نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

وتداوله بين النّاس ، فإنّ العبرة بالجود والحسن والرّداءة والقبح ، دون القلّة والكثرة ، التّعارف بين النّاس وعدمه ، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير.

فإذا كان كذلك ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ في مخالفة أوامره ونواهيه ﴿يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ وذوي العقول السّليمة والإدراكات الصّافية عن كدورات الشّهوات ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتفوزون بأعلى المقاصد من الخيرات الدّنيوية والنّعم الاخرويّة.

قيل : نزلت في حجّاج اليمامة لمّا هم المسلمون أن يوقعوا بهم ، بسبب أنّه كان فيهم الحطيم ، وقد أتى المدينة في السّنة السّابقة ، واستاق سرح (١) المدينة ، فخرج في العام القابل - وهو عام عمرة القضاء - حاجا ، فبلغ ذلك أصحاب السّرح ، فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا الحطيم خرج حاجا مع حجّاج اليمامة ، فخلّ بيننا وبينه ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « [ إنّه ] قلّد الهدي » . ولم يأذن لهم في ذلك ، بسبب استحقاقهم الأمن بتقليد الهدايا. فنزلت الآية تصديقا له صلى‌الله‌عليه‌وآله في نهيه إيّاهم (٢) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها

 حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان أنّ النبيّ وظيفته التّبليغ وبيان الأحكام ، وكان المسلمون يسألونه عمّا لا يعنيهم من المسائل ، نهاهم عن إكثار السّؤال عمّا يوجب التّشديد عليهم بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا﴾ الرّسول ﴿عَنْ أَشْياءَ﴾ ومطالب وأحكام ﴿إِنْ تُبْدَ﴾ وتظهر ﴿لَكُمْ﴾ تلك الأمور ببيان الرّسول ﴿تَسُؤْكُمْ﴾ وتغمّكم لما ترون من مخالفتها لطباعكم.

روى أنس أنّهم سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأكثروا المسألة ، فقام على المنبر فقال : « سلوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلّا حدّثتكم به » ، فقام عبد الله بن حذافة - وكان يطعن في نسبه - فقال : يا نبيّ الله ، من أبي ؟ فقال : « أبوك حذافة بن قيس » (٣) .

في ذكر سؤال عكاشة

وقال سراقة بن مالك - ويروى عكاشة بن محصن - يا رسول الله ، الحجّ علينا في كلّ عام ؟ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » .

__________________

(١) السّرح : الماشية.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٤٤٧.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ١٠٦.

٤٤١

وقام آخر فقال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ فقال : « في النّار » . ولمّا أشتّد غضب الرّسول قام عمر وقال : رضينا بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد نبيّا ، فأنزل الله هذه الآية (١) .

﴿وَ﴾ لا عن أشياء ﴿إِنْ تَسْئَلُوا﴾ الرّسول ﴿عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ﴾ وفي زمان إتيان الوحي ﴿تُبْدَ لَكُمْ﴾ تلك المسألة وتظهر.

وقيل : إنّ المراد : إن تسألوا عن شيء نزل به القرآن لكّنكم ما فهمتم المراد منه ، فهذا السّؤال جائز ، ويظهر لكم جوابه.

عن القمّي رحمه‌الله : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها فأقبلت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لها عمر : غطّي قرطك (٢) ، فإنّ قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئا ، فقالت له : هل رأيت لي قرطا يا بن اللّخناء (٣) ، ثمّ دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بذلك وبكت ، فخرج رسول الله فنادى : الصّلاة جامعة ، فاجتمع النّاس فقال : ما بال أقوام يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع ! لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم (٤) ، لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلّا اخبرته ، فقام إليه رجل فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال : أبوك غير الذي تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ، فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : أبوك الذي تدعى له. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما بال الذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ؟ فقام إليه عمر فقال له : أعوذ بالله يا رسول الله من غضب الله وغضب رسول الله ، اعف عنّي عفا الله عنك. فأنزل الله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية » (٥) .

عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « أنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها» (٦) .

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ حكمة النّهي عن السّؤال ليست منحصرة في الصّيانة عن مسألة المؤمنين ، بل لكونه إيذاء للنبيّ ومعصية لله ، بقوله : ﴿عَفَا اللهُ﴾ عن مسائلكم السّابقة وإيذائكم للرّسول ، وتجاوز ﴿عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ وفيه الحثّ على الانتهاء عن المسألة وعدم العود إلى إكثارها.

﴿قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ١٠٦.

(٢) القرط : ما يعلّق في شحمة الأذن من ذهب أو فضة أو نحوهما.

(٣) اللّخناء : المرأة المنتنة.

(٤) في المصدر : أحوجكم.

(٥) تفسير القمي ١ : ١٨٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٩١.

(٦) نهج البلاغة : ٤٨٧ الحكمة ١٠٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٢.

٤٤٢

ثمّ بالغ سبحانه في الزّجر عنه حيث وعظهم بأنّ أمثال هذه السّؤالات سؤالات ﴿قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من أنبيائهم ، فاجيبوا عنها ﴿ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ حيث جحدوا بالأجوبة ، ولم يعملوا بها.

قيل : إنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء ، فإذا امروا تركوها ، فهلكوا (١) .

﴿ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

 يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن السّؤال عمّا يحتمل أن يكون في جوابه فضيحتهم ، أو المشقّة عليهم ، نهاهم عن التّكليف بما لم يكلّفهم الله به بقوله : ﴿ما جَعَلَ اللهُ﴾ وما شرع شيئا ﴿مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ﴾ .

عن ( المعاني ) : عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد قالوا : وصلت ، فلا يستحلّون نحرها ولا أكلها ، فإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلّون ظهرها ولا أكلها ، والحام : فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه ، فأنزل الله عزوجل أنّه لم يحرّم شيئا من ذلك».

وقد روي أنّ البحيرة : النّاقة إذا أنتجت خمسة أبطن ، فإذا كان الخامس ذكرا نحروه وأكله الرّجال والنّساء ، وإن كان الخامس انثى بحروا اذنها - أي شقّوها - وكانت حراما على النّساء (٢) ؛ لحمها ولبنها ، فإذا ماتت حلّت للنساء.

والسّائبة : البعير يسيّب بنذر يكون على الرّجل إن سلّمه الله من مرض ، أو بلغ منزله أن يفعل ذلك.

