿شَهِدْنا﴾ وأعترفنا ﴿عَلى أَنْفُسِنا﴾ بالكفر واستحقاق العذاب.

ثمّ بيّن سبحانه علّة كفرهم وشقاقهم مع الرّسل بقوله : ﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾ وفتنتهم ﴿الْحَياةُ الدُّنْيا

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٣ : ١٩٤.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٥ ، والآية من سورة فاطر : ٣٥ / ٢٤.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٢ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٥٨.

٥٤٧

وشهواتها ، فلم يؤمنوا بالرّسل ﴿وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ في القيامة ﴿أَنَّهُمْ كانُوا﴾ في الدّنيا ﴿كافِرِينَ﴾ بالبعث ودار الجزاء.

قيل : تشهد جوارحهم عليهم بالشّرك (١) وإنكار الحشر.

﴿ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)

ثمّ أشار سبحانه إلى حكمة بعث الرّسل بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من إرسال

الرّسل ، والتّبليغ والإنذار ، لأجل ﴿أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ﴾ مع كمال عدله وحكمته ﴿مُهْلِكَ﴾ أهل ﴿الْقُرى﴾ ومعذّبهم بعذاب الاستئصال ﴿بِظُلْمٍ﴾ صادر منهم ، أو متلبّسا بظلم منه على القرى ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿أَهْلُها غافِلُونَ﴾ عمّا يسخطه ويرضاه ، معذورون في عصيان أوامره ونواهيه لجهلهم بها حتّى يكون لهم على الله حجّة ، ويصحّ قولهم : ﴿رَبَّنا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(٢) .

وحاصل الآية أنّ إرسال الرّسول وإنزال الكتاب ، إنّما كان لإتمام الحجّة على النّاس ، ولولاه كان تعذيبهم على مخالفة الأحكام مع جهلهم بها ظلما ممتنعا صدوره من الله ؛ لمنافاته لربوبيّته والوهيّته.

﴿وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)

ثمّ لمّا كان بعد إرسال الرّسل وإتمام الحجّة على النّاس تفاوت فاحش بينهم في الإيمان والكفر والطّاعة والعصيان ، نبّه سبحانه بعلمه بمراتب استحقاقاتهم المختلفة بقوله : ﴿وَلِكُلٍ﴾ من مكلّفي الجنّ والإنس ؛ كفّارهم ومؤمنيهم ﴿دَرَجاتٌ﴾ ومراتب متفاوتة في القرب من الله والبعد عنه ، وفي مقدار استحقاق المثوبة والعقوبة ، حاصلة تلك الدّرجات لهم ﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾ من الحسنات والسّيّئات ﴿وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ وجاهل بما يرتكبون من الطّاعة والعصيان ، وبمراتب استحقاقاتهم ؛ فيجزي كلّ عامل على حسب استحقاقه.

﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما

 أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)

ثمّ أعلن سبحانه بغناه عن طاعة الخلق بقوله : ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُ﴾ المطلق بذاته لا حاجة له إلى طاعة

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ١٩٦.

(٢) القصص : ٢٨ / ٤٧.

٥٤٨

المطيعين ، ولا ضرر عليه من معصية العاصين ، وإنّما كلّف الثّقلين لأنّه ﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ الواسعة على خلقه ، ومن رحمته عليهم أن يكلّفهم بما يوجب تكميل نفوسهم واستعدادهم للفيوضات الأبديّة والنّعم الدّائمة ، وتعاليهم إلى الدّرجات العالية ، وسعادتهم بالقيام إلى الطّاعة والتّحرّز عن القبائح.

ثمّ لمّا أعلن سبحانه بغناه وسعة رحمته ، أردفه بإظهار كمال قدرته ببيان فيه ترهيب للقلوب بقوله:

﴿إِنْ يَشَأْ﴾ الله أيّها النّاس ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ من وجه الأرض ويهلككم ﴿وَيَسْتَخْلِفْ﴾ ويخلق بدلا منكم ﴿مِنْ بَعْدِكُمْ﴾ وبعد إهلاككم ﴿ما يَشاءُ﴾ خلقه من قوم يكونون أطوع منكم له تعالى ﴿كَما أَنْشَأَكُمْ﴾ وأوجدكم ﴿مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ ومن نسلهم مع عدم كونهم مثلكم في العصيان ، بل كانوا مطيعين كأصحاب سفينة نوح ، ولكنّه تعالى لم يشأ إذهابكم ، ولم يعجل في إهلاككم رحمة عليكم.

﴿إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي

 عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)

ثمّ بالغ سبحانه في ترهيب العصاة بقوله : ﴿إِنَّ ما تُوعَدُونَ﴾ من العذاب على الكفر والعصيان ، والله ﴿لَآتٍ﴾ وكائن لوجود المقتضي وهو الاستحقاق ، والوعد الذي لا خلف فيه ، وعدم فرض المانع عنه إلّا قدرتكم على تعجيز الله ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ له تعالى ، وفائتين منه ، وهاربين من سلطانه.

