نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

المؤمنين عليه‌السلام آمنوا إقرارا لا تصديقا ، فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفروا وازدادوا كفرا (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « نزلت في فلان وفلان وفلان ، آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوّل الأمر ، ثمّ كفروا حين عرضت عليهم الولاية ؛ حيث قال [ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ] : من كنت مولاه فعليّ مولاه. ثمّ آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قالوا : بأمر الله وأمر رسوله. وبايعوه ، ثمّ كفروا حيث مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يقرّوا بالبيعة ، ثمّ ازدادوا كفرا بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم ، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء » (٢) .

وفي رواية عنهما عليهما‌السلام : « نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر [ قال ] : ﴿ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً﴾ حتى لم يبق فيه من الإيمان شيء » (٣) .

وفي رواية : « من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها ، ومن زعم أن الزّنا حرام ثمّ زنى ، ومن زعم أنّ الزّكاة حقّ ولم يؤدّها » (٤) .

أقول : بعض الرّوايات [ في ] بيان التّنزيل ، وبعضها [ في ] بيان التّأويل فلا منافاة.

ثمّ أنّه تعالى بعدما يأس المنافقين (٥) من المغفرة والهداية إلى الحقّ أو الجنّة ، أوعدهم بلفظ البشارة تهكّما بدخول النّار ، بقوله : ﴿بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ﴾ يا محمّد ﴿بِأَنَّ لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذاباً﴾ بالنّار ﴿أَلِيماً﴾ موجعا يخلص ألمه في قلوبهم.

﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ

 فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩)

ثمّ لمّا ذكر الله سوء حال المنافقين ، عرّفهم بقوله : ﴿الَّذِينَ﴾ هم ﴿يَتَّخِذُونَ﴾ ويختارون لأنفسهم ﴿الْكافِرِينَ﴾ من اليهود والمشركين ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأصدقاء ويركنون إليهم في العون والنّصرة ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين ، وبدلا منهم.

ثمّ أنكر عليهم الدّاعي لموالاتهم بقوله : ﴿أَ يَبْتَغُونَ﴾ ويطلبون لأنفسهم بموالاة الكفّار و﴿عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ والقوّة ، مع أنّهم أذلّاء عند الله ، فقد أخطأوا في ما توهّموه ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ﴾ والقوة والغلبة ﴿لِلَّهِ﴾ وحده ﴿جَمِيعاً﴾ وبتمام مراتبها ، ليس لأحد غيره وغير من جعلها له ، وهم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون ،

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٥٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٣.

(٢) الكافي ١ : ٣٤٨ / ٤٢ ، تفسير العياشي ١ : ٤٥١ / ١١٣٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٤٥٠ / ١١٣٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٣.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٤٥١ / ١١٣٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٣.

(٥) يقال : يأسه من كذا ، بمعنى أيأسه أو جعله ييأس.

٣٠١

كما قال : ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(١) .

عن القمّي : نزلت في بني اميّة ، حيث خالفوا [ نبيّهم على ] أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم (٢).

﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا

 تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ

 الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)

ثمّ قرع المنافقين الموافقين للكفّار مخاطبا بقوله : ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أيّها المنافقون آية ﴿فِي﴾ هذا ﴿الْكِتابِ﴾ الكريم ، يكون مفادها ﴿أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ﴾ من الكفّار ﴿آياتِ اللهِ﴾ حال كون تلك الآيات المقروءة ﴿يُكْفَرُ بِها﴾ وينكرون كونها من الله ﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِها﴾ عند قراءتها ﴿فَلا تَقْعُدُوا﴾ في مجلس الكفرة المستهزئين ، ولا تجالسوا ﴿مَعَهُمْ﴾ اختيارا ﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾ ويشرعوا ﴿فِي حَدِيثٍ﴾ وكلام ﴿غَيْرِهِ﴾ فإن قعدتم مع الكفّار في مجلس يكفرون بالآيات ويستهزئون بها ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ﴾ عند الله في الكفر والعقاب ، أو في الإثم ، لقدرتكم على الإنكار وترك المجالسة.

نقل الفخر الرازي عن المفسّرين : أنّ المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به ، فأنزل الله : ﴿وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ(٣) ، وهذه الآية نزلت بمكّة.

ثمّ أنّ أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين ، والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون ، فقال تعالى مخاطبا للمنافقين : إنّه ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ﴾ الآية (٤) ، فدلّت الآية على أنّ الرّاضي بالفسق ، والحاضر في مجلسه مع قدرته على الإنكار ، في حكم المباشر وإن لم يرتكب.

عن الرضا عليه‌السلام ، في تفسير الآية : « إذا سمعت الرّجل يجحد الحقّ ، ويكذّب به ، ويقع في أهله ، فقم من عنده ولا تقاعده » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « وفرض الله [ على السمع ] أن يتنزّه عن الاستماع [ إلى ] ما حرّم الله ، وأن يعرض عمّا (٦) نهى الله عنه ، والإصغاء إلى ما أسخط الله ، فقال في ذلك : ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) المنافقون : ٦٣ / ٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٥٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٣.

(٣) الأنعام : ٦ / ٦٨.

(٤) تفسير الرازي ١١ : ٨١.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٤٥١ / ١١٣٥ ، مجمع البيان ٣ : ١٩٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٤.

(٦) زاد في تفسير العياشي والكافي : لا يحل له مما.

٣٠٢

الْكِتابِ﴾ الآية ، ثمّ استثنى موضع النّسيان فقال : ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١) .

القمّي رحمه‌الله : آيات الله : هم الأئمّة عليهم‌السلام (٢) .

ثمّ حقّق سبحانه كون المنافقين الموافقين للكفّار مثلهم في العقاب ، بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ﴾ القاعدين مع المستهزئين بالقرآن ﴿وَالْكافِرِينَ﴾ المقعود معهم يوم القيامة ﴿فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ

 لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ

 بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)

ثمّ عرّف المنافقين بتعريف آخر بقوله : ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ﴾ وينتظرون ﴿بِكُمْ﴾ وبما يحدث لكم في جهاد الكفّار ﴿فَإِنْ كانَ﴾ وحصل ﴿لَكُمْ﴾ في جهاد ﴿فَتْحٌ﴾ وظفر ﴿مِنَ﴾ جانب ﴿اللهِ﴾ وبعونه وتأييده ﴿قالُوا﴾ طلبا لقسمة من الغنيمة ﴿أَ لَمْ نَكُنْ﴾ موافقين ﴿مَعَكُمْ﴾ في الدّين والدّعوة إلى الإسلام ، مظاهرين لكم في القتال فأشركونا في الغنائم ﴿وَإِنْ كانَ﴾ بحسب الاتّفاق ﴿لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ وحظّ من الغلبة على المسلمين ﴿قالُوا﴾ للكافرين تحبّبا لهم ﴿أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ﴾ ولم نستول ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ولم نكن متمكّنين من قتلكم وأسركم بمظاهرة المسلمين فكففنا عنكم ، ﴿وَ﴾ ألم ﴿نَمْنَعْكُمْ﴾ ونحفظكم ﴿مِنَ﴾ بأس ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأن خيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ، وتوانينا من مظاهرتهم عليكم؟

قيل : إنّ الكفّار واليهود أرادوا الدّخول في الإسلام ، فحذّرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم عنه ، وقالوا لهم : إنّه سيضعف أمر محمّد ويقوى أمركم. فإذا اتّفقت لهم الصّولة قالوا : ألسنا غلبنا على رأيكم في الدّخول في الإسلام ، ومنعناكم منه ، فلذا فادفعوا إلينا نصيبا ممّا أصبتم.

وإنّما سمّى الله غلبة المؤمنين فتحا ، وغلبة الكفّار نصيبا ، تعظيما لشأن غلبة المسلمين ، وتحقيرا لغلبة الكافرين (٣) .

ثمّ لمّا أجرى الله على المنافقين حكم الإسلام في الدّنيا لمصلحة رغبة العموم في الإسلام

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٤٥٢ / ١١٣٧ ، الكافي ٢ : ٢٩ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٤ ، والآية من سورة الأنعام : ٦ / ٦٨.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٥٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٤.

(٣) تفسير الرازي ١١ : ٨٢.

٣٠٣

الظّاهري وغيرها ، وعد التّفريق بين المؤمنين الخلّص ، وبيّن المنافقين في الآخرة مخاطبا لجميعهم بقوله : ﴿فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيّها الفريقان بالفرق والامتياز في الظّاهر ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بإكرام المؤمنين الخلّص (١) وإعطائهم الثّواب الجزيل ، وإذلال المنافقين وإدخالهم النّار.

ثمّ لمّا أثبت الله للكفّار الغلبة الاتّفاقيّة بالسّيف ، نفى عنهم الغلبة على المؤمنين بالحجّة بقوله : ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ﴾ ولم يفتح لهم ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ بالحجّة أبدا ، وإن اتّفق لهم عليهم أحيانا وبحسب الحكمة سبيلا في القوّة.

في معنى عدم جعل السبيل للكفار على المؤمنين

عن الرضا عليه‌السلام - في رواية - أنّه قيل له : قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام لم يقتل ، وأنّه ألقي شبهة على حنظلة بن أسعد الشّامي (٢) ، وأنّه رفع إلى السّماء كما رفع عيسى بن مريم ، ويحتجّون بهذه الآية : ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً

فقال عليه‌السلام : « كذبوا ، عليهم غضب الله ولعنته ، وكفروا بتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخباره بأنّ الحسين عليه‌السلام سيقتل ، والله لقد قتل الحسين عليه‌السلام ، وقتل من كان خيرا من الحسين ؛ أمير المؤمنين ، والحسن بن عليّ ، وما منّا إلّا مقتول ، وإنّي لو الله مقتول باغتيال من يغتالني ، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين.

فأمّا قوله عزوجل : ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ فإنّه يقول : لن يجعل الله لكافر على مؤمن حجّة ، ولقد أخبر الله عن كفّار قتلوا النّبيّين بغير الحقّ ، ومع قتلهم إيّاهم لن يجعل الله لهم على أنبيائهم سبيلا من طريق الحجّة » (٣) .

وقيل : إنّ المراد من عدم جعل السّبيل في القيامة وقيل : إنّه عامّ في الكلّ إلّا ما خصّه الدّليل(٤).

أقول : الظّاهر أنّ المراد من جعل الله في المقام : الجعل التّشريعي لا التّكويني ، ولا الأعمّ منهما حتّى يشمل الغلبة في الحرب والمصارعة وأمثالهما ، ويمكن أن يكون أعمّ من جعل الآيات الدّالّة على الحقّ والأحكام الوضعيّة أو التّكليفيّة ، الموجبة لاستيلاء الكفار على المؤمنين ، ولذا استدلّ الفقهاء بهذه الآية في مسائل :

منها : عدم جواز إبقاء العبد المسلم في ملك الكافر ، بل يقهر الكافر على بيعه من مسلم ، فإن امتنع

__________________

(١) في النسخة : الخلّصين.

(٢) كذا ، وروي الشبامي ، وشبام بطن من همدان ، انظر : كتاب أنصار الحسين عليه‌السلام : ٧٠ / ١٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٣ / ٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٤.

(٤) تفسير الرازي ١١ : ٨٣.

٣٠٤

باعه الحاكم عليه ، ويسلّم ثمنه إليه.

منها : أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم من الكافر.

منها : أنّه لا يصحّ إيجاز العبد المسلم للكافر.

منها : أنّه لا يجوز إيجار الحرّ المسلم نفسه من الكافر للخدمة ، وأمّا لغيرها فلا يجوز إذا كان أجيرا خاصّا.

منها : رهن العبد المسلم عند الكافر مع قبضه له.

منها : عدم صحّة جعله وصيّا على صبيّ مسلم.

منها : عدم صحّة إعارة العبد المسلم للكافر. إلى غير ذلك ، وإن كان في كثير من الفروع نظر.

﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

 يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى

 هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)

ثمّ لمّا بيّن الله سبحانه خدع المنافقين بالمؤمنين والكافرين ، بيّن إفراطهم في الخدعة بقوله : ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ﴾ ويمكرونه. وقد مرّ تفسير خدعهم بالله (١) في سورة البقرة (٢) .

وقيل : إنّ المراد بخدعهم بالله : خدعهم برسوله والمؤمنين ، تنزيلا لخدعهم بهم بإظهار الإيمان وإبطان الكفر منزلة خدعهم له تعالى (٣) .

﴿وَهُوَ خادِعُهُمْ﴾ ومجازيهم بالعقاب على خدعهم.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّه تعالى يخادعهم في الآخرة ، وذلك أنّه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين ، فإذا وصلوا إلى الصّراط انطفأ نورهم وبقوا في الظّلمة (٤) .

ثمّ شرح الله بعض أنواع خداعهم بقوله : ﴿وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ﴾ مع المؤمنين وفي جماعتهم ﴿قامُوا﴾ حال كونهم ﴿كُسالى﴾ متثاقلين متباطئين لضعف داعيهم إلى الصّلاة حيث إنّهم لكفرهم لا يرجون بها ثوابا ، ولا يخافون من تركها عقابا ، بل بفعلها ﴿يُراؤُنَ النَّاسَ﴾ ليحسبوهم مؤمنين لا داعي لهم إلى الصّلاة غيره ﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ في صلواتهم مع المؤمنين وفي جماعتهم ﴿إِلَّا﴾ ذكرا ﴿قَلِيلاً﴾ من أذكار الصّلاة ، وهو الذي يظهر للمؤمنين كالتّكبيرات ، وأمّا الذي الذي مثل القراءة

__________________

(١) عدّى الفعل ( خدع ) بالباء في جميع المواضع المتقدمة والآتية ، والصواب أنّه متعد بنفسه كما في الآية.