والوصيلة : من الغنم ، كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن ، فإذا كان السّابع ذكرا ذبح وأكل منه الرّجال والنّساء ، [ وإن كانت أنثى تركت في الغنم ] وإن كان ذكرا وانثى قالوا : وصلت أخاها فلم تذبح ، وكان لحومهما (٣) حراما على النّساء إلّا أن يموت منها شيء فيحلّ أكلها للرّجال والنّساء.

والحام : الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا : قد حمى ظهره.

ويروى أن الحام هو من الإبل ، إذا أنتج عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء (٤) .

قيل : إنّ عمر بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكّة ، وكان أوّل من غيّر دين إسماعيل ، فاتّخذ الأصنام ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٤٩.

(٢) زاد في المصدر : والرّجال.

(٣) في المصدر : لحومها.

(٤) معاني الأخبار : ١٤٨ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٢.

٤٤٣

ونصب الأوثان ، وشرع البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ولقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه (١) » . ويروى يجرّ قصبه في النّار (٢) .

وقال ابن عباس : قوله : ﴿وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾ يريد عمر بن لحي وأصحابه ، يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيل في تحريم هذه الأنعام (٣) .

وقيل : إنّ الرّؤساء يفترون على الله الكذب ، فأمّا الأتباع والعوام فهم المعنيون بقوله : ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(٤) أنّه افتراء على الله حتّى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحقّ بأنفسهم.

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ

 آباءَنا أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)

ثمّ نبّه سبحانه على غاية قصور عقلهم ، وانهماكهم في التّقليد بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ على سبيل الارشاد والهداية ﴿تَعالَوْا إِلى﴾ قبول ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ﴾ من الكتاب المبيّن للحلال والحرام ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾ المبلّغ عنه ، حتّى تقفوا على الحقّ ﴿قالُوا﴾ عصيانا وعنادا : ﴿حَسْبُنا﴾ وكفانا دليلا على الحقّ ﴿ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ من الاعتقاد والأعمال.

ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿أَ وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ من الدّين ، ﴿وَلا يَهْتَدُونَ﴾ إلى شيء من الحقّ والصّواب.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ

 مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان انهماك كثير من الكفّار في الضّلال ، وإصرارهم على الكفر ، أمر المؤمنين بالثّبات على الإيمان ، والعمل بأحكام الإسلام ، وعدم المبالاة بضلالة أهل الضّلال بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ والتزموا بحفظها من الضّلال والعصيان ، واهتمّوا بتكميلها بحسن الأخلاق ، ولا تغتمّوا بانحراف النّاس عن الحقّ ، فإنّه ﴿لا يَضُرُّكُمْ﴾ بوجه من الوجوه ﴿مَنْ ضَلَ﴾ عن الحقّ بضلالة ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ بتوفيق الله إلى دينه ومرضاته.

عن القمّي قال : أصلحوا أنفسكم ، ولا تتّبعوا عورات النّاس ولا تذكروهم ، فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم

__________________

(١) القصب : المعى ، وجمعه أقصاب ، وقيل : القصب : اسم للأمعاء كلها ، وقيل : هو ما كان أسفل البطن منها.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٢ : ١١٠.

(٤) تفسير الرازي ١٢ : ١١٠.

٤٤٤

إذا كنتم صالحين (١) .

عن ( المجمع ) : أنّ أبا بكر سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية ، فقال : « ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة ، وشحّا مطاعا ، وهوى متّبعا ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، فعليك بخويصّة (٢) نفسك » (٣) .

ثمّ وعد سبحانه وأوعد الفريقين بقوله : ﴿إِلَى اللهِ﴾ وحده ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ في القيامة ﴿جَمِيعاً﴾ ضالّكم ومهتديكم ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ﴾ في الدّنيا ﴿تَعْمَلُونَ﴾ من الهداية والضّلالة ؛ فيجازيكم على حسب ما تستحقّون.

عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلّا الإسلام أو السّيف ، عيّر المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفّار دون بعض فنزلت هذه الآية ، أي لا يضرّكم ملامة اللّائمين ، إذا كنتم على الهدى (٤) .

وقيل : نزلت لمّا أشتدّ على المؤمنين بقاء الكفّار في كفرهم وضلالهم (٥) .

وقيل : نزلت لمّا اغتّم المؤمنون لعشائرهم الذين ماتوا على الكفر ، فنهوا عن ذلك (٦) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ

 اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ

 فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ

 ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ

 الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ

 الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما

 وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) و (١٠٧)

ثمّ لمّا أمر الله سبحانه المؤمنين بحفظ أنفسهم من الضّلال والعصيان ، أردفه بالأمر بحفظ أموالهم من التّلف والضّياع ، وتعليم طريقه بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ وعند تنازعكم ﴿إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ وأشرف عليه ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ هي أن يشهد عليها ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٨٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٤.

(٢) خويصّة الانسان : الذي يختصّ بخدمته ، ويعني عليك بما يتصل بك من خدمك ومواليك ودع ما سواهم. وتطلق على حادثة الموت التي تخصّ كلّ إنسان ، ويعني عليك بمبادرتها بالأعمال الصالحة والاهتمام بها قبل وقوعها.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٣٩٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٤.

( ٤ و٥ و٦ ) . تفسير الرازي ١٢ : ١١٢.

٤٤٥

وصلاح ﴿مِنْكُمْ﴾ ومن أهل دينكم ، [ سواء أ ] كان الموصي في الحضر أو في السّفر ﴿أَوْ﴾ رجلان ﴿آخَرانِ﴾ كائنان ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ وممّن خالفكم في الدّين ، وإنّما تقبل شهادتهما ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ﴾ وسرتم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ وسافرتم فيها ﴿فَأَصابَتْكُمْ﴾ ونالتكم ﴿مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ وقاربكم الأجل.

ثمّ كأنّه قيل : كيف يقيمان الشّهادة ؟ فأجاب بقوله : ﴿تَحْبِسُونَهُما﴾ وتصبّرونهما للتّحليف ﴿مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ﴾ لتغليط اليمين بشرف الوقت ، كما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّه وقتئذ حلف من حلف » (١) ، ولأنّه وقت اجتماع النّاس فيثقل على النّفوس الأبيّة الكذب في مشهد النّاس ، فيستحلف حينئذ الآخران ﴿فَيُقْسِمانِ بِاللهِ﴾ ولكن هذا ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ أيّها الورّاث فيهما بخيانة في التّركة.

ثمّ يقولون بعد الشّهادة والقسم : إنّا ﴿لا نَشْتَرِي﴾ بالقسم ، أو بالله ولا نطلب ﴿بِهِ﴾ لأنفسنا ﴿ثَمَناً﴾ وعوضا من متاع الدّنيا ﴿وَلَوْ كانَ﴾ المقسم له وهو الميّت ﴿ذا قُرْبى﴾ ومتّصلا بالرّحم ﴿وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ﴾ التي أمرنا الله بها وبحفظها ، ونهانا عن كتمانها وتضييعها ، فإن كتمناها أو ضيّعناها ﴿إِنَّا إِذاً﴾ بالله ﴿لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾ والعاصين.

روي من طريق العامّة أنّ تميم بن أوس الدّاري وعدي بن زيد خرجا إلى الشّام للتّجارة ، وكانا حينئذ نصرانيّين ، ومعهما بديل بن أبي مريم (٢) مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا ، فلمّا قدما إلى الشّام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه أسماء جميع ما معه وطرحه في درج الثّياب ، ولم يخبرهما بذلك ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله فمات ، ففتّشاه فوجدا فيه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب ، فغيّباه ودفعا المتاع إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما : هل باع صاحبكما شيئا من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق شيئا على نفسه ؟ قالا : لا ، إنّما مرض حين قدم البلد ، فلم يلبث أن مات. قالوا : فإنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه ، وفيها إناء منقوش مموّه بالذّهب وزنه ثلاثمائة مثقال. قالا : ما ندري ، إنّما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ففعلنا ، وما لنا بالإناء من علم. فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلّا هو ، أنّهما لم يخونا شيئا مما دفع ، ولا كتما ، فحلفا على ذلك ، فخلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبيلهما.

ثمّ أنّه وجد الإناء في مكّة ، فقال من بيده : اشتريته من تميم وعديّ - وقيل : لمّا طالت المدّة أظهراه-

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٥٥.

(٢) كذا في النسخة وروح البيان أيضا ، لكن في اسد الغابة ١ : ١٦٩ بديل بن مارية.

٤٤٦

فبلغ ذلك بني سهم (١) أولياء بديل ، فطلبوه منهما ، فقالا : كنّا اشتريناه من بديل ، فقالوا : ألم نقل لكما : هل باع صاحبنا من متاعه شيئا ؟ فقلتما : لا. قالا : ما كان لنا بيّنة ، فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل قوله تعالى : ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ الآية (٢) .

وعن ( الكافي ) ، مرفوعا : « خرج تميم الدّاري وابن بيدي وابن أبي مارية في سفر ، وكان تميم الداري مسلما وابن بيدي وابن أبي مارية نصرانيّين ، وكان مع تميم الدّاري خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذّهب وقلادة أخرجها إلى أسواق بعض العرب للبيع ، فاعتل تميم الداري علّة شديدة ، فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بيدي وابن أبي مارية ، وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته ، فقدما المدينة ، وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة ، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته ، فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقال أهل تميم [ لهما ] : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة ؟ فقالا : لا ، ما مرض إلّا أيّاما قلائل. قالوا : فهل سرق منه شيء في سفره هذا ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتّجر تجارة خسر فيها ؟ قالا : لا ، قالوا : [ فقد ] افتقدنا أفضل شيء كان معه ؛ آنية منقوشة مكلّلة بالجوهر ، وقلادة ؟ . فقالا : ما دفع إلينا فقد أدّيناه إليكم ، فقدّموهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأوجب عليهما اليمين فحلفا ، فخلّا عنهما » (٣) .

عن الصادق عليه‌السلام ، في تفسير الآية : « اللّذان منكم مسلمان ، واللّذان من غيركم [ من ] أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية ، وذلك إذا مات الرّجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين ، أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر (٤) ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنّا إذا لمن الآثمين. قال : وذلك إن ارتاب وليّ الميّت (٥) .

﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ واطّلع بعد حلف الوصيّين ﴿عَلى أَنَّهُمَا﴾ بشهادتهما بالباطل ، وحنثهما في اليمين بالكذب في القول أو الخيانة في المال ﴿اسْتَحَقَّا إِثْماً﴾ وارتكبا ذنبا ، فلا ينقض الحاكم شهادتهما لاحتمال شرائهما المال من الميّت ، فإن ادّعياه وأنكر الوارث ﴿فَآخَرانِ﴾ يجيئان بعد ظلم الشّاهدين الأولين ، و﴿يَقُومانِ مَقامَهُما﴾ في الحبس إلى بعد الصّلاة والحلف ، ولكن يشترط أن يكون الآخران ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ الحلف.

__________________

(١) في تفسير روح البيان : بني سهل.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٤٥٤.

(٣) الكافي ٧ : ٥ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٥.

(٤) في الكافي : الصلاة.

(٥) الكافي ٧ : ٤ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٥.

٤٤٧

ثمّ كأنّه قيل : من الذين استحق الكتابيّان المدّعيان للشّراء عليهم الحلف ؟ قيل : هما ﴿الْأَوْلَيانِ﴾ بالميّت والأقربان إليه ﴿فَيُقْسِمانِ﴾ كلا الآخرين ﴿بِاللهِ لَشَهادَتُنا﴾ وحلفنا ﴿أَحَقُ﴾ بالقبول وأولى ﴿مِنَ﴾ حلف الكتابيّين و﴿شَهادَتِهِما﴾ مع كونها كاذبة ﴿وَمَا اعْتَدَيْنا﴾ وما تجاوزنا في شهادتنا ، وما ظلمنا على الكتابيّين بإبطال حقّهما ﴿إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسنا بتعريضها لسخط الله بهتك حرمة اسمه المبارك ، أو لمن الواضعين للحقّ في غير موضعه.

فتحصّل من الآيتين الشّريفتين أنّ من أشرف على الموت ينبغي أن يوصي ويشهد على وصيّته شاهدين عدلين من أهل الإيمان ، فإن لم يوجدا بأن كان في سفر فيشهد رجلين من أهل الكتاب عدلين في دينهما ، فإن ارتاب الوارث فيهما يؤمران بأن يحلفا بعد صلاة العصر أنّهما ما كتما الشّهادة وما خانا في التّركة شيئا ، فإن اطّلع على كذبهما في الشّهادة أو خيانتهما في التّركة بأن ظهر بأيديهما شيء منها ، وادّعيا أنّ الميّت ملّكهما إيّاه ، وأنكره الورثة ، حلف اثنان منهم وعمل بحلفهما.

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول : ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ إلى آخر الآية أمر أولياء تميم الدّاري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القلادة والآنية من ابن بيدي وأبن أبي مارية وردّهما إلى أولياء تميم الدّاري (١) .

وفي رواية بعض العامّة : كان تميم الدّاري يقول بعدما أسلم : صدق الله ورسوله ، أنا أخذت الإناء ، فأتوب الى الله (٢) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّه بقيت تلك الواقعة مخفيّة إلى أن أسلم تميم الدّاري ، فلمّا أسلم أخبر بذلك وقال : حلفت كاذبا ، وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسّمنا الثّمن ، ثمّ دفع خمسمائة درهم من نفسه ، ونزع من صاحبه خمسمائة اخرى ودفع الألف إلى موالي الميت (٣) .

قيل اتّفق العلماء على أنّ هذه الآية أشكل ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما (٤) .

﴿ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ

 أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)

ثمّ بيّن سبحانه حكمة تشريع هذه الكيفيّة من الشّهادة بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الحكم الذي ذكرناه ، والطّريق الذي شرعناه ﴿أَدْنى﴾ وأقرب إلى ﴿أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ﴾ وأن يؤدّيها الشّهود ﴿عَلى

__________________

(١) الكافي ٧ : ٦ / ٧ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٦.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٢ : ١٢٠.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٥٤.

٤٤٨

وَجْهِها﴾ ونحوه الذي تحمّلوها على الميّت من غير تحريف وخيانة ، من جهة أنّ الشّهود إمّا أن يخافوا بسبب الحلف والتّغليظ فيه من عذاب الله ﴿أَوْ يَخافُوا﴾ من ﴿أَنْ تُرَدَّ﴾ من قبل الحاكم ﴿أَيْمانٌ﴾ على الورثة ، فيحلفوا على خيانة الشّهود ﴿بَعْدَ أَيْمانِهِمْ﴾ فيفتضحوا بإبطال أيمانهم على رؤوس الأشهاد والعمل بأيمان الورثة ، فأيّ الخوفين حصل ، حصل المقصود ، وهو الإتيان بالشّهادة على وجهها.

ثمّ حثّ الله سبحانه النّاس على العمل بأحكامه ، وحفظ الأمانات وردّها بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ أيّها النّاس في شهاداتكم من أن تحرّفوها ، وفي أيمانكم من أن تكذّبوا فيها ، وفي أماناتكم من أن تخونوها ، وفي أحكام دينكم من أن تخالفوها ﴿وَاسْمَعُوا﴾ مواعظ الله سمع طاعة وقبول ، ولا تكونوا من الفسّاق ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ إلى طريق الجنّة ، ولا يوفّق لعمل الخير ﴿الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ والفريق الخارجين عن حدود الشّرع والعقل.

﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ

 الْغُيُوبِ (١٠٩)

في بيان بعض أهوال القيامة

ثمّ لمّا كان دأبه سبحانه في كتابه العزيز بعد ذكر جملة من الأحكام العمليّة إمّا بيان مقدار من المعارف الالهيّة تنشيطا للقلوب ، أو شرح قصّة من قصص الأنبياء واممهم اعتبارا وموعظة للنّاس وبعثا لهم إلى امتثال الأحكام ، أو ذكر أحوال القيامة ردعا لهم عن مخالفتها ، أردف الأحكام المذكورة بذكر أهوال القيامة بقوله : ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ﴾ واممهم فيه ، اذكروا أيّها المؤمنون ، وهو يوم القيامة ﴿فَيَقُولُ﴾ لهم توبيخا لاممهم : ﴿ما ذا أُجِبْتُمْ﴾ من قبل اممكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعة أحكامي ؟ أكانت إجابتهم إجابة إقرار وتسليم ، أم إجابة إنكار وجحود ؟ ﴿قالُوا﴾ تشكّيا من اممهم : ربّنا ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ بما أنت تعلم من ضمائرهم وبواطن قلوبهم ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ونحن لا نعلم إلّا ما أظهروه من الجحود والعصيان.

قيل : إنّ المراد : إنّ علمك محيط بجميع الأشياء ، وعلمنا في جنب علمك كالمعدوم ، فتعلم ما ابتلينا من قبلهم ، وكابدنا من سوء إجابتهم ، فنلتجئ إليك في الانتقام منهم (١) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ هذا الجواب إنّما يكون في بعض مواطن القيامة وذلك عند زفرة جهنّم وجثوّ الامم على ركبهم ، لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا قال : نفسي نفسي ، فعند ذلك تطير

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٥٨.

٤٤٩

القلوب من أماكنها ، فيقول الرّسل من شدّة هول المسألة وهول الموطن : لا علم لنا إنّك أنت علّام الغيوب ، ثمّ ترجع إليهم عقولهم ، فيشهدون على قومهم أنّهم بلّغوا الرّسالة ، وأنّ قومهم كيف ردّوا عليهم(١) .

وفي ( المعاني ) : عن الصادق عليه‌السلام : « يقولون : لا علم لنا بسواك » .

وقال : « القرآن كلّه تقريع ، وباطنه تقريب » (٢) .

وفي ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ لهذا تأويلا ، يقول : ماذا اجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على اممكم ؟ فيقولون : لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا » (٣) الخبر.

﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ

 بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

 وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ

 طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ

 كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا

 إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا

 وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ * إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ

 رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قالُوا

 نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ

 الشَّاهِدِينَ (١١٠) (١١٣)

ثمّ لمّا ذكر في أوائل السّورة سوء اعتقاد النّصارى في حقّ عيسى وامّه ، وكانوا أحقّ الامم بالتّوبيخ حيث إنّهم تعدّوا من إساءة الأدب بساحة الأنبياء التي كانت لسائر الامم إلى إساءة الأدب بساحة جلال الله وكبريائه بقولهم بحلول الله تعالى في عيسى ، أو أنّه ابنه ، شرع في إثبات عبوديّة عيسى بحضرة الرّسل في القيامة ، أولا بإظهار المنّة عليه بنعمته بقوله : ﴿إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ﴾ مريم. وفي ذكر والدته تقريع على من تكلّم في نسبه بما تكلّم ، وعلى من ادّعى الوهيّته مع كونه متولّدا من امّ.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٥٨.

(٢) معاني الأخبار : ٢٣٢ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٧.

(٣) الكافي ٨ : ٣٣٨ / ٥٣٥ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٧.

٤٥٠

ثمّ شرع في تعداد نعمه التي أنعمها عليه بالأصالة وعلى امّه بالتّبع بقوله : ﴿إِذْ أَيَّدْتُكَ﴾ وأعنتك ﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وواسطة إفاضة العلوم ، وهو جبرئيل ، ولذا كنت ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ﴾ بكلام الأنبياء ، حال كونك طفلا كائنا ﴿فِي الْمَهْدِ﴾ وفي حجر أمّك ﴿وَ﴾ كونك ﴿كَهْلاً﴾ من غير تفاوت في كلامك بين الوقتين والحالتين ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ﴾ السّماوي كلّه ، أو الكتابة والخط (١) - كما قيل (٢) - ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ من المعارف والأحكام ﴿وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ الّذين هما أفضل الكتب ، وألهمتك الأسرار المودعة فيهما ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ﴾ وتسوّي ﴿مِنَ الطِّينِ﴾ هيئته ﴿كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ والخفافيش ﴿بِإِذْنِي﴾ وإقداري وتعليمي ﴿فَتَنْفُخُ فِيها﴾ بعد تصويرها ﴿فَتَكُونُ﴾ تلك الهيئة ﴿طَيْراً﴾ كسائر الطّيور ﴿بِإِذْنِي﴾ وإيجادي.

روي أنّ اليهود سألوا منه عليه‌السلام على وجه التّعنّت ، فقالوا له : اخلق لنا خفّاشا ، واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالك ، فأخذ طينا وجعل منه خفّاشا ، ثمّ نفخ فيه فإذا هو يطير بين السّماء والأرض.

في ذكر عجائب الخفّاش

قيل : إنّما طلبوا منه خلق الخفّاش لأنّه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنّه لحم ودم يطير بغير ريش ، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطّيور ، وله ضرع يجري منه اللّبن ، ولا يبصر في ضوء النّهار ولا في ظلمة اللّيل ، وإنّما يرى في ساعتين ، بعد غروب الشّمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدّا ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة. فلمّا رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا : هذا سحر (٣) .

﴿وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ﴾ والأعمى الخلقي ﴿وَالْأَبْرَصَ﴾ مع عجز جميع الأطبّاء عن إبرائهما وعلاجهما ﴿بِإِذْنِي﴾ وإجابتي لدعائك ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى﴾ من قبورهم بعد إحيائهم فيها ﴿بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ﴾ ومنعت ﴿بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ﴾ وعن التّعرّض لك ﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ﴾ وأتيتهم بالمعجزات الباهرات ، وقصدوك بالسّوء ، وعارضوك بالجحود ﴿فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ﴾ وجحدوا نبوّتك : ما هذا بإعجاز بل ﴿إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ وشعبذة ظاهرة.

﴿وَ﴾ اذكر ﴿إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ﴾ وألقيت في قلوبهم حين دعوتهم إلى الإيمان ﴿أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ قد مرّ ذكر عدد الحواريّين ، ووجه تسميتهم بهذا الاسم في سورة آل عمران (٤) .

فهم بعد إلقاء الله في قلوبهم الإيمان ﴿قالُوا﴾ : يا عيسى ﴿آمَنَّا﴾ بالله وبوحدانيّته ﴿وَاشْهَدْ﴾ عنده يوم القيامة ﴿بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ﴾ له ، منقادون لأوامره ونواهيه ، و﴿إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ﴾ مخاطبين لك ﴿يا

__________________

(١) في تفسير الرازي : وهي الخط.

(٢) تفسير الرازي ١٢ : ١٢٥.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦٠.

(٤) تقدم في تفسير الآية (٥٢) من سورة آل عمران.

٤٥١

عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ .

قيل : كان ذلك منهم في بدو أمرهم وحال عدم استحكام معرفتهم بالله ويقينهم برسالة عيسى ، ولذا أساءوا الأدب بخطابه باسمه ونسبته إلى امّه ، وكان حقّهم أن يقولوا : يا رسول الله ، ويا روح الله (١).

﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ ويقدر ﴿رَبُّكَ﴾ على ﴿أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً﴾ وخوانا (٢) عليه الطّعام ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ قيل : إنّ المراد : هل جائز في حكمة الله إنزال المائدة من السّماء ؟ وهل يعطيك ربّك إن تسأله ذلك ؟ ! (٣) .

أقول : هذان التوجيهان منافيان لما حكاه الله عن عيسى عليه‌السلام في جوابهم بقوله : ﴿قالَ﴾ عيسى : ﴿اتَّقُوا اللهَ﴾ من أمثال هذا السّؤال الكاشف عن شكّكم في قدرته ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ بكمال قدرته وموقنين به ﴿قالُوا﴾ لعيسى اعتذارا : إنّه ما دعانا إلى هذا السّؤال الشّكّ في قدرته تعالى ، بل إنّا ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها﴾ للاستشفاء من أمراضنا على قول ، أو لسدّ الرّمق على قول آخر ، حيث قيل : إنّ السّؤال كان في زمن المجاعة (٤) .

﴿وَتَطْمَئِنَ﴾ بمشاهدتها ﴿قُلُوبُنا﴾ ويتقوّى علمنا الاستدلالي بالعلم الشّهودي ﴿وَنَعْلَمَ﴾ بعين اليقين ﴿أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا﴾ في ادّعاء الرّسالة ، لكون هذه المعجزة أتمّ الأدلّة عليه ﴿وَنَكُونَ عَلَيْها﴾ عند أهل العالم ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ حتّى يزداد المؤمنون برسالتك إيمانا ، ويؤمن الكافرون بك باطّلاعهم عليها.

﴿قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً

 لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها

 عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ

 الْعالَمِينَ (١١٥)

في كيفية نزول المائدة

فلمّا أظهروا أغراضا ظاهرة الصّحّة لسؤالهم ﴿قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ متضرّعا إلى الله : ﴿اللهُمَّ رَبَّنا﴾ اللّطيف بنا ، المكمّل لنفوسنا ﴿أَنْزِلْ عَلَيْنا﴾ بجودك وتفضّلك ﴿مائِدَةً﴾ وخوانا من الطّعام ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ كي ﴿تَكُونُ لَنا﴾ تلك المائدة ويوم نزولها ﴿عِيداً﴾ وسرورا ، ويوم سرور ﴿لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا﴾ وسابقنا ولاحقنا إلى يوم القيامة ﴿وَ﴾ تكون

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦٢.

(٢) الخوان : ما يؤكل عليه.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ١٢٩.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٦٢.

٤٥٢

﴿آيَةً﴾ ودلالة ﴿مِنْكَ﴾ على كمال قدرتك ، وصحّة نبوّتي ﴿وَارْزُقْنا﴾ المائدة والشّكر عليها ، فإنّك خير المسؤولين ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ تخلق الرّزق وتعطيه بلا منّ ولا عوض.

﴿قالَ اللهُ﴾ بطريق الوحي لعيسى ، إجابة لمسؤوله من إنزال المائدة : ﴿إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ﴾ ومجيب لسؤلكم ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ﴾ بتوحيدي ورسالة رسولي ﴿بَعْدُ مِنْكُمْ﴾ يا بني إسرائيل مع مشاهدة الآية العظيمة الباهرة ﴿فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ﴾ بسبب إصراره على الكفر ، وتمرّنه في الضّلال ﴿عَذاباً﴾ شديدا ﴿لا أُعَذِّبُهُ﴾ ولا أبتلي بمثله ﴿أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ﴾ .

في ( المجمع ) : عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ عيسى عليه‌السلام قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوما ، ثمّ اسألوا الله ما شئتم يعطكموه ، فصاموا ثلاثين [ يوما ] ، فلمّا فرغوا قالوا : [ يا عيسى ] إنّا لو عملنا لأحد من النّاس فقضينا عمله لأطعمنا طعاما ، وإنّا صمنا وجعنا ، فادع الله أن ينزّل علينا مائدة من السّماء ، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة ، وسبعة أحوات (١) حتّى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر النّاس كما أكل أوّلهم » (٢) .

وعن عمّار بن ياسر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله [ قال ] : « نزلت المائدة خبزا ولحما ، وذلك أنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منه » قال : « فقيل لهم : فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبّأوا وترفعوا ، فإن فعلتم ذلك عذّبتم » قال : « فما مضى يومهم حتى خبّأوا وترفّعوا وخانوا » (٣) .

وعن سلمان الفارسي رضى الله عنه ، قال : والله ، ما تبع عيسى شيئا من المساوئ قطّ ، ولا انتهر يتيما (٤) ، ولا قهقه ضحكا ، ولا ذبّ ذبابا عن وجهه ، ولا أخذ على أنفه من نتن شيء قطّ ، ولا عبث قطّ.

ولمّا سأله الحواريّون أن ينزّل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى وقال : ﴿اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾ الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه‌السلام وقال : اللهمّ اجعلني من الشّاكرين ، اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. واليهود ينظرون إليها ، ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قطّ ، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى عليه‌السلام فتوضّأ وصلّى صلاة طويلة ، ثمّ كشف المنديل عنها وقال : بسم الله خير الرّازقين. فإذا هو سمكة مشويّة ليس عليها فلوسها ، تسيل سيلا من الدّسم ، وعند رأسها [ ملح ] وعند ذنبها خلّ ، وحولها أنواع البقول ما عدا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة : على واحد منها زيتون ، وعلى الثّاني عسل ،

__________________

(١) في النسخة : خوان ، تصحيف ، صوابه من مجمع البيان ، والأحوات : جمع حوت.

(٢ و٣) . مجمع البيان ٣ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٨.

(٤) في النسخة : ولا انتهز شيئا.

٤٥٣

وعلى الثّالث سمن ، وعلى الرّابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟ فقال عيسى : ليس شيء ممّا ترون من طعام الدّنيا ، ولا من طعام الآخرة ، ولكنّه شيء افتعله الله بالقدرة الغالبة ، كلوا ما سألتم ، يمددكم ويرزقكم (١) من فضله.

فقال الحواريّون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى ؟ فقال عيسى عليه‌السلام : يا سمكة ، احيي بإذن الله تعالى ، فاضطربت السّمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ففرقوا منها ، فقال [ عيسى ] : ما لكم تسألون أشياء إذا اعطيتموها كرهتموها ! ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا ! يا سمكة ، عودي كما كنت بإذن الله ، فعادت السّمكة مشويّة كما كانت ، فقالوا : يا روح الله ، كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن ، فقال عيسى : معاذ الله أن آكل منها ، ولكن يأكل منها من سألها ، فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا أهل الفاقة والزّمناء والمرضى والمبتلين فقال : كلوا منها ، ولكم الهناء ولغيركم البلاء ، فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض ومبتلى ، وكلّهم شبعان يتجشأ (٢) .

في ذكر مسخ أصحاب المائدة

ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السّماء ، ثمّ طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم ، فلم يأكل يومئذ منها زمن (٣) إلّا صحّ ، ولا مريض إلّا برئ ، ولا فقير إلّا استغنى ، ولم يزل غنيّا حتّى مات ، وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها ، وكانت إذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصّغار والكبار يتزاحمون عليها ، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم ، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيئ طارت صعدا وهم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبّا يوما ويوما.

فأوحى الله إلى عيسى عليه‌السلام : اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا وشكّكوا النّاس فيها ، فأوحى الله إلى عيسى عليه‌السلام : إنّي شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها اعذّبه عذبا لا اعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليه‌السلام : إن تعذّبهم فإنّهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا ، باتوا ليلتهم على فراشهم مع نسائهم في ديارهم ، فأصبحوا خنازير يسعون في الطّرقات والكناسات ، ويأكلون العذرة والحشوش ، فلمّا رأى النّاس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه‌السلام وبكوا ، وبكى على الممسوخين أهلوهم ، فعاشوا ثلاثة أيّام ثم هلكوا (٤) .

وفي ( المجمع ) : وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام : « كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون

__________________

(١) في المصدر : ويزدكم.

(٢) تجشأت المعدة : تنفست من امتلاء.

(٣) الزّمن : المبتلى بمرض مزمن طالت مدته.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٩٨.

٤٥٤

منها ثمّ ترتفع ، فقال كبراؤهم ومترفوهم : لا ندع سفلتنا يأكلون منها ، فرفع الله المائدة ببغيهم ، ومسخوا قردة وخنازير » (١) .

وعن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام [ قال ] : « المائدة التي نزلت على بني إسرائيل كانت مدلّاة بسلاسل من ذهب ، عليها تسعة أخونة (٢) وتسعة أرغفة » (٣) .

وفي رواية : « تسعة ألوان أرغفة » (٤) .

وفي ( المجمع ) : عن الكاظم عليه‌السلام : « أنّهم مسخوا خنازير » (٥) .

وعن الرضا عليه‌السلام : « والجرّيث والضبّ فرقة من بني إسرائيل ، حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم ، لم يؤمنوا فتاهوا ، فوقعت فرقة في البحر ، وفرقة في البرّ » (٦) .

وعن ( الخصال ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حديث المسوخات : « وأمّا الخنازير فقوم من النصارى سألوا ربّهم إنزال المائدة عليهم ، فلمّا نزلت عليهم كانوا أشدّ ما كانوا كفرا وأشدّ تكذيبا » (٧) .

قيل : نزلت المائدة يوم الأحد ، فاتّخذه النّصارى عيدا (٨) .

﴿وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ

 دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ

 عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)

ثمّ بالغ سبحانه في تقريع النّصارى على اتّخاذ عيسى وامّه إلهين بحكاية خطابه في القيامة بما فيه تقريع منه بقوله : ﴿وَإِذْ قالَ اللهُ﴾ في القيامة بمشهد من النّصارى : ﴿يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ .

عن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام : « لم يقل ، وسيقول ؛ لأنّ (٩) الله إذا علم شيئا هو كائن أخبر عنه خبر ما قد كان » (١٠) .

وعن بعض المفسّرين أنّه تعالى خاطب عيسى حين رفعه إلى السّماء بقوله : ﴿أَ أَنْتَ قُلْتَ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٤١٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٠.

(٢) الأخونة : جمع خوان ، وهو ما يوضع عليه الطعام ليؤكل ، وفي نسخة من المصدر : أحوتة.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٨٥ / ١٣٨٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٠.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٨٦ / ١٣٨٩ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٠.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٠.

(٦) التهذيب ٩ : ٣٩ / ١٦٦ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠١.

(٧) الخصال : ٤٩٤ / ٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠١.

(٨) تفسير الرازي ١٢ : ١٣١.

(٩) في المصدر : لم يقله وسيقوله إن.

(١٠) تفسير العياشي ٢ : ٨٦ / ١٣٩٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠١.

٤٥٥

لِلنَّاسِ(١) المؤمنين بك : ﴿اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ﴾ ومعبودين لأنفسكم ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وفي قباله ، فعمل القائلون بالأقانيم بقولك ، وادّعوا أنّ الله ثالث ثلاثة ؟ ﴿قالَ﴾ عيسى خضوعا وتواضعا: ﴿سُبْحانَكَ﴾ وانزّهك من أن يكون لك شريك في شيء تنزيها ﴿ما يَكُونُ﴾ وما ينبغي ﴿لِي﴾ مع معرفتي وتمحّضي في عبوديّتك والانقياد لأوامرك ﴿أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ﴾ وأن أدّعي لنفسي غير العبوديّة.

ثمّ فوّض الصّدق والكذب إلى علمه المحيط بكلّ شيء حفظا للأدب بقوله : ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ﴾ وتفوّهت به ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ حيث إنّك بإحاطتك بي ﴿تَعْلَمُ ما﴾ اخفي ﴿فِي نَفْسِي﴾ وضميري من المعلومات ﴿وَلا أَعْلَمُ ما﴾ خفي ﴿فِي نَفْسِكَ﴾ وغيبك من معلوماتك. وإنّما عبّر عن خفيّات علمه تعالى بما في نفسه للمشاكلة والازدواج.

ثمّ أكّد سعة علمه تعالى بقوله : ﴿إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ممّا كان وممّا يكون.

في ذكر عدد حروف الاسم الأعظم

عن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام ، في تفسيرها : « أنّ الاسم الأكبر ثلاثة وسبعون حرفا ، فاحتجب الربّ تعالى بحرف ، فمن ثمّ لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل ، أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتّى صارت إلى عيسى عليه‌السلام ، فلذلك قال : ﴿تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي﴾ يعني اثنين وسبعين حرفا من الاسم الأكبر ، يقول : أنت علّمتنيها ، فأنت تعلمها ﴿وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ﴾ يقول : لأنّك احتجبت من خلقك بذلك الحرف ، فلا يعلم أحد ما في نفسك » (٢) .

﴿ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما

 دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

 شَهِيدٌ (١١٧)

ثم بالغ في تنزيه نفسه من القول الشّنيع بقوله : ﴿ما قُلْتُ لَهُمْ﴾ من قبلي ولا من قبلك قولا ﴿إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ من القول الحق. ثمّ فسّره بقوله : ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللهَ﴾ الذي يكون ﴿رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ وخالقي وخالقكم ﴿وَكُنْتُ﴾ بحسب وظيفة الرّسالة ﴿عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ ورقيبا ﴿ما دُمْتُ﴾ مقيما ﴿فِيهِمْ﴾ اراعي أحوالهم وأحملهم على قول الحقّ والعمل الصالح ، وأمنعهم عن الضلال والعصيان ، أو كنت مشاهدا لأحوالهم من الكفر والإيمان ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ وقطعت علاقتي من الأرض ، ورفعتني إلى

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ١٣٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٨٧ / ١٣٩٤ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠١.

٤٥٦

السّماء ﴿كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ﴾ والحافظ المقتدر ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الناظر في أحوالهم وأعمالهم.

ثمّ لأجل دفع توهّم الاختصاص بيّن إحاطته بجميع الموجودات بقوله : ﴿وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء وكلّ موجود من الموجودات ﴿شَهِيدٌ﴾ ورقيب ، لا يخرج من سلطانك ونفوذ إرادتك شيء.

﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)

ثمّ أنّه عليه‌السلام بعد تنزيه نفسه من الدّخل (١) في عقائدهم الفاسدة وأعمالهم السيّئة ، تبرّأ من الدّخل في مجازاتهم بالشّفاعة وغيرها بقوله : ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ على كفرهم وعصيانهم ﴿فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ﴾ مقهورون تحت قدرتك مملوكون لك لا تعاملهم إلّا بالعدل ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وتعفو عن سيّئاتهم ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب في إرادتك ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أفعالك لا تعفو إلّا عمّن هو أهل له.

﴿قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

 خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)

ثمّ بيّن سبحانه نفع قول الحقّ والصّدق إشعارا بتصديق عيسى عليه‌السلام بقوله : ﴿قالَ اللهُ هذا﴾ اليوم ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ﴾ في الدّنيا ﴿صِدْقُهُمْ﴾ في القول والاعتقاد والنيّة والعمل.

ثمّ شرح النّفع بقوله : ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ وبساتين ملتفّة الأشجار ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها أَبَداً﴾ ليس لهم خوف الخروج عنها.

ثمّ بشّرهم بأعلى المنافع والحظوظ بقوله : ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ﴾ بطاعتهم وصدقهم في القول والعمل ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بنيلهم أعلى الكرامات ، وهو مقام الرّضوان و﴿ذلِكَ﴾ المقام هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والنّجاح بأعلى المقاصد.

عن القمّي رحمه‌الله : الدّليل على أنّ عيسى لم يقل [ لهم ] ذلك ، قوله : ﴿هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ(٢) .

وعنه باسناده عن الباقر عليه‌السلام ، في هذه الآية : [ قال ] : « إذا كان يوم القيامة وحشر النّاس للحساب ، فيمرّون بأهوال يوم القيامة ، ولا ينتهون إلى العرصة حتّى يجهدوا جهدا شديدا » .

__________________

(١) كذا ، والظاهر : الدخول أو التدخّل.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٢.

٤٥٧

قال : « ثمّ يقفون بفناء العرش (١) ، ويشرف الجبّار عليهم وهو على عرشه ، فأوّل من يدعى بنداء يسمع الخلائق أجمعون أن يهتّف باسم محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النبيّ القرشيّ العربيّ » قال : « فيتقدّم حتّى يقف على يمين العرش » .

قال : « ثمّ يدعى بصاحبكم [ علي عليه‌السلام ] يتقدّم حتّى يقف على يسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يدعى بامّة محمّد فيقفون على يسار عليّ عليه‌السلام ، ثمّ يدعى بنبيّ نبيّ وأمّته معه ، من أوّل النّبيّين إلى آخرهم وامّتهم معهم فيقفون على يسار العرش.

قال : « ثمّ أوّل من يدعى للمسائلة القلم » ، قال : « فيتقدّم فيقف بين يدي الله في صورة الآدميّين فيقول [ الله ] : هل سطّرت في اللّوح ما ألهمتك وأمرتك به [ من الوحي ] ؟ فيقول القلم : نعم يا ربّ ، قد علمت أنّي سطّرت في اللّوح ما أمرتني وألهمتني به من وحيك. فيقول الله : فمن يشهد لك بذلك ؟ فيقول : يا ربّ ، هل اطّلع على مكنون سرّك غيرك ؟ فيقول له [ الله ] : أفلحت حجّتك.

ثمّ يدعى باللّوح فيتقدّم في صورة الآدميّين حتّى يقف مع القلم ، فيقول له : هل سطر فيك القلم ما ألهمته وأمرته به من وحيي ؟ فيقول اللّوح : نعم يا ربّ ، وبلغته إسرافيل ، ثمّ يدعى بإسرافيل ، فيتقدّم إسرافيل ، مع اللّوح والقلم في صورة الآدميّين فيقول الله : هل بلّغك اللّوح ما سطّر فيه القلم من وحيي ؟ فيقول : نعم يا ربّ ، وبلّغته جبرائيل ، فيدعى بجبرائيل [ فيتقدم ] حتّى يقف مع إسرافيل فيقول الله له : هل بلّغك إسرافيل ما بلّغ ؟ فيقول : نعم يا ربّ ، وبلّغته جميع أنبيائك ، وأنفذت إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك ، وأديت رسالاتك إلى نبيّ نبيّ ورسول رسول ، وبلّغتهم كلّ وحيك وحكمتك وكتبك ، وإنّ آخر من بلّغته رسالتك ووحيك وحكمتك وعلمك وكتابك وكلامك محمّد بن عبد الله العربيّ القرشيّ الحرميّ حبيبك » .

قال أبو جعفر عليه‌السلام : « فأوّل من يدعى للمسائلة من ولد آدم محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيدنيه الله حتّى لا يكون خلق أقرب إلى الله يومئذ منه ، فيقول الله : يا محمّد ، هل بلّغك جبرئيل ما أوحيت إليك وأرسلته به إليك من كتابي و حكمتي وعلمي ، وأوحاه إليك ؟ فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم يا ربّ ، قد بلّغني جبرئيل جميع ما أوحيته إليه وأرسلته به من كتابك وحكمتك وعلمك ، وأوحاه إليّ. فيقول الله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل بلّغت امّتك ما بلّغك جبرئيل من كتابي وحكمتي وعلمي ؟ فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم يا ربّ ، قد بلّغت امّتي جميع ما اوحي إليّ من كتابك وحكمتك وعلمك ، وجاهدت في سبيلك.

فيقول الله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : فمن يشهد لك بذلك ؟ فيقول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ربّ ، أنت الشّاهد لي بتبليغ

__________________

(١) في المصدر : العرصة.

٤٥٨

الرّسالة ، وملائكتك ، والأبرار من امّتي ، وكفى بك شهيدا. فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغ الرّسالة [ ثمّ يدعي بأمه محمّد فيسألون : هل بلّغكم محمد رسالتي وكتابي وحكمتي وعلمي وعلّمكم ذلك ؟ فيشهدون لمحمّد بتبليغ الرسالة ] والحكمة والعلم.

فيقول الله لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل استخلفت في امّتك من بعدك من يقوم فيهم بحكمتي وعلمي ، ويفسّر لهم كتابي ، ويبيّن لهم ما يختلفون فيه من بعدك حجّة لي ، وخليفة في الأرض ؟ فيقول محمّد : نعم يا ربّ ، قد خلّفت فيهم عليّ بن أبي طالب أخي ووزيري ووصيّي وخير امّتي ، ونصبته لهم علما في حياتي ، ودعوتهم إلى طاعته ، وجعلته خليفتي في امّتي [ وإماما ] تقتدي به الامّة بعدي إلى يوم القيامة ، فيدعى بعليّ بن أبي طالب » .

إلى أن قال : « فيدعى بإمام إمام ، وبأهل عالمه ، فيحتجّون بحجّتهم ، فيقبل الله عذرهم ، ويجيز حجّتهم. قال : ثمّ يقول الله : ﴿هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ (١) .

﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

ثمّ بيّن الله سعة ملكه ، وعظم سلطانه ، وكمال قدرته ، إبطالا لدعاوى النّصارى ، وتقريرا لما وعد الصّادقين بقوله : ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ﴾ من الموجودات يتصرّف فيها كيف يشاء ﴿وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وفي قوله : ﴿وَما فِيهِنَ﴾ تنبيه على أنّ جميع الموجودات ، لكونها مقهورة تحت قدرته وقضائه ، بمنزلة الجمادات التي لا قدرة لها على شيء.

الحمد لله الذي أيّدني لإتمام سورة المائدة ، وأسأله الإنعام عليّ بالتّوفيق لإتمام ما يتلوها من سورة الأنعام.

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٩١ ، تفسير الصافي ٢ : ١٠٢.

٤٥٩
٤٦٠