نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

خرج على القداح عملوا به ، وكان بعض المنافقين أراد التّحاكم إلى الوثن ، ولم يرض بالتّحاكم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل : إنّه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنّضير في الجاهليّة إذا قتل قرظيّ نضيريّا قتل به ، واخذ دمه (١) مائة وسق من تمر ، وإذا قتل نضيريّ قرظيّا لم يقتل به ، لكن اعطي دمه (٢) ستّين وسقا من تمر.

وكان بنو النّضير أشرف ، وهم حلفاء الأوس ، وقريظة حلفاء الخزرج ، فلمّا هاجر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة قتل نضيريّ قرظيّا ، فاختصما فيه ، فقالت بنو النّضير : لا قصاص علينا ، إنّما علينا ستّون وسقا من تمر ، على ما اصطلحنا عليه من قبل. وقالت الخزرج : هذا حكم الجاهليّة ، ونحن وأنتم اليوم إخوة ، وديننا واحد ، ولا فضل بيننا ، فأبى بنو النّضير ذلك.

فقال المنافقون : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ، وقال المسلمون : بل إلى رسول الله ، فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم ، فأنزل الله هذه الآية ، ودعا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الكاهن إلى الإسلام فأسلم (٣) .

﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ

 عَنْكَ صُدُوداً (٦١)

ثمّ بيّن الله تعالى سوء فعلهم بعد بيان سوء إرادتهم بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ نصحا : ﴿تَعالَوْا﴾ وجيئوا ﴿إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ﴾ في كتابه من الحكم ﴿وَإِلَى﴾ حكم ﴿الرَّسُولِ﴾ وأمره ﴿رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ﴾ ويمنعون من التّحاكم إليك ﴿صُدُوداً﴾ ومنعا أكيدا ، أو يعرضون عنك إعراضا شديدا ، لشدّة عداوتهم لدينك ، ولعلمهم بأنّك لا تحكم إلّا بمرّ الحقّ ، ولا تقبل الرّشوة.

﴿فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ

 أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢)

ثمّ أوعدهم بالعقاب على نفرتهم عن الحضور عند الرّسول ، وامتناعهم من التّحاكم إليه ، بقوله :

﴿فَكَيْفَ﴾ يكون حالهم ﴿إِذا أَصابَتْهُمْ﴾ ونالتهم ﴿مُصِيبَةٌ﴾ وعقوبة عظيمة ، وبليّة شديدة ﴿بِما

__________________

(١) في تفسير الرازي : وأخذ منه دية.

(٢) في تفسير الرازي : ديته.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ١٥٤.

٢٤١

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الامتناع من التّسليم للحكم بالحقّ ، والرّضا بحكومة الطّغاة.

ثمّ بيّن نفاقهم بقوله : ﴿ثُمَ﴾ بعد الامتناع ﴿جاؤُكَ﴾ معتذرين إليك من عدم حضورهم عندك ، والتّحاكّم إلى غيرك ، وهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ﴾ لك ﴿إِنْ أَرَدْنا﴾ من التّحاكم إلى غيرك ، وما طلبنا به ﴿إِلَّا إِحْساناً﴾ إليك برفع الكلفة والتّصديع عنك ، أو إلى الخصوم حيث إنّك تحكم بمرّ الحقّ ، وغيرك يأمر كلّا منهم بالإحسان إلى الآخرة ، ﴿وَ﴾ إلّا ﴿تَوْفِيقاً﴾ وإصلاحا بينهم.

وقيل : إنّ الآية تبشير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمعنى : كيف حالك من الفرح إذا أصابتهم مصيبة تلجئهم إلى الحضور عندك لرفعها ؟ ثمّ يحلفون بالله لك أنّهم ما أرادوا من عدم الحضور في تلك الوقعة مخالفتك ، بل أرادوا الإحسان والتّوفيق.

﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي

 أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ النّفاق لا ينفعهم ، وهو يعاقبهم عليه بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المنافقون هم ﴿الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الكفر وعداوة الحقّ ، فيفضحهم في الدّنيا ، ويعاقبهم عليه في الآخرة ، ولا يغني عنهم الكتمان والحلف عن العقاب ، فإذا كان كذلك ﴿فَأَعْرِضْ﴾ أنت ﴿عَنْهُمْ﴾ ولا تؤاخذهم بسوء فعالهم ، ولا تهتك سترهم بين النّاس ، بل ﴿وَعِظْهُمْ﴾ موعظة حسنة ، وخوّفهم بالعقاب على الكفر والعصيان ، والكذب والعناد مع الحقّ ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي﴾ شأن ﴿أَنْفُسِهِمْ﴾ الخبيثة ﴿قَوْلاً بَلِيغاً﴾ مؤثّرا في قلوبهم ، وافيا بمقصودك من الهداية.

وقيل : إنّ معنى قوله ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ خاليا (١) بهم غير فاش ؛ لظهور كون النّصح في الخلوة والسّرّ لمحض النفع (٢) .

وقيل : إن معنى ( البليغ ) : الكلام الطّويل ، الحسن الألفاظ والمعاني ، فإنّه أعظم وقعا في القلب(٣).

﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ

 فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)

ثمّ أكّد سبحانه وجوب طاعة الرّسول والتّسليم لحكمه بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا﴾ إلى النّاس من بدو الخلقة ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ لغرض من الأغراض ﴿إِلَّا لِيُطاعَ﴾ في أوامره ونواهيه وأحكامه ﴿بِإِذْنِ اللهِ

__________________

(١) من الخلوة : أي مختليا بهم في السّرّ.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٠ : ١٥٩.

٢٤٢

وإرادته وتوفيقه.

وفيه دلالة على عصمة الأنبياء ، كما استدلّ الفخر الرازي بالتّقريب الذي ذكره في آية ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(١) .

ثمّ حثّ الله سبحانه المنافقين إلى التّوبة عن نفاقهم وسوء أفعالهم بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالنّفاق والتّحاكم إلى الطّاغوت ﴿جاؤُكَ﴾ نادمين على معاصيهم ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ﴾ منها مخلصين ﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ بعد اعتذارهم إليه ﴿لَوَجَدُوا اللهَ﴾ ولقوه ﴿تَوَّاباً﴾ على العاصين ﴿رَحِيماً﴾ بالمذنبين.

وإنّما قال : ﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ ولم يقل : ( واستغفرت ) إظهارا لعظمته (٢) ، وإشعارا بأنّ من كان سفيرا بين الله وخلقه لا تردّ شفاعته.

قيل : إنّ قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ دخلو عليه لأجل ذلك الغرض ، فأتاه جبرئيل فأخبره به ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه ، فليقوموا وليستغفروا الله حتّى أستغفر لهم » فلم يقوموا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا تقومون ؟ » ، فلم يفعلوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قم يا فلان ، قم يا فلان » - حتّى عد اثني عشر رجلا منهم - فقاموا وقالوا : كنّا عزمنا على ما قلت ، ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا ، فاستغفر لنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « [ الآن ] اخرجوا ، أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار ، وكان الله أقرب إلى الإجابة ، اخرجوا عنّي » (٣) .

﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي

 أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)

ثمّ بيّن الله سبحانه ملازمة الإيمان بالرّسول للرّضا بحكمه ، والتّسليم لقضائه ، مؤكّدا له بالحلف عليه ، وزيادة ( لا ) للتّأكيد ، بقوله : ﴿فَلا وَرَبِّكَ﴾ إنّ النّاس ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ بك إيمانا صادقا ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾ ويترافعوا إليك ﴿فِيما شَجَرَ﴾ واختلف فيه ﴿بَيْنَهُمْ﴾ من الأمور ، فتقضي فيه بمرّ الحقّ ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وقلوبهم ﴿حَرَجاً﴾ وضيقا ﴿مِمَّا قَضَيْتَ﴾ به وحكمت فيه ﴿وَيُسَلِّمُوا﴾ لقضائك ﴿تَسْلِيماً﴾ قلبيّا ، وينقادوا لحكمك انقيادا باطنيّا.

روي أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزّبير في ماء يسقى به النّخل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله للزّبير : « اسق أرضك ، ثمّ

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٩٢.

(٢) أي عظمة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ١٦٢.

٢٤٣

أرسل الماء إلى أرض صاحبك » (١) ، فقال الأنصاري : لأجل أنّه ابن عمّتك. فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال للزّبير : « اسق ثمّ احبس الماء حتّى يبلغ الجدر » (٢) .

﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ

 قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً

 لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٦) و (٦٨)

ثمّ بيّن الله سبحانه ضعف إيمان المسلمين ، ووهنهم في طاعة الله ورسوله ، وقلّة المؤمنين الخلّص (٣) ؛ بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا﴾ وفرضنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وقلنا لهم : ﴿أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ كم كتبنا على بني إسرائيل في التّوبة عن عبادة العجل ﴿أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ﴾ واتركوا أوطانكم ﴿ما فَعَلُوهُ﴾ عصيانا ، لصعوبته عليهم ﴿إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ وهم الكاملون في الإيمان ، الخلّص (٤) فيه.

روي أنّ ثابت بن قيس بن شمّاس ناظر يهوديا ، