نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

قال النّاصب بعد ذلك بقليل : إنّ العلماء احتجّوا بالآية على أنّ العمل القليل لا يقطع الصلاة (١) . وممّا ذكرنا يعلم فساد سائر ما لفّقه النّاصب.

﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)

ثمّ بالغ سبحانه في الحثّ على تولّي الرّسول وخلفائه بقوله : ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويتّخذهم أولى بنفسه من نفسه ، ويعتقد أنّهم متصرّفون في اموره ، فهو من حزب الله وجنوده ، وغالب على أعدائه ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ﴾ وأولياءه ﴿هُمُ الْغالِبُونَ﴾ على حزب أعداء الله ، وجند الشّيطان ، وأعوان الجهل.

عن الباقر عليه‌السلام ، في قوله : ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ﴾ الآية ، قال : « إنّ رهطا من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ، واسيد (٢) ، وثعلبة ، وابن امين (٣) ، وابن صوريا ، فأتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا نبيّ الله ، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون ، فمن وصيّك يا رسول الله ، ومن وليّنا بعدك ؟ فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية.

[ ثمّ ] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا ، فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج ، فقال : يا سائل ، أما أعطاك أحد شيئا ؟ قال : نعم ، هذا الخاتم ، قال : من أعطاكه ؟ قال : أعطانيه ذلك الرّجل الذي يصلّي ، قال : على أيّ حال أعطاك ؟ قال : كان راكعا ، فكبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكبّر أهل المسجد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ بن أبي طالب وليّكم [ بعدي ] ، قالوا : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا ، وبمحمّد نبيّا ، وبعليّ بن أبي طالب وليّا ، فأنزل الله : ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ(٤).

وفي ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ﴿« وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ في هذا الموضع : المؤتمنون على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر » (٥) .

وفي ( التوحيد ) : عن الصادق عليه‌السلام : « يجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة آخذا بحجزة ربّه ، ونحن آخذون بحجزة نبيّنا ، وشيعتنا آخذون بحجزتنا ، فنحن وشيعتنا حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون ، والله لا يزعم أنّها حجزة الإزار ولكنّها أعظم من ذلك ، يجيء رسول الله آخذا بدين الله ونجيء [ نحن ] آخذين بدين نبيّنا ، وتجيء شيعتنا آخذين بديننا » (٦) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣١.

(٢) في الأمالي : وأسد.

(٣) في الأمالي : وابن يامين.

(٤) أمالي الصدوق : ١٨٦ / ١٩٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٦.

(٥) الاحتجاج : ٢٤٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٧.

(٦) التوحيد : ١٦٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٧.

٤٠١

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ

 أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد النّهي عن مولاة أهل الكتاب ، بالغ سبحانه في تأكيده ، وعمّمه إلى جميع الكفّار بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا﴾ ولا تختاروا ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ وتعاملوا (١) مع شريعتكم الغرّاء معاملة السّاخر والعائب ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ﴾ الّذين لم يؤمنوا بكتاب ﴿أَوْلِياءَ﴾ لأنفسكم.

قيل : كان رفاعة بن زيد ، وسويد بن الحارث أظهرا الإيمان ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما (٢) . فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة نهيه بقوله : ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ وخافوا عذابه في موالاتهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ عن صميم القلب بالله واليوم الآخر ، فإنّ حقيقة الإيمان تلازم الاتّقاء عن مخالفة أحكام الله وموالاة أعدائه.

﴿وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)

ثمّ ذكر الله سبحانه استهزاءهم بالصّلاة التي هي أعظم العبادات وركن دين الإسلام ازديادا لتنفير قلوب المسلمين منهم ، بقوله : ﴿وَإِذا نادَيْتُمْ﴾ المسلمين ودعوتموهم ﴿إِلَى الصَّلاةِ﴾ بأن أذّن المؤذّنون ﴿اتَّخَذُوها﴾ فيما بينهم ، أو عند أنفسهم ﴿هُزُواً﴾ وسخرية ﴿وَلَعِباً﴾ وعبثا لاعتقادهم بأنّه لا فائدة فيها ، و﴿ذلِكَ﴾ الاستهزاء واللّعب معلّل ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ حسن عبادة الله والخضوع له ، وقباحة الهزء بها ، ولو كان لهم عقل لما اجترأوا على تلك العظيمة.

قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصّلاة ، وأنفع السّكنات الصوم (٣) .

في استهزاء اليهود بدين الإسلام

قيل : كان المؤذّنون إذا أذّنوا للصّلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم ، وتغامزوا سفها واستهزاء بالصّلاة ، وتجهيلا لأهلها ، وتنفيرا للنّاس عنها (٤) .

وقيل : كان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينادي للصّلاة ، وقام المسلمون إليها ، فقالت اليهود : قاموا لا قاموا ، صلّوا لا صلّوا ؛ على طريق الاستهزاء ، فنزلت الآية (٥) .

__________________

(١) في النسخة : وعاملوا.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٢٨ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٧.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٣٣.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٠٨.

(٥) تفسير الرازي ١٢ : ٣٣.

٤٠٢

وقيل : كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصّلاة تنفيرا للنّاس عنها (١) .

وقيل : قالوا : يا محمّد ، لقد أبدعت شيئا لم يسمع فيما مضى ، فإن كنت نبيّا فقد خالفت فيما أبدعت جميع الأنبياء ، فمن أين لك صياح كصياح العير ! فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢) .

وقيل : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، يقول :

احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة ، فتطايرت منها شرارة في البيت ، فاحترق البيت ، واحترق هو وأهله (٣) .

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ

 قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)

ثمّ لمّا حكى الله عزوجل استهزاء أهل الكتاب بالدّين أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوبيخهم بقوله : ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ﴾ وتكرهون ﴿مِنَّا﴾ وتسخطون علينا بسبب من الأسباب ﴿إِلَّا﴾ بسبب ﴿أَنْ آمَنَّا بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته وكمال صفاته ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا﴾ من القرآن ﴿وَما أُنْزِلَ﴾ على سائر الأنبياء ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ نزول القرآن من التّوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السّماويّة ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ﴾ متمرّدون عن قبول الحقّ ، كافرون بجميع الكتب ، حيث إنّكم إن كنتم مؤمنين بكتبكم النّاطقة بصحة القرآن لآمنتم به.

وقيل : إنّ المراد : ولأجل أنّكم فاسقون ، ولسنا مثلكم (٤) ، أو لأجل اعتقادنا بأنّكم فاسقون(٥).