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديدهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، تهديدا لقومك العصاة : ﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ ما تريدون من الطّغيان والعصيان مجدّين فيه ﴿عَلى﴾ غاية ﴿مَكانَتِكُمْ﴾ ومنتهى قدرتكم واستطاعتكم ، أو اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والطّغيان وعداوة الرّسول ، ولا تنحرفوا عنه ، و﴿إِنِّي عامِلٌ﴾ أيضا بما امرت به من الصّبر على عداوتكم ، والجدّ في تبليغ رسالتي على مكانتي ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ في الآخرة ﴿مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ﴾ هذه ﴿الدَّارِ﴾ الفانية التي خلقت لتلك العاقبة ، والنتيجة من الفلاح والنّعمة والرّاحة الدّائمة ، ومن لا تكون له.

ثمّ صرّح بحرمان المشركين من العاقبة المحمودة بقوله : ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ﴾ المشركون الّذين هم ﴿الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسهم بالكفر والعصيان ، ولا ينجون أبدا من العذاب ، ولا يفوزون بمقاصدهم.

﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا

 لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى

 شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)

٥٤٩

ثمّ لمّا أمرهم تهديدا بالثّبات على أعمالهم ، شرع في ذكر بعض أعمالهم القبيحة بقوله : ﴿وَجَعَلُوا﴾ هؤلاء المشركون ﴿لِلَّهِ﴾ تعالى ﴿مِمَّا ذَرَأَ﴾ وخلق بقدرته الكاملة في الأرض ﴿مِنَ الْحَرْثِ﴾ والزّرع ﴿وَ﴾ من ﴿الْأَنْعامِ﴾ الثّلاثة ؛ الإبل والبقر والغنم ﴿نَصِيباً﴾ وسهما ، مع أنّ الكلّ له ، ولأصنامهم التي جعلوها شركاء أنفسهم في أموالهم نصيبا ﴿فَقالُوا﴾ مشيرين إلى نصيب الله : ﴿هذا﴾ النّصيب ﴿لِلَّهِ﴾ خاصّة ، وذلك كان ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ الفاسد وادّعائهم الباطل ، لا بالحجّة والبرهان ﴿وَهذا﴾ النّصيب الآخر ﴿لِشُرَكائِنا﴾ في أمو النا من الأصنام ﴿فَما كانَ﴾ من النّصيب ﴿لِشُرَكائِهِمْ﴾ وأصنامهم ﴿فَلا يَصِلُ﴾ ولا يدفع شيء منه ﴿إِلَى اللهِ﴾ بل يدفع إلى سدنة (١) الأصنام ﴿وَما كانَ﴾ من النّصيب ﴿لِلَّهِ﴾ تعالى ﴿فَهُوَ يَصِلُ﴾ ويدفع ﴿إِلى شُرَكائِهِمْ﴾ بصرفه في سدنتها ، وذبح النّسائك (٢) عندها.

ثمّ ذمّهم سبحانه على ذلك التّقسيم ، مع أنّ الجميع لله ، ثمّ صرفهم نصيب الله في مصارف الأصنام ، بقوله : ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ بشركة الجمادات في ما خلقه الله ، ثمّ ترجيحها عليه تعالى.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا ، فما كان للصّنم أنفقوه عليه ، وما كان لله أطعموه الصّبيان والمساكين ، ولا يأكلون منه البتّة ، ثمّ إن سقط ممّا جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا : إنّ الله غنيّ ، وإن سقط ممّا جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردّوه إلى نصيب الصّنم وقالوا : إنّه فقير (٣) .

وقيل : كانوا إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله ممّا لله ، ولا يفعلون مثل ذلك في ما لله عزوجل (٤)

وقيل : إنّه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للأصنام في نصيب الله سدّوه ، وإن كان على ضدّ ذلك تركوه (٥) .

وقيل : إنّهم كانوا إذا أصابهم القحط استعانوا بما لله ، ووفّروا ما جعلوا لشركائهم (٦) .

وقيل : إن زكا ونما نصيب الآلهة جعلوه لها وقالوا : لو شاء الله زكّا نصيب نفسه ، وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا : لا بدّ لآلهتنا من نفقة ، فأخذوا نصيب الله وأعطوه السّدنة (٧) .

أقول : لا تنافي بين الوجوه لإمكان أنّ جميعها كان عملهم ، وبعض الوجوه مرويّ عن أئمّتنا (٨) .

﴿وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا

 عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)

__________________

(١) أي خدمة الأصنام.

(٢) النّسائك والنّسك : جمع النّسيكة ، وهي الذبيحة.

( ٣ و٤ و٥ ) . تفسير الرازي ١٣ : ٢٠٤.

(٦ و٧) . تفسير الرازي ١٣ : ٢٠٤.

(٨) راجع : مجمع البيان ٤ : ٥٧١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٠.

٥٥٠

ثمّ حكى سبحانه عن مشركي العرب مذهبا آخر أقبح من الأول إظهارا لخفّة عقولهم ، وتحقيرا لهم في أنظار العقلاء بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ التزيين الذي يكون في أنظارهم للتّشريك بين الله وبين الأصنام في ما خلقه سبحانه من الحرث والأنعام ﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ﴾ الإناث بدفنهنّ أحياء في الأرض خوفا من الفقر ، أو السّبي ، أو عارا من التّزويج ، والذّكور بنحرهم للحلف عليه ﴿شُرَكاؤُهُمْ﴾ وأولياؤهم من الشّيطان ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ ويهلكوهم إلى الأبد.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : ﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ في النّار (١) ، بالإغواء إلى الأعمال القبيحة ﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾ ويخلطوا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بالتّسويلات ﴿دِينَهُمْ﴾ الحقّ الذي كان عليه إسماعيل ، ويضلّوهم عنه.

وقيل : إنّ المراد من شركائهم : سدنة آلهتهم (٢) ، وعليه يكون المراد : أنّ عاقبة تزيينهم إهلاكهم وتشويش دينهم عليهم ، لظهور أنّه لم يكن قصد السّدنة من التّزيين ذلك ، وإنّما هو قصد الشّياطين.

ثمّ لمّا كان شيوع تلك القبائح في أولاد إسماعيل ثقيلا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سلّى سبحانه قلبه الشّريف بأنّ صدور هذا القبيح منهم إنّما كان بمشيئة الله لأنّه خلّاهم وأنفسهم ، وسلّط عليهم الشّياطين ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ عدم صدوره منهم ألجأهم على تركه ، أو قوّى عقولهم وصرف قلوبهم عنه ، إذن ﴿ما فَعَلُوهُ﴾ البتّة ، فإذا علمت أنّ الله شاء عصيانهم ، وأنّه مع كمال قدرته على أخذهم تركهم على ما هم عليه ليزدادوا إثما ﴿فَذَرْهُمْ﴾ واتركهم أنت أيضا ﴿وَما يَفْتَرُونَ﴾ على الله وكذبهم عليه من قولهم : إنّ الله أمرنا به ، فإنّ لهم في الآخرة عذابا عظيما.

﴿وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ

 ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا

 يَفْتَرُونَ (١٣٨)

ثمّ حكى سبحانه أنّهم قسّموا أنعامهم ثلاثة أقسام ؛ فجعلوا قسما منها ومن حرثهم لآلهتهم ﴿وَقالُوا﴾ مشيرين إلى هذه القسمة : ﴿هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ﴾ لآلهتنا ﴿حِجْرٌ﴾ وممنوعة من التّصرّف فيها ﴿لا يَطْعَمُها﴾ ولا يذوق منها أحد ﴿إِلَّا مَنْ نَشاءُ﴾ أن يطعمها ، وهم خدمة الآلهة ، وخصوص الرّجال دون النّساء ، وهذا الحكم يكون ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ الباطل وهوى أنفسهم الفاسد ، لا بالحجّة والأخذ من الشّريعة ، وقسمة منها جعلوها بحيرة وسائبة وحام ، وقالوا مشيرين إليها : ﴿وَ﴾ هذه ﴿أَنْعامٌ حُرِّمَتْ﴾ على النّاس ﴿ظُهُورُها﴾ وركوبها ، وقسمة منها جعلوها للذّبح على النّصب ، وقالوا مشيرين

__________________

(١ و٢) تفسير الرازي ١٣ : ٢٠٦.

٥٥١

إليها : ﴿وَ﴾ هذه ﴿أَنْعامٌ﴾ للذّبح للأصنام ، وهم ﴿لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا﴾ حين ذبحها أو نحرها ، بل يذكرون عليها اسم الأصنام ، وقيل : يعني لا يحجّون ولا يلبّون عليها ، وهم نسبوا ذلك التّقسيم إلى الله ﴿افْتِراءً عَلَيْهِ﴾ تعالى (١) .

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ الله ويعاقبهم في الآخرة ﴿بِما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ عليه فيما ينسبون إليه.

﴿وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ

 يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)

ثمّ حكى سبحانه حكمهم الباطل في أجنّة البحائر والسّوائب والحوامي بقوله : ﴿وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ﴾ من الأجنّة ﴿خالِصَةٌ﴾ ومحلّلة ﴿لِذُكُورِنا﴾ خاصّة وقيل : إن تاء ( خالصة ) للمبالغة كراوية (٢) .

﴿وَمُحَرَّمٌ﴾ أكلها من قبل الله ﴿عَلى أَزْواجِنا﴾ وإناثنا ، إن ولدت من امّها حيّة ﴿وَإِنْ يَكُنْ﴾ ما في البطون ﴿مَيْتَةً﴾ حين ولادته ﴿فَهُمْ﴾ جميعا ذكورهم وإناثهم ﴿فِيهِ شُرَكاءُ﴾ متساوون لا تفاوت بين ذكورهم وإناثهم في حلّية أكله.

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ الله في الآخرة ﴿وَصْفَهُمْ﴾ وكذبهم عليه في التّحليل والتّحريم ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ﴾ في فعاله ، عامل مع خلقه على حسب ما يستحقّون ﴿عَلِيمٌ﴾ بأقوالهم وأفعالهم وبمقدار استحقاقهم.

﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً

 عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)

ثمّ أشار سبحانه إلى مفسدة قتل الأولاد وتحريم الانتفاع بالأنعام بقوله : ﴿قَدْ خَسِرَ﴾ وتضرّر أو هلك المشركون ﴿الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ﴾ وفوّتوا على أنفسهم النّعمة العظيمة وأعلى الحظوظ البشريّة ، وارتكبوا أعظم الذّنوب وأقبح الظّلم بالتّوهّمات السّخيفة لأجل أنّ لهم ﴿سَفَهاً﴾ وخفّة عقل ، وكونهم ملابسين ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ وغاية جهالة ، بشناعة هذا العمل ومضارّه في الدّنيا والآخرة ﴿وَحَرَّمُوا﴾ على أنفسهم الانتفاع بالأنعام التي جعلوها سائبة وحاميا ، مع كونها [ من ]﴿ما رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ وأشياء تفضّل عليهم بإيجادها ، وتسليطهم عليها ، وإباحة الانتفاع بها أكلا وركوبا وحملا ، وهم

__________________

(١) جوامع الجامع : ١٣٧.

(٢) تفسير الرازي ١٣ : ٢٠٨ ، جوامع الجامع : ١٣٧.

٥٥٢

بنسبة تحريمها إلى الله يفترون ﴿افْتِراءً﴾ عظيما ﴿عَلَى اللهِ﴾ فهم ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ وانحرفوا عن طريق الرّشد إلى مصالحهم الدّنيويّة والاخرويّة ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إليه أبدا ، وإن بالغت في هدايتهم.

﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً

 أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا

 حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)

ثمّ لمّا وبّخ الله سبحانه المشركين على جعل نصيب من الحرث والأنعام للأصنام ، وتحريم ما رزقهم الله ، عاد سبحانه إلى الاستدلال على توحيده الذي هو المقصود الأصلي في السّورة المباركة بكونه خالق الزّرع والأشجار والأنعام ؛ بقوله : ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ﴾ وأخرج من العدم إلى الوجود ﴿جَنَّاتٍ﴾ ذوات كروم ﴿مَعْرُوشاتٍ﴾ ومحمولات على ما يحملها من الأخشاب وغيرها ﴿وَ﴾ جنات ﴿غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾ .

قيل : هي الجنّات التي لا غرس لها ، بل يكون فيها ما ينبت منبسطا على وجه الأرض كالقرع والبطّيخ وأمثالهما (١) ، وقيل : هي التي فيها الكروم المنبسطة على الأرض (٢) ، وقيل : هي التي فيها الأشجار المستغنية عن العريش لاستوائه وذهابه إلى العلوّ بقوّة ساقه (٣) .

﴿وَ﴾ أنشأ ﴿النَّخْلَ﴾ بأصنافها المختلفة ﴿وَالزَّرْعَ﴾ من الحبوب التي يقتات بها - كما عن ابن عبّاس (٤) - حال كون كلّ من النّخل والزّرع ﴿مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ﴾ وثمره ، ومتفاوتا بعضه مع بعض في الطّعم والهيئة ، لكلّ صنف من ثمرهما طعم غير الآخر ، وهيئة غير هيئة الآخر ، ﴿وَ﴾ أنشأ ﴿الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ حال كون بعض ثمرهما ﴿مُتَشابِهاً﴾ مع بعض في الطّعم والهيئة واللّون والجودة والرّداءة ، ﴿وَ﴾ بعضه ﴿غَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ من جميع الجهات أو من بعضها ؛ كالرّمانتين اللّتين لونهما واحد وطعمهما مختلف.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان مالكيّته لجميع النباتات ، أذن للنّاس بالانتفاع بكلّ واحد منها بقوله : ﴿كُلُوا﴾ وانتفعوا أيّها النّاس ﴿مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ﴾ وصلح للانتفاع ، وإن لم يدرك ولم يينع لأنّه خلق لكم ، ولا تحرّموا على أنفسكم منه شيئا ، ولا تجعلوا للأصنام منه نصيبا ﴿وَ﴾ لكن ﴿آتُوا﴾ الفقراء وأعطوهم ﴿حَقَّهُ﴾ وما ثبت عليكم فيه من الضّغث (٥) والحصّة ﴿يَوْمَ حَصادِهِ﴾ وحين جذاذه.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٢١١.

(٢) تفسير الرازي ١٣ : ٢١٢.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٢١١.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ٢١٢.

(٥) الضّغث : هو قبضة الحشيش المختلط من الأخضر واليابس.

٥٥٣

قيل : اريد بالحقّ ما يتصدّق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدّرة ؛ لأنّ الزّكاة فرضت بالمدينة ، والآية مكيّة (١) . وقيل : بل هو الزّكاة ، أي لا تؤخّروها عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء ، والآية مدنيّة (٢) .

وفي ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « في الزّرع حقّان : حقّ تؤخذ به ، وحقّ تعطيه ، أمّا الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأمّا الذي تعطيه فقول الله عزوجل : ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ فالضّغث تعطيه ثمّ الضّغث حتّى تفرّغ » (٣) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « هذا من الصّدقة تعطي المسكين القبضة بعد القبضة ، ومن الجذاذ الحفنة بعد الحفنة » (٤) .

والقمّي : عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية ، قال : « الضّغث من السّنبل ، والكفّ من التّمر إذا خرص » (٥) .

وعنه عليه‌السلام فيها قال : « أعط من حضرك من مشرك وغيره » (٦) .

وعنه عليه‌السلام : « لا تصرم باللّيل ، ولا تحصد باللّيل - إلى أن قال : - وإن حصدت باللّيل لم يأتك السّؤال ، وهو قول الله : ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ يعني القبضة بعد القبضة إذا حصدته ، فإذا خرج فالحفنة [ بعد الحفنة ] ، وكذلك عند الصّرام » . الخبر (٧) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، سئل : إن لم يحضر المساكين وهو يحصد ؟ قال : « ليس عليه شيء » (٨) .

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بالانتفاع والصّدقة ، نهى عن الإسراف بقوله : ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ ولا تتجاوزوا الحدّ في الصّدقة ، أو في منعها وقيل : يعني لا تضيّعوا ثمرتكم بأن تجعلوا (٩) للأصنام فيها نصيبا ، أو لا تنفقوها في معصية الله (١٠)﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ولا يرضى عنهم.

عن الرضا عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « كان أبي يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدّق الرّجل بكفّيه جميعا ، وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به : أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة ، والضّغث بعد الضّغث من السّنبل » (١١)

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال : « كان فلان بن فلان الأنصاري - وسمّاه - كان له

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٣ : ١٩٢.

(٢) تفسير أبي السعود ٣ : ١٩٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٢٠ / ١٤٩٦ ، الكافي ٣ : ٥٦٤ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٥ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٢.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢١٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٢.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ١١٩ / ١٤٩٤ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٢.

(٧) الكافي ٣ : ٥٦٥ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٣.

(٨) تفسير القمي ١ : ٢١٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٣.

(٩) في النسخة : تجعلوها.

(١٠) تفسير الرازي ١٣ : ٢١٤.

(١١) تفسير العياشي ٢ : ١٢١ / ١٥٠١ ، الكافي ٣ : ٥٦٦ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٣.

٥٥٤

حرث ، وكان إذا أخذه تصدّق به ويبقى هو وعياله بغير شيء ، فجعل الله عزوجل ذلك سرفا » (١) .

وعنه عليه‌السلام - في حديث - قال : « وفي غير آية من كتاب [ الله ] يقول : ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التّقتير ، ولكن أمر بين أمرين ، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له » (٢) .

روي أنّها نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس ، عمد إلى خمسمائة نخلة فجذّها ثمّ قسّمها في يوم واحد ، ولم يدخل منها إلى منزله شيئا (٣) .

﴿وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ

 الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)

ثمّ استدلّ سبحانه بأنّه خالق الأنعام ومالكها بقوله : ﴿وَمِنَ الْأَنْعامِ﴾ أنشأ ما تكون ﴿حَمُولَةً﴾ تحمل عليها الأثقال ، أو ما تكون صالحة للحمل عليها لطول قوائمها وعظم جثّتها ، ﴿وَ﴾ يكون ﴿فَرْشاً﴾ على الأرض ، شبّه قسم منها به لقصر قوائمها ودنوّها من الأرض ، أو فرشا يفرش للذّبح ، أو يفرش ما ينسج من صوفها ووبرها.

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّه مالكها ، أذن في الانتفاع بها بقوله : ﴿كُلُوا﴾ أيّها النّاس وانتفعوا من الأنعام الحمولة والفرش لكونها ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾ وأنعم به عليكم ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ ولا تطيعوه في تسويلاته بجعل الأصنام شريكا فيها ، وتحريم الانتفاع ببعضها بجعله سائبة أو بحيرة أو حاميا ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهر العداوة.

﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ

 الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ *

 وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا

 اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ

 مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

 الظَّالِمِينَ (١٤٣) و (١٤٤)

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٥ / ٥ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٣.

(٢) الكافي ٥ : ٦٧ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٣.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٢١٤.

٥٥٥

ثمّ بيّن الله سبحانه أصناف الأنعام التي رزقها الله عباده بقوله : ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ﴾ وأصناف متصاحبات ، ثمّ فسّرها بقوله : ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ الكبش والنّعجة ، أو الأهلي والوحشي ﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ التّيس والعنز ، أو الأهلي والوحشي.

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ينكر على المشركين تحريم ما زعموه حراما بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾ من الضّأن والمعز ﴿حَرَّمَ﴾ الله عليكم ﴿أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ منهما ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ منهما من الأجنّة ، ذكرا كانت الأجنّة أم انثى ، مع أنّكم لا تقرّون برسول من الله إليكم حتّى تدّعوا أنّه أخبركم بها.

ثمّ أمره بمطالبة الحجّة على الحرمة بقوله : ﴿نَبِّئُونِي﴾ وأخبروني ﴿بِعِلْمٍ﴾ وحجّة قاطعة على تحريم الله شيئا من ذلك ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ أيّها المشركون ﴿صادِقِينَ﴾ في نسبة التّحريم إليه سبحانه.

﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ﴾ الجمل والنّاقة ، أو العراب والبخاتيّ (١)﴿وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ الذّكر والانثى ، أو الأهلي والوحشي ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، إنكارا عليهم وإفحاما لهم : ﴿آلذَّكَرَيْنِ﴾ من الأصناف الأربعة ﴿حَرَّمَ﴾ الله عليكم ﴿أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ منها ﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.

ثمّ أنكر عليهم وجود الحجّة على ما أدّعوه من الحرمة بعد عدم اعترافهم برسول وعدم حكم العقل القاطع بها ، بقوله : ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ﴾ وحضّارا ﴿إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ﴾ وحكم عليكم ﴿بِهذا﴾ الحكم.

وحاصل الاحتجاج : أنّ طريق معرفة حكم الله منحصر ببيان الرّسول وحكم العقل والمشاهدة والسّماع من الله ، وأنتم لا تؤمنون برسول ، وليس لكم برهان عقليّ على التّحريم ، ولم تسمعوا من الله هذا الحكم ، فثبت أنّ القول بتحريم الله هذه الأنعام وما في بطونها افتراء عليه.

في ( الكافي ) عن الصادق عليه‌السلام [ قال ] : « حمل نوح عليه‌السلام في السّفينة الأزواج الثمانية التي قال الله عزوجل : ﴿ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ الآية ، فكان من الضّأن [ اثنين ] : زوج داجنة يربّيها النّاس ، والزّوج الآخر الضّأن التي تكون في الجبال الوحشيّة ، احلّ لهم صيدها ، ومن المعز اثنين : زوج داجنة يربّيها النّاس ، والزّوج الآخر الظّباء التي تكون في المفاوز ، ومن الإبل اثنين : البخاتي والعراب ، ومن البقر اثنين : زوج داجنة للنّاس ، والزّوج الآخر الوحشية ، وكلّ طير طيّب وحشي وإنسيّ » (٢) .

وفي ( الفقيه ) : عن داود الرقّي ، قال : سألني الخوارج عن هذه الآية ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ الآية ، ما الذي أحلّ الله من ذلك ، وما الذي حرّم ؟ فلم يكن عندي فيه شيء ، فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا

__________________

(١) العراب : الإبل العربية ، والبخاتي : الإبل الخراسانية.

(٢) الكافي ٨ : ٢٨٣ / ٤٢٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٥.

٥٥٦

حاجّ ، فأخبرته بما كان ، فقال : « إنّ الله تعالى أحلّ في الاضحيّة [ بمنى الضأن والمعز الأهلية ، وحرم أن يضحى فيه بالجبلية ، وأمّا قوله عزوجل : ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ فإنّ الله تعالى أحلّ في الأضحية بمنى ] الإبل العراب وحرّم منها البخاتي ، وأحلّ البقر الأهليّة أن يضحى بها وحرّم الجبليّة » .

فانصرفت إلى الرّجل وأخبرته بهذا الجواب ، فقال : هذا شيء حملته الإبل من الحجاز (١) .

أقول : الظّاهر أنّ الخارجي كان عالما بالحكم ، وأراد أن يمتحن داود بمعرفته. وفي الآية دلالة على أنّ عدم وجدان الدّليل على الحرمة كاف في القول بإباحة مشكوك الحرمة.

ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات كون المشركين في القول بحرمة بعض الأنعام مفترين عليه ، ذمّهم بكونهم لأجل افترائهم عليه أظلم النّاس على أنفسهم بقوله : ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على نفسه بإهلاكها الأبديّ ، وعلى ربّه بتضييع حقّه ﴿مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ﴾ بنسبة تحريم ما أحلّه إليه ﴿كَذِباً﴾ ليغير دينه الحقّ ، كعمرو بن لحيّ المغيّر لدين إسماعيل حيث إنّه بحر (٢) البحائر وسيّب السّوائب ، وككبرائهم المقرّرون لذلك ، و﴿لِيُضِلَ﴾ ويحرف ﴿النَّاسَ﴾ عن الصّراط المستقيم ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بسوء عاقبة هذا التّغيير والإضلال. وقيل : إن لام ( ليضل ) لام العاقبة (٣) .

ثمّ هدّد سبحانه المفترين بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ إلى الحقّ ، أو إلى ثوابه وطريق الجنّة ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ فكيف بقوم هم أظلم النّاس !

﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ

 دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ

 غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمطالبة الحجّة من المشركين على ما زعموه من حرمة بعض الأنعام وما في بطونها ، وظهور عجزهم عن إقامتها ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإقامة الحجّة على حلّية جميع الأنعام بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ﴿لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ﴾ من ربّي من الأحكام طعاما يكون ﴿مُحَرَّماً﴾ من قبله ﴿عَلى طاعِمٍ﴾ وآكل ﴿يَطْعَمُهُ﴾ ويأكله ، [ سواء أ ] كان ذكرا أو انثى ﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ﴾ ذلك الطّعام ﴿مَيْتَةً﴾ وحيوانا خرج روحه بغير التّذكية الشّرعيّة ﴿أَوْ دَماً مَسْفُوحاً﴾ ومصبوبا من العروق بعد

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٩٣ / ١٤٥١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٥.

(٢) بحر الناقة : شقّ اذنها.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ١١٣.

٥٥٧

الذّبح أو النّحر دون الدّم المتخلّف بعد الذّبح ، كما في الكبد والطّحال واللّحم ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ وقذر ، وكلّ قذر نجس وحرام ، وإنّما خصّ حرمة لحمه بالذّكر مع أنّ شحمه أيضا حرام لكونه أهمّ ما فيه وعمدة ما يقصد منه بالأكل ﴿أَوْ فِسْقاً﴾ وهو الحيوان الذي ﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ ورفع الصّوت عند ذبحه أو نحره باسم الأصنام ، وإنّما سمّاه فسقا لتوغّله فيه.

عن القمّي رحمه‌الله : قد احتجّ قوم بهذه الآية على أنّه ليس شيء محرّما إلّا هذا ، وأحلّوا كلّ شيء من البهائم ؛ القردة والكلاب والسّباع والذّئاب والاسد والبغال والحمير والدّوابّ ، وزعموا أنّ ذلك كلّه حلال وغلطوا في هذا غلطا مبينا (١) ، وإنّما هذه الآية ردّ على ما أحلّت العرب وحرّمت ؛ لأنّ العرب كانت تحلّل على نفسها [ أشياء ] وتحرّم أشياء ، فحكى الله ذلك لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قالوا (٢) .

وقال الفاضل المقداد : وهنا سؤال ، وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات ، وهو غير مذكور في الآية ، فكيف يقول : لا أجد إلّا كذا ... الدّال على الحصر ؟ وكذا في قوله : ﴿إِنَّما حَرَّمَ*﴾ و( إنّما ) للحصر.

والجواب : أنّ ( اوحي ) فعل ماض ، و( أجد ) للحال ، فمنطوقها : لا أجد في ما اوحي إليّ في الماضي غير هذه الأربعة ، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها ، وكذا الكلام في ( إنّما ) ، فإنّ الحصر فيها للحكم الحالي (٣) .

تحقيق في دفع إشكال

أقول : حكي الوجهان المذكوران لدفع الإشكال عن بعض العامّة أيضا ، وفيهما ما لا يخفى من الضّعف ، مع أنّهما منافيان للأخبار العاميّة والخاصيّة. وقد روى العامّة أن ابن عبّاس وعائشة استدلّا بالآية على حلّية لحم الحمار (٤) .

وروى أصحابنا عن الصادقين عليهما‌السلام أنّهما قالا : « ليس الحرام إلّا ما حرّم الله » ، وتليا هذه الآية(٥) .

فالحقّ في الجواب : أنّ جميع ما في آية المائدة داخل في الميتة ، وجميع النّجاسات داخل في عموم الرّجس ، فإنّ عموم العلّة من قوله : ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ يوجب عموم الحكم لكلّ رجس ، وأمّا حرمة كلّ ذي ناب من الوحش ، وكلّ ذي مخلب من الطّير ، وكلّ ما لا فلس له من السّمك ، فإن قلنا : بأنّ المراد من الرّجس : الخبيث ، وأنّه ما استخبثه الشّارع ، فبأدلّة حرمة الأشياء المذكورة نعلم دخولها في الآية ، لعموم العلّة ، وإن قلنا : إنّ الرّجس هو القذر ، فيختصّ بالنّجاسات ، وحينئذ لا بدّ من الالتزام بتخصيص مفهوم الآية بتلك الأدلّة ، أو كونها قرينة على إرادة الحصر الإضافي أو الحصر الحقيقي ، وتنزيل حرمة غير هذه الأربعة منزلة المباح إعظاما لحرمة هذه الأربعة.

__________________

(١) في المصدر : بيّنا.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢١٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٦.

(٣ و٤) . كنز العرفان ٢ : ٣٠٣.

(٥) تفسير العياشي ٢ : ١٢٥ / ١٥١٣ و١٥١٤ ، تفسير الصافي ٢ : ١٦٧.

٥٥٨

ثمّ بيّن أنّ هذه الأربعة أيضا مباحة عند الضّرورة منّة على العباد بقوله : ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ وألجأته الضّرورة إلى أكل شيء من تلك المحرّمات ، وكان ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ لذّة ، أو غير متعدّ على مضطرّ آخر مثله ﴿وَلا عادٍ﴾ ومتجاوز في الأكل على قدر الضّرورة ﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ﴾ له لا يؤاخذه بأكله ﴿رَحِيمٌ﴾ به لا يرضى بضرره ومشقّته.

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ

 شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ

 جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه حرّمت أشياء اخر على خصوص اليهود بسبب كثرة عصيانهم بقوله : ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَ﴾ حيوان ﴿ذِي ظُفُرٍ﴾ وإصبع كالإبل والطّيور.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّه الإبل والنّعامة (١) . وفي رواية اخرى : إنّه الإبل فقط (٢) .

﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ وثروبهما ﴿إِلَّا ما حَمَلَتْ﴾ واشتملت به ﴿ظُهُورُهُما﴾ من شحم الكتفين إلى الوركين من داخل وخارج. كما قيل (٣) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : إلّا ما علق بالظّهر من الشّحم (٤) .

وعن قتادة : إلّا ما علق بالظّهر والجنب من داخل بطونها (٥) .

﴿أَوِ الْحَوايا﴾ وما التصق بالمباعر (٦) والمصارين من الشّحوم ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ﴾ والتصق ﴿بِعَظْمٍ﴾ كشحم الإلية ، وكان ﴿ذلِكَ﴾ التّحريم عليهم جزاء ﴿جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ﴾ وظلمهم على أنفسهم بارتكاب المعاصي من أكل الرّبا ، وأخذ أموال النّاس بالإثم ، وقتل الأنبياء.

قيل : إنّهم كلّما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء ممّا أحلّ لهم. وفيه ردّ على ما أدّعوا من أنّ كلّ ذلك لم يزل محرّما على الامم الماضية ، وكانوا مصرّين عليه ؛ ولذا أكّد سبحانه كذبهم في الدّعوى بقوله : ﴿وَإِنَّا لَصادِقُونَ(٧) في إخبارنا بتخصيص حرمة تلك الأشياء بعلّة بغيهم ، وإنّهم لكاذبون في أنّها لم تزل محرّمة.

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١٣ : ٢٢٣.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ١١٥.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ٢٢٣.

(٥) تفسير الرازي ١٣ : ٢٢٣.

(٦) المباعر : جمع مبعر ، وهو مكان خروج البعر من الأمعاء ، أو المصران الحاوي للبعر.

(٧) تفسير روح البيان ٣ : ١١٥.

٥٥٩

﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ

 الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتهديدهم على تكذيبه بقوله : ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ يا محمّد ، مع شهادتنا بصدقك في اختصاص حرمة الأشياء المذكورة بهم ، أو فيه وفي دعوى الرّسالة وتبليغ الأحكام ﴿فَقُلْ﴾ للمكذّبين : حقّ عليكم العذاب ، ولكن ﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ﴾ للمؤمن والكافر ، ولذا لا يعجل في عقوبتكم على تكذيبكم رسوله ، فلا تغترّوا بإمهاله فإنّه يعذّبكم ﴿وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ وعذابه إذا جاء وقته ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ والعاصين بتكذيب الرّسل ، والإصرار على الكفر ، والعناد مع الحقّ.

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ

 كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ

 فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)

ثمّ حكى سبحانه احتجاج المشركين على صحّة قولهم بالشّرك وحرمة السّوائب وأخواتها بقوله : ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله احتجاجا على صحّة قولهم : ﴿لَوْ شاءَ اللهُ﴾ وأراد منّا أن لا نشرك به شيئا ولا نحرّم شيئا ﴿ما أَشْرَكْنا﴾ نحن ﴿وَلا آباؤُنا﴾ الأقدمون ﴿وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ﴾ لقدرته على منعنا عمّا لا يرضاه ، وعدم تمكّننا من التّخلّف عن إرادته ، وكوننا مجبورين فيما يصدر منّا - كما يقول الأشاعرة - وحيث رأينا أنّه صدر منّا الشّرك والتّحريم ولم يمنعنا عنهما ، علمنا ، أنّه أراد منّا ذلك ورضي بما نحن عليه من الاعتقاد والعمل ، وأنت كاذب عليه فيما تدّعيه من بغضه إيّاه ونهيه عنه.

ثمّ ردّهم سبحانه بقوله : ﴿كَذلِكَ﴾ التّكذيب الذي صدر منهم بك على تلك الحجّة ﴿كَذَّبَ﴾ المشركون ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ رسلهم ولم يؤمنوا بهم ﴿حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ وطعموا طعم عذاب الاستئصال ، فكان تعذيبهم على تكذيب الرّسل وبقائهم على الشّرك حجّة قاطعة على عدم رضائنا بما هم عليه.

﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : بعدما ثبت أنّ حجّتكم ضعيفة ظنيّة ﴿هَلْ عِنْدَكُمْ﴾ غيرها دليل يفيد مرتبة ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ برضا الله بما أنتم عليه من الشّرك وسائر الأباطيل ﴿فَتُخْرِجُوهُ﴾ وتظهروه ﴿لَنا﴾ حتّى نتّبعه ؟ ليس لكم ذلك ، بل ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ﴾ فيما تدّعون شيئا ﴿إِلَّا الظَّنَ﴾ الحاصل لكم من عدم صرف الله قلوبكم من الشّرك ، وعدم قهره إيّاكم على التّوحيد ﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ وتخمّنون ، أو

٥٦٠