نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

ألقته الشّياطين في وهدة عميقة في الأرض (١) ، حال كونه ﴿حَيْرانَ﴾ لا يدري ما يصنع ، ولا يهتدي إلى طريق السّلامة والنّجاة ، وفي تلك الحالة يكون ﴿لَهُ أَصْحابٌ﴾ ورفقاء ﴿يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾ ويهدونه إلى الطّريق المستقيم قائلين له : ﴿ائْتِنا﴾ وتعال إلينا حتّى نوصلك إلى المأمن والمقصود ، وهو لا يجيبهم ولا يترك متابعة الغيلان فيهلك ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ﴾ والدّين الحقّ الذي أرشدنا إليه وأمرنا باتّباعه ﴿هُوَ﴾ وحده ﴿الْهُدَى﴾ المحض ، وما سواه هو الضّلال البحت.

ثمّ شرح الدّين الذي هو هدى الله بقوله : ﴿وَأُمِرْنا﴾ والزمنا بحكم عقولنا ﴿لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وننقاد لإرادته وحكمه ، وهذا رأس الأعمال القلبيّة ، ﴿وَ﴾ أمرنا أيضا ﴿أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ التي هي رأس الطّاعات الجوارحيّة ، وأفضل الواجبات البدنيّة ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ تعالى في مخالفته ، وعصيان نواهيه.

ثمّ أشار سبحانه إلى وقت ظهور عمد منافع تلك الأعمال حثّا عليها بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ تعالى ﴿الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ من قبوركم ، وفي القيامة تجمعون للحساب والجزاء ؛ فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ

 الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ

 الْخَبِيرُ (٧٣)

ثمّ لمّا استدلّ على عدم قابليّة (٢) الأصنام للعبادة بعجزهم عن النّفع والضّر ، بيّن كمال قدرته حثّا على تخصيصه بالعبادة ، وإثباتا للمعاد بقوله : ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ﴾ وما فيها من العلويّات ﴿وَالْأَرْضَ﴾ وما فيها من السّفليّات ، قائما ﴿بِالْحَقِ﴾ والحكمة الكاملة والنّظام الأتمّ ، لا بالباطل والعبث ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وحين يريد إيجاد شيء فيوجد بلا ريث.

﴿قَوْلُهُ﴾ وإرادته ﴿الْحَقُ﴾ الثّابت النّافذ ، وقيل : إنّ المراد : وخلق يوم يقول ، أو وأتقّوا يوم يقول (٣) ، وعلى التّقديرين هو يوم القيامة ، ﴿وَلَهُ﴾ تعالى خاصّة ﴿الْمُلْكُ﴾ والسّلطنة التّامّة الظّاهرية والواقعيّة ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ لا ملك فيه لغيره ، كما كان في الدّنيا بحسب الظّاهر.

عن أبي هريرة ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما الصّور ؟ قال : القرن ، قلت : كيف هو ؟ قال : عظيم ، والذي نفسي بيده ، إنّ أعظم دائرة فيه كعرض السّماء والأرض (٤) . قيل : إنّ فيه من الثّقب على عدد أرواح

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٢٩.

(٢) يريد عدم استحقاق.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٤٩٥.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٥٣.

٥٠١

الخلائق (١) .

ثمّ لمّا لم يكن كمال قدرته باعثا على القيام بعبوديّته ، ومثبتا للمعاد لكلّ أحد ، إلّا بعد معرفة كمال علمه بمن أطاعه وعصاه ومن أماته وأحياه ، عرّف ذاته المقدّسة بكمال العلم بقوله : ﴿عالِمُ الْغَيْبِ﴾ وما لا تدركه الحواسّ ﴿وَالشَّهادَةِ﴾ وما يدركه ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله ﴿الْخَبِيرُ﴾ بجميع الأمور.

﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ

 مُبِينٍ (٧٤)

ثمّ لمّا كان إبراهيم عليه‌السلام معروفا بين جميع الملل بكمال العقل والعلم ، واستقامة الرّأي ، وإصابة النّظر ، وحسن العقائد والأعمال ، وعظم الشّأن ، وكان أهل الكتاب ومشركو العرب مفتخرين بأنهم ذرّيّته ، معترفين بعلوّ مقامه ، احتجّ الله سبحانه عليهم بإقراره بالتّوحيد ، وإعراضه عن الشّرك ، وتوبيخه وإنكاره على النّاس عبادة الأصنام ، بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ موبّخا له ، وإنكارا عليه : ﴿أَ تَتَّخِذُ﴾ وتختار لنفسك ﴿أَصْناماً آلِهَةً﴾ ومعبودين من دون الله ، وفي تنكير الأصنام إشعار بتحقيرها ﴿إِنِّي﴾ بعين عقلي ، وبصيرة قلبي ﴿أَراكَ وَقَوْمَكَ﴾ الّذين وافقوك في عبادتها راسخين ﴿فِي ضَلالٍ﴾ عن الحقّ ، وبعد عن الصّواب ﴿مُبِينٍ﴾ وواضح عند العقل والعقلاء.

في أنّ آزر كان جدّ إبراهيم لأمّه

ثمّ اعلم أنّه ادّعي الإجماع على أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ ، وإنّما الخلاف في أنّ آزر كان لقبه ، أو كان له اسمان ، أو كان آزر عمّه ، وإنّما اطلق عليه الأب ؛ لأنّ العمّ صنو الأب ؟ أو كان جدّه لامّه وهو الحق ؛ لأنّ إطلاق الأب عليه حقيقة وعلى العم مجاز ، واتّفاق أصحابنا ظاهرا على أنّ آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم كانوا موحّدين لقوله تعالى : ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(٢) .

عن القمّي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « في أصلاب النّبيّين » (٣) .

وفي ( المجمع ) : عنهما عليهما‌السلام ، قالا : « في أصلاب النّبيّين ؛ نبيّ بعد نبيّ ، أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح ، من لدن آدم » (٤) .

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لم يزل ينقلني الله تعالى من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام

__________________

(١) تفسير روح البيان ٣ : ٥٣.

(٢) الشعراء : ٢٦ / ٢١٩.

(٣) تفسير القمي ٢ : ١٢٥ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

(٤) مجمع البيان ٧ : ٣٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٥٤.

٥٠٢

المطهّرات ، حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنّسني بدنس الجاهلية » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « لمّا خلق الله تعالى آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض ، وجعلني في صلب نوح في السّفينة ، وقذفني في صلب إبراهيم ، ثمّ [ لم يزل ] تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام حتّى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قطّ » (٢) . ولو كان في آبائه كافر لم يصف أصلابهم بالطّهارة والكرامة.

وروي أنّ حوّاء لمّا وضعت شيئا انتقل النّور المحمّدي من جبهتها إلى جبهته ، فلمّا كبر وبلغ مبلغ الرّجال أخذ آدم عليه العهود والمواثيق أن لا يودع هذا السرّ إلّا في المطهّرات المحصنات من النّساء ، ليصل إلى المطهّرين (٣) .

وحمل الفخر الرازي وبعض آخر من العامّة الرّوايات النبويّة على أنّه لم يكن في آبائه ولد زنا ، واستشهدوا عليه بقوله عليه‌السلام : « ولدت من نكاح ، لا من سفاح » (٤) .

وفيه : أنّه لا شهادة فيه لظهور كونه فخرا آخرا ، مع بعد حمل الأصلاب الطّاهرين على ذلك ، ويؤيّده فحوى قوله تعالى : ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ الآية ، كما ذكرناه في البقرة (٥) ، وأنّه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله جامعا لجميع المفاخر ، ومن المعلوم أن كون بعض آبائه مشركا لا يخلو من شين عليه.

﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)

ثمّ بيّن الله تعالى كمال عرفان إبراهيم عليه‌السلام بقوله : ﴿وَكَذلِكَ﴾ الذي أريناه من قبح عبادة الأصنام ، وبصّرناه بفساد الإشراك بتقوية بصيرته ، كنّا ﴿نُرِي﴾ ونبصّر ﴿إِبْراهِيمَ﴾ بتقوية نور بصره ﴿مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ ليشاهد عجائب مخلوقاتنا ، ويطّلع على سعة ملكنا وعظمة سلطاننا ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ بوحدانيّتنا وقدرتنا وحكمتنا.

عن الباقر عليه‌السلام : « كشط له عن الأرضين حتّى رآهنّ وما تحتهنّ ، وعن السّماوات حتّى رآهنّ وما فيهنّ من الملائكة وحملة العرش » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « كشط له عن الأرض ومن عليها ، وعن السّماء ومن فيها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه » (٧) .

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٤٩٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣١.

(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٥٤.

(٣) تفسير روح البيان ٣ : ٥٤.

(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٥٤.

(٥) في تفسير الآية (١٢٥) من سورة البقرة.

(٦) مجمع البيان ٤ : ٤٩٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣١.

(٧) تفسير القمي ١ : ٢٠٥ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣١.

٥٠٣

وعن الباقر عليه‌السلام قال : « اعطي بصره من القوّة ما نفذ السّماوات ، فرأى ما فيها ، ورأى العرش وما فوقه ، ورأى ما في الأرض وما تحتها » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لمّا رأى إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض ، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ، ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات ، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا ، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ، إنّ دعوتك مستجابة ، فلا تدع على عبادي ، فإنّي لو شئت أن اميتهم [ لدعائك ] ما خلقتهم ، فإنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فاثيبه ، وصنف يعبد غيري فليس يفوتني ، وصنف يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني » (٢) .

قيل : إنّ ملكوت كلّ شيء باطنه وروحانيّته ، وهو من الأوّليّات التي خلقها الله تعالى من لا شيء بأمر ( كن ) ، فالملك قائم بالملكوت ، والملكوت قائم بقدرة الله ، فأرى سبحانه إبراهيم ملكوت الأشياء ، والآيات المودعة فيها الدّالّة على توحيده وكمال صفاته.

﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ *

 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ

 الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ

 قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٦) و (٧٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان إنكار إبراهيم عليه‌السلام على آزر وقومه عبادة الأصنام ، وحكمه بضلالتهم ، احتجّ على مشركي العرب بما احتجّ به إبراهيم عليه‌السلام على بطلان عبادة الأصنام بقوله : ﴿فَلَمَّا جَنَ﴾ وأظلم ﴿عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ وستره بظلامه ، وظهرت الكواكب ﴿رَأى﴾ بينها ﴿كَوْكَباً﴾ من الكواكب السّبعة ، قيل : كان الزّهرة (٣) ، وقيل : كان المشتري (٤)﴿قالَ﴾ استهزاء بقومه ، أو إنكارا عليهم ، أو حكاية لمقالهم لينكر (٥) عليهم بإبطاله ، أو إظهارا لمماشاته معهم كي يكون أدعى إلى استماع حجّته : ﴿هذا﴾ الكوكب ﴿رَبِّي﴾ .

قيل : لمّا كان مرجع عبادة الأصنام إلى عبادة الكواكب ؛ حيث إنّ النّاس رأوا أنّ الفصول الأربعة تكون بقرب الشّمس وبعدها ، وبهما تحدث الأحوال المختلفة في العالم ، وتكون السّعادات

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٠٢ / ١٤٣١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٢.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٢ / ١٤٣٢ ، تفسير القمي ١ : ٢٠٦ ، الكافي ٨ : ٣٠٥ / ٤٧٣ ، مجمع البيان ٤ : ٤٩٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٢.

(٣ و٤) . تفسير أبي السعود ٣ : ١٥٣ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٦.

(٥) كذا الظاهر ، وفي النسخة : ليكن.

٥٠٤

والنّحوسات بوقوع الكواكب في طوالعهم على أحوال مختلفة ، غلب على ظنّ أغلبهم أنّ مبدأ الحوادث هو الكواكب ، فبالغوا في تعظيمها حتّى اشتغلوا بعبادتها.

ثمّ لمّا رأوا أنّها تغيب في كثير من الأوقات ، اتّخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه ، فصنم الشّمس من الذّهب المزيّن بأحجار منسوبة إليها كالياقوت والألماس ، وصنم القمر من الفضة (١) ... وهكذا.

ولذا استدلّ إبراهيم عليه‌السلام على بطلان عبادة الأصنام ببطلان ربوبيّة الكواكب بقوله : ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ الكواكب وغرب ﴿قالَ لا أُحِبُ﴾ الأرباب ﴿الْآفِلِينَ﴾ الغائبين عن مربوبهم ، للقطع بعدم صلوح الزّائل المتغيّر للرّبوبيّة.

ثمّ طلع القمر ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً﴾ وطالعا ﴿قالَ هذا﴾ الجرم المضيء ﴿رَبِّي﴾ وخالقي ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ وغاب ﴿قالَ﴾ تنبيها لقومه على عدم صلوحه أيضا للرّبوبيّة بعلّة افوله وتغيّره الملازم للحدوث ، وتذكيرا لهم بعجزهم عن معرفة ربّهم إلّا بهدايته وتوفيقه : ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ إلى معرفته بتوفيقه ، ولم ينوّر قلبي لإدراك الحقّ ﴿لَأَكُونَنَ﴾ البتّة ﴿مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ عن طريق الحقّ ، المنحرفين عن نهج الصّواب. وفيه تعريض بضلال قومه في عبادتهم المتغيّر المقهور بإرادة غيره.

عنهما عليهما‌السلام : ﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ أي ناسيا للميثاق » (٢) .

أقول : أي الميثاق على التّوحيد في عالم الذرّ.

ثمّ ذهب اللّيل وطلعت الشّمس ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً﴾ وطالعة ﴿قالَ هذا﴾ الجرم المشهود ﴿رَبِّي﴾ .

ثمّ أشار إلى رجحان القول بالوهيّة الشّمس على القول بالوهيّة الكوكب والقمر بقوله : ﴿هذا﴾ الطّالع ﴿أَكْبَرُ﴾ من الكوكب والقمر جرما ، وأقوى منهما ضياء ، فهو أولى بالرّبوبيّة ، قيل : في تذكير اسم الإشارة رعاية للأدب وتنزيه للربّ عن الانوثيّة (٣)﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ الشّمس كسائر الكواكب ، وثبّت امتناع ربوبيّتها أيضا لأجل الافول والتّغيّر وألزم الفرق بالحجّة القاطعة ﴿قالَ﴾ مخاطبا لجميعهم ، صادعا بالحقّ : ﴿يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ بالله تعالى من الكواكب والأصنام وغيرها.

﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٣٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٣ / ١٤٣٤ عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٣.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٥٦.

٥٠٥

الْمُشْرِكِينَ (٧٩)

ثمّ بعد التّبرّؤ ممّا سوى الله أعلن بخلوصه لعبادة موجد الكواكب وغيرها بقوله : ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ وصرّفت قلبي ، وأخلصت عبادتي ﴿لِلَّذِي﴾ بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ﴿فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ وما فيهما من الكواكب وغيرها ، وأخرج الكلّ من كتم العدم إلى الوجود ، وفوّضت جميع أموري إليه ، حال كوني ﴿حَنِيفاً﴾ ومائلا عن كلّ معبود غيره ، ومعرضا عن كلّ دين غير دينه ﴿وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ به شيئا في جهة من الجهات ، وأمر من الأمور.

في ( العيون ) : عن الرضا عليه‌السلام أنّه سأله المأمون فقال له : يابن رسول الله ، أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : « بلى » ، قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي(١) .

فقال الرّضا عليه‌السلام : « إن إبراهيم عليه‌السلام وقع على ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزّهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشّمس ، وذلك حين خرج من السّرب (٢) الذي اخفي فيه ، فلمّا جنّ عليه اللّيل رأى الزّهرة ، قال : هذا ربّي ؛ على الإنكار والاستخبار ، فلمّا أفل الكوكب قال : لا احبّ الآفلين ؛ لأنّ الافول من صفات المحدّث لا من صفات القديم ، فلمّا رأى القمر بازغا قال : هذا ربّي ، على الإنكار والاستخبار ، فلمّا أفل قال : لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين ، فلمّا أصبح ورأى الشّمس بازغة قال : هذا ربّي ، هذا أكبر من الزّهرة والقمر ، على الإنكار والاستخبار ، لا على الإخبار والإقرار ، فلمّا أفلت قال للأصناف الثّلاثة من عبدة الزّهرة والقمر والشّمس : يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون ، إنّي وجّهت وجهي للذي فطر السّماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. وإنّما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ، ويثبت عندهم أنّ العبادة لخالقها وخالق السّماوات والأرض » الخبر (٣) .

أقول : عليه جمع من مفسّري العامّة ، وحكي عن أكثرهم أنّه قال ذلك طلبا لمعرفة الربّ ، ورووا أنّ نمرود رأى رؤيا فعبّرها الحكماء والكهنة بأنّه يولد غلام ينازعه في ملكه ، فأمر بذبح كلّ غلام يولد ، فحبلت أمّ إبراهيم به وما أظهرت حبلها ، فلمّا جاءها الطّلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدّت الباب بحجر ، فجاء جبرئيل عليه‌السلام ووضع إصبعه في فمه فمصّه فخرج منه رزقه ، وكان جبرئيل يتعهّده ، وكانت امّه تأتيه أحيانا وترضعه ، فبقي على هذه الحالة حتّى كبر وعقل وعرف أن له ربّا ، فسأل امّه وقال : من ربّي ؟ فقالت : أنا. فقال : ومن ربّك ؟ قالت : أبوك. فقال : من ربّه ؟ فقالت : ملك

__________________

(١) الأنعام : ٦ / ٧٦.

(٢) السّرب : حفير تحت الأرض لا منفذ له.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٧ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٣.

٥٠٦

البلد. فقال : من ربّه ؟ فقالت : لا تسأل عن هذا ، فإنّ عليك فيه خطرا عظيما ، فنظر من باب الغار ، فرأى النّجم الذي هو أضوأ النّجوم ، فقال : هذا ربّي ... إلى آخر القصّة (١) .

وعن القمّي : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ آزر أبا إبراهيم كان منجّما لنمرود بن كنعان فقال له : إنّي أرى في حساب النّجوم أنّ هذا الزّمان يحدث رجلا ، فينسخ هذا الدّين ويدعو إلى دين آخر. فقال له نمرود : في أيّ بلاد يكون ؟ قال : في هذه البلاد. وكان منزل نمرود كوثى ربّا (٢) ، فقال له نمرود : قد خرج إلى الدّنيا ؟ قال آزر : لا. قال : فينبغي أن يفرّق بين الرّجال والنّساء ، ففرّق بين الرّجال والنّساء ، وحملت امّ إبراهيم عليه‌السلام ولم يتبيّن حملها.

فلمّا حانت ولادتها قالت : يا آزر ، إنّي قد اعتللت واريد أن اعتزل عنك. وكان في ذلك الزّمان [ أن ] المرأة إذا اعتلّت اعتزلت عن زوجها ، فخرجت واعتزلت في غار ووضعت إبراهيم وهيّئته وقمّطته ورجعت إلى منزلها وسدّت باب الغار بالحجارة ، فأجرى الله لإبراهيم عليه‌السلام لبنا من إبهامه ، وكانت امّه تأتيه ، ووكّل نمرود بكلّ امرأة حامل ، وكان يذبح كلّ ولد ذكر ، فهربت امّ إبراهيم بإبراهيم من الذبح ، وكان يشبّ إبراهيم في الغار يوما كما يشبّ غيره في الشّهر ، حتّى أتى [ له ] في الغار ثلاث عشرة سنة.

فلمّا كان بعد ذلك زارته امّه ، فلمّا أرادت أن تفارقه تشبّث بها فقل : يا أمّي ، لو أخرجتني ؟ فقالت له : يا بني ، إن علم أنّك ولدت في هذا الزّمان قتلك. فلمّا خرجت امّه وخرج من الغار وقد غابت الشّمس ، نظر الى الزّهرة في السّماء فقال : هذا ربّي. فلمّا غابت الزّهرة قال : لو كان [ هذا ] ربّي ما تحرّك وما برح ، ثمّ قال : لا احب الآفلين - والآفل : الغائب - فلمّا رأى القمر بازغا قال : هذا ربّي هذا أكبر وأحسن ، فلمّا تحرّك وزال قال : لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالين ، فلمّا أصبح وطلعت الشّمس ورأى ضوءها وقد أضاءت الدّنيا لطلوعها قال : هذا ربّي هذا أكبر وأحسن ، فلمّا تحرّكت وزالت كشط الله له عن السّماوات حتّى رأى العرش ومن عليه ، وأراه الله ملكوت السّماوات والأرض ، فعند ذلك قال : يا قوم إنّي بريء ممّا تشركون ، إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ، فجاء إلى امّه وأدخلته إلى دارها وجعلته بين أولادها » (٣) .

قال : وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول إبراهيم عليه‌السلام : هذا ربّي ، أشرك في قوله : هذا ربي ؟ قال : « من قال هذا اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم بشرك ، وإنّما كان في طلب ربّه ، وهو من غيره شرك» (٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٤٧ ، تفسير القرطبي ٧ : ٢٤ ، الدر المنثور ٣ : ٣٠٤.

(٢) كوثى ربّا : من أرض بابل بالعراق ، فيها مولد إبراهيم عليه‌السلام وفيها مشهده.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢٠٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٤.

(٤) تفسير القمي ١ : ٢٠٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٥.

٥٠٧

أقول : يمكن الجمع بين الرّوايتين بأنّ الاستدلال بالافول وقع منه عليه‌السلام مرّتين ؛ المرّة الاولى طلبا لمعرفة نفسه ، والثّانية احتجاجا على قومه ، مع أنّ الرّواية الأخيرة متضمّنة لما لا يقول به الشّيعة من كون أبي إبراهيم آزر ، مضافا إلى بعد أنّه من كان يرتضع من إصبعه أو من إصبع جبرئيل ، أن يحتمل كون الكوكب المحدود المتحرّك ربّا له.

﴿وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ

 أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)

ثمّ حكى سبحانه محاجّة قوم إبراهيم معه بقوله : ﴿وَحاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ وأقاموا له براهين واهية على صحّة ما زعموه من ربوبيّة الكوكب وعبادة الأصنام كوجوب تقليد الآباء وغيره بعد احتجاج إبراهيم عليه‌السلام على فساده بامتناع كون الحادث المتغيّر خالقا وربّا ، إذن ﴿قالَ﴾ لهم إبراهيم إنكارا عليهم واستعجابا منهم : يا قوم ﴿أَ تُحاجُّونِّي﴾ وتجادلونني ﴿فِي﴾ شأن ﴿اللهِ﴾ وتوحيده ﴿وَ﴾ الحال أنّه تعالى ﴿قَدْ هَدانِ﴾ وأرشدني إلى الحقّ بتقوية عقلي ، وإنارة قلبي ، ونصب الآيات عليه.

ثمّ قيل : إنّ القوم خوّفوه من ضرر آلهتهم حين طعن فيهم ، وقالوا : أما تخاف أن يخبّلك آلهتنا لأجل أنّك تشتمهم ؟ فأجابهم بقوله : ﴿وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ(١) في الرّبوبيّة والعبادة كوكبا كان أو صنما من أن يضرّني بسبب طعني فيه ، لوضوح كون جميع الأجرام الفلكيّة ، والأجسام العنصريّة مقهورة بقدرة الله وإرادته ، لا يقدر شيء منها على نفع أو ضرر ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً﴾ من الضّرر عليّ ، فعند ذلك يضرّني هو بتوسّط شيء من مخلوقاته ولو كان جمادا ، فهو تعالى حقيق بأن يخاف منه لقدرته على كلّ شيء ، ولكن لا يشاء ضررا على عبده إلّا إذا علم صلاحه فيه ، أو استحقاقه له ، فإنّه ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ وأحاط بجميع خلقه خبرا ، ومن المعلوم أنّه لا يستحقّ ضرره وعذابه من يوحّده وينزّهه عن المثل والشّريك ، بل يستحقّ حفظه وثوابه وإكرامه ﴿أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ذلك ، ولا تتنبّهون أنّ الله هو الضارّ النّافع دون آلهتكم ، وأنّ المستحقّ للضرر والعذاب هو المشرك دون الموحّد.

قيل : إنّ التّقدير : أتعرضون عن التّأمّل في ما أقول ، فلا تتذكّرون أنّ آلهتكم عجزة ؟ (٢)

﴿وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٦١.

(٢) تفسير أبي السعود ٣ : ١٥٥ ، تفسير روح البيان ٣ : ٥٨.

٥٠٨

سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)

ثمّ أنكر على قومه توقّعهم خوفه في مورد الأمن بقوله : ﴿وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ﴾ من الأصنام التي لا قدرة لها على شيء ، ﴿وَ﴾ أنتم ﴿لا تَخافُونَ﴾ من ﴿أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ﴾ وبإشراكه ﴿عَلَيْكُمْ سُلْطاناً﴾ وبرهانا قاطعا مع امتناع وجود البرهان على ربوبيّة الحادث المتغيّر المحتاج ﴿فَأَيُ﴾ فريق من ﴿الْفَرِيقَيْنِ﴾ أفريق الموحّدين أم فريق المشركين ﴿أَحَقُ﴾ وأولى ﴿بِالْأَمْنِ﴾ من الضّرر والعذاب من قبل الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الأحقّ منهما ، أخبروني به ؟ وإنّما لم يقل : فأيّنا أحقّ ، ليحترز عن تزكية نفسه.

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)

ثمّ بادر تعالى إلى الجواب تنبيها على وضوحه عند العقل ، وبداهته لدى العقلاء بحيث لا يحتاج إلى التّأمّل ، بقوله : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبوحدانيّته ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ ولم يخلطوا ﴿إِيمانَهُمْ﴾ ذلك ﴿بِظُلْمٍ﴾ وعصيان من الإشراك به في العبادة - كما فعله الذين قالوا : إنّما نعبد الأصنام ليقرّبونا إلى الله - وارتكاب القبائح الموبقة ﴿أُولئِكَ﴾ الفريق فقط ﴿لَهُمُ الْأَمْنُ﴾ من كلّ عقوبة ، دون فريق المشركين الّذين ظلموا أنفسهم بارتكاب أعظم الذّنوب والقبائح ﴿وَهُمْ﴾ خاصّة ﴿مُهْتَدُونَ﴾ إلى الحقّ ، مرشدون إلى كلّ خير دون المشركين الّذين هم في ضلال مبين.

في ( المجمع ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « أنّه من تمام قول إبراهيم عليه‌السلام » (١) .

وعن ابن مسعود رضى الله عنه : لمّا نزلت هذه الآية شقّ على النّاس وقالوا : يا رسول الله ، وأيّنا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّه ليس الذي تعنون ، ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصّالح : ﴿يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ  (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في هذه الآية قال : « الظّلم الضّلال فما فوقه » (٣) .

وعنه عليه‌السلام أنّه سئل ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ الزنا منه ؟ قال : « أعوذ بالله من اولئك ، لا ، ولكنّه ذنب إذا تاب تاب الله عليه » . وقال : « مدمن الزّنا والسّرقة وشارب الخمر كعابد الوثن » (٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٠٦ منسوب إلى القيل ، ولم ينسبه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٥٠٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦ ، والآية من سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٠٥ / ١٤٤٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٠٥ / ١٤٤١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

٥٠٩

وفي رواية قال : « أولئك الخوارج وأصحابهم » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « أنّ الظّلم هنا الشكّ » (٢) .

وعنه عليه‌السلام ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قال : « آمنوا بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الولاية ، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان » (٣) .

﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ

 حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ علم إبراهيم عليه‌السلام وإصابته الحقّ كان بإفاضته تعالى وتوفيقه بقوله : ﴿وَتِلْكَ﴾ الحجج التي حكيناها إنّما هي ﴿حُجَّتُنا﴾ وبراهيننا التي ﴿آتَيْناها﴾ وألهمناها ﴿إِبْراهِيمَ﴾ بتقوية بصيرته وإنارة قلبه ليقيمها ﴿عَلى قَوْمِهِ﴾ .

ثمّ قرّر سبحانه ذلك بالتّنبيه على أنّ جميع الكمالات الجسمانيّة والرّوحانيّة منه تعالى بقوله : ﴿نَرْفَعُ﴾ ونعلّي ﴿دَرَجاتٍ﴾ كثيرة ومراتب عظيمة من العقل والعلم ، والحكمة والنّبوّة ، والصّفات الكريمة ، والفضائل الجسيمة ، والسّعادات الدّنيويّة والاخرويّة ﴿مَنْ نَشاءُ﴾ رفعه وتعليته فيها ، بمقتضى الحكمة والعلم ، والاستعدادات والقابليّات في خلقه ﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ في فعاله من الرّفع والخفض وغيرهما ﴿عَلِيمٌ﴾ باستعدادات الخلق وقابليّاتهم على كثرة مراتبها المتفاوتة.

﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ

 وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *

 وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٤) و (٨٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفضيله بنعمة الهداية والعلم والحكمة ، وإراءته ملكوت الموجودات ، بيّن تفضيله بكرامة النّسل وشرافة الأصل بقوله : ﴿وَوَهَبْنا لَهُ﴾ من رحمتنا ﴿إِسْحاقَ﴾ ابنه من صلبه ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ من إسحاق ﴿كُلًّا﴾ منهما أو منهم ﴿هَدَيْنا﴾ إلى الحقّ ، وأرشدنا إلى المقامات العالية من العلم والعمل ومكارم الأخلاق ، ﴿وَ﴾ كذلك ﴿نُوحاً﴾ وهو كان من أجداده ﴿هَدَيْنا﴾ إلى كمال المعرفة والحكمة ومقام الرّسالة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السّابقة من زمان إبراهيم عليه‌السلام.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٠٦ / ١٤٤٥ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٥ / ١٤٤٣ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١٠٥ / ١٤٤٤ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

٥١٠

قيل : كان بين إبراهيم ونوح عليهما‌السلام أحد عشر أبا ، أوّلهم سام بن نوح وآخرهم تارخ أبو إبراهيم.

عن الباقر عليه‌السلام : « يعني هديناهم ليجعلوا الوصيّة في أهل بيتهم » (١) .

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أنعم على نوح أيضا نعمة كرامة النّسل بقوله : ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ﴾ ونسله هدينا ﴿داوُدَ﴾ بن إيشا ﴿وَسُلَيْمانَ﴾ بن داود اللذين خصّهما الله بالملك العظيم مع النّبوّة ﴿وَأَيُّوبَ﴾ بن أموص الذي خصّه الله بالبلاء العظيم ، وكمال الصّبر عليه مع النّبوّة ﴿وَيُوسُفَ﴾ بن يعقوب الذي جمع الله له عظيم البلاء ، وكمال الصّبر ، والملك مع النّبوّة ﴿وَمُوسى وَهارُونَ﴾ ابني عمران بن يصهر اللذين خصّهما الله بكمال المهابة ، والمعجزات العظيمة القاهرة ﴿وَكَذلِكَ﴾ الإنعام بالنّعم العظيمة ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ على أعمالهم الحسنة.

﴿وَ﴾ هدينا ﴿زَكَرِيَّا﴾ بن أذن من سبط يهودا ﴿وَيَحْيى﴾ ابنه ﴿وَعِيسى﴾ بن مريم بنت عمران بن ماثان ﴿وَإِلْياسَ﴾ بن هارون أخي موسى الّذين خصّهم الله بغاية الزّهد والإعراض عن الدّنيا ﴿كُلٌ﴾ منهم ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ والكاملين في مكارم الأخلاق وحسن الأعمال.

في أن الحسنين عليهما‌السلام ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال الفخر الرازي في تفسيره : الآية تدلّ على أنّ الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الله جعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه لا ينتسب إلى إبراهيم إلّا بالامّ ، فكذلك الحسن والحسين عليهما‌السلام من ذرّيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن انتسبا إلى رسول الله بالامّ (٢) .

ويقال : إنّ أبا جعفر الباقر استدلّ بهذه الآية عند الحجّاج بن يوسف (٣) .

أقول : روي عن الصادق عليه‌السلام أيضا أنّه قال : « والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إ براهيم عليه‌السلام من قبل النّساء » ثمّ تلا هذه الآية (٤) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « إنّما الحق عيسى عليه‌السلام بذراري الأنبياء من طريق عليه‌السلام مريم ، وكذلك الحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل امّنا فاطمة عليها‌السلام » (٥) .

﴿وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ

 وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٦) و (٨٧)

__________________

(١) الكافي ٨ : ١١٦ / ٩٢ ، كمال الدين : ٢١٦ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٣ : ٦٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٠٦ / ١٤٤٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٦.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ / ٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٧.

٥١١

﴿وَ﴾ هدينا ﴿إِسْماعِيلَ﴾ بن إبراهيم ﴿وَالْيَسَعَ﴾ بن أخطوب ﴿وَيُونُسَ﴾ بن متّى ﴿وَلُوطاً﴾ ابن أخي إبراهيم ﴿وَكلًّا﴾ منهم ﴿فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ﴾ بالكمالات النّفسانيّة والرّسالة.

وقد استدلّ كثير من المفسّرين على رجوع ضمير ( ومن ذرّيته ) إلى نوح بعدم كون يونس ولوط من ذراري إبراهيم عليه‌السلام ، وعدم إطلاق الذرّيّة على ولد الصّلب ، وقد عدّ إسماعيل بن إبراهيم من الذرّيّة(١) .

وقيل برجوع الضّمير إلى إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأنّ الآيات في بيان رفعة إبراهيم ، وأنّ يونس كان من الأسباط ، ولا بعد في عدّ لوط من ذرّيّته تنزيلا لابن أخيه منزلة ابنه ، لكونه في تربيته (٢) .

ويدلّ عليه استدلال الصادقين عليهما‌السلام بعد عيسى في الآية من ذرّيّة إبراهيم عليه‌السلام في الرّوايتين السّابقتين.

وقيل برجوع ضمير ( وذريّته ) إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وكون قوله : ( واسماعيل ) وما بعده عطفا على قوله : ( ونوحا ) . ثمّ أنّه ذكر لتأخير ذكر إسماعيل مع كونه ابن إبراهيم لصلبه وجوها غير وجيهة (٣) .

ويحتمل كون لفظ إسماعيل في الآية معرّب شموئل ، وهو النبيّ الذي نصب طالوت ملكا لبني إسرائيل ، فعلى هذا لم يذكر إسماعيل بن إبراهيم في الآية ، لكون المقصود في المقام الاحتجاج على المشركين بعلوّ مقام الأنبياء المذكورين بسبب هدايتهم إلى التّوحيد ، وإنعام الله عليهم بكرامة اصولهم وفروعهم وفروع اصولهم ، ولم يكن من فروع إسماعيل نبيّ غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل : في قوله تعالى : ﴿وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ﴾ دلالة على أفضلية الأنبياء على الملائكة (٤) ؛ لأنّ المراد من العالمين جميع ما سوى الله تعالى من المخلوقات ، فيدخل فيه الملائكة. وفيه نظر ، وإنّ كان المدّعى مسلّما عندنا ، بل الظّاهر أنّه من ضروريات الإماميّة ، ثمّ من المعلوم أنّ المراد من العالمين : هو عالم (٥) زمانهم لوضوح عدم أفضليّتهم على خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿وَ﴾ هدينا بعضا ﴿مِنْ آبائِهِمْ﴾ واصولهم ﴿وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ وفروعهم ﴿وَإِخْوانِهِمْ﴾ الّذين هم فروع اصولهم - كإخوة يوسف على ما قيل - إلى المعارف الحقّة والكمالات النّفسانيّة ﴿وَاجْتَبَيْناهُمْ﴾ بالنبوّة ، واصطفيناهم بالرّسالة ﴿وَهَدَيْناهُمْ﴾ وأرشدناهم ﴿إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لا ضلال فيه أبدا.

قيل : في الآية إشعار بأنّ شرط الرّسالة الرّجوليّة ، فلا يجوز أن تكون المرأة رسولا ولا نبيّا (٦) .

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١٣ : ٦٤ ، تفسير أبي السعود ٣ : ١٥٧.

(٣) راجع : تفسير الرازي ١٣ : ٦٤ - ٦٥.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ٦٦.

(٥) في النسخة : عالمي.

(٦) تفسير الرازي ١٣ : ٦٧.

٥١٢

قيل : في قوله : ﴿وَمِنْ آبائِهِمْ﴾ دلالة على كون بعض آباء هؤلاء الأنبياء غير مؤمن (١) .

أقول : فيه منع لاحتمال كون المراد من هدايتهم : الهداية إلى كمال المعرفة واليقين لا الإيمان ، مع احتمال أن يكون المراد من بعض آبائهم : الأجداد الأبي (٢) ، ومن البعض الآخر الأجداد الأمّي (٣) ، لإمكان كونهم غير مؤمنين.

﴿ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا

 يَعْمَلُونَ (٨٨)

ثمّ عظّم الله شأن الهداية التي هداهم بها بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الهدى الذي كان للأنبياء المذكورين ، أو لهم ولبعض آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم ، إلى الحقّ وحقائق الأشياء ﴿هُدَى اللهِ﴾ الكامل وفيضة التامّ ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ إلى أعلى مراتب الكمالات الإمكانيّة ودرجات القرب ﴿مَنْ يَشاءُ﴾ هدايته الكاملة ﴿مِنْ عِبادِهِ﴾ الطّيّبين بالفطرة ، الطّاهرين من رذائل الأخلاق.

ثمّ بالغ سبحانه في عظمة ذنب الشّرك بقوله : ﴿وَلَوْ﴾ أنّ هؤلاء الأنبياء مع علوّ مقامهم ، وكمال قربهم ﴿أَشْرَكُوا﴾ بالله شيئا في الالوهيّة أو العبادة على فرض المحال ، والله ﴿لَحَبِطَ﴾ وذهب ﴿عَنْهُمْ﴾ وبطل ﴿ما كانُوا﴾ مدّة أعمارهم ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الطّاعات والحسنات ، فلا يثابون على شيء منها ، فكيف بمن دونهم لو أشرك ! وفيه غاية التّرهيب.

﴿أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا

 بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩)

ثمّ بالغ سبحانه في عظم شأن هؤلاء الأنبياء الثّمانية عشر بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الأنبياء المكرّمون هم ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ﴾ وفهم حقائقه ودقائقه ﴿وَ﴾ علّمناهم ﴿الْحُكْمَ﴾ والفصل بين النّاس بالحقّ ، أو الحكمة ، ﴿وَ﴾ أعطيناهم ﴿النُّبُوَّةَ﴾ ومنصب هداية الخلق.

ثمّ بشّر سبحانه بنصرة دينه ، وأعلن بغناه عن إيمان المشركين بالنبوّة ، أو بالثّلاثة المذكورة بقوله : ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ﴾ المشركون فقد ﴿وَكَّلْنا بِها﴾ ووفّقنا لحفظها ورعاية حقّها ﴿قَوْماً﴾ آخرين ﴿لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ قيل : هم الأنبياء الثّمانية عشر (٤) ، وقيل : هم الأنصار (٥) ، وقيل : هم المهاجرون(٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٦٦.

(٢) كذا ، والظاهر : الأجداد الأبويين.

(٣) كذا ، والظاهر : الأجداد الامّيون.

( ٤ و٥ و٦ ) . تفسير الرازي ١٣ : ٦٨.

٥١٣

وعن الصادق عليه‌السلام : « قوما يقيمون الصّلاة ، ويؤتون الزّكاة ، ويذكرون الله كثيرا » (١) .

﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ

 ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)

ثمّ بالغ سبحانه في تحسين طريقة الأنبياء المذكورين بقوله : ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى﴾ هم ﴿اللهُ﴾ إلى كلّ حقّ وخير ، ووفّقهم لسلوك الطّريق المستقيم ﴿فَبِهُداهُمُ﴾ وطريقتهم في المعارف والأخلاق الحسنة ﴿اقْتَدِهْ﴾ واتّبع.

في أفضلية خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع الأنبياء

قيل : فيه دلالة على أفضليّته صلى‌الله‌عليه‌وآله من جميع الأنبياء ؛ لأنّ خصال الكمال وصفات الشّرف كانت متفرّقة فيهم ، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشّكر على النّعمة ، وأيّوب كان من أهل الصّبر على البليّة ، ويوسف كان جامعا بينهما ، وموسى كان صاحب المعجزات القاهرة والتّواضع والوقار ، وزكريّا كان كثير الذّكر ، ويحيى كان كثير الخوف والبكاء ، وعيسى كان كثير الزّهد ، وإسماعيل كان صاحب الصّدق. وبالجملة قد غلب على كلّ منهم خصلة معيّنة ، فجمع الله في حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع خصالهم بأمره بالاقتداء بهم ، ومعلوم أنّه لم يقصّر في الامتثال (٢) .

ثمّ لمّا كان من أخلاق الأنبياء عدم الطّمع في أموال النّاس ، وترك سؤال الأجر على تبليغ الرّسالة ، أمره سبحانه بإعلام النّاس بعدم طمعه في الأجر على تبليغ المعارف والأحكام التي جميعها في القرآن بقوله : ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ ولا أطلب منكم على تبليغ القرآن جعلا ، كما لم يسأله الأنبياء من قبلي على تبليغ الكتب السّماويّة.

ثمّ نبّه على علّة عدم سؤال الأجر على تبليغ كتابه بقوله : ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى﴾ وعظة من الله ﴿لِلْعالَمِينَ﴾ والخلق أجمعين من الإنس والجنّ ، والعرب والعجم ، والأبيض والأسود ، ولا ينبغي سؤال الأجر على الموعظة والتّذكير ، لوجوب كون غرض المذكّر الآخرة ، وفيه دلالة على عموم رسالته ، وعدم اختصاصها بقوم دون قوم.

﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ

 الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها

__________________

(١) المحاسن : ٥٨٨ / ٨٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٧.

(٢) تفسير الرازي ١٣ : ٧٠ ، تفسير روح البيان ٣ : ٦٢.

٥١٤

وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي

 خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)

ثمّ لمّا أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بترك سؤال الأجر على تبليغ القرآن ، وأخبر بأنّه نزل من الله تذكرة لجميع النّاس ، وكان المشركون وأهل الكتاب منكرين لرسالته وكتابه ، قائلين له : ما نزّل الله عليك كتابا ودينا ، ردّهم الله تعالى بقوله : ﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وما عرفوه حقّ معرفته.

في وجوب ارسال الرسول وانزال الكتاب على الله تعالى عقلا

وعن ابن عبّاس : ما عظّموه حقّ تعظيمه (١) ، حيث إنّهم طعنوا في حكمته ولطفه ، وحسبوه لاعبا عابثا بخلقه العالم ﴿إِذْ قالُوا﴾ إنكارا لرسالتك وكتابك ، وكفرانا لأعظم نعمائه عليهم : ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ من الوحي والكتاب ، مع وضوح أنّه مناف لحكمته البالغة وتنزّهه من العبث ، فإنّه لا حكمة في خلق العالم إلّا تكميل النّفوس البشريّة ، وفعليّة استعداداتهم للفيوضات الأبديّة بسبب كمال معرفتهم ، وصلاح أخلاقهم ، وحسن أعمالهم ، وذلك لا يتم إلّا ببعث الرّسول ، وإنزال الكتاب ، وجعل القوانين والأحكام والثّواب والعقاب والوعظ والتّذكير ، فالاعتراف بحكمته تعالى ملازم للاعتراف بجميع ذلك.

روي أنّ مالك بن الصّيف من أحبار اليهود ورؤسائهم ، خرج مع نفر إلى مكّة معاندين ، ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « عن أشياء ، وكان رجلا سمينا ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة فقال [ له ] صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنشدك بالذي أنزل التّوراة على موسى ، هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السّمين ؟ » قال : نعم. قال : « فأنت الحبر السّمين ، وقد سمنت من مكأكلتك (٢) التي تطعمك اليهود ولست تصوم » (٣) . فضحك القوم ، فخجل مالك بن الصّيف ، فقال (٤) : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فلمّا رجع مالك إلى قومه قالوا له : [ ويلك ، ما هذا الذي بلغنا عنك ، أ ليس أن الله أنزل التّوراة على موسى ، فلم قلت ما قلت ؟ قال : أغضبني محمّد ، فقلت ذلك ، قالوا له : ] وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحقّ وتترك دينك ، فأخذوا الرّئاسة والحبريّة منه. وجعلوهما إلى كعب بن الأشرف. فنزلت هذه الآية (٥) .

وأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبكيتهم ونقض قولهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهم : ﴿مَنْ أَنْزَلَ﴾ من السّماء ﴿الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى﴾ حال كون ذلك الكتاب ﴿نُوراً﴾ وظاهرا بنفسه ، أو مظهرا لما خفي من العلوم والمعارف ﴿وَهُدىً﴾ ورشادا ﴿لِلنَّاسِ﴾ إلى طريق الفلاح ومقام القرب من الله ، أو إلى

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٧٢.

(٢) المأكلة : ما يؤكل ، والطّعمة والمرتزق.

(٣) زاد في تفسير روح البيان : أي تمسك.

(٤) زاد في تفسير روح البيان : غضبا.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٦٣.

٥١٥

نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق كتابه.

ثمّ أنتم أيّها اليهود مع عظم شأن هذا الكتاب ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ في ﴿قَراطِيسَ﴾ وتكتبونه في أوراق متفرّقة ، لكي تستدلّوا بالأوراق التي ﴿تُبْدُونَها﴾ وتظهرون للعوام ما تريدون إظهاره منها ﴿وَتُخْفُونَ﴾ منهم ﴿كَثِيراً﴾ من تلك الأوراق ممّا فيه [ من ] نعوت محمّد وكتابه ، وصفات أصحابه ، وبعض الأحكام الذي تحبّون إخفاءه (١) كحكم رجم المحصن وحكم القصاص ، وغيرهما ﴿وَعُلِّمْتُمْ﴾ بسبب تفسير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله آيات ذلك الكتاب ، من العلوم ﴿ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ﴾ من قبل.

قيل : إنّ اليهود كانوا يقرأون الآيات المبشّرة بمقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثته ، وما كانوا يفهمون المراد منها ، فلمّا بعث صلى‌الله‌عليه‌وآله فسّرها لهم (٢) .

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمبادرة إلى الجواب عن السّؤال عن منزل كتاب التّوراة بقوله : ﴿قُلْ﴾ أنزله ﴿اللهَ﴾ تنبيها على غاية وضوحه بحيث لا شبهة لأحد فيه ، وتعيّنه بحيث لا يمكن غيره ، أو على بهتهم بحيث لا يقدرون عليه.

ثمّ هدّدهم سبحانه بعد إصرارهم على الكفر وعدم ارتداعهم عنه بالحجج القاهرة بقوله : ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ ودعهم ﴿فِي خَوْضِهِمْ﴾ وباطلهم - عن القمّي : [ يعني ] في ما خاضوا فيه من التّكذيب (٣) - ﴿يَلْعَبُونَ﴾ فإنّه ليس عليك إلّا التّبليغ ، وإقامة الحجج ، وإنّما علينا حسابهم وعقابهم.

﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ

 حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان فساد قولهم : ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ أعلن بنزول القرآن من عنده تعالى بقوله : ﴿وَهذا﴾ القرآن ﴿كِتابٌ﴾ عظيم الشّأن ، فيه دلائل على أنّا ﴿أَنْزَلْناهُ﴾ بالوحي وبوساطة جبرئيل ، وتولّينا تركيب ألفاظه وعباراته ، بلا دخل بشر فيه ، منها أنّه ﴿مُبارَكٌ﴾ كثير خيره ، دائم نفعه.

وقد مرّ في بعض الطّرائف أنّه ما من علم إلّا وأصله فيه ، وأنّ لتلاوته آثارا دنيويّة واخرويّة (٤) .

قيل : إنّه مبارك على العوام بأن يدعوهم إلى ربّهم ، وعلى الخواصّ بأن يهديهم إليه ، وعلى خواصّ الخواصّ بأن يوصلهم إليه ، ويخلّقهم بأخلاقه (٥) .

ومنها أنّه ﴿مُصَدِّقُ﴾ وموافق للكتاب ﴿الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من التّوراة والإنجيل في العلوم

__________________

(١) كذا ، والظاهر : التي تحبّون إخفاءها.

(٢) تفسير الرازي ١٣ : ٧٩.

(٣) تفسير القمي ١ : ٢١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٨.

(٤) راجع : الطرفة (٢٧) و(٣٠) من المقدمة.

(٥) تفسير روح البيان ٣ : ٦٤.

٥١٦

والمعارف ، مع اميّة من جاء به ، أو أنّه نازل حسب ما وصف في الكتب ، وكان إنزاله ليتبرّك النّاس به ﴿وَلِتُنْذِرَ﴾ به يا محمّد من يسكن ﴿أُمَّ الْقُرى وَمَنْ﴾ يكون ﴿حَوْلَها﴾ وأطرافها من أهل الشّرق والغرب.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : سمّيت مكّة بامّ القرى ؛ لأنّ الأرض دحيت من تحتها (١) .

وقيل : لأنّها قبلة أهل الدّنيا (٢) ومحجّهم ، فصارت كالأصل ، وسائر البلاد والقرى تابعة لها ، ويجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الامّ ، أو لأنّ الكعبة أوّل بيت وضع للنّاس ، أو لأنّ بكّة أوّل بلدة سكنت.

قيل : احتجّت طائفة من اليهود بقوله : ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها﴾ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رسولا إلى العرب (٣) . وفيه ما لا يخفى من الوهن.

ثمّ نبّه سبحانه بأنّ عدم الإيمان بالقرآن لا يكون إلّا للعناد ، بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ ويخافون عذاب الله ، وطهرت قلوبهم من حبّ الدّنيا ودنس العصبيّة والعناد ، ككثير من الأحبار والرّهبان ، بمجرّد سماع القرآن ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ بلا حاجة إلى دلالة أمر خارج على صدقه ؛ لأنّ خوف الآخرة يحملهم على النّظر والتّدبّر فيه ، فيظهر لهم ما يصدّقه من كونه بجهة الفصاحة والبلاغة في أعلى درجة الإعجاز ، وكونه مشتملا على الأخبار الغيبيّة ، وكونه موافقا للكتب السّماويّة في العلوم والمعارف ، مع كون من جاء به امّيّا ، إلى غير ذلك من شواهد صدقه.

ثمّ بين سبحانه أنّ خوف الآخرة كما يحمل على الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ، يحمل على العبادات التي أهمّها وأفضلها الصّلوات الخمس ، بقوله : ﴿وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ﴾ الخمس بعد الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ﴿يُحافِظُونَ﴾ ويداومون.

﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ

 وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ

 وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما

 كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)

ثمّ لمّا كان العلم بقباحة أمر من أقوى الرّوادع عن ارتكابه ، أكّد صدق القرآن بأنّ الافتراء على الله في دعوى الرّسالة ونسبة القرآن إليه ، من أشنع الظّلم ، بقوله : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على نفسه وأقبح قولا

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٣ : ٨١.

٥١٧

﴿مِمَّنِ افْتَرى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ بادّعاء أنّ القرآن منه مع عدم كونه منه ﴿أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ﴾ من قبله دين وشرع ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ من الدّين ﴿وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ﴾ وأخترع من نفسي كتابا ﴿مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ﴾ من الكتاب.

قيل : إنّ الفقرة الأولى في مسيلمة الكذّاب - صاحب اليمامة ، فإنّه كان يقول : محمّد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة - والأسود العنسي (١) .

والثّانية في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، روي أنّه كان يكتب الوحي ، فلمّا نزل قوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ إلى قوله ﴿ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ(٢) وأملاه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، عجب عبد الله منه فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هكذا نزلت الآية » فسكت عبد الله ، وقال : إن كان محمّد صادقا ، فقد اوحي إليّ مثله ، وإن كان كاذبا فقد عارضته (٣) .

والثّالثة في النّضر بن الحارث ، فإنّه قال : لو نشاء لقلنا مثل هذا (٤) .

في ( الكافي ) : عن أحدهما عليهما‌السلام : « أنّها نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم فتح مكّة هدر دمه ، وكان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا أنزل الله عزوجل ﴿أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*﴾ كتب : ﴿إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ، فيقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دعها ، فإنّ الله عليم حكيم » وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين : إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي أنزل (٥) .

في ارتداد عبد الله بن أبي سرح

وعن القمّي رحمه‌الله : عن الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان [ بن عفان ] من الرّضاعة أسلم وقدم المدينة ، وكان له خطّ حسن ، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ من الوحي ] ، فكان إذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ﴿سَمِيعٌ بَصِيرٌ*﴾ يكتب : سميع عليم ، وإذا قال : ﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ*﴾ يكتب : بصير ، ويفرّق بين التّاء والياء ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هو واحد ، فارتدّ كافرا ورجع إلى مكّة وقال لقريش : والله ما يدري محمّد ما يقول ، أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك ، فأنا انزل مثل ما أنزل [ الله ] ، فأنزل الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك : ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ﴾ .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٣ : ٨٣.

(٢) المؤمنون : ٢٣ / ١٢ - ١٤.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٨٤ ، أسباب النزول للواحدي : ١٢٥ ، مجمع البيان ٤ : ٥١٨.

(٤) تفسير الرازي ١٣ : ٨٤.

(٥) الكافي ٨ : ٢٠٠ / ٢٤٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٩.

٥١٨

فلمّا فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة أمر بقتله ، فجاء به عثمان ، قد أخذ بيده ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ، فقال : يا رسول الله اعف عنه ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أعاد ، فسكت [ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] ، ثمّ أعاد ، فقال : هو لك ، فلمّا مرّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : ألم أقل من رآه فليقتله. فقال رجل : كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إليّ فأقتله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ، فكان من الطّلقاء » (١) .

وعن العيّاشي رحمه‌الله : عن الباقر عليه‌السلام في تأويله : « من ادّعى الإمامة دون الإمام » (٢) .

ثمّ هدّد الله تعالى الفرق الثّلاث بسوء حالهم عند الموت بقوله : ﴿وَلَوْ تَرى﴾ يا محمّد ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ من الفرق الثّلاث وغيرهم من الكفّار خائضون ﴿فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ﴾ وسكراته وشدائده ، لرأيت أمرا هائلا ﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ الموكّلون بقبض الأرواح ﴿باسِطُوا﴾ ومادّوا ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ لقبض أرواحهم - كالغريم الملحّ الذي يبسط يده إلى من عليه الحقّ ، ويعنف عليه في المطالبة ، ولا يمهله - قائلين لهم تغليظا وتعنيفا : ﴿أَخْرِجُوا﴾ إلينا ﴿أَنْفُسَكُمُ﴾ وأرواحكم من أجسادكم.

وقيل : إنّ المراد من الملائكة : ملائكة العذاب وهم باسطو أيديهم لتعذيبهم (٣) ، يقولون : أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلّصوها من العذاب إن قدرتم.

﴿الْيَوْمَ﴾ وفي هذه السّاعة ، أو في الزّمان الممتدّ بعد الموت ﴿تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ﴾ وتعاقبون عقابا متضمّنا لغاية الذّل والتّحقير.

عن الباقر عليه‌السلام : « العطش يوم القيامة » (٤) .

﴿بِما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿تَقُولُونَ﴾ وتفترون ﴿عَلَى اللهِ﴾ قولا ﴿غَيْرَ الْحَقِ﴾ من اتّخاذه الولد ، أو كون الشّريك له في الملك ، أو ادّعاء النّبوّة والوحي ﴿وَكُنْتُمْ﴾ تعرضون ﴿عَنْ آياتِهِ﴾ القرآنية ، وبراهين توحيده ، و﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإقرار بها والتّسليم لها.

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ

 وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ

 وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

ثمّ لمّا كان المشركون يفتخرون بالمال والأولاد والعشيرة ، حكى سبحانه مخاطبته إيّاهم يوم القيامة

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٣٩.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٠٩ / ١٤٥٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤٠.

(٣) تفسير الرازي ١٣ : ٨٥.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١١٠ / ١٤٥٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤٠.

٥١٩

ترهيبا لهم بقوله : ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونا﴾ من الدّنيا ﴿فُرادى﴾ ومنقطعين عن الأموال والأولاد والعشيرة ﴿كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وعلى الهيئة التي ولدتم عليها في الدّنيا.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّهم يحشرون عراة حفاة غرلا » (١) ، قالت عائشة : وا سوأتاه ! الرّجل والمرأة كذلك ، فقال عليه‌السلام ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قرأ على فاطمة بنت أسد هذه الآية ، فقالت : وما فرادى ؟ فقال : « عراة » ، قالت : وا سوأتاه ، فسأل الله أن لا يبدي عورتها ، وأن يحشرها بأكفانها (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « تنوّقوا في الأكفان ، فإنّكم تبعثون بها » (٤) .

ثمّ وبّخهم على عدم تقديم شيء منها إلى الآخرة بصرفه في سبيل الله بقوله : ﴿وَتَرَكْتُمْ﴾ وخلّفتم ﴿ما خَوَّلْناكُمْ﴾ وتفضّلنا عليكم بما كنتم تفتخرون به ، وتؤثرونه على الآخرة من الحطام ﴿وَراءَ ظُهُورِكُمْ﴾ وفي الدّنيا التي انتقلتم منها إلى هذه الدّار ، وما قدّمتم منه إليها شيئا ، وما حملتم معكم منه نقيرا ، وحرمتم أنفسكم من الانتفاع به.

ثمّ وبّخهم على عبادة الأوثان بزعم أنّهم شفعاؤهم بقوله : ﴿وَما نَرى مَعَكُمْ﴾ اليوم ﴿شُفَعاءَكُمُ﴾ من الأصنام ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ مضافا إلى الرّجاء بشفاعتهم ﴿أَنَّهُمْ فِيكُمْ﴾ وفي خلقكم وعبادتكم ﴿شُرَكاءُ﴾ لله ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ﴾ الوصل الذي كان ﴿بَيْنَكُمْ﴾ وبينهم ، وانفصم حبل مودّتكم ، وتشتّت جمعكم ، ﴿وَضَلَ﴾ وضاع ﴿عَنْكُمْ﴾ اليوم ﴿ما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿تَزْعُمُونَ﴾ وتتوهّمون من شفاعتهم ونفعهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « نزلت هذه الآية في معاوية وبني اميّة وشركائهم وأئمّتهم (٥)﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ يعني المودّة » .

﴿إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ

 ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان التّوحيد وجملة من دلائله ، وإثبات النّبوّة وصدق القرآن تبعا واستطرادا ، عاد إلى إقامة البرهان على وجود الصّانع القادر الحكيم ، ووحدانيّته تنبيها على أنّه المقصود الأهمّ في

__________________

(١) غرلا : جمع أغرل ، وهو الذي لم يختن.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٥٢١ ، تفسير روح البيان ٣ : ٦٩ ، والآية من سورة عبس : ٨٠ / ٣٧.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٩١ / ١٥٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤٠.

(٤) الكافي ٣ : ١٤٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤٠.

(٥) تفسير القمي ١ : ٢١١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤١.

٥٢٠