قيل : إنّما قال : ﴿أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ﴾ لأن أكثرهم كانوا متمرّدين طلبا للرّئاسة والجاه والحطام ، لا للشّبهة في الرّسالة والدّين ، أو لئلّا يظنّ من آمن منهم [ أنّه ] داخل في ذلك (٦) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه عمن يؤمن به من الرسل وسألوه عن دينه ، فقال : « اومن بالله ، وما أنزل إلينا ، وما انزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما اوتي موسى وعيسى والنّبيّون من ربّهم ، لا نفرّق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون » ، فحين سمعوا ذكر عيسى قالوا : لا نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدّنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرّا من دينكم. فأنزل الله هذه الآية (٧) .

﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٢ : ٣٣.

(٤) تفسير الرازي ١٢ : ٣٤.

(٥ و٦) . تفسير الرازي ١٢ : ٣٥.

(٧) مجمع البيان ٣ : ٣٣٠.

٤٠٣

مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ

 السَّبِيلِ (٦٠)

ثمّ أنّهم لمّا زعموا أنّ دين الإسلام شرّ الأديان ، وأهله شرّ النّاس ، أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبكيتهم وتقريعهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ﴾ واخبركم يا أهل الكتاب ﴿بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ﴾ الذي زعمتم شرّه ، ونقمتم منه ﴿مَثُوبَةً﴾ وجزاء ﴿عِنْدَ اللهِ﴾ وفي حكمه.

ثمّ كأنّهم قالوا : من هو ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿مَنْ لَعَنَهُ اللهُ﴾ وقيل : إنّ المراد : دين من لعنه الله وأبعده عن رحمته (١)﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ بكفره ، وسوء سريرته ، وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات ﴿وَجَعَلَ﴾ جماعة ﴿مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ﴾ في زمان داود بدعائه عليهم حين اعتدوا في السّبت ، ﴿وَ﴾ جماعة ﴿الْخَنازِيرَ﴾ في زمان عيسى حين كفروا بعد نزول المائدة وأكلها ، ﴿وَ﴾ بعضا ﴿عَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ وأطاع الشّيطان.

وروي أنّ المسخين كانا في أصحاب السّبت ، فإن شبّانهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير(٢) .

قيل : لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود : يا اخوة القردة والخنازير ، فنكّسوا رؤوسهم وافتضحوا (٣) .

وقيل : إنّ المراد بالطاغوت : العجل (٤) ، وقيل : الأحبار الّذين أطاعوهم في معصية الله (٥) .

ثمّ قرّر شرّ مثوبتهم بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ الملعونون الممسوخون من اليهود ﴿شَرٌّ مَكاناً﴾ وأسوأ مقرّا من جميع الكفّار في الآخرة ، عن ابن عبّاس رضى الله عنه : مكانهم سقر ، ولا مكان أشدّ شرّا منه (٦)﴿وَ﴾ هم ﴿أَضَلُ﴾ النّاس في الدّنيا ﴿عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ وقصد الطريق والنهج المستقيم الذي لا انحراف فيه عن الحقّ إلى غلوّ اليهود والنّصارى. ومن المعلوم أنّ صفتي التّفضيل للزّيادة ، لا بالإضافة إلى المؤمنين.

﴿وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما

 كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٣٣٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٨.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٣٣٣ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٨.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٣٣٣ ، تفسير الرازي ١٢ : ٣٧.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٣٣ ، تفسير الرازي ١٢ : ٣٧.

(٥ و٦) . تفسير الرازي ١٢ : ٣٧.

٤٠٤

ثمّ وبّخ الله تعالى اليهود بنفاقهم وقساوة قلوبهم وعدم تأثّرهم بالمواعظ والآيات بقوله : ﴿وَإِذا جاؤُكُمْ﴾ وحضروا عندكم ﴿قالُوا﴾ لكم نفاقا : ﴿آمَنَّا﴾ بما آمنتم ، واتّبعنا الرّسول ، ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿قَدْ دَخَلُوا﴾ مجلسكم ملابسين ﴿بِالْكُفْرِ﴾ ملازمين له ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا﴾ من ذلك المجلس متلبّسين ﴿بِهِ﴾ لم يؤثّر فيهم ما سمعوا وشهدوا من المواعظ والآيات ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ﴾ ويسترون منكم من الكفر والحسد ، والاجتهاد في المكر بالمسلمين ، والبغض والعداوة.

قالوا : نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يظهرون له الإيمان نفاقا ، فأخبره الله بشأنهم ، فإنّهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا ، لم يتعلّق بقلبهم شيء من الدّلائل والنّصائح والتذكيرات (١) .

وقيل : ضمير الخطاب في الجمع راجع إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والجمع للتّعظيم (٢) .

وعن القمّي : « نزلت في عبد الله بن أبيّ » (٣) .

﴿وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما

 كانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ

 السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٢) و (٦٣)

ثمّ استشهد الله على نفاقهم بسوء أعمالهم بقوله : ﴿وَتَرى﴾ يا محمّد وتبصر ﴿كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ﴾ غير مستحيين منك ، ويشرعون بالعجلة شوقا ورغبة ﴿فِي الْإِثْمِ﴾ وقول الكذب ﴿وَالْعُدْوانِ﴾ والظّلم على الخلق ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ وأخذ الرّشوة ، والله ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من تلك المعاصي العظام.

ثمّ وبّخ سبحانه الزّهاد والعلماء على ترك نهيهم عن المنكرات بقوله : ﴿لَوْ لا يَنْهاهُمُ﴾ ويردعهم ﴿الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ﴾ من اليهود ﴿عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ﴾ وكلامهم الكذب ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ والمال الحرام ، مع علمهم بقبحها وحرمتها ، ومشاهدتهم مباشرتهم لها ، بالله ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ من المداراة مع العصاة ، وترك نهيهم عن المنكر.

قيل : الربّانيّون علماء أهل الإنجيل ، والأحبار علماء اليهود ، وقيل : كلّهم في اليهود (٤) .

في ذم تارك النهي عن المنكر

قيل : في الآيتين دلالة على أن تارك النّهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه ؛ لأنّه تعالى

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٣ : ٥٦ ، تفسير روح البيان ٢ : ٤١٢.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٧٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٨.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٣٥ ، تفسير الرازي ١٢ : ٣٩.

٤٠٥

ذمّهما بلفظ واحد ، بل قيل : إنّ ذمّ تارك النّهي عن المنكر أقوى من ذمّ مرتكبه ؛ لأنّ الله تعالى قال في ذمّ تارك النّهي عن المنكر : ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ والصّنع أقوى من العمل ؛ لأنّ الصّنع هو العمل إذا صار راسخا ، فجعل ذنب تارك النّهي ذنبا راسخا (١) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : هي أشدّ آية في القرآن. وقال الضحّاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها (٢) .

﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ

 يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً

 وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ

 أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم وتقريعهم بأعمالهم السيئة ، ذمّهم بعقائدهم السّخيفة الفاسدة بقوله : ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ مقبوضة ممسكة عن العطاء.

قال بعض المفسّرين من العامّة : إنّ اليهود كانوا أكثر النّاس مالا وأخصبهم ناحية ، فلمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذّبوه ضيقّ الله عليهم المعيشة ، فوصفوا الله بالبخل (٣) .

وعن الحسن : أنّهم عبّروا عن عدم تعذيبهم في الآخرة إلّا أيّاما قليلة بهذه العبارة الدالّة على العجز(٤).

وعن القمّي : [ قالوا : ] قد فرغ الله من الأمر ، لا يحدث الله [ غير ما قدّره ] في التّقدير الأوّل(٥).

وفي ( التوحيد ) : عن الصادق عليه‌السلام ، في هذه الآية : « لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص » (٦) .

وعن الرضا عليه‌السلام ، في كلام له في إثبات البداء مع سليمان المروزي وقد كان ينكره ، فقال عليه‌السلام : « أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب ؟ » ، قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟ قال : « [ قالت : ] يد الله مغلولة ، يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر ، فليس يحدث شيئا » . (٧) الحديث.

ثمّ دعا سبحانه عليهم بقوله : ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ في نار جهنّم ، أو المراد : ألبسهم الله الفقر حتّى عجزوا عن الإنفاق والإعطاء ﴿وَلُعِنُوا﴾ وابعدوا عن الرّحمة ﴿بِما قالُوا﴾ من الكلمة الشّنيعة ، وبما

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣٩.

(٢) تفسير الرازي ١٢ : ٤٠.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٤١ ، تفسير روح البيان ٢ : ٤١٤.

(٤) تفسير الرازي ١٢ : ٤١.

(٥) تفسير القمي ١ : ١٧١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٩.

(٦) التوحيد : ١٦٧ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٩.

(٧) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨٢ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٥٠.

٤٠٦

اعتقدوا من العقائد السخيفة.

ثم ردّهم بقوله : ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾ وقدرته ورحمته واسعتان ، وخزائنه غير نافذة ﴿يُنْفِقُ﴾ منها ﴿كَيْفَ يَشاءُ﴾ ويختار على من يشاء ، يوسع تارة ويضيّق اخرى ، على حسب ما تقتضيه حكمته.

فاليدان كناية عن القدرة ، والجود وإسناد البسط إليهما كناية عن غاية الجود ، حيث إنّ من له غاية الجود يعطي بيديه جميعا.

ثمّ ذمّهم بازدياد كفرهم بنزول الآيات ، بقوله : ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ﴾ وهم علماؤهم ورؤساؤهم - على ما قيل (١) - ﴿ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من القرآن ﴿طُغْياناً﴾ على طغيانهم ﴿وَكُفْراً﴾ على كفرهم السّابقين.

ثمّ ذكر ابتلاءهم بالعقوبات الدّنيويّة بقوله : ﴿وَأَلْقَيْنا﴾ وأوقعنا ﴿بَيْنَهُمُ﴾ وفي فرقهم ﴿الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ﴾ المستمرّتين ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ حيث إنّهم لمّا أنكروا الحقّ وعارضوا الرّسول طلبا للرّاحة ، وحفظا للجاه والرّئاسة ، ابتلاهم الله بسبب اختلاف العقائد والأهواء بالمشقّات الكثيرة ، والغموم الوفيرة ، فحرموا عن نيل مقاصدهم ، وفاتتهم سعادة الدّنيا والآخرة ، ولذلك التّخالف والتّباغض بينهم ﴿كُلَّما أَوْقَدُوا﴾ وأشعلوا ﴿ناراً لِلْحَرْبِ﴾ مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأثاروا فتنة بين المسلمين ﴿أَطْفَأَهَا اللهُ﴾ وأخمدها بإيقاع المنازعة والمعاداة فيهم ، فلا يتّفقون على رأي ، فيكون ذلك سببا لانصرافهم عن الحرب ، ومقهوريّتهم للمسلمين.

قيل : كان اليهود في أشدّ بأس وأمنع دار ، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم ، وكان الأوس والخزرج تتكثّر بمظاهرتهم ، فذلّوا وقهروا ، وقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بني قريظة ، وأجلى بني النّضير ، وغلب على خيبر وفدك ، فاستأصل الله شأفتهم حتّى إنّ اليوم تجد اليهود أذلّ النّاس (٢) .

ثمّ ذكر الله سبحانه غاية جهدهم في استخراج أنواع الحيل والمكر في تضعيف الإسلام ، مع غاية ذلّهم وضعفهم ، بقوله : ﴿وَيَسْعَوْنَ﴾ مع الوصف ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ليوقعوا ﴿فَساداً﴾ بين المسلمين.

قيل : إنّهم لمّا خالفوا حكم التّوراة سلّط الله عليهم بخت نصّر ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرّومي ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

﴿وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ في الأرض والسّاعين فيها لإثارة الفتن ، بل هو ممقوت عنده (٣) .

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤١٤.

(٢) تفسير الصافي ٢ : ٥٠.

(٣) تفسير الرازي ١٢ : ٤٥.

٤٠٧

النَّعِيمِ (٦٥)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ أهل الكتاب اعتقادا وعملا ، وتهجين طريقتهم ، وبّخهم على سفههم وخطأهم في الرأي بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ﴾ نزّهوا أنفسهم عن الرّذائل ، وأنصرفوا عن الكفر والعناد ، و﴿آمَنُوا﴾ بالرّسول ، وبما انزل إليه ﴿وَاتَّقَوْا﴾ الكفر والظّلم والإفساد وسائر المعاصي ، والله ﴿لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ﴾ ولسترنا عليهم بالعفو خطيئاتهم ﴿وَلَأَدْخَلْناهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ وخلّدناهم في العلّيّين ؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ.

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ

 وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)

ثمّ ذكر الفوائد الدّنيويّة للإيمان بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ وعملوا بأحكامهما ، وحفظوهما من التّحريف والتّغيير ، ووفوا بما فيهما من العهد عليهم بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ من سائر الكتب السّماويّة ، أو القرآن العظيم المصدّق لكتبهم ، والله (١)﴿لَأَكَلُوا﴾ وارتزقوا من البركات السّماويّة التي تنزل عليهم ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ وَ﴾ ممّا يخرج ﴿مِنْ﴾ الأرض التي ﴿تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ من الحبوب والفواكه والنّباتات.

وفيه تنبيه على أنّ ما أصابهم من الضّنك والضّيق إنّما هو من شؤم جناياتهم وسيّئات أعمالهم ، ولو تركوها لوجدوا سعادة الدّنيا من سعة الرّزق والعزّ والجاه ، وسعادة الآخرة من النّجاة من العذاب والفوز بالجنّة والنّعم الدّائمة ، فلا قصور في فيض الفيّاض.

ومع ذلك كان محلّ الأسف أنّ قليلا ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ﴾ وجماعة ﴿مُقْتَصِدَةٌ﴾ عادلة غير مائلة إلى طرق الإفراط والتّفريط ، وغير منحرفة عن نهج الحقّ والطّريق المستقيم إلى الغلوّ والتّقصير.

عن القمّي رحمه‌الله : قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسمّاهم الله مقتصدة (٢) .

﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾ قيل : فيه معنى التّعجّب. والمعنى : ما أسوأ عملهم ! وهم الّذين أقاموا على الجحود ، وأصرّوا على الكفر (٣) والضّلال ، وعارضوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ

__________________

(١) قوله : ( والله ) يشير إلى وجود قسم ، وليس ثمّة قسم في الآية.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٧١ ، تفسير الصافي ٢ : ٥١.

(٣) تفسير الصافي ٢ : ٥١.

٤٠٨

يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)

ثمّ لمّا وصف الله سبحانه المقتصدين منهم بالقلّة ، والجاحدين المتمرّنين منهم على الكفر والعناد بالكثرة ، حثّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّبليغ وعدم المبالاة بكثرة الأعداء الجاحدين ، مع وعده بالعصمة من شرّ الأعداء بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ إلى النّاس ﴿ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ في عليّ ، على ما تضافر عنهم عليهم‌السلام وقالوا : « كذا نزلت » (١) .

ثمّ هدّد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ترك التّبليغ إعذارا له وإظهارا للاهتمام بالأمر بقوله : ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ ما أمرتك من تبليغ هذا الذي أنزل في عليّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتمته ﴿فَما بَلَّغْتَ﴾ من قبل الله إلى النّاس ﴿رِسالَتَهُ﴾ وما امرت من أوّل بعثتك بتبليغه ؛ لعدم ترتّب الفائدة على سائر الأحكام التي بلّغتها بدون تبليغ هذا الأمر ، فتكون بترك تبليغ ولاية عليه‌السلام عليّ بمنزلة تارك التّبليغ رأسا ، ويكون عقابك عقابه ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ﴾ ويحفظك ﴿مِنْ﴾ شرّ ﴿النَّاسِ﴾ وضرّهم ، فلا تخف منهم ولا تبال بهم.

ثمّ أكّد سبحانه وعده بعصمته وحفظه بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي﴾ إلى نيل المقاصد ﴿الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ ولا يمكّنهم من إنفاذ مرامهم.

قيل : بنزولها في قضيّة الرّجم والقصاص (٢) . وقيل : في قضيّة أخذ الأعرابي سيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإرادته قتله فسقط من يده (٣) . وقيل : في أمر زيد وزينب بنت جحش (٤) . وقيل : في حقوق المسلمين (٥) . وقيل : في استهزاء اليهود وسكوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم (٦) . وقيل : في سكوت النبيّ عن تعييب الأصنام (٧) . وقيل : في تبليغ حكم الجهاد (٨) . وقيل : لرفع مهابة قريش وأهل الكتاب من قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين عابهم (٩) .

أقول : لا شبهة في نزولها في حجّة الوداع ، فتلك الوجوه التي ذكرها مفسّرو العامّة غير مناسبة لنزولها في الوقت المذكور.

ثمّ أنّ الفخر الرازي بعد نقل الوجوه المذكورة عن العامّة في تفسيره قال : العاشر - أي من الوجوه - : أنّها نزلت في فضل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه » ، فلقيه عمر فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عبّاس ، والبرّاء بن عازب ، ومحمّد بن علي (١٠) .

أقول : قال آية الله العلّامة الحلّي في ( نهج الحقّ ) بعد ذكر الآية الشّريفة : نقل الجمهور أنّها نزلت في فضل عليّ عليه‌السلام يوم غدير خمّ ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد عليّ عليه‌السلام وقال : « أيّها النّاس ، أ لست أولى

__________________

(١) تفسير الصافي ٢ : ٥١.

(٢) تفسير الرازي ١٢ : ٤٩.

( ٣ و٤ و٥ ) . تفسير الرازي ١٢ : ٤٩.

٤٠٩

منكم بأنفسكم ؟ » . قالوا : بلى يا رسول الله. قال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، وأخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه كيفما دار » (١) .

وقال فضل بن روزبهان ردّا على العلّامة : أمّا ما ذكره من إجماع المفسرين على أنّ الآية نزلت في عليّ فهو باطل ، فإنّ المفسّرين لم يجتمعوا (٢) على هذا ، وأمّا ما روي [ من ] أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكره يوم غدير [ خمّ ] حين أخذ بيد عليّ قال : « أ لست أولى » ، فقد ثبت هذا في الصّحاح(٣) .

وقال القاضي نور الله التّستري ( نوّر الله مضجعه ) ، في ردّ النّاصب ابن روزبهان ، وإثبات رواية العلّامة ( أعلى الله في الخلد مقامه ) : روي الحديث - يعني ما ذكره العلّامة - في صحاح القوم كالبخاري ، ورواه أحمد بن حنبل إمامهم في مسنده بطرق متعدّدة على الوجه الذي ذكره المصنّف ، وكذا رواه الثّعلبي في تفسيره ، وابن المغازلي الشّافعي في كتاب ( المناقب ) من طرق شتّى ، وابن عقدة في مائة وخمسة طرق ، وذكر الشّيخ ابن كثير الشّامي الشّافعي عند ذكر أحوال محمّد بن جرير الطّبري : أنّي رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلّدين ضخمين ، ونقل عن ابن أبي المعالي الجويني أنّه كان يتعجّب ويقول : شاهدت مجلّدا ببغداد في يد صحّاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه : المجلّد الثامن والعشرون من طرق « من كنت مولاه فعليّ مولاه » ويتلوه المجلّد التاسع والعشرون ، وأثبت الشّيخ ابن الجوزي الشافعي في رسالته الموسومة ب ( أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ) تواتر هذا الحديث.

إلى أن قال القاضي : وبالجملة قد بلغ هذا الخبر في الاشتهار إلى حدّ لا يوازى به خبر من الأخبار ، وتلقّته محقّقو الأمّة بالقبول ، أنتهى (٤) .

وفي ( الجوامع ) ، عن ابن عبّاس ، وجابر بن عبد الله : أنّ الله أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينصب عليّا للنّاس ويخبرهم بولايته ، فتخوّف أن يقولوا : حامى ابن عمّه ، وأنّ يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه. فنزلت هذه الآية ، فأخذ بيده يوم غدير خمّ وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » وقرأها(٥).

وفي ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام - في حديث - : « ثمّ نزلت الولاية ، وإنّما أتاه ذلك يوم الجمعة بعرفة ، أنزل الله تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(٦) ، وكان كمال الدّين بولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال عند ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : امّتي حديثو عهد بالجاهليّة ، ومتى أخبرتهم بهذا

__________________

(١) نهج الحق : ١٧٣.

(٢) في المصدر : لم يجمعوا.

(٣) إحقاق الحق ٢ : ٤٨٢.

(٤) إحقاق الحق ٢ : ٤٨٥.

(٥) جوامع الجامع : ١١٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٥١.

(٦) المائدة : ٥ / ٣.

٤١٠

في ابن عمّي يقول قائل ، ويقول قائل ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق لساني ، فأتتني عزيمة من الله بتلة (١) ، أوعدني إن لم أبلّغ أن يعذّبني ، فنزلت : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ الآية ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد عليّ عليه‌السلام فقال : أيّها النّاس ، إنّه لم يكن نبيّ من الأنبياء ممّن كان قبلي إلّا وقد عمّره الله ثمّ دعاه فأجابه ، فاوشك أن ادعى فاجيب ، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ، فقالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وأدّيت ما عليك ، فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين ، فقال : اللهمّ اشهد - ثلاث مرّات - ثمّ قال : يا معشر المسلمين ، هذا وليّكم من بعدي ، فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب»(٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : « كان والله ، أمين الله على خلقه وغيبه ودينه الذي أرتضاه لنفسه »(٣).

وعنه عليه‌السلام : « أمر الله عزوجل رسوله بولاية عليّ عليه‌السلام وأنزل عليه : ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ(٤) الآية ، وفرض ولاية اولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله محمّدا ، أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ ، فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتخوّف أن يرتدّوا عن دينهم وأن يكذّبوه ، فضاق صدره وراجع ربّه عزوجل ، فأوحى الله إليه : ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ الآية ، وصدع بأمر الله تعالى ذكره ، فقام بولاية عليّ عليه‌السلام يوم غدير خمّ ، فنادى : الصّلاة جامعة ، وأمر النّاس أن يبلّغ الشّاهد الغائب » .

قال عليه‌السلام : « وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الاخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عزوجل : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ قال : يقول الله عزوجل : لا انزل عليكم بعدها فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض » (٥) . الخبر ، إلى غير ذلك من الرّوايات.

ومع ذلك قال الفخر الرازي : واعلم أنّ الرّوايات وإن كثرت إلّا أنّ الأولى حمله على أنّه تعالى آمنه من اليهود والنّصارى ، وأمره بإظهار التّبليغ من غير مبالاة منه بهم وذلك لأنّ ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لمّا كان كلاما مع اليهود والنّصارى ، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبيّة عمّا قبلها وما بعدها (٦) .

وفيه : أنّ الظّاهر أن الله آمنه من ضرر جميع الكفّار سواء أكانوا يهودا أو نصارى أو غيرهم من المجوس والمشركين ، والمرتدّين في زمانه ، والمنافقين ، كأصحاب الصّحيفة الملعونه والعقبة. ومن المعلوم أنّ العامّ ليس أجنبيّا عن الخاصّ ، مع أن الظّاهر بل المتيقّن أنّ الآية نزلت بعد تبليغ غالب

__________________

(١) أي قاطعة.

(٢) الكافي ١ : ٢٢٩ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٥٢.

(٣) الكافي ١ : ٢٣٠ / ٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٥٢.

(٤) المائدة : ٥ / ٥٥.

(٥) الكافي ١ : ٢٢٩ / ٤ ، تفسير الصافي ٢ : ٥٢.

(٦) تفسير الرازي ١٢ : ٥٠.

٤١١

الأحكام ، بل بعد تكميل الدّين ، فلو كان المقصود تأمينه في تبليغ مطلق الأحكام كان الأنسب نزولها في أوائل البعثة ، أو في أوائل الهجرة ، والحال أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كسر الأصنام ووبّخ المشركين مع غاية شوكتهم وحرصهم على عبادتها ، ولعن اليهود والنّصارى على رؤوس الأشهاد ، وحوّل القبلة من البيت المقدّس إلى الكعبة ، وقاتل المشركين واليهود ، ولم ينقل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله خوف في مورد من الموارد.

والحاصل : أنّه لم يكن للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خوف في تبليغ الأحكام وتعليم العقائد سيّما بعد تذليل اليهود ، وقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النّضير ، وفتح قلاع خيبر وفدك ، مع أنّه ليس من شأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الخوف من الأعداء في التّبليغ لعلمه بأنّ الله يحفظه حتّى يتمّ الحجّة.

وبعد تكميل الدّين وإتمام الحجّة على العالمين ، يكون مجال الخوف من القتل عند تبليغ آخر الأحكام ، وهو وجوب طاعة الإمام والخليفة بعده ، فاحتاج إلى التّأمين فيه من العدوّ فامنه بقوله : ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ﴾ ويشهد لذلك ما رواه كثير من العامّة في شأن نزول آية ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ(١) .

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ

 إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا

 تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد تسفيه أهل الكتاب في ترك العمل بما أنزل الله ، وتخطئتهم في عدم الإيمان بالقرآن ، وتأمين الرّسول من ضرر الكفّار ، أمره بتغليظ القول عليهم في ترك العمل بالكتب السّماويّة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لليهود والنّصارى تحقيرا لهم ، وتصغيرا لشأنهم : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ﴾ من الدّين ، ولا يكون في قولكم وفعلكم شيء من الحقّ والصّواب ﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من سائر الكتب السّماويّة ، أو من القرآن العظيم ، وتؤمنوا بجميعها ، وتوفوا بعهد الله الذي فيها من وجوب الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكتابه ، وتلتزموا بما فيها.

ثمّ بيّن غاية خبثهم وشدّة عداوتهم بقوله : ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من الآيات الدالّة على صدقك في النّبوّة ﴿طُغْياناً﴾ وعتوّا ﴿وَكُفْراً﴾ وجحودا ، فإذا كانوا بهذه المرتبة من الخباثة والعناد ﴿فَلا تَأْسَ﴾ ولا تحزن ﴿عَلى﴾ زيادة كفر ﴿الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ فإنّ ضرر ذلك

__________________

(١) المعارج : ٧٠ / ١ ، راجع : تفسير القرطبي ١٨ : ٢٧٨ ، وتفسير أبي السعود ٩ : ٢٩ ، والدر المنثور ٨ : ٢٧٧ ، والغدير ١ : ٢٣٠.

٤١٢

راجع إليهم ، لا إليك ولا إلى المسلمين.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ

 الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)

ثمّ أنّه تعالى بعد تغليظ القول على الكافرين من أهل الكتاب ، أظهر اللّطف بالمؤمنين منهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وكتبه ورسله ﴿وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ الّذين هم أشدّ الفرق كفرا وضلالا ﴿وَالنَّصارى﴾ خصوص ﴿مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ قد مرّ تفسيره في البقرة (١) .

قيل : فيها تنبيه على أن لا فضيلة لأحد إلّا بالإيمان والعمل الصّالح من غير فرق بين من آمن أوّلا ، أو بعد الكفر ، فمن اتّصف بالوصفين كان له الأمن في القيامة (٢) .

أقول : لا شكّ في فضيلة الأوّل على الثّاني.

﴿لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا

 تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتذكّر أنّ خبث ذات طائفة بني إسرائيل وعتوّهم بنقض عهد الله ، وقتل الأنبياء واتباع الهوى ، ليس مختصّا بزمانه بقوله : ﴿لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ بالتوحيد والإيمان ، والعمل بأحكام التّوراة ﴿وَأَرْسَلْنا﴾ مع ذلك العهد ﴿إِلَيْهِمْ﴾ بعد موسى ﴿رُسُلاً﴾ كثيرة ليذكّروهم العهد ، ويبيّنوا أحكام دينهم.

ثمّ كأنّه قيل : فما عاملوا (٣) مع الرسل ؟ فأجاب بقوله : ﴿كُلَّما جاءَهُمْ﴾ من قبل الله ﴿رَسُولٌ﴾ من اولئك الرّسل ﴿بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ﴾ ولا يوافق شهواتهم من التّكاليف الشّاقّة عليهم ، والأحكام غير المرضيّة لهم ، خالفوه وعادوه.

ثمّ كأنّه قيل : كيف خالفوا الرّسل ، وما عاملوا (٤) معهم ؟ فأجاب سبحانه بقوله : ﴿فَرِيقاً﴾ منهم ﴿كَذَّبُوا﴾ هم من غير أن يتعرّضوا لهم بالإضرار والقتل ﴿وَفَرِيقاً﴾ آخر منهم كانوا ﴿يَقْتُلُونَ﴾ هم كزكريّا ويحيى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٢.

(٢) تفسير روح المعاني ٦ : ٢٠٣.

(٣ و٤) . كذا ، والظاهر : كيف تعاملوا.

٤١٣

﴿وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ

 مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة جرأتهم على الأنبياء بقوله : ﴿وَحَسِبُوا﴾ وظنّوا لغرورهم بكونهم أولاد الأنبياء ، وأنّهم بشفاعتهم يدفعون عنهم العذاب ﴿أَلَّا تَكُونَ﴾ لهم بمعاصيهم ﴿فِتْنَةٌ﴾ وبلاء من الله ﴿فَعَمُوا﴾ عن رؤية الآيات ، وكفّ بصرهم عن إدراك المعجزات ﴿وَصَمُّوا﴾ عن استماع الحقّ الذي ألقى إليهم الرّسل.

قيل : كانت تلك الحالة إلى زمان داود وسليمان عليهما‌السلام ﴿ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ(١) بسبب إيمانهم بهما ، وانقيادهم لهما ﴿ثُمَّ عَمُوا﴾ عن الدّين وطريق الهداية ﴿وَصَمُّوا﴾ عن استماع مواعظ الأنبياء مرّة اخرى ، ولكن لا كلّهم بل ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ بعد بعثة عيسى عليه‌السلام وخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ قليلا منهم آمنوا بهما.

قيل : إنّهم أفسدوا حتّى سلّط الله عليهم بخت نصّر ، فقتل من أهل بيت المقدس أربعين ألفا ممّن يقرأ التّوراة ، وذهب بالبقيّة إلى أرضه ، فبقوا هنالك على أقصى ما يكون من الذّل والنّكد إلى أن أحدثوا توبة صحيحة ، فردّهم الله إلى أحسن حال ، ثمّ أفسدوا مرّة أخرى فسلّط الله عليهم ملك بابل (٢) .

ثمّ هدّدهم على سيّئاتهم بقوله : ﴿وَاللهُ بَصِيرٌ﴾ وخبير ﴿بِما يَعْمَلُونَ﴾ من تكذيب الرّسل وقتلهم ، وسائر معاصيهم.

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي

 إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ

 وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد الفراغ من ذمّ اليهود ، شرع في ذمّ النّصارى وبيان غاية كفرهم وضلالهم ، فبدأ بذكر الفرقة التي هي أضلّ فرقهم بقوله : ﴿لَقَدْ كَفَرَ﴾ القوم ﴿الَّذِينَ قالُوا﴾ وأعتقدوا ﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ وهم اليعقوبيّة القائلون بحلول الله في عيسى ، واتّحاده معه ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿قالَ الْمَسِيحُ﴾ حين كونه فيهم ﴿يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ﴾ ولا تشركوا به شيئا ، وخصّوه بالخضوع والطّاعة لكونه ﴿رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ وخالقي وخالقكم.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٥٨.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢١.

٤١٤

واعلموا أنّه قد اوحي إليّ ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ﴾ شيئا في الالوهيّة والعبوديّة ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾ فلن يدخلها أبدا لأنّها دار الموحّدين ﴿وَمَأْواهُ﴾ ومسكنه في الآخرة هو ﴿النَّارُ﴾ لأنّها معدّة للمشركين ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الشّرك ﴿مِنْ أَنْصارٍ﴾ ينصرونهم ويدفعون عنهم العذاب بالغلبة أو الشّفاعة.

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا

 عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)

ثمّ ذمّ سبحانه الفرقة الاخرى منهم ، وهم الملكانيّة أو النّسطوريّة - على ما قيل (١) - وحكم بكفرهم أيضا بقوله : ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَ﴾ عيسى وامّه إلهان ، وإنّ ﴿اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ آلهة ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿ما مِنْ إِلهٍ﴾ ومعبود مستحقّ بالذّات للعبوديّة ﴿إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ﴾ ومعبود فارد ، هو الواجب الوجود ، الكامل الصّفات.

ثمّ هدّد الفريقين بقوله : ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا﴾ ولم يرتدعوا ﴿عَمَّا يَقُولُونَ﴾ ويعتقدون من الشّرك بالله ﴿لَيَمَسَّنَ﴾ وليصيبنّ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وثبتوا على الشّرك ﴿مِنْهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ﴾ بالنّار ﴿أَلِيمٌ﴾ في الغاية.

﴿أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)

ثمّ أنشأ معنى التّعجّب من اختيارهم هذه الأقاويل الفاسدة ، وإصرارهم عليها ، وأنكر عليهم ترك التّوبة حثّا عليها بقوله : ﴿أَ فَلا يَتُوبُونَ﴾ .

قيل : إنّ التّقدير : أيصرّون على الكفر ، فلا يتوبون (٢) ؟ ! ﴿إِلَى اللهِ﴾ حتّى يتوب عليهم ﴿وَ﴾ لا ﴿يَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ حتّى يغفر لهم ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لمن عصاه بالكفر أو غيره من المعاصي إن آمن وتاب ﴿رَحِيمٌ﴾ بمن استرحمه.

﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا

 يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)

ثمّ بيّن سبحانه غاية شأن عيسى وامّه بقوله : ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ الذي تغلون في شأنه ﴿إِلَّا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٢.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٣.

٤١٥

رجل مخلوق لله ، ومربوب له ، وإنّما امتاز عن غيره بأنّه ﴿رَسُولٌ﴾ ومبلّغ عن الله شرائعه وأحكامه ، وله معجزات باهرة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت في العالم ﴿مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ الكثيرة ، خصّهم بالمعاجز العظيمة ؛ كاليد البيضاء ، وإحياء العصا وجعلها ثعبانا ، وفلق البحر ، وغير ذلك ، ولم يدّع أحد ألوهيّتهم بظهور المعجزات منهم ، هذا شأن عيسى عليه‌السلام ، ﴿وَ﴾ أمّا ﴿أُمُّهُ﴾ مريم فإنّها أيضا امرأة مخلوقة ، غاية شأنها أنّها ﴿صِدِّيقَةٌ﴾ موقنة ، مصدّقة بكلمات ربّها وكتبه كسائر الصدّيقات ، مثل حوّاء وآسية. وأدلّ الدّليل على عدم كونهما إلهين أنّهما ﴿كانا﴾ في الدّنيا ﴿يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ والإله الخالق منزّه عن الحاجة إلى الطّعام والشّراب.

في ( العيون ) : عن الرضا عليه‌السلام : « معناه : أنّهما كانا يتغوّطان » (١) .

والقمّي : « كانا يحدثان ، فكنّى عن الحدث ، وكلّ من أكل الطّعام يحدث » (٢) .

أقول : عليه بعض مفسّري العامّة (٣) .

عن ( الاحتجاج ) : عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، في جواب الزّنديق ، قال : « وأمّا هفوات ا لأنبياء وما بيّن الله في كتابه ، فإنّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة الله الباهرة » إلى أن قال : « ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى ، حيث قال فيه وفي امّه : ﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ يعني : أنّ من أكل الطّعام كان له ثقل (٤) ، ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا أدّعته النّصارى لابن مريم » (٥) .

ثمّ باهى سبحانه بإبطال عقيدتهم بأحسن بيان بقوله : ﴿انْظُرْ﴾ يا محمّد ﴿كَيْفَ نُبَيِّنُ﴾ ونوضّح ﴿لَهُمُ الْآياتِ﴾ ونقيم البراهين المحكمات على بطلان عقائدهم.

ثمّ بالغ سبحانه في الإعلان بغاية ضلالتهم وبعدهم عن الحقّ بقوله : ﴿ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ وكيف يصرفون عن الحقّ واستماع الآيات والتّأمّل فيها.

﴿قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ

 الْعَلِيمُ (٧٦)

ثمّ أمر سبحانه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتوبيخهم ، وإقامة البرهان على فساد عقيدتهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء النصارى : ﴿أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وممّا سواه ﴿ما لا يَمْلِكُ﴾ بنفسه وبذاته ﴿ضَرًّا﴾ من

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠١ / ١ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.

(٣) راجع : تفسير القرطبي ٦ : ٢٥٠.

(٤) كذا في المصدر والنسخة ، والظاهر : ثفل ، كما في تفسير الصافي ، والثفل : ما سفل أو رسب من كل شيء.

(٥) الاحتجاج : ٢٤٩ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٣.

٤١٦

الآلام والأسقام والفقر ﴿وَلا نَفْعاً﴾ من الصحّة والغنى والعزّ.

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بعقائدهم ، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ

 ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد تفضيح أهل الكتاب وذمّهم وتوبيخهم ، أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصحهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، مخاطبا للفريقين : ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا﴾ ولا تجاوزوا ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ وعقائدكم عن الحدّ غلوّا وتجاوزا ﴿غَيْرَ الْحَقِ﴾ كادّعاء الوهيّة عيسى وامّه ، وبنوّة عزير لله ﴿وَلا تَتَّبِعُوا﴾ في العقائد والأعمال ﴿أَهْواءَ قَوْمٍ﴾ وميول أنفس جمع جمعوا جميع مراتب الضّلال ، وهم أسلافهم وأئمّتهم الّذين ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ عن الحقّ ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي الأزمنة السّابقة على بعثة خاتم الرّسل ﴿وَأَضَلُّوا كَثِيراً﴾ ممّن تابعهم على ضلالهم وبدعهم ﴿وَضَلُّوا﴾ بعد ظهور نور الإسلام ﴿عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ والنّهج الحقّ المستقيم الذي دعوا إليه.

﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ

 بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا

 يَفْعَلُونَ (٧٩)

ثمّ لمّا نهاهم الله عن اتّباع الأسلاف لكونهم في غاية الضّلال والإضلال ، وكانوا مفتخرين بأنّهم كانوا من أولاد الأنبياء ، بالغ سبحانه في ذمّهم بكون أسلافهم ملعونين في ألسنة الأنبياء بقوله : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ مع كونهم أقرب منكم إلى الأنبياء ، وقد كان لعنهم ﴿عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ .

في ذكر مسخ بني إسرائيل قردة وخنازير

عن الباقر عليه‌السلام : « أمّا داود فإنّه لعن أهل أيلة (١) لمّا اعتدوا في سبتهم ، وكان اعتداؤهم في زمانه ، فقال : اللهمّ ألبسهم اللّعنة مثل الرّداء على المنكبين ، ومثل المنطقة (٢) على الحقوين (٣) ، فمسخهم الله قردة ، وأمّا عيسى عليه‌السلام فإنّه لعن الّذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك » (٤) .

__________________

(١) أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام ، وهي مدينة لليهود الذين حرّم الله عليهم صيد السمك يوم السبت فخالفوا ، فمسخوا قردة وخنازير.

(٢) المنطقة : ما يشدّ في الوسط.

(٣) الحقو : الخصر.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٥٧ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٧٤.

٤١٧

وزاد في ( الجوامع ) : « فقال عيسى عليه‌السلام : اللهمّ عذّب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السّبت فصاروا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل»(١).

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : « الخنازير على لسان داود ، والقردة على لسان عيسى بن مريم » (٢) . وبه قال أكثر المفسّرين ، على ما قيل (٣) .

ثمّ كأنّه قيل : بأيّ سبب وقع ذلك ؟ (٤) فأجاب بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ اللّعن والمسخ وقع ﴿بِما عَصَوْا﴾ الله.

القمّي رحمه‌الله : كانوا يأكلون لحم الخنزير ، ويشربون الخمر ، ويأتون النّساء أيام حيضهنّ (٥)﴿وَكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ على النّاس ، أو يبالغون في العصيان ، وفي ارتكاب ما حرّم الله عليهم.

ثمّ بيّن كيفيّة مبالغتهم في المعصية بقوله : ﴿كانُوا لا يَتَناهَوْنَ﴾ ولا يرتدعون ﴿عَنْ مُنكَرٍ﴾ وإثم ﴿فَعَلُوهُ﴾ .

وقيل : إنّ المعنى : لا ينهى بعضهم [ بعضا ] عن قبيح يعملونه ، وتصالحوا على السّكوت والكفّ عن النهي (٦) .

عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « لمّا وقع التّقصير في بني إسرائيل جعل الرّجل [ منهم ] يرى أخاه في الذّنب فينهاه فلا ينتهي ، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وجليسه وشريبه ، حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ونزل فيهم القرآن يقول جلّ وعزّ : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية » (٧) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لم يكونوا يدخلون مداخلهم ، ولا يجلسون مجالسهم ، ولكن إذا لقوهم (٨) أنسوا بهم » (٩) .

ثمّ قال سبحانه تعجيبا من سوء فعلهم مؤكّدا له بأنفسهم بقوله : ﴿لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ .

القمّي رحمه‌الله ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل [ عن ] قوم من الشّيعة يدخلون في أعمال السّلطان ، ويعملون لهم ، ويجبون لهم ويوالونهم ؟ قال : « ليس هم من الشّيعة ، ولكنّهم من اولئك ، ثمّ قرأ : ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (١٠) .

__________________

(١) جوامع الجامع : ١١٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٤.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، الكافي ٨ : ٢٠٠ / ٢٤٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٤.

(٣) راجع : تفسير الرازي ١٢ : ٦٣.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٥.

(٥) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٥.

(٦) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٥.

(٧) ثواب الأعمال : ٢٦٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٥.

(٨) في تفسير العياشي : ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و.

(٩) تفسير العياشي ٢ : ٦٧ / ١٣٢٢ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٥.

(١٠) تفسير القمي ١ : ١٧٦ ، تفسير الصافي ٢ : ٧٥.

٤١٨

أقول : أظنّ أن ذكر الآية سهو من الرّاوي ، فإنّ المناسب قوله : ﴿تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا(١) .

﴿تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ

 اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)

ثمّ لمّا وصف الله تعالى أسلافهم بفساد العقائد والأعمال ، ذمّ الحاضرين منهم بموالاة الكفّار بقوله: ﴿تَرى﴾ يا محمّد ﴿كَثِيراً مِنْهُمْ﴾ وهم كعب بن اشرف وأصحابه ، على ما قيل (٢) . ﴿يَتَوَلَّوْنَ﴾ ويتصادقون [ مع ]﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالإشراك بالله ، والله ﴿لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ وهيّأوا لسفر آخرتهم من الزّاد وهو ﴿أَنْ سَخِطَ اللهُ﴾ وغضب ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بتولّيهم الكفّار ، وبغضهم الرّسول والمؤمنين ﴿وَفِي الْعَذابِ﴾ بالنّار ﴿هُمْ﴾ في الآخرة ﴿خالِدُونَ﴾ مقيمون أبدا.

﴿وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً

 مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم ليسوا على دين موسى عليه‌السلام أيضا بقوله : ﴿وَلَوْ كانُوا﴾ هؤلاء اليهود الّذين يتولّون المشركين ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ عن صميم القلب ﴿بِاللهِ وَالنَّبِيِ﴾ الذي يدّعون أنّهم على دينه ، ويعترفون بنبوّته ، وهو موسى عليه‌السلام ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ من التّوراة ، ما تصادقوا [ مع ] المشركين ، و﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ﴾ لأنفسهم ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأحبّاء ؛ لأنّ حرمة مولاة المشركين متأكّدة في التّوراة وفي شرع موسى عليه‌السلام ﴿وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ خارجون عن دين موسى وحكم التّوراة ، وإنّما غرضهم من إظهار التديّن بأحكام التّوراة ودين موسى عليه‌السلام حفظ الجاه والرئاسة ، كذا قيل (٣) .

وقيل : إنّ المراد أنّ المشركين لو كانوا مؤمنين بالله وبمحمّد وكتابه ما اتّخذهم هؤالاء اليهود أولياء (٤) . وذلك بعيد في الغاية.

﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ

 أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ

 وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٨٠.

(٢) تفسير الرازي ١٢ : ٦٥.

(٣ و٤) . تفسير الرازي ١٢ : ٦٥.

٤١٩

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّهم بموالاة المشركين ، ذمّهم بمعاداة المؤمنين كمعاداة المشركين لهم بقوله : ﴿لَتَجِدَنَ﴾ بالله يا محمّد ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً﴾ وأكثرهم بغضا ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بك واتّبعوك ﴿الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ من العرب لشدّة حرص الفريقين على الدّنيا والجاه.

قيل : إنّ مذهب اليهود وجوب الإضرار بمن خالفهم في الدّين ، وأمّا النّصارى فمذهبهم كفّ الأذى عن الغير مطلقا (١) ، ولذا قال سبحانه : ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا﴾ وادّعوا ﴿إِنَّا نَصارى﴾ .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : المراد به النّجاشي وقومه الّذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنوا به ، ولم يرد جميع النّصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين (٢) .

قيل : إنّ الغرض من بيان التّفاوت تخفيف أمر اليهود على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، وتفريغ خاطره عنهم ، وعدم مبالاته بهم.

قيل : كان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصل في سبعين رجلا عليهم ثياب صوف ، منهم اثنان وستّون رجلا من الحبشة ، وثمانية من أهل الشّام منهم بحيرا الرّاهب ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم سورة يس إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، فآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل الله هذه الآية (٤) .

ثمّ كأنّه قيل : ما سبب كونهم أقرب مودّة ؟ (٥) فأجاب بقوله : ﴿ذلِكَ﴾ الأقربيّة التي قلنا ﴿بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ﴾ وعلماء ، ﴿وَ﴾ منهم ﴿رُهْباناً﴾ وعبّادا ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ بسبب علمهم وزهدهم ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن قبول الحقّ ، ولا يتأنّفون من الإيمان بك كاليهود.

قيل : كان الّذين آمنوا به أصحاب الصّوامع (٦) .

﴿وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ

 الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا

 مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا

 جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ

 الْمُحْسِنِينَ (٨٥)

__________________

( ١ و٢ و٣ ) . تفسير الرازي ١٢ : ٦٦.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٨.

(٥ و٦) . تفسير روح البيان ٢ : ٤٢٨.

٤٢٠