نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

بدلالتها ؟ ﴿وَاللهُ﴾ العظيم الغالب الشّديد العقاب ﴿شَهِيدٌ﴾ ومطّلع ﴿عَلى ما تَعْمَلُونَ﴾ من القبائح ، وما يصدر منكم من جحود آياته ، ومعارضة رسوله ، فيجازيكم أسوأ الجزاء ، ويعذّبكم في الآخرة أشدّ العذاب. فاطّلاعه على أعمالكم ، والخوف من عقوبته على عصيانكم من أقوى الزّواجر وأتمّ الرّوادع عمّا تأتونه وترتكبونه.

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ

 شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمر نبيّه بتوبيخهم على كفرهم وضلالهم ، أمره بتوبيخهم على إضلالهم عباده المؤمنين ، وصدّهم عن سبيله ، بقوله : ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ﴾ ويا تلاة الصّحف والزّبر المنزلة وغيرها ، جزنا عن اللّوم على ضلالتكم ﴿لِمَ تَصُدُّونَ﴾ وتصرفون ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ ودينه الحقّ الموصل إلى السّعادة الأبديّة ؟ وتضلّون عنه بإلقاء الشّبهات والحيل والتسويلات ﴿مَنْ آمَنَ﴾ بالرّسول ودين الإسلام ، ولم تطلبون لتلك السّبيل و﴿تَبْغُونَها﴾ مع كمال استقامتها ، وكونها أقوم السّبل ﴿عِوَجاً﴾ وانحرافا عن القصد والاستقامة ، وتوهمون أن في تلك السّبيل ميلا عن الحقّ ، وتسعون في صرف النّاس عنها ؟ بسبب تغيير صفات النبيّ وعلائمه المذكورة في الكتب السّماويّة ، وإلقاء شبهة امتناع نسخ دين موسى أو عيسى في قلوب العوامّ ، وتقريب أفضليّة بيت المقدس من الكعبة في الأذهان.

﴿وَأَنْتُمْ شُهَداءُ﴾ قيل : إنّ المراد : والحال أنّ النّاس يستشهدونكم في القضايا والأمور العظام ، فشأنكم الصّدق وتأدية الحقّ ، لا تضييعه.

وقيل : إنّ المعنى : أنّكم شاهدون بأنّ دين الإسلام سبيل الحقّ لا تحوم حولها شانئة الإعوجاج ، وأنّ الصّدّ عنها إضلال عن نهج الحقّ والطريق المستقيم.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أي أنتم شهداء على أنّ في التّوراة : أنّ دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام (١) .

فمن كان كذلك ، لا يليق به الإصرار على الكفر ، والسّعي في إضلال النّاس.

ثمّ أخذ سبحانه في تهديدهم بقوله : ﴿وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ من إضلال النّاس ، وإلقاء الشّبهات في قلوب المؤمنين ، وصدّهم عن سبيل الحقّ ، وكتمان الشّهادة بصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل : لمّا كان كفرهم بآيات الله بطريق العلانية ، ختمت الآية السّابقة بشهادته تعالى على ما يعملون ، ولمّا كان صدّهم عن سبيل الله بطريق الخفية ، ختمت هذه الآية بما يقطع وسائل حيلهم ، عن علمه

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٥٨.

٤١

واطّلاعه بجميع أعمالهم.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ

 إِيمانِكُمْ كافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ

وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(١٠٠) و (١٠١)

ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ أهل الكتاب يصدّون المؤمنين عن سبيل الله ، ويحتالون في صرفهم عن الحقّ ، وردّهم إلى الأعقاب صرف الخطاب إلى المؤمنين تكريما لهم ، ونهاهم عن اتّباعهم لطفا بهم ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالرّسول وبدين الإسلام ﴿إِنْ تُطِيعُوا﴾ وتتّبعوا ﴿فَرِيقاً﴾ وطائفة كافرة ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ دون فريق المؤمنين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كعبد الله بن سلام وأضرابه ﴿يَرُدُّوكُمْ﴾ بحيلهم وتلبيساتهم ﴿بَعْدَ إِيمانِكُمْ﴾ بمحمّد ودينه ومع ثباتكم عليه ، إلى أعقابكم ، وأخلاق جاهليتكم ، حال كونهم ﴿كافِرِينَ﴾ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتدّين عن دين الإسلام.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم الكفر ، واستبعد منهم الارتداد تثبيتا لهم على الدّين ، بقوله : ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ وأي سبب يبعثكم في الارتداد ، وأي داع يدعوكم إليه ﴿وَأَنْتُمْ﴾ في حال وشأن مقتض للثّبات على الإيمان ، وهو أنّه ﴿تُتْلى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ حينا بعد حين ، وساعة بعد ساعة ﴿آياتُ اللهِ﴾ القرآنيّة المشتملة على إعجاز البيان والحكم والعلوم ، والمواعظ البالغة من ربّكم ، وهي نور لقلوبكم ، وشفاء لما في صدوركم ، وضياء لأبصاركم ، وهدى ورحمة لكم ، ﴿وَ﴾ مع ذلك يكون ﴿فِيكُمْ﴾ ومعكم ﴿رَسُولُهُ﴾ الذي يقرّر لكم كلّ حجّة ، ويزيل عنكم كلّ شبهة بعبارة وافية ، ويزجركم عن كلّ سوء بمواعظ شافية.

ومن الواضح أنّ هاتين النّعمتين من أعظم موجبات الثّبات ، وأقوى على الإيمان ، وأقوى الزّواجر عن الكفر والارتداد.

ثمّ حثّهم إلى الإلتجاء إلى رسوله عند توارد الشّبهات ، بقوله : ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ﴾ بالالتجاء إلى رسوله في موارط الفتن ، والاستمساك بذيله عند تلاطم أمواج البلايا والشّبهات ، وفي مزال الأقدام عند منازلة أعداء الدّين وجهاد النّفس والشّياطين ﴿فَقَدْ هُدِيَ﴾ بتوفيق الله ، وارشد بدلالته ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وطريق قويم موصل إلى كلّ خير مؤدّ إلى رضوان الله والنّعم الدّائمة.

في وقوع التنازع بين الأوس والخزرج في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان قوة تأثير القرآن في النفوس

روي أنّ نفرا من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون ، فمرّ بهم شاس بن قيس

٤٢

اليهودي وكان شديد الحسد للمسلمين ، فغاضه ما رأى منهم من تآلف القلوب ، واتّحاد الكلمة ، واجتماع الرّأي ، بعد ما كان فيهم (١) من العداوة والشنآن ، فأمر شابّا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم ويذّكرهم يوم بعاث (٢) - وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيّان ، و[ كان ] الظّفر فيه للأوس - وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل ، فتفاخر القوم وتغاضبوا حتّى تواثبوا وقالوا : السّلاح السّلاح ، فاجتمع من القبيلتين خلق كثير.

فعند ذلك جاءهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه فقال : « أتدعون الجاهليّة وأنا بين أظهركم ، بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، وألّف بينكم ؟ ! » ، فعلموا أنّها نزغة من الشّيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السّلاح واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

وقال الواحدي : اصطفّوا للقتال ، فنزلت الآيات إلى قوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(٤) فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى وقف بين الصّفّين فقرأهنّ ورفع صوته ، فلمّا سمعوا صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنصتوا له ، وجعلوا يستمعون له ، فلمّا فرغ ألقوا السّلاح ، وعانق بعضهم بعضا ، وجعلوا يبكون (٥) . فما كان أقبح أوّلا ، وأحسن آخرا من ذلك اليوم !

أقول : انظروا إلى قوّة تأثير القرآن في النّفوس ، كيف انقلبوا باستماعه من أسوأ الأحوال إلى أحسنها ! وحاصل معنى الآيتين : أنّه إن لان المؤمنون لليهود وقبلوا قولهم ، أدّى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفّارا ، والكفر موجب للهلاك في الدّنيا والآخرة.

أمّا في الدّنيا فبوقوع العداوة والبغضاء ، وهيجان الفتن ، وثوران المحاربة المؤدّي إلى سفك الدّماء ، وتلف النّفوس. وأمّا في الآخرة فبعذاب الأبد ، ومع أنّه يكفي وجود هذه المفاسد العظيمة فيه ، الموجبة لعدم توجّه العاقل إليه ، تكون الصّوارف والزّواجر الخارجية عنه موجودة لكم ، فعند ذلك لا يتوقّع صدوره منكم ، بل لا يعقل اختياره من العاقل المختار إلّا للجهل ، واتّباع هوى النّفس ، وتأثير وساوس الشّيطان ، ولا عاصم منه إلّا الاعتصام بالله وبرسوله ، فمن اعتصم بهما حصل له الاهتداء إلى كلّ خير ، والفوز بجميع النّعم ، وانسدّ عليه باب الضّلال ، والوقوع في المهالك.

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ

 أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ

__________________

(١) في تفسير أبي السعود : كان بينهم ما كان.

(٢) بعاث : موضع قرب يثرب ، وفيه اقتتل الأوس والخزرج في الجاهلية.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٦٤.

(٤) آل عمران ٣ : ١٠٣.

(٥) تفسير أبي السعود ٢ : ٦٤.

٤٣

النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالتّقوى والثّبات على الدّين ، بيّن طريق الاعتصام بالله وبرسوله الذي جعله وسيلة للهداية ، بقوله : ﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ وتمسّكوا ﴿بِحَبْلِ اللهِ﴾ ودينه ، أو كتابه المجيد ، حال كونكم ﴿جَمِيعاً﴾ ومتّفقين في الاعتصام بحيث لا يشذّ منكم أحد.

فشبّه سبحانه دين الإسلام أو القرآن بالحبل الوثيق المأمون من الانقطاع والانفصام ، فكما أنّ المتمسّك بذلك الحبل مأمون من التّردّي من المكان المرتفع ، كذلك المتمسّك بدين الإسلام أو القرآن العزيز مأمون من الوقوع في الكفر والضّلال في الدّنيا ، ومن التّردّي في نار جهنّم في الآخرة.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « أما أنّها ستكون فتنة » قيل : فما المخرج منها ؟ قال : « كتاب الله ؛ فيه نبأ من قبلكم ، وخبر من بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو حبل الله المتين » (١).

ويحتمل أن يكون مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفتنة فتنة السقيفة ، وغصب الخلافة ، ومن قوله : « فيه نبأ من قبلكم » : قضيّة السّامريّ والعجل.

وعن ابن مسعود : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « هذا القرآن حبل الله تعالى » (٢) .

وروى الفخر الرّازي في تفسيره : عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّي تارك فيكم الثّقلين : كتاب الله تعالى حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي » (٣) .

عن القمّي رحمه‌الله : الحبل : التّوحيد والولاية (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حبل الله المتين الذي أمر بالاعتصام به » (٥) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حبل الله المتين » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نحن الحبل » (٧) .

وعن السجّاد عليه‌السلام قال : « الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلّا منصوصا » فقيل له : يا بن رسول الله ، فما معنى المعصوم ؟ فقال : « المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن (٨) ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله تعالى : ﴿إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٦٢.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٦٢.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٦٢.

(٤) تفسير القمي ١ : ١٠٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٧.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٣٤ / ٧٦٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٧.

(٦) تفسير العياشي ٣٣٣ / ٧٦١ ، تفسير الصافي ٣٣٨.

(٧) أما لي الطوسي : ٢٧٢ / ٥١٠.

(٨) زاد في معاني الأخبار : لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن.

٤٤

يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (١) .

أقول : مآل جميع الرّوايات واحد.

ثمّ أنّه تعالى بعد أمره بالاجتماع على الحقّ ، نهى عن التفرّق عنه ، بقوله : ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ عن الحقّ كتفرّق أهل الكتاب ، ولا تختلفوا أنتم كما اختلفوا على مذاهب كثيرة.

روى الفخر الرازي في تفسيره : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ستفترق (٢) أمّتي على نيّف وسبعين فرقة ، النّاجي منهم واحد ، والباقي في النّار » ، فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : « الجماعة » . وفي رواية : « السّواد الأعظم » . وفي أخرى : « ما أنا عليه وأصحابي » (٣) .

أقول : لا ريب أنّ ذيل الرّواية من المجعولات ، لوضوح مخالفة عليّ والمعصومين من ذرّيّته مع الجماعة ، وقد اتفّق الفريقان على رواية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ » (٤) . وقوله : « إنّي تارك فيكم الثّقلين ؛ كتاب الله ، وعترتي ... » (٥) الخبر ، وقوله : « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (٦) .

وقيل : إنّ المراد لا تفرّقوا كتفرّق أهل الجاهليّة ، يحارب بعضكم بعضا.

وقيل : أي لا تحدثوا ما يوجب الافتراق ، ويزيل الالفة التي أنتم عليها (٧) .

أقول : كنصب أبي بكر للخلافة ، حيث إنّه أحدث بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلافا وافتراقا عظيما بين الصّحابة ، ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى باتّباع علي عليه‌السلام وأهل بيته ، وجعلهم أحد الثّقلين ، وحبلا من حبلي الله الممدودين. ومن المسلّم بين الأمّة أنّ عليّا عليه‌السلام أفضل عترته ، وأشرف أهل بيته.

ثمّ لمّا كان الاعتصام بحبل الله من مشاقّ الأعمال ، لتوقّفه على ترك الرّئاسات ، ومخالفة الأهوية (٨) والشّهوات ، بالغ سبحانه في التّرغيب إليه بتذكيرهم نعمه ، بقوله : ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ﴾ التي أنعمها ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ثم لمّا كانت نعمة الأمن والاتّحاد والائتلاف من أعظم النّعم ، خصّها بالتذكير بقوله : ﴿إِذْ كُنْتُمْ﴾ في زمان الجاهليّة والأعصار المتمادية ﴿أَعْداءً﴾ متباغضين ، يقتل بعضكم بعضا ، ويغير

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٨ ، والآية من سورة الإسراء : ١٧ / ٩.

(٢) في النسخة : ستفرق.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٦٣.

(٤) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ ، ترجمة علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٣ : ١٥٣ / ١١٧٢.

(٥) صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٢ ، مسند أحمد ٣ : ١٤ و١٧ و٤ : ٣٦٧ و٣٧١.

(٦) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٤٣ و٣ : ١٥١ ، الخصائص الكبرى ٢ : ٤٦٦ ، الجامع الصغير ٢ : ٥٣٣.

(٧) تفسير أبي السعود ٢ : ٦٦.

(٨) كذا ، والظاهر الأهواء ؛ لأن الأهوية جمع هواء ، والأهواء جمع هوى ، ومراد المصنف الأخير.

٤٥

بعضكم على بعض ﴿فَأَلَّفَ﴾ الله سبحانه بفضله ﴿بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ المختلفة ، حيث وفّقكم للإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهداكم إلى دين الإسلام ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ وصرتم بعد التباغض ﴿بِنِعْمَتِهِ﴾ العظيمة ، من بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وديانة الإسلام ، وألفة القلوب ، واتّحاد الكلمة ﴿إِخْواناً﴾ في الدّين ، متحابّين في الله ، متّفقين على الحقّ ، متزاحمين متناصحين متذلّلين بعضكم لبعض.

قيل : إنّ الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأمّ واحد ، فوقعت بينهم العداوة ، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة ، إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام (١) .

وعن ( المجمع ) : عن مقاتل : افتخر رجلان من الأوس والخزرج فقال الأوسيّ : منا خزيمة ، ومنا حنظلة ، ومنّا عاصم ، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتزّ عرش الرّحمن له ، ورضي الله بحكمه في بني قريظة ، وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : أبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، ومنّا سعد بن عبادة. فجرى الحديث بينهما ، فغضبا وتفاخرا وناديا ، فجاء الأوس إلى الأوسي ، والخزرج إلى الخزرجي ، ومعهم السّلاح ، فبلغ [ ذلك ] النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فركب حمارا فأتاهم ، فأنزل الله [ هذه ] الآيات ، فقرأها عليهم فاصطلحوا (٢) .

ثمّ بعد تذكيرهم النّعمة العظيمة الدّنيويّة ، ذكّرهم الله تعالى أعظم نعمه الأخروية ، بقوله : ﴿وَكُنْتُمْ﴾ في زمان كفركم مقيمين ﴿عَلى شَفا﴾ وطرف ﴿حُفْرَةٍ﴾ مملوءة ﴿مِنَ النَّارِ﴾ وفي شفير جهنّم ، حال كونكم مشرفين على الوقوع فيها بالموت ﴿فَأَنْقَذَكُمْ﴾ الله ونجّاكم ﴿مِنْها﴾ بسبب تأخير موتكم ، وتوفيقكم لقبول الإسلام.

عن ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « فأنقذكم منها بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

أقول : الظّاهر أنّه بيان المراد من الآية ، لا أنّ كلمة ( محمّد ) كانت جزءا منها ، والمراد من قوله : ( نزل بها جبرئيل ) أنّه أنزلها بهذا التّفسير ، لبطلان القول بالتّحريف.

﴿كَذلِكَ﴾ البيان والتّوضيح الوافي ﴿يُبَيِّنُ اللهُ﴾ ويوضّح ﴿لَكُمْ آياتِهِ﴾ المنزلة الدالّة على المعارف والأحكام ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إلى ما فيه خيركم وصلاحكم ، أو المراد لكي تثبتوا على ما أنتم عليه من الإسلام ، والازدياد في كمال الإيمان وقوّة اليقين.

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

__________________

(١) تفسير الرازي ٨ : ١٦٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٠٤.

(٣) الكافي ٨ : ١٨٣ / ٢٠٨.

٤٦

وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما

 جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٤) و (١٠٥)

ثمّ أنّه تعالى - لمّا ذمّ أهل الكتاب ، بكونهم ضالّين في أنفسهم مضلّين لغيرهم - أمر المؤمنين بالسّعي في إرشاد غيرهم ، والاهتمام بهداية أبناء نوعهم ، بعد أمرهم بالثّبات على الإيمان ، والسّعي في تكميل أنفسهم ، والقيام بطاعة ربّهم ، على خلاف أهل الكتاب ، بقوله : ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ وجماعة كاملة النّفس ، عالمة بالمعارف الإلهيّة والأحكام الشّرعيّة ﴿يَدْعُونَ﴾ النّاس ﴿إِلَى الْخَيْرِ﴾ وما فيه صلاح الدّين والدّنيا ، من التّديّن بالإسلام ، والتزام الطّاعات ، والتّخلّق بالأخلاق الكريمة ، والتنزّه من الصّفات الذّميمة ﴿وَيَأْمُرُونَ﴾ العباد ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وما استحسنه الشّرع والعقل ﴿وَيَنْهَوْنَ﴾ الجهّال ﴿عَنِ﴾ ارتكاب ﴿الْمُنْكَرِ﴾ وما استقبحه الشّرع والعقل. وفي تخصيصهما بالذّكر إيذان بغاية فضلهما.

ثمّ وعدهم بأفضل الثّواب بقوله : ﴿وَأُولئِكَ﴾ الجماعة القائمة بالدّعوة إلى الله بأصنافها ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والفائزون إلى كلّ (١) مطلوب.

في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر [ كان ] خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر » .

وعنه عليه‌السلام : « من لم يعرف بقلبه معروفا ، ولم ينكر منكرا ، نكّس وجعل أعلاه أسفله » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى ، فمن نصرهما أعزّه الله ، ومن خذلهما خذله الله » (٤) .

أقول : يحتمل أن يكون المراد من قوله : ( خلقان من خلق الله ) أنّهما حكمان من أحكام الله ، أو أنّهما موجودان من الموجودات الجوهريّة في عالم الصّور ، يظهران في القيامة بصورتهما المثاليّة ، كما تظهر الصّلاة والصّوم بصورة ، والقرآن بصورة.

وعن ( التهذيب ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وتعاونوا على البرّ [ والتقوى ] ، فإن لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلّط بعضهم على

__________________

(١) كذا ، والظاهر : والفائزون بكلّ.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٦٨.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٦٨.

(٤) الكافي ٥ : ٥٩ / ١١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

٤٧

بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السّماء » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في رواية : « أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصّادقين ، وفريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر ، فأنكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم ، فإن اتّعظوا ، وإلى الحقّ رجعوا ، فلا سبيل عليهم ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ(٢) هنالك فجاهدوهم بأبدانكم ، وابغضوهم بقلوبكم ، غير طالبين سلطانا ، ولا باغين مالا ، ولا مريدين بالظّلم ظفرا ، حتّى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته » .

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « وأوحى الله إلى شعيب النبيّ : إنّي معذّب من قومك مائة ألف ، أربعين ألفا من شرارهم ، وستّين ألفا من خيارهم ، فقال : يا ربّ هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار ؟ فأوحى الله عزوجل إليه : إنّهم داهنوا أهل المعاصي ، ولم يغضبوا لغضبي » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، أواجب على الأمّة جميعا ؟ فقال : « لا » ، فقيل : ولم ؟ قال : « إنّما هو على القويّ ، المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضّعفة الّذين لا يهتدون سبيلا إلى أيّ من أيّ - يعني إلى الحقّ من الباطل - والدّليل على ذلك كتاب الله : ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ - إلى أن قال - : فهذا خاصّ غير عامّ » (٤) الخبر.

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر » ما معناه ؟ قال : « هذا على أن يأمره بعد معرفته ، وهو مع ذلك يقبل منه » (٥) .

وعنه عليه‌السلام : « إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر [ مؤمن ] فيتّعظ ، أو جاهل فيتعلّم ، فأمّا صاحب سيف وسوط فلا » (٦) .

وفي ( نهج البلاغة ) قال عليه‌السلام : « وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه ، فإنّما امرتم بالنّهي بعد التّناهي»(٧).

وقال : « لعن الله الآمرين بالمعروف والتّاركين [ له ، النّاهين ] عن المنكر العاملين به » (٨) .

__________________

(١) التهذيب ٦ : ١٨١ / ٣٧٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

(٢) الشورى : ٤٢ / ٤٢.

(٣) الكافي ٥ : ٥٥ / ١ ، التهذيب ٦ : ١٨١ / ٣٧٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٠.

(٤) الكافي ٥ : ٥٩ / ١٦ ، التهذيب ٦ : ١٧٧ / ٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٨.

(٥) الكافي ٥ : ٦٠ / ١٦ ، التهذيب ٦ : ١٧٨ / ٣٦٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

(٦) الكافي ٥ : ٦٠ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٧٨ / ٣٦٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

(٧) نهج البلاغة : ١٥٢ / ١٠٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

(٨) نهج البلاغة : ١٨٨ / ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

٤٨

وعن القمّي : عن الباقر عليه‌السلام ، في هذه الآية ، قال : « فهذه لآل محمّد صلّى الله عليهم ومن تابعهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر » (١) .

﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيّها المؤمنون في خبث النّفس ، وحبّ الدّنيا ، واتّباع الشّهوات ﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ بالقلوب ، وتباينوا بالأخلاق ، وتشتّتوا بالأهواء ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾ في العقائد كاليهود والنّصارى ؛ حيث صاروا فرقا كثيرة ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ﴾ من قبل الله الآيات ﴿الْبَيِّناتُ﴾ والدّلائل الواضحات على الحقّ ، من التّوحيد والتّنزيه وأحوال المعاد ، مع أنّ كثرة الدّلائل على شيء ووضوحها موجبة للاتّفاق عليه ﴿وَأُولئِكَ﴾ المتفرّقون بالقلوب ، المختلفون في العقائد الفاسدة معدّ ﴿لَهُمْ﴾ عند الله ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ عقوبة على تفرّقهم واختلافهم.

في نقل كلام بعض العامة في عدم تحقق الاتفاق إلّا بالإمام

وقال بعض العامّة : لمّا أمر الله هذه الأمّة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر - وذلك لا يتمّ إلّا إذا كان الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر - قادرا على تنفيذ هذا التّكليف على الظّلمة والمتغلّبين ، ولا تحصل هذه القدرة إلّا إذا حصلت الألفة والمحبّة بين أهل الحقّ والدّين - فلا جرم حذّرهم الله عن التّفرّق والاختلاف ، لكيلا يصير [ ذلك ] سببا لعجزهم عن القيام بهذا التّكليف.

فعلى المؤمنين أن يتركوا مقتضى طباعهم من اتّباع الهوى ، ويتّفقوا على كلمة واحدة باتّباع إمام داع إلى الله على بصيرة ، كالرّسول وأصحابة ، يجمعهم على طريقة واحدة ، فإن لم يكن مقتدى وإمام تتّحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتّفق كلمتهم وعاداتهم وآهواؤهم لمحبّته وطاعته ، كانوا متفرّقين ، فرائس للشّيطان ، كشريدة الغنم تكون للذّئب.

ولهذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا بدّ للنّاس من إمام بارّ أو فاجر ، ولم يرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلين فصاعدا لشأن إلّا وأمرّ أحدهما على الآخر ، وأمر الآخر بمتابعته وطاعته ، ليتّحد الأمر وينتظم ، وإلّا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدّين والدّنيا ، واختلّ [ نظام ] المعاش والمعاد » (٢) .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة (٣) الجنّة » .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يد الله مع الجماعة » ، فإنّ الشيطان مع الفذّ (٤) ، وهو من الاثنين أبعد ، ألا ترى أنّ الجمعيّة الإنسانيّة إذا لم تنضبط برئاسة القلب وطاعة العقل كيف اختلّ نظامها ، وآلت إلى الفساد والتّفرّق

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٠٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٣٩.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٧٥.

(٣) بحبوحة الشيء : وسطه وخياره.

(٤) الفذّ : الفرد المتفرّد.

٤٩

الموجب لخسارة الدّنيا والآخرة (١) .

أقول : إذا كان وجود الإمام مرتبطا بالنّظام الأتمّ - كما أنّ وجود القلب والعقل مرتبط بنظام الجمعيّة الإنسانيّة - كان واجبا على الله نصبه ، والدّلالة عليه ، وإيجاب طاعته ، وإلّا لزم خلاف الحكمة واللّطف ، ولا يمكن تفويض تعيينه ونصبه إلى الخلق ؛ لأنّه موجب للاختلاف والفرقة ، ونقض الغرض ، كما وقع ذلك في السّقيفة وفي الصّحابة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مفارقة الجماعة فلا شبهة في أنّ مقصوده الجماعة التي تكون على الحقّ ، لا كلّ جماعة ، لوضوح أنّ إبراهيم فارق جماعة أهل العالم ، ولم يكن ملوما مذموما ، وبعد دلالة الأدلّة القاطعة على نصب الله عليّا عليه‌السلام للخلافة تعيّن أنّ الجماعة الذين أمرنا باتّباعهم ، وبالدّخول فيهم ، هم : سلمان ، وأبو ذرّ ، ومقداد ، وعمّار ، وأضرابهم لا الجماعة الذين بايعوا أبا بكر ، ونقضوا البيعة.

﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ

 إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ

 فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٦) و (١٠٧)

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على الاجتماع ، والوعيد على التفرّق والاختلاف ، بقوله : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ كثيرة بنور الإيمان وضياء الملكات الجميلة ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ كثيرة بظلمة الكفر ، وكدرة الأخلاق السّيّئة.

ونصب ( يوم ) إمّا لكونه ظرفا لمتعلّق الجار ، أو لكونه مفعولا ل ( اذكروا ) المقدّر.

قيل : يوسم أهل الحقّ ببياض الوجه ، والصّحيفة ، وسعي النّور بين أيديهم وبأيمانهم. وأهل الباطل بأضداد ذلك.

وقيل : إنّ بياض الوجه كناية عن الفرح والسّرور بالفوز بالمطلوب ، وسواده كناية عن الخيبة منه ووصول المكروه ؛ كما قال تعالى : ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا(٢)

ثمّ بعد بيان سيماء الفريقين من الحسن والقباحة بيّن سبحانه معاملته معهما بقوله : ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ يقال لهم توبيخا وتقريعا : ﴿أَ كَفَرْتُمْ﴾ بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين الإسلام ﴿بَعْدَ إِيمانِكُمْ﴾ وتصديقكم عن صميم القلب ، واعترافكم لسانا وجنانا بهما ؟ !

عن أبيّ بن كعب : أي في عالم الذّرّ (٣) .

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٧٦.

(٢) النحل : ١٦ / ٥٨.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٨٠٨.

٥٠

وقيل : يعني قبل بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد إيمان أسلافكم به (١) .

وعلى الوجهين الأخيرين يكون العتاب خاصّا بأهل الكتابين.

وقيل : اريد خصوص بني قريظة والنّضير.

وقيل : عموم أهل البدع من هذه الأمّة (٢) ، أو المرتدّين في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده.

عن الثّعلبي في تفسيره : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « والذي نفسي بيده ، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام ، حتّى إذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : أصحابي أصحابي ، فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم (٣) ارتدّوا على أعقابهم » (٤) .

وفي روايات كثيرة : ارتدّ النّاس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا خمسة (٥) .

وعلى أي تقدير يقال لهم : إذن ﴿فَذُوقُوا﴾ واطعموا ﴿الْعَذابَ﴾ في هذا اليوم ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ .

قيل : إنّ الفصحاء متّفقون على أنّ من المحسّنات البديعيّة أن يكون مطلع الكلام ومقطعه ما تسر به القلوب (٦) ؛ ولذا بدأ في الآية ببيض الوجوه وختمها بذكر حالهم ، بقوله : ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ بنور الإيمان والطّاعة ﴿فَفِي رَحْمَتِ اللهِ﴾ من جنّته ونعمه مستقرّون ، و﴿هُمْ﴾ خاصّة ﴿فِيها خالِدُونَ﴾ دائمون ، لا يخرجون منها ، ولا يموتون.

قيل : في الآية إشعارات بغلبة جانب الرّحمة ؛ حيث ابتدأ فيها بذكر أهل الرّحمة وختمها بهم ، وعبّر عن تعذيب الكفّار بالذّوق ، وعن إثابة المؤمنين بالاستقرار في الرّحمة ، وعلّل العذاب بالكفر المستند إلى أنفسهم ، والثّواب بالرّحمة المضافة إلى ذاته المقدّسة ، ولم يصرّح بخلود الكفّار في العذاب ، مع كونهم خالدين فيه ، وصرّح بخلود أهل الرّحمة فيها.

عن القمّي رحمه‌الله ، عن أبي ذرّ رضى الله عنه ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ترد عليّ أمّتي يوم القيامة على خمس رايات ؛ فراية مع عجل هذه الأمّة ، فأسألهم : ما فعلتم بالثّقلين [ من ] بعدي ؟ فيقولون : أما الأكبر فحرّفناه (٧) ونبذناه وراء ظهورنا ، وأمّا الأصغر فعاديناه

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٠٨.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٨٠٩ ، تفسير الرازي ٨ : ١٧٣.

(٣) في المصدر : بعد إيمانهم.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٨٠٩.

(٥) راجع : رجال الكشي : ٨ / ١٧ و١١ / ٢٤ وفيه : ارتدّ الناس إلّا ثلاثة.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ١٧٢.

(٧) الظاهر أنه ليس المراد بالتحريف هنا الزيادة والنقصان ، للاجماع على سلامة القرآن الكريم من التحريف بهذا المعنى ، بل لعلّ المراد بالتحريف هنا التأويل الباطل الذي يخرج بالنص القرآني عن معناه الصحيح الموافق لمراده تعالى ، ويؤيد ذلك حديث الإمام الباقر عليه‌السلام في مراسلته لسعد الخير والتي جاء فيها : « وكان من نبذهم الكتاب أن

٥١

وأبغضناه وظلمناه ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع فرعون هذه الامّة ، فأقول لهم : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه ، وأمّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية مع سامري هذه الأمّة ، فأقول [ لهم ] : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فعصيناه وتركناه ، وأمّا الأصغر فخذلناه وضيّعناه ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج وآخرهم ، فأقول : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فمزّقناه وبرئنا منه ، وأمّا الأصغر فقاتلناه وقتلناه ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد عليّ راية إمام المتّقين ، وسيّد الوصيّين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ووصيّ رسول ربّ العالمين ، فأقول لهم : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فاتّبعناه وأطعناه ، وأمّا الأصغر فأحببناه وواليناه ونصرناه ، حتّى اهريقت فيه دماؤنا ، فأقول : ردوا الجنّة رواء مرويّين ، مبيضّة وجوهكم » ، ثمّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ إلى قوله ﴿خالِدُونَ(١) .

وفي هذه الرّواية شهادة على أنّ المراد بالآية أهل البدع والأهواء الزّائغة من هذه الأمّة ، وقد روي ذلك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. أو المراد عموم المرتدّين وأهل البدع منهم.

﴿تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ * وَلِلَّهِ ما فِي

 السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٨) و (١٠٩)

ثمّ أشار سبحانه إلى دلالة هذه الآيات على صدق النّبوّة ، بقوله : ﴿تِلْكَ﴾ الآيات المبشّرة للمؤمنين بياض الوجه في الآخرة والنّعم الأبدية والمنذرة للكافرين بسواد الوجه والعذاب الدّائم ، العالي شأنها من أن يطّلع عليها أحد إلّا بالوحي ﴿آياتُ اللهِ﴾ ودلائله القاطعة ، التي أنزلها لإثبات كونك بشيرا ونذيرا من جانب الله ، حيث إنّها - لعلوّ معانيها وإعجاز عباراتها - تنادي بأنّها ليست من البشر ، بل ﴿نَتْلُوها﴾ ونقرؤها ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمّد بوساطة جبرئيل ، حال كونها ملتبسة ﴿بِالْحَقِ﴾ والعدل ،

__________________

أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه - إلى أن قال عليه‌السلام - : وكان من نبذهم الكتاب أن ولوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيروا عرى الدين » الحديث. الكافي ٨ : ٥٣ / ١٦.

(١) تفسير القمي ١ : ١٠٩.

٥٢

ليس فيها شائبة الجور من انتقاص الثّواب عن حدّ الاستحقاق ، وزيادة العقاب عليه ﴿وَمَا اللهُ﴾ الحكيم الغنيّ المنزّه من كلّ نقص وعيب ﴿يُرِيدُ ظُلْماً﴾ بوجه من الوجوه ولو مثقال ذرّة ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ من الأوّلين والآخرين ، فإذا لم يمكن تحقّق إرادته منه تعالى لكونه من أقبح القبائح ، فكيف يمكن صدوره منه تعالى ؟ لوضوح أنّ العاقل لا يرتكب القبيح إلّا للجهل ، أو شدّة الضرورة والحاجة.

﴿وَلِلَّهِ﴾ وحده بالملكية الحقيقيّة الإشراقيّة ﴿ما﴾ وجد ﴿فِي السَّماواتِ﴾ السّبع كلّها ﴿وَما﴾ يكون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ كافّة من الموجودات الخارجة من الحصر ﴿وَإِلَى اللهِ﴾ وإلى حكمه وقضائه خاصّة ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ، والتّصرّف والتّربية ، والإثابة والعقوبة ، لا يشركه فيها ندّ ، ولا يزاحمه فيها ضدّ ، فإذن كان علمه بلا نهاية ، وقدرته بلا غاية ، وغناؤه غير محدود ، وعطاؤه غير مجذوذ.

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

 وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ

 الْفاسِقُونَ (١١٠)

ثمّ أنّه تعالى - بعد أمر المؤمنين بالاتّفاق على الحقّ ، والدّعوة إلى طاعته ، ونهيهم عن الفرقة والاختلاف ، ووعد المطيعين ، ووعيد العاصين - مدح المتّفقين السّاعين في الإرشاد منهم ، بقوله : ﴿كُنْتُمْ﴾ في علمي ، وفي اللّوح المحفوظ عندي ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ من الامم ، وأفضلهم في العالم.

عن الصادق عليه‌السلام قال : « يعني الأئمّة (١) التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، فهم الأمّة التي بعث الله فيها ومنها وإليها ، وهم الامّة الوسطى ، وهم خير أمّة اخرجت للنّاس » (٢) .

وعن العياشي : عنه عليه‌السلام قال : « في قراءة عليّ : ( كنتم خير أئمّة اخرجت للنّاس ) ، قال : هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

وعنه عليه‌السلام قال : « إنّما نزلت هذه الآية على محمّد فيه وفي الأوصياء خاصّة ، فقال : ( أنتم (٤) خير أئمّة اخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) هكذا نزل بها جبرئيل ، وما عنى بها إلّا محمّدا وأوصياءه » (٥) .

__________________

(١) في تفسير العياشي : الامّة.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ / ٧٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ / ٧٦٧ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٢.

(٤) في تفسير العياشي : كنتم.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ / ٧٦٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٢.

٥٣

أقول : قد مرّ أنّ المراد من إنزال جبرئيل تفسيره حين إنزالها ( خير أمّة ) بالأئمّة ، لا وقوع التّحريف فيها ، وعليه تحمل سائر الرّوايات.

وعن القمّي رحمه‌الله عنه عليه‌السلام أنّه قرئ عليه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ فقال [ أبو عبد الله عليه‌السلام : « خير أمّة ] يقتلون أمير المؤمنين ، والحسن والحسين عليهم‌السلام ؟ ! » فقال القارئ : جعلت فداك ، كيف نزلت ؟ فقال : « نزلت ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ﴾ أئمّة ﴿أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ألا ترى مدح الله لهم : ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ  (١) .

وعن ( المناقب ) : عن الباقر عليه‌السلام أنّه : « خير أمّة (٢) بالألف ، نزل بها جبرئيل ، وما عنى بها إلّا محمّدا وعليّا والأوصياء من ولده » (٣) .

قال بعض العامّة : لو شاء الله تعالى لقال : ( أنتم خير أمّة ) حتّى يشمل جميع الامّة إلى يوم القيامة ، ولكن قال : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ليختصّ بالمخصوصين ، وقوم معيّنين من أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وهم السّابقون الأوّلون.

وروي من طريق عامّيّ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس رضى الله عنه : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ الّذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة (٤) .

وعن الضّحّاك : أنّهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة (٥) .

أقول : لا ريب أنّ المراد من ( الأمّة ) في الآية ليس جميعهم إلى يوم القيامة ، ولا جميع الحاضرين في زمان الخطاب من الصّحابة ، للقطع بفسق كثير منهم ؛ كأبي سفيان ومعاوية. ولا دليل على تعيين خصوص المهاجرين ، بعد القطع بعدم إرادة المعنى الحقيقي وهو العموم ، فلا بدّ من حملها على المتيقّن وهو أمير المؤمنين ومن يحذو حذوه.

في بيان عدم حجية الاجماع إلّا بموافقة رأي المعصوم

وقال الفخر الرازي في تفسيره : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ إجماع الامّة حجّة (٦) .

وفيه مضافا إلى منع الدّلالة : أنّ المراد إن كان اتّفاق جميع الامّة - كما هو ظاهر اللّفظ - فنحن نقول به ، لكن لا من حيث الاتّفاق ، بل لوجود الإمام المعصوم الذي هو أفضل الأمّة فيهم. وإن كان المراد اتّفاق بعضهم ، فمع أنّه ليس بإجماع حقيقة [ فانّ ] إرادة خصوص أهل البيت - الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّهم حبل الله » (٧) ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٢.

(٢) في المصدر : أنتم خير أمّة اخرجت للنّاس.

(٣) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٣٤٣.

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ٧١.

(٥) تفسير أبي السعود ٢ : ٧١.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ١٧٨.

(٧) كتاب سليم بن قيس : ١٣٤.

٥٤

وأوجب حبّهم وولايتهم - أولى من إرادة غيرهم ، مع أن قوله تعالى : ﴿أُخْرِجَتْ﴾ وأبرزت من كتم العدم ، نفعا ﴿لِلنَّاسِ﴾ قرينة ظاهرة على إرادة خصوص جماعة يكون وجودهم نافعا لعامّة الخلق ، ولطفا تامّا من الله تعالى بكافّة الأنام إلى يوم القيامة ، وليست إلّا الأئمّة الاثني عشر الّذين نعتقد بأنّهم أوصياء الرّسول ، وحجج الله على العباد.

وما رواه التّرمذي عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في قوله تعالى : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ : « أنتم (١) تتمّون سبعين أمّة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله » (٢) فمحمول - على تقدير صحّتها - على كون هذه الامّة أكرم من حيث كرامة نبيّها ، وكمال دينها ، وأفضليّة أئمتّها. فلا ينافي كون كثير منهم أشقى الأمم.

ومن شواهد كون ( خير أمّة ) خصوص الهداة المهديّين : تعليله تعالى خيريّتهم بقوله : ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فإنّه يخصّ الوصف بالّذين يكون همّهم في تربية الخلق وتكميل نفوسهم.

ثمّ بقوله : ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ إيمانا خالصا عن شوب الشّرك الجليّ والخفيّ والأخفى ، ومن المعلوم أنّه كما لا يكون إلّا للأوحدي من هذه الأمّة.

قيل : إنّ تأخير الإيمان بالله في الذّكر على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مع تقدّمه عليهما في الوجود ، لكون دلالتهما على خيرهم ونفعهم للنّاس أظهر من دلالته عليه ، ولأن يقترن به قوله : ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنّصارى بوحدانيّة الله ، ورسالة رسوله ، وبدين الإسلام ، عن صميم القلب ، كإيمانكم ﴿لَكانَ﴾ ذلك ﴿خَيْراً لَهُمْ﴾ وأنفع في الدّنيا والآخرة من الكفر والرّئاسات الباطلة والزّخارف الدّنيويّة ؛ حيث إنّ بالإيمان يجمع لهم حظوظ الدّارين.

ثمّ لمّا كان لفظ ( أهل الكتاب ) في القضيّة الشّرطية ظاهرا في عمومهم ، نصّ الله سبحانه بإيمان بعضهم بقوله : ﴿مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ كعبد الله بن سلام وأضرابه ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ﴾ المتمرّدون عن طاعة الله ، المصرّون على مخالفته ، الخارجون عن حدود دينه ، في اعتقادهم وعند أهل ملّتهم.

﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)

ثمّ لمّا كان توصيف الكافرين بالكثرة موهما لقوّتهم وغلبتهم ، بشّر الله المؤمنين اطمئنانا لقلوبهم بأنّهم ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ أبدا بوجه من الوجوه ، مع كثرتهم ﴿إِلَّا أَذىً﴾ قليلا ، وألما يسيرا ، لا عبرة به

__________________

(١) في المصدر : قال : إنكم.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٢٢٦ / ٣٠٠١.

٥٥

ولا التفات إليه ، كالطّعن باللّسان ، والإساءة بالقول ، والسّعي في الإضلال.

﴿وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ﴾ يتظاهروا على حربكم ، لا يقاوموكم ، بل ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ﴾ ويلجئهم الخوف من بأسكم إلى الفرار ، من غير أن يصيبوكم بقتل ، أو جرج ، أو أسر ﴿ثُمَ﴾ بعد انهزامهم ﴿لا يُنْصَرُونَ﴾ من جهة أحد ، ولا يتقوّون بمدد ، ولا يتوقّع لهم شوكة ، ولا ينتظر لهم قوّة.

وفيه تثبيت لمن آمن منهم وبشارة بأنّهم لا يفارقون الخذلان ، ولا ينهضون بجناح ، ولا ترجع إليهم سلطة ونجاح ، كما كان من حال بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، ويهود خيبر.

﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ

 بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ

 وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)

ثمّ أكّد خذلانهم بقوله : ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ وأحاطت بهم ﴿الذِّلَّةُ﴾ والمهانة ، كإحاطة الفسطاط المضروب بأهله ﴿أَيْنَ ما ثُقِفُوا﴾ وفي أي مكان كانوا ، وإلى أي حال تحوّلوا ﴿إِلَّا﴾ إذا تمسّكوا ﴿بِحَبْلٍ﴾ وثيق كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ واعتصموا بدينه القويم ، وكتابه الحكيم ﴿وَحَبْلٍ﴾ متين ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ وهو ولاية أهل بيت النبيّ صلوات الله عليهم ومتابعتهم ، لنصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر الثّقلين ، المتّفق على روايته بأنّ كتاب الله والعترة حبلان ممدودان ، من تمسّك بهما لن يضلّ أبدا (١) .

وعن العياشي : عن الصادق عليه‌السلام قال : « الحبل من الله : كتاب الله ، والحبل من النّاس : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » (٢) .

والعجب من مفسّري العامّة أنّهم فسّروا الحبل من النّاس بذمّة المسلمين (٣) ، ولم يحتملوا إرادة العترة الطّاهرة منه ، مع أنّ دأبهم في التّفسير التّمسّك بأضعف الشّواهد.

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآيات دلالة ظاهرة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوى النّبوّة ، لأنّها أخبار صادقة بالمغيّبات ، لوقوع جميع ما أخبر به كما أخبر ، حيث إنّ اليهود لم يقاتلوا المسلمين إلّا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، ولا طلبوا رئاسة إلّا خذلوا.

إن قيل : أهل الكتاب شامل للنّصارى ، مع أنّهم لم يزالوا في شوكة وسلطنة قاهرة إلى عصرنا هذا ، فكيف طابق الخبر المخبر ؟

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٠٥.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٣٦ / ٧٧٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٣.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٧٢ ، تفسير روح البيان ٢ : ٧٩.

٥٦

قلنا : اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من الآيات خصوص اليهود ، ويشهد لذلك ما روي في شأن نزولها : من أنّ مالك بن الصّيف ووهب بن يهوذا اليهوديّين ، مرّا بنفر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى حذيفة ، فقالا لهم : نحن أفضل منكم وديننا خير ممّا تدعوننا إليه. فنزلت [ الآية ](١) .

ثمّ بيّن الله سبحانه سوء حالهم في الآخرة بقوله : ﴿وَباؤُ﴾ ورجعوا في الآخرة ، أو المراد تمكّنوا واستقرّوا ﴿بِغَضَبٍ﴾ وعذاب عظيم كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ العظيم. وفيه أشّد التّهديد.

ثمّ لمّا كان همّ اليهود في الرّئاسات الباطلة والحطام الدنيوي ، زاد سبحانه في تهديدهم بالأخبار بحرمانهم منها في الدّنيا بقوله : ﴿وَضُرِبَتْ﴾ واشتملت ﴿عَلَيْهِمُ﴾ اشتمال القبّة على من فيها ﴿الْمَسْكَنَةُ﴾ والفقر والمقهورية ، في أيدي المسلمين وسائر الملل ، فلا يكون لهم ملك وسلطان ورئاسة وثروة ظاهرة ، حيث إنّهم وإن كثرت ثروتهم يظهرون الفقر بين النّاس.

وقيل : إنّ المراد بالمسكنة هي الجزية (٢) .

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة هذه العقوبات بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الشّدائد الدّنيويّة والاخرويّة معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ كانُوا﴾ من زمان بعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على الاستمرار ﴿يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ النّاطقة بنبوّته ، وينكرون علائمه المذكورة في التّوراة ، ويحرّفون عباراتها المبشّرة ببعثه ، الدّالّة على أوصافه وعلائمه ، ويجحدون إعجاز القرآن وسائر معجزاته ﴿وَ﴾ بأنّهم كانوا ﴿يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ﴾ من بني إسرائيل ، كزكريّا ، ويحيى وغيرهما ، مع علمهم بأنّ قتلهم ﴿بِغَيْرِ حَقٍ﴾ يوجبه أو يجوّزه.

قيل : إنّ إسناد القتل إلى الّذين كانوا في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لرضاهم بفعل أسلافهم ، وتصويبهم له(٣).

عن ( الكافي ) والعيّاشي : عن الصادق عليه‌السلام : « والله ما قتلوهم بأيديهم ، ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأضاعوها ، فاخذوا عليها فقتّلوا » (٤) .

أقول : الظّاهر أنّ المراد من الرّواية بيان وجه نسبة قتلهم إلى مؤمني بني إسرائيل ، مع وضوح عدم مباشرتهم له ، وإنّما كان المباشر منهم.

ثمّ بيّن الله علّة بلوغهم إلى هذه الدّرجة من الشّقاوة بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من الكفر والطّغيان معلّل ﴿بِما عَصَوْا﴾ الله وخالفوا أوامره ونواهيه ، ومسبّب عن الإصرار على صغائر الذّنوب وكبائرها ،

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٧١.

(٢) تفسير الرازي ٨ : ١٨٥.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٧٩.

(٤) الكافي ٢ : ٢٧٥ / ٦ ، تفسير العياشي ١ : ٣٣٦ / ٧٧٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٣.

٥٧

﴿وَ﴾ بما ﴿كانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [ على ] حدود الله ، ويداومون على التّجاوز عنها ، من غير مبالاة ، ولا ارعواء.

فإنّ الإصرار على الصّغائر مفض إلى مباشرة الكبائر ، والاستمرار على الكبائر موجب لزيغ القلب وطبعه الملازم للكفر والطّغيان ، وإليه أشار سبحانه بقوله : ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ(١) وقوله : ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ(٢).

قال بعض العرفاء : من ابتلي بترك الأدب وقع في ترك السّنن ، ومن ابتلي بترك السّنن وقع في ترك الفريضة ، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشّريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر (٣) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا ممّا به البأس » (٤) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في رواية : « ومن ارتكب الشّبهات وقع في المحرمات ؛ كالرّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه » (٥) .

﴿لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ

 يَسْجُدُونَ  يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

 الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٣) و (١١٤)

ثمّ أنّه تعالى - بعد ذمّ أكثر أهل الكتاب بسوء اعتقادهم وأخلاقهم وأعمالهم ، وتهديدهم على كفرهم وطغيانهم - ذكر التّباين بينهم وبين المؤمنين منهم بقوله : ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ في الاتّصاف بالكفر والقبائح ، ولا يكونون مشاركين ولا مشابهين فيها.

ثمّ شرع في مدح من آمن منهم بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيان عدم المساواة بينهم بقوله : ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ كعبد الله بن سلام وأضرابه.

روي أنّه لمّا أسلم هو وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود : لقد كفرتم وخسرتم ، فأنزل الله لبيان فضلهم هذه الآية (٦) .

وقيل : إنّها نزلت في أربعين من نصارى نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الرّوم كانوا

__________________

(١) المطففين : ٨٣ / ١٤.

(٢) الروم : ٣٠ / ١٠.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٨٠.

(٤) سنن الترمذي ٤ : ٦٣٤ / ٢٤٥١ ، تفسير روح البيان ٢ : ٨٠.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ٨٠.

(٦) تفسير الرازي ٨ : ١٨٧.

٥٨

على دين عيسى ، وصدّقوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان جمع من الأنصار - قبل قدوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله - منهم : أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمّد بن مسلمة ، وأبو قيس صرمة بن أنس ، كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفيّة ، حتّى بعث الله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فصدّقوه ونصروه (١) .

وعلى أي تقدير ، ذكر الله سبحانه وجه عدم المساواة بين المؤمنين منهم والكافرين ، وهو أنّ المؤمنين منهم ﴿أُمَّةٌ﴾ وجماعة ﴿قائِمَةٌ﴾ بالعدل ، مستقيمة في العقائد والأعمال ، لا يتحرّفون إلى الباطل ، ولا يميلون إلى الفساد ، وهم ﴿يَتْلُونَ﴾ ويقرأون بخلوص النّيّة ﴿آياتِ اللهِ﴾ القرآنية ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾ وساعاته ﴿وَهُمْ﴾ في حال تلاوتهم ﴿يَسْجُدُونَ﴾ .

قيل : إنّ السّجود كناية عن الصّلاة لعدم الفضيلة لتلاوة القرآن في السّجود ، بل ثبوت كراهيّتها لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّي نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا » (٢) .

ووجه التّعبير عن الصّلاة بالسّجود كونه أعظم أجزائها ، وأشرف أركانها ، وأدلّ على كمال الخضوع.

وإنّما صرّح بتلاوتهم القرآن في الصّلاة ، مع اشتمال كلّ صلاة عليها ، لزيادة تحقيق المخالفة بين هؤلاء وغيرهم من منكري القرآن ، لتوضيح عدم المساواة بينهم وبين الّذين وصفهم الله - آنفا - بالكفر بالنبيّ وكتابه.

ولعلّ هذا هو الوجه في تقديم هذا الوصف في الذّكر على توصيفهم بالإيمان بقوله : ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إيمانا حقيقيّا ، مطابقا لما نطق به الشّرع ، ورضي به الله.

فيدخل في الإيمان الحقيقي بالله الإيمان بملائكته وكتبه ورسله وبخاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالقرآن المجيد. وفي الإيمان بالآخرة تصديق خلافة أمير المؤمنين ووجوب طاعته وطاعة المعصومين من ذرّيّته ، والبراءة من أعدائهم ، والقيام بأداء الفرائض ، والتّحرّز عن المحرّمات.

وحاصل الآيتين من قوله : ﴿أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ إلى هنا ، مدحهم بكمال القوة النظريّة والعمليّة.

ثمّ بعد مدحهم بكمالهم في أنفسهم ، مدحهم بأنّهم غير مقتصرين على ذلك ، بل يكون همّهم معدّ إلى إرشاد النّاس وتكميلهم ، بقوله : ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي بتوحيد الله ، وبنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أي ينهون عن الشّرك بالله ، وعن إنكار نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) .

أقول : الظّاهر أنّ المراد من المعروف والمنكر هو الأعمّ من العقائد والأعمال.

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٧٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ٧٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ٨١.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ١٩٠.

٥٩

ثمّ مدحهم بصفة جامعة لفنون المحاسن ، بقوله : ﴿وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ﴾ بأصنافها ؛ لخوف الفوت بالموت ، ولفرط الرّغبة ، ويبادرون إليها لغاية الشّوق.

وفي ذكر الأوصاف تعريض على الفسّاق من أهل الكتاب ، فإنّهم أمّة قائمة بالجور والفساد ، منحرفة العقائد ، مائلة إلى الفساد ، ساعية في إضلال النّاس ، متباطئة في الخيرات ، مسارعة في الشّرور ، كافرة بالله واليوم الآخر.

ثمّ مدحهم الله تعالى بأكرم الصّفات ، بقوله : ﴿وَأُولئِكَ﴾ النّفوس المقدّسة ، الكريمة الصّفات معدودون ﴿مِنَ﴾ زمرة ﴿الصَّالِحِينَ﴾ ومن جملة من حسنت أحوالهم عند الله ، واستحقّوا رضاه وثناءه.

﴿وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)

ثمّ بشّرهم بالثّواب العظيم بقوله : ﴿وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ وعمل صالح ؛ كائنا ما كان ، من قليل أو كثير ﴿فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ ولن يعدموا ثوابه ، ولم ينقصوا من أجره شيئا.

وفي التّعبير عن ترك الإثابة بالكفران الذي هو محال على الله ، دلالة واضحة على أنّ الثّواب بالاستحقاق كدلالة إطلاق الشّكر على الإثابة.

ثمّ قرّر الله سبحانه وعده بقوله : ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ مطّلع على أحوالهم وضمائرهم ، فيوفّيهم أجورهم في الدّنيا والآخرة.

عن الصادق عليه‌السلام : « إنّ المؤمن مكفّر ، وذلك أنّ معروفه يصعد إلى الله فلا ينتشر في النّاس ، والكافر مشهور ، وذلك أنّ معروفه للنّاس ينتشر في النّاس ولا يصعد إلى السّماء » (١) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ

أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)

ثمّ - لمّا ذكر الله سبحانه حسن حال المؤمنين في الآخرة ، وعظّم ثوابهم - ذكر سوء حال الكفّار فيها ، وشدّة عقابهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ ولن تجزي ﴿عَنْهُمْ﴾ في الآخرة ﴿أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ تعالى ﴿شَيْئاً﴾ يسيرا ، فلا وسيلة لهم إلى النّجاة منه.

وتخصيص المال والأولاد بالذّكر لكونهما أنفع الأمور ، وأوثق الوسائل في دفع المكاره

__________________

(١) علل الشرائع : ٥٦٠ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٤٤.

٦٠