(٢) تقدم في تفسير الآية (٩) من سورة البقرة.

(٣) تفسير الرازي ١١ : ٨٣.

(٤) تفسير الرازي ١١ : ٨٣.

٣٠٥

والتّسبيحات وأمثالها ، فلا يذكرونها.

هذا [ في ] كيفيّة عملهم ، وأمّا حالهم من حيث الإيمان والكفر فانّهم (١) يكونون ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾ ومتحيّرين في الإيمان والكفر ، ومتردّدين ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ المذكور لاختلاف الدّواعي في نظرهم ، فقد يرون نفعهم في موافقة المؤمنين فيكونون معهم ، وقد يرون نفعهم في موافقة الكفّار فيكونون معهم ، فلذلك ﴿لا إِلى هؤُلاءِ﴾ المؤمنين ينسبون ﴿وَلا إِلى هؤُلاءِ﴾ الكفّار يضافون ، فهم دائمون في الحيرة والضّلال في امور دينهم ودنياهم ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ ويخذله لخبث ذاته ، وعدم قابليّته للهداية ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ﴾ أبدا ﴿سَبِيلاً﴾ إلى الحقّ ، وطريقا إلى الجنّة.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ

 أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤)

ثمّ لمّا ذمّ الله سبحانه المنافقين بموالاة الكفّار ، نهى المؤمنين عنها بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿لا تَتَّخِذُوا﴾ ولا تختاروا لأنفسكم ﴿الْكافِرِينَ﴾ الّذين هم أعداؤكم وأعداء دينكم ﴿أَوْلِياءَ﴾ وأصدقاء ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الخلّص وبدلا منهم ، ولا تتوقّعوا منهم النّصرة ، فإنّ موالاتهم من شعار المنافقين ﴿أَ تُرِيدُونَ﴾ بهذا الصّنيع ﴿أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ على نفاقكم وفساد عقائدكم ﴿سُلْطاناً مُبِيناً﴾ وحجّة ظاهرة لا يمكنكم دفعها.

قيل : إنّ الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودّة ، فقالوا : يا رسول الله ، من نتولّى ؟ فقال : « المهاجرين » فنزلت (٢) .

﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ

تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ

وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٥ و ١٤٦)

ثمّ ذكر سبحانه سوء حال المنافقين في الآخرة تنفيرا لقلوب المؤمنين عن موادّتهم ، بقوله : ﴿إِنَّ الْمُنافِقِينَ﴾ في الآخرة مستقرّون ﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾ والقعر الأنزل ﴿مِنَ النَّارِ﴾ قيل : هي الهاوية ، وعذاب من فيها أشدّ ممّن (٣) في الطّبقات السّت الاخر (٤) .

__________________

(١) في النسخة : كأنّهم.

(٢) تفسير الرازي ١١ : ٨٦.

(٣) في النسخة : من.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٣٠٩.

٣٠٦

عن ابن مسعود رضى الله عنه ، [ وقد سئل ] عن الدّرك الأسفل ، فقال : هو توابيت من حديد مبهمة عليهم ، لا أبواب لها (١) .

ثمّ بيّن انقطاع طمعهم عن الخلاص بقوله : ﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ ومخلّصا من النّار ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا﴾ ورجعوا عن كفرهم ونفاقهم ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أيضا أعمالهم وأخلاقهم ﴿وَاعْتَصَمُوا﴾ وواثقوا ﴿بِاللهِ﴾ بالتّمسّك بحبل شريعته ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ عن الشّوب بالأهوية (٢) الفاسدة ﴿لِلَّهِ﴾ لا يبتغون بطاعته وإيمانهم به إلّا رضاه ﴿فَأُولئِكَ﴾ الموصوفون بتلك الصّفات الحميدة يكونون في الدّرجات العالية الاخرويّة ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الّذين كانوا من بدو إيمانهم مؤمنين ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ﴾ في الآخرة والدّنيا ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ الخلّص عموما ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ لا يمكن بيان عظمته وقدره.

وفي جعل التّائبين عن النّفاق تبعا للمؤمنين الخلّص في الأجر ، إشعار بتشريف المؤمنين الخلّص عليهم.

﴿ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد وعيد المنافقين بأشدّ العذاب ، ووعدهم على الإيمان والتّوبة والعمل الصّالح بأعلى الثّواب منه. جعل العذاب على الكفر والعصيان لتحميل النّاس على الإيمان والطّاعة ، لطفا بهم ، لا للتّشفّي ، أو جلب النّفع إلى نفسه ، أو دفع الضّرر عنها ، بقوله : ﴿ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ﴾ وأيّ داع له إلى عقابكم ﴿إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ نعمه وامتثلتم أحكامه ﴿وَآمَنْتُمْ﴾ به وبرسوله واليوم الآخر ، بل إنّما أمركم بما أمر ونهاكم عمّا نهى حفظا لمصالحكم ، وتكميلا لنفوسكم ﴿وَكانَ اللهُ﴾ مع ذلك لطاعتكم ﴿شاكِراً﴾ بإعطاء الأجر ، وبذل الثّواب ﴿عَلِيماً﴾ بها وبمقدار ما تستحقّون من الأجر عليها.

﴿لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً

 عَلِيماً (١٤٨)

ثمّ لمّا كان المنافقون التّائبون - بعد توبتهم وتخليص إيمانهم - في معرض الذّمّ والتّعيير لما سبق منهم من فساد العقيدة وسوء الأعمال ، نهى الله تعالى عن القول السّيّء بقوله : ﴿لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ﴾ والتّظاهر ﴿بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ في حقّ أحد ، سواء كان القول السّيّء سبّا أو غيبة أو بهتانا أو تعييرا ، لا

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ٣٠٩.

(٢) كذا ، والظاهر : بالأهواء ؛ لأنّ الأهوية جمع هواء ، والأهواء جمع هوى وهو المراد.

٣٠٧

بل يبغضه من كلّ أحد ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ به واسيء إليه ، بأن يدعو على المسيء ، أو يذكر إساءته ، أو يشتكي منه بأن يقول : ضربني ظلما ، أو شتمني ، أو غصب أو سرق مالي ، أو يردّ بالشّتيمة على شاتمه.

عن الباقر عليه‌السلام : « لا يحبّ الله الشّتم في الانتصار إلّا من ظلم ، فلا بأس أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدّين » (١) الخبر.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّه الضّيف ينزل بالرّجل ، فلا يحسن ضيافته ، [ فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله » (٢) .

وعنه عليه‌السلام في هذه الآية : « ممن أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهو ممن ظلم ] فلا جناح في ما قالوا فيه » (٣) .

وفي رواية : « إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثّناء والعمل الصّالح ، فلا تقبله منه وكذّبه ، فقد ظلمك » (٤) .

ثمّ هدّد المجاهر بالسّوء بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ سَمِيعاً﴾ لاقوالكم السّيّئة ﴿عَلِيماً﴾ باستحقاقكم ومقدار جزائكم.

قيل : نزلت في أبي بكر ، فإنّ رجلا شتمه مرارا فسكت ، ثمّ ردّ عليه ، فقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال أبو بكر : شتمني وأنت جالس ، فلمّا رددت عليه قمت ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ ملكا كان يجيب عنك ، فلمّا رددت عليه ، ذهب ذلك الملك وجاء الشّيطان ، فلم أجلس عند مجيء الشّيطان » . فنزلت هذه الآية (٥).

﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)

ثمّ لمّا أذن الله سبحانه في الوقوع في الظّالم ، وإساءة القول له ، رغّب في العمل بالخير والإحسان إلى الخلق ، والعفو عن إساءتهم بقوله : ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ وتظهروا ﴿خَيْراً﴾ وبرّا وإحسانا ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ وتسرّوه ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ﴾ كلّ ﴿سُوءٍ﴾ ولا تنتقموا من الظّالم مع قدرتكم على الانتقام ، ولا تقابلوه بالقول السّيّء ، وتتخلّفوا بأخلاق الله ﴿فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا﴾ عن العصاة وعن المسيء والمساء إليه مع كونه ﴿قَدِيراً﴾ على عقوبتهم والانتقام منهم فأنتم أولى بالعفو.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٢٠١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٦.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٢٠٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٦.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٤٥٣ / ١١٤١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٦.

(٤) تفسير القمي ١ : ١٥٧ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٦.

(٥) تفسير الرازي ١١ : ٩١.

٣٠٨

نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * أُولئِكَ

هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥٠) و (١٥١)

ثمّ لمّا كان أغلب المنافقين من اليهود ، شرع في ذمّ اليهود بعد الفراغ من ذمّ المنافقين بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ ولكن لا بالصّراحة ، بل بالالتزام لما نسبه إليهم بقوله : ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا﴾ في الإيمان ﴿بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ﴾ بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم ، ولكن لا بالتّصريح بهذا التّفريق ، بل هو المدلول الالتزامي لما حكاه عنهم بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ﴾ من الرّسل كموسى وعزير ﴿وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ آخر كعيسى ومحمّد ، مع أنّ الكفر بأحد الرّسل كفر بجميعهم ، والكفر بجميعهم كفر بالله عزوجل.

﴿وَيُرِيدُونَ﴾ بقولهم بالتّفريق في الإيمان بينهم ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا﴾ ويختاروا ﴿بَيْنَ ذلِكَ﴾ الإيمان والكفر المطلق ﴿سَبِيلاً﴾ ومذهبا وسطا ، مع أنّه لا واسطة بينهما ، فإنّ الإيمان بالله لا يتمّ إلّا بالإيمان برسله ، وتصديقهم في ما بلّغوا عنه ، وتكذيب واحد منهم في حكم تكذيب جميعهم ؛ فلذلك ﴿أُولئِكَ﴾ المفرّقون بين الرّسل المبغّضون في الإيمان ﴿هُمُ الْكافِرُونَ﴾ المنتهون في الكفر إلى الغاية ، وحقّ ذلك القول ﴿حَقًّا﴾ لا يشوبه شك ولا ريب.

ثمّ أوعدهم بعقاب الكفّار بقوله : ﴿وَأَعْتَدْنا﴾ في الآخرة ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ الّذين هؤلاء المفرّقون من أظهر مصاديقهم ﴿عَذاباً مُهِيناً﴾ و عقوبة مقرونة بغاية الذّل ، لاستكبارهم عن الإيمان بالرّسل.

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ

 أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)

ثمّ أتبع ذمّ الكفّار ووعيدهم بمدح المؤمنين ووعدهم بقوله : ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ﴾ كلّهم ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ في الإيمان والتّصديق ؛ مع كون جميعهم ذوي المعاجز الباهرة والآيات الظّاهرة ﴿أُولئِكَ﴾ الكاملون في الإيمان ﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ الله تعالى من فضله في الآخرة ﴿أُجُورَهُمْ﴾ التي وعدهم على لسان رسله ﴿وَكانَ اللهُ غَفُوراً﴾ لما فرط منهم ؛ ﴿رَحِيماً﴾ بهم بتضعيف حسناتهم ، واستغراقهم بأنواع النّعم الدّائمة.

﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ

 مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ

٣٠٩

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)

ثمّ وبّخ الله سبحانه اليهود باقتراحهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما اقتراح أسلافهم على موسى ، بقوله : ﴿يَسْئَلُكَ﴾ اليهود الّذين هم ﴿أَهْلُ الْكِتابِ﴾ والمؤمنون بالتّوراة ﴿أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ﴾.

قيل : إنّهم قالوا : إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السّماء جملة ، كما جاء موسى بالألواح.

وقيل : طلبوا أن ينزّل كتابا من السّماء إلى فلان ، وكتابا إلى فلان بأنّك رسول الله (١) . وقيل : كتابا نعاينه حين نزوله (٢) .

ولمّا كان سؤالهم عن التّعنّت واللّجاج لظهور معجزات النبيّ أكثر ممّا يحتاج إليه في ظهور صدقه ، ولم يحسن إجابة مسؤولهم ، أجابهم بأنّ طباعكم مجبولة على التّعنّت والاقتراح ، فإنّكم أولاد الّذين اقترحوا وتعنّتوا على نبيّهم العظيم الشأن ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ﴾ وأعظم ﴿مِنْ ذلِكَ﴾ السّؤال ، ولم يكتفوا بنزول التّوراة دفعة وجملة ، وبظهور الآيات والمعجزات في تصديقه بأنّ الله يكلّمه ، حتّى اختار سبعين رجلا من كبرائهم وصلحائهم ، فذهب بهم إلى جبل طور ليسمعوا كلام الله ، فلمّا سمعوا أنّ الله كلّمه سألوه أن يريهم الله حتّى ينظروا إليه بأبصارهم ﴿فَقالُوا﴾ لموسى عليه‌السلام : ﴿أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً﴾ وعيانا حتّى نصدّقك ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ وشعلة النّار من السّماء فأحرقتهم ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ على أنفسهم وتعنّتهم على نبيّهم.

﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا﴾ واختاروا لأنفسهم ﴿الْعِجْلَ﴾ الذي صنعه السّامري من حليّهم إلها ومعبودا ﴿مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ﴾ المعجزات ﴿الْبَيِّناتُ﴾ من العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، وغير ذلك ﴿فَعَفَوْنا﴾ وتجاوزنا ﴿عَنْ ذلِكَ﴾ الذّنب العظيم بعد توبتهم ، ولم نستأصلهم بالعذاب مع استحقاقهم له ﴿وَآتَيْنا مُوسى﴾ مع شدّة لجاج قومه على خلاف العادة ﴿سُلْطاناً مُبِيناً﴾ وغلبة ظاهرة على أعدائه حتّى ظهر دينه وقوي أمره. وفي ذلك بشارة للرّسول بنصرته وظهور دينه ، كما صرّح بتلك البشارة بقوله : ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا(٣) .

﴿وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا

 تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤)

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١١ : ٩٤.

(٣) غافر : ٤٠ / ٥١.

٣١٠

ثمّ بالغ سبحانه فى بيان شدّة لجاجهم وطغيانهم بقوله : ﴿وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً﴾ - وقد مرّ تفسير القضيّتين في سورة البقرة (١) - ﴿وَقُلْنا لَهُمُ﴾ بلسان نبيّهم ﴿لا تَعْدُوا﴾ ولا تتجاوزوا حدود الله ﴿فِي﴾ يوم ﴿السَّبْتِ﴾ باصطياد الحيتان ﴿وَأَخَذْنا مِنْهُمْ﴾ على العمل بأحكام التّوراة عموما ، أو ترك الصّيد في السّبت ﴿مِيثاقاً﴾ وعهدا ﴿غَلِيظاً﴾ وكيدا.

﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ

 قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)

ثمّ نقضوا الميثاق ، وخالفوا التّوراة ، واصطادوا في السّبت ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾ وبسبب خلفهم عهدهم ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ﴾ وحججه الظّاهرة من القرآن ، أو جميع المعجزات ، أو خصوص آيات التّوراة الدّالّة على صفات النبيّ ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ﴾ كزكريّا ويحيى ﴿بِغَيْرِ حَقٍ﴾ مع ظهور نبوتهم لهم ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾ في مقام اللّجاج جوابا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ ومغشّاة ، أو أوعية العلم ، ومع ذلك لا خير فيها من نبوّتك.

ثمّ ردّهم الله بقوله : ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ﴾ وختم ﴿عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ وجحودهم ، فحجبت عن العلم خذلانا من الله ، وقست بحيث لا تؤثّر فيها الدّعوة والموعظة ، ولذا ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ﴾ بالأنبياء ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ منهم كموسى وعزيرا ، أو إيمانا قليلا لا يعبأ به.

قيل : إنّ التّقدير : أنه بسبب هذه المعاصي لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية.

﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦)

﴿وَ﴾ كذا ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ وإنكارهم قدرة الله على خلق الولد بغير أب ﴿وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ﴾ بنت عمران ﴿بُهْتاناً عَظِيماً﴾ وفرية في غاية القباحة من نسبة احتبالها إلى الزّنا ، مع أنّ الله تقبّلها بقبول حسن لخدمة البيت المقدّس ، وكفّلها زكريّا ، وشهد بطهارتها ، وتكلّم عيسى في المهد ، إلى غير ذلك من الأدلّة القاطعة عند اليهود على أنّ هذا القول في حقّها بهت صرف.

في نقل بهتان الفخر الرازي على الشيعة وتكذيبه

قال الفخر الرازي ، بعد ذكر براءة مريم من كلّ ريبة : فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنّه بهتان عظيم ، وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنّه بهتان عظيم ، حيث قال : ﴿سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ(٢) وذلك يدلّ على أنّ الرّوافض

__________________

(١) تقدم في تفسير الآيتين (٦٣ و٩٣) من سورة البقرة.

(٢) النور : ٢٤ / ١٦.

٣١١

الّذين يطعنون في عائشة بالزّنا (١) بمنزلة اليهود الّذين قالوا في مريم (٢) .

أقول : سبحانك هذا بهتان عظيم على الشّيعة ، انظروا إلى الرّجل كيف افترى على الشّيعة بما هم براء منه ، فإنّ أحدا من الشّيعة لم يطعن في عائشة بذلك لقطعهم ببراءتها من الفحش ، لكرامة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا لكمال ذاتها وطهارتها من المعصية ، لصدور ما هو أكبر من الزّنا منها كخروجها على خليفة الرّسول ، وإيذائها لفاطمة البضعة. بل نقول بعصمة جميع زوجات النبيّ عن الفاحشة تنزيها له صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشّين.

فإصرار النّاصب بطهارتها من المعصية ردّ للكتاب النّاطق بعصيانها ، حيث قال سبحانه : ﴿إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ(٣) الآية.

﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ

 وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ

 اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)

ثمّ حكى سبحانه وتعالى افتخار اليهود بقتل الأنبياء بقوله : ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ مفتخرين به مع كونه ﴿رَسُولَ اللهِ﴾ .

ثمّ كذّبهم الله في هذه الدّعوى بقوله : ﴿وَما قَتَلُوهُ﴾ بل ﴿وَما صَلَبُوهُ﴾ أصلا ﴿وَلكِنْ شُبِّهَ﴾ المقتول والمصلوب ﴿لَهُمْ﴾ قيل : يعني : وقع الشّبة لهم (٤) .

في رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء

روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه وقالوا : هو السّاحر بن السّاحرة ، والفاعل بن الفاعلة.

فقذفوه وامّه فلمّا سمع عليه‌السلام ذلك دعا عليهم ، فقال : [ اللهم ] أنت ربّي وأنا من روحك خرجت ، وبكلمتك خلقتني ، ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهمّ فالعن من سبّني وسبّ امّي. فاستجاب الله دعاءه ومسخ الّذين سبّوه وسبّوا امّه قردة وخنازير ، فلمّا رأى ذلك يهودا رأس القوم وأميرهم فزع لذلك ، وخاف دعوته عليه أيضا ، فاجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه‌السلام ، فبعث الله جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه إلى السّماء ، فقال لأصحابه : أيّكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي ، فيقتل ويصلب فيدخل الجنّة ، فقال رجل منهم : أنا ، فالقي شبهه عليه فقتل وصلب (٥) .

وقيل : إنّ الشّبه القي على وجهه دون بدنه ، فلمّا قتلوه نظروا إلى بدنه فقالوا : الوجه وجه عيسى ،

__________________

(١) ( بالزنا ) لم ترد في المصدر.

(٢) تفسير الرازي ١١ : ٩٩.

(٣) التحريم : ٦٦ / ٤.

(٤) تفسير روح البيان ٢ : ٣١٧.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ٣١٧.

٣١٢

والبدن بدن غيره (١) .

وقيل : إنّ اليهود حبسوا عيسى عليه‌السلام مع عشرة من الحواريّين في بيت ، فدخل [ عليه ] رجل [ من اليهود ] ليخرجه ويقتله ، فألقى الله شبه عيسى عليه ، [ ورفع إلى السماء ] فأخذوا ذلك الرّجل وقتلوه على أنّه عيسى ، ثمّ قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى ؟ (٢)

فأشار سبحانه إلى اختلاف اليهود في قتله بقوله : ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ من اليهود والنّصارى - كما قيل إنّهم أيضا مختلفون في قتله (٣) - أو [ من ] الفريقين الّذين خالفوا وأعتقدوا قتله ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ وتردّد فيه ﴿ما لَهُمْ بِهِ﴾ شيء ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ واعتقاد جازم ، وليس لهم في ادّعاء قتل عيسى ، أو في جميع الأمور الدّينيّة عمل ودأب ﴿إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ﴾ ولا يغني الظّنّ من الحقّ شيئا.

ثمّ أكّد سبحانه تكذيبهم في دعوى قتله بقوله : ﴿وَما قَتَلُوهُ﴾ قتلا ﴿يَقِيناً﴾ أو المراد : أنّ نفي القتل يكون يقينا وحقّا ، لا ينبغي أن يشكّ فيه.

﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)

ثمّ أضرب وأعرض عن الدّعوى الكاذبة بقوله : ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ وإلى سمائه ومحلّ كرامته وقربه.

قيل : إنّ الحكمة في رفعه إلى السّماء تبرّك الملائكة بصحبته ؛ لأنّه كلمة الله وروحه (٤) .

وقيل : إنّه لمّا لم يكن دخوله في الدّنيا من باب الشّهوة ، لم يكن خروجه منها من باب المنيّة ، بل دخل من باب القدرة ، وخرج من باب العزّة (٥) .

أقول : فيه نظر ، إذ لا بدّ من خروجه بعد عوده إلى الأرض من باب المنيّة ؛ لقوله تعالى : ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ(٦) . ويمكن أن يكون الحكمة في رفعه إلى السّماء تقريب صحّة دعوى الرّسول العروج إلى السّماء ، والاستدلال به على إمكانه.

ثمّ دفع الله سبحانه استبعاد رفعه إلى السّماء بهذا البدن العنصري ، بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ عَزِيزاً﴾ غالبا على أمره ، قادرا على ما يريد ﴿حَكِيماً﴾ في أفعاله.

عن السّجاد عليه‌السلام : « أنّ لله بقاعا في سماواته ، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه ، ألا تسمع الله يقول في قصّة عيسى ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ  (٧) .

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ١١ : ١٠١.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٣١٨.

(٤ و٥) . تفسير روح البيان ٢ : ٣١٩.

(٦) آل عمران : ٣ / ١٨٥.

(٧) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٢٧ / ٦٠٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٩.

٣١٣

وعن القمّي رحمه‌الله : رفع وعليه مدرعة من صوف (١) .

عن الصادق عليه‌السلام قال : « رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ، ومن نسج مريم ، ومن خياطة مريم ، فلمّا انتهى إلى السّماء نودي : يا عيسى ، ألق عنك زينة الدّنيا » (٢) .

وفي ( الإكمال ) : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أن عيسى بن مريم أتى بيت المقدس ، فمكث يدعوهم ويرغّبهم في ما عند الله ثلاثا وثلاثين سنة ، حتّى طلبته اليهود وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّا ، وادّعى بعضهم أنّهم قتلوه وصلبوه ، وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه ، وإنّما شبّه لهم ، وما قدروا على عذابه ودفنه ، ولا على قتله وصلبه ؛ لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله : ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ(٣).

﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ

 شَهِيداً (١٥٩)

ثمّ حرّض الله اليهود بالإيمان (٤) بنبوّة عيسى عليه‌السلام ، والنّصارى بالإيمان بأنّه عبد الله ورسوله حين ينفعهم الإيمان به ، بقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنّصارى أحد ﴿إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ وزهوق روحه ، وحين معاينة عالم الآخرة ولكن لا ينفعه إيمانه.

قيل : إنّه إذا حضرت اليهودي الوفاة وعاين الآخرة ، ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالت : أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به ، فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه ، وتقول للنّصراني : أتاك عيسى عبد الله ، فزعمت أنّه هو الله وابن الله ، فيؤمن بأنّه عبد الله حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع التّكليف (٥) .

روي عن شهر بن حوشب ، قال : قال الحجّاج : إنّي ما قرأتها إلّا وفي نفسي منها شيء - يعني هذه الآية - فإنّي أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك ، فقلت : إنّ اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا : يا عدوّ الله ، أتاك عيسى نبيّا فكذّبت به ، فيقول : آمنت به ، وتقول للنّصراني : أتاك عيسى نبيّا فزعمت أنّه هو الله وابن الله ، فيقول : آمنت أنّه عبد الله ، فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان ، فاستوى الحجّاج جالسا وقال : عمّن نقلت هذا ؟ فقلت : حدّثني به محمّد بن عليّ [ ابن ] الحنفيّة ، فأخذ ينكث بقضيبه الأرض ثمّ قال : أخذتها من عين صافية (٦).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٢٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٩.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣١٠ / ٦٩٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧٩.

(٣) كمال الدين : ٢٢٥ / ٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٠.

(٤) كذا ، والظاهر : على الايمان.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ٣٢٠.

(٦) تفسير الرازي ١١ : ١٠٣.

٣١٤

وعن القمّي ، عن شهر ما يقرب منه ، إلى أن قال : فقلت : أصلح الله الأمير ، ليس على ما تأوّلت ، قال : كيف هو ؟ قلت : إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدّنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ ولا غيره إلّا آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي عليه‌السلام ، قال : ويحك ، أنّى لك هذا ، ومن أين جئت به ؟ فقلت : حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فقال : جئت بها [ والله ] من عين صافية (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام ، في تفسيرها : « ليس من أحد من جميع أهل الأديان يموت إلّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام حقّا من الأوّلين والآخرين » (٢) .

وفي ( الجوامع ) : عنهما عليهما‌السلام : « حرام على روح [ امرئ ] أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّدا وعليّا صلوات الله عليهما » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : « هذه نزلت فينا خاصّة ، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته ، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: ﴿تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا (٤) .

وفي ( المجمع ) : في أحد معانيه : « ليؤمننّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موت الكتابيّ » (٥) .

﴿وَيَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ عيسى عليه‌السلام أو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ فيشهد على اليهود بالتّكذيب ، وعلى النّصارى بأنّهم دعوا عيسى ابن الله.

﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ

 اللهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ

 وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦٠) و (١٦١)

ثمّ بعد ذكره سبحانه فضائح اليهود ، ذكر تشديده عليهم في الدّنيا بقوله : ﴿فَبِظُلْمٍ﴾ عظيم صادر ﴿مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ لا بغيره من الأسباب ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ﴾ ولذائذ مخصوصة من الأطعمة التي ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ولمن قبلهم ، كلحوم الإبل وألبانها ، والشّحوم ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾ ومنعهم ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ من الإيمان بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدّخول في دين الإسلام صدّا ومنعا ﴿كَثِيراً﴾ بإلقاء الشّبهات

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٥٨ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٠.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٤٥٥ / ١١٤٨ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٠.

(٣) جوامع الجامع : ١٠١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٠.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٤٥٤ / ١١٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨١ ، والآية من سورة يوسف : ١٢ / ٩١.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٢١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٠.

٣١٥

والمكائد والتّسويلات ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا﴾ من النّاس ، ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿قَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ في التّوراة وغيرها من الكتب ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ﴾ وبغير الوجه المحلّل ، كالرّشوة وغيرها.

ثمّ ذكر تشديده عليهم في الآخرة بقوله : ﴿وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ دون المؤمنين بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ككثير من الأحبار ﴿عَذاباً أَلِيماً﴾ في الآخرة.

﴿لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ

 مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

 أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)

ثمّ أنّه تعالى بعد ذمّ الكفّار وذكر قبائح أعمالهم وسوء عاقبتهم ، ذكر محامد المؤمنين وحسن عاقبتهم على حسب دأبه في الكتاب العزيز بقوله : ﴿لكِنِ الرَّاسِخُونَ﴾ والمستغرقون ﴿فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ بحيث لا يضطربون بإلقاء الشّبهات ، ولا يميلون إلى الخرافات بالتّسويلات ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ الخلّص ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ عن صميم القلب وصدق النّيّة ﴿بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿وَما أُنْزِلَ﴾ إلى سائر الأنبياء ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ من الكتب السّماويّة ، ﴿وَ﴾ أخصّ ﴿الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ بالمدح.

وقيل : إنّه معطوف على ما ﴿أُنْزِلَ إِلَيْكَ(١) ، والمعنى : يؤمنون بالمقيمين الصّلاة ، والمراد بهم الأنبياء والملائكة. ﴿وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ من أموالهم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ وبوحدانيّته ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وإنّما قدّم سبحانه الإيمان بالكتب والأعمال الصّالحة على الإيمان بالله وبالمعاد لكونه المقصود الأهمّ في المقام.

﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بتلك الصّفات الحميدة ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾ في الآخرة ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ وثوابا جزيلا لا يقادر قدره.

﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ

 وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ

 وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان شدّة إنكار اليهود وتعنّتهم على الرّسول ، بيّن أنّ الرّسالة ليست من البدائع والأمور الجديدة غير المأنوسة ، بل كانت في جميع الأزمان تقريبا للأذهان ، ودفعا للتّحاشي عن

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٥٤.

٣١٦

الطّباع ، بقوله : ﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ﴾ وشرّفناك بمنصب الرّسالة ﴿كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ﴾ الّذين كانوا ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ يروّجون شريعته إلى زمان إبراهيم عليه‌السلام ، ﴿وَ﴾ كما ﴿أَوْحَيْنا﴾ بعدهم ﴿إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ بن إسحاق ، ﴿وَ﴾ أنبياء ﴿الْأَسْباطِ﴾ الاثني عشر ، وهم أولاد يعقوب ، ﴿وَ﴾ إلى ﴿عِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ﴾ .

وفي ذكر هؤلاء بأسمائهم ، مع كونهم من الأسباط وكون الأنبياء أكثرهم منهم ، دلالة على أفضليّتهم من الغير المذكورين. وإنّما قدّم ذكر نوح لكونه آدم الثّاني ، وأوّل من شرع الله على لسانه الأحكام ، وأوّل اولي العزم من الرّسل.

ثمّ أجمل في ذكر سائر الأنبياء الّذين كانوا بعده ، ثمّ ذكر الأفاضل منهم تفصيلا ، وبدأ بذكر إبراهيم عليه‌السلام لكونه أفضل المذكورين وأقدمهم ، وثاني اولي العزم ، ثمّ ذكر أنبياء الأسباط بنحو الإجمال ، ثمّ ذكر أسماء أفاضلهم ، وبدأ في هذا التّفصيل بذكر اسم عيسى ، لكونه أفضل المذكورين في الآية وثالث اولي العزم ولتبكيت اليهود ، حيث إنّهم شدّدوا في إنكار نبوّته وصحّة نسبه.

في بيان الزبور وتلاوة داود عليه‌السلام إيّاه

ثمّ خصّ داود عليه‌السلام من بينهم بفضيلة إيتائه الكتاب بقوله : ﴿وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً﴾ لشهرة كتابه بين اليهود ونزوله نجوما كالقرآن ، فأشار بذكره إلى أنّه لو كان نزول كتاب نجوما قادحا فيه ، لكان على اليهود القدح في الزّبور ، مع أنّهم يعظّمونه غاية التعظيم.

قيل : كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ، وإنّما هي حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على الله عزوجل ، وكان داود يبرز إلى البريّة ويقرأ الزّبور ، فيقوم علماء بني إسرائيل خلفه ، ويقوم النّاس خلف العلماء ، ويقوم الجنّ خلف النّاس ، وتجيء الدّواب التي في الجبال إذا سمعت صوت داود ، فيقمن بين يديه تعجّبا لما يسمعن من صوته ، وتجيء الطّير حتّى يظلّلن على داود في خلائق لا يحصيهنّ إلّا الله ، يرفرفن على رأسه ، وتجيء السّباع حتّى تحيط بالدّواب والوحش لما يسمعن ، فلمّا قارف الذّنب (١) - وهو تزوّج امرأة اوريا من غير انتظار الوحي بجبرئيل عليه‌السلام - لم يروا ذلك (٢) .

في ذكر عدد الأنبياء والرسل

ثمّ أنّه تعالى ذكر أسماء الأنبياء المشهورين ، ولم يذكر موسى عليه‌السلام معهم ، لأنّ اليهود كانو يحتجّون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ كتابك لو كان من السّماء لكان ينزل دفعة كما

__________________

(١) اقتراف الذنوب ممّا لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم معصومون ، ولا يبعد أن تكون حكاية زواج داود عليه‌السلام من امرأة اوريا هي من الروايات الاسرائيلية التي تسربت إلى ساحة التفسير ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : « لا اؤتى برجل يزعم أن داود عليه‌السلام تزوج بامرأة اوريا إلا جلدته حدّين : حدّ النبوة ، وحدّ الاسلام » راجع تنزيه الأنبياء / للسيد المرتضى : ٩٠ - ٩٢.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٣٢٣.

٣١٧

انزلت التوراة على موسى دفعة ، فأجاب الله عن تلك الشّبهة بأن هؤلاء المذكورين كانوا كلّهم أنبياء مع أنّ واحدا منهم ما اتي بكتاب مثل التّوراة دفعة ، فلا يقدح نزول الكتاب نجوما في كونه من عند الله ، كذا قيل(١) .

﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ

 مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)

ثمّ أكمل البيان وأتمّ الحجّة بقوله : ﴿وَرُسُلاً﴾ آخرين أرسلناهم إلى النّاس جماعة منهم ﴿قَدْ قَصَصْناهُمْ﴾ وتلونا أحوالهم ﴿عَلَيْكَ﴾ وسمّيناهم لك ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في السّور الاخر من القرآن ، كهود وصالح وإدريس عليهم‌السلام ﴿وَرُسُلاً﴾ أخر ﴿لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ في كتابك ، ولم نسمّهم لك ، ولم نذكر أحوالهم.

عن أبي ذرّ رضى الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، كم كانت الأنبياء ؟ وكم كان المرسلون ؟ قال : « كانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر » (٢) .

ثمّ بيّن مزيّة موسى عليه‌السلام من بينهم بقوله : ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى﴾ من بينهم في الطّور ﴿تَكْلِيماً﴾ بطريق المشافهة.

قيل : فيه إشارة إلى أنّ تخصيص موسى عليه‌السلام بهذه المزيّة ، كما لا يقدح في نبوّة غيره من الأنبياء ، لا يقدح نزول كتابه دفعة في نبوّة نبيّ نزل كتابه نجوما كالقرآن (٣) .

﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ

 اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)

ثمّ بيّن سبحانه حكمة إرساله الرّسل بقوله : ﴿رُسُلاً﴾ كثيرة أرسلناهم إلى النّاس من بدو الخلقة حال كونهم ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ لهم بالثّواب على الإيمان بتوحيد الله والقيام بعبوديّته ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ لهم بالعقاب على الشّرك والعصيان ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ ومعذرة ، أو اعتراض ملزم ﴿بَعْدَ﴾ إرسال ﴿الرُّسُلِ﴾ بأن يقولوا : ﴿رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(٤) .

__________________

(١) تفسير الرازي ١١ : ١٠٩.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٣٢٣.

(٣) تفسير الرازي ١١ : ١٠٩.

(٤) القصص : ٢٨ / ٤٧.

٣١٨

﴿وَكانَ اللهُ عَزِيزاً﴾ وقادرا على إرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، وتكميل النّفوس ، وإعطاء الثّواب ، وتعذيب العصاة ، وقطع الأعذار ﴿حَكِيماً﴾ في جميع أفعاله.

﴿لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ

 شَهِيداً (١٦٦)

ثمّ قيل : إنّه لمّا نزل قوله تعالى : ﴿إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ(١) الآية ، قال قوم : [ نحن ] لا نشهد لك بذلك.

فردّ الله عليهم ، وسلّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ(٢) لك ﴿بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ من السّماء وهو القرآن أنّه حقّ وصدق ، وشهادته تعالى باشتماله على إعجاز البيان ، والأخبار الصّادقة بالمغيّبات ، والعلوم الكثيرة مع كون الجائي به امّيّا.

ثمّ وصف ما أنزله بقوله : ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ غير المتناهي ، وحكمته البالغة ، فلمّا كان علمه غير المتناهي سببا لنزوله ، صار في غاية الحسن ونهاية الكمال بحيث عجز الأوّلون والآخرون عن معارضته والإتيان بمثله.

وقيل : إنّ المراد : أنزله بعلمه بأنّك مستأهل له (٣) .

﴿وَالْمَلائِكَةُ﴾ كلّهم أيضا ﴿يَشْهَدُونَ﴾ بأنّ القرآن نازل من عند الله ﴿وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً﴾ بذلك لا يحتاج إلى شهادة غيره.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧)

ثمّ أنّه تعالى بعد شهادته بصدق القرآن وصحّة دين الإسلام ، وبّخ المنكرين له الصّادّين عنه ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالقرآن ﴿وَصَدُّوا﴾ ومنعوا النّاس بإلقاء الشّبهات ﴿عَنْ﴾ سلوك ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والدّخول في دين الإسلام ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ عن الهدى وطريق الجنّة ﴿ضَلالاً بَعِيداً﴾ لا يرجى منهم الهداية.

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ

 جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٨) و (١٦٩)

ثمّ هدّدهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا﴾ أنفسهم بإصرارهم على الكفر ، والنّاس بصدّهم عن

__________________

(١) النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) تفسير الرازي ١١ : ١١١.

(٣) تفسير الصافي ١ : ٤٨٣.

٣١٩

الحقّ ، ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بتكذيبه وإخفاء نعوته وكتمانها.

عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا : إنّ الّذين كفروا وظلموا آل محمّد حقّهم ... » (١) .

﴿لَمْ يَكُنِ اللهُ﴾ مريدا ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ عن ذنوبهم ، لعدم قابليّتهم للمغفرة ﴿وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً﴾ من الطّرق ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ فلا مناص لهم في الآخرة عن دخولها ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها أَبَداً﴾ دائما ﴿وَكانَ ذلِكَ﴾ الإدخال في النّار والإخلاد فيها مع بقاء الأجساد أبد الآباد ﴿عَلَى اللهِ﴾ وفي جنب قدرته الكاملة غير المتناهية ﴿يَسِيراً﴾ سهلا ، وإن كان في نظر المنكرين لقدرة الله متعذّرا مستحيلا.

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ

 تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد دفع شبهات اليهود في رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق كتابه ، وتوبيخهم بالضّلال والإضلال ، وتوعيدهم بالنّار ، باشر بذاته المقدّسة دعوتهم ودعوة سائر النّاس إلى الإيمان برسالته بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ﴾ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿الرَّسُولُ﴾ الصّادق ﴿بِالْحَقِ﴾ والقرآن المصدّق بالإعجاز ، أو الدّين الموافق للعقل السّليم ﴿مِنْ﴾ عند ﴿رَبِّكُمْ﴾ اللّطيف بكم ، الحافظ لصلاحكم ﴿فَآمِنُوا﴾ به وبكتابه ، يكن الإيمان به في العاجل والآجل ﴿خَيْراً لَكُمْ﴾ وأحمد ممّا أنتم عليه من الكفر بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنكار رسالته وكتابه ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾ بالله ورسوله فلا يضرّ الله شيئا ﴿فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا يحتاج إليكم وإلى إيمكانكم ، ولا يعجز عن تعذيبكم ﴿وَكانَ اللهُ عَلِيماً﴾ بأحوال عباده وبإيمانهم وكفرهم وعلانيتهم وسرّهم ﴿حَكِيماً﴾ في ما يصدر عنه من تعذيب الكافر ، وإثابة المؤمنين.

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ

 عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ

 وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ

 لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١)

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٤٥٦ / ١١٥٢ ، الكافي ١ : ٣٥١ / ٥٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤٨٤.

٣٢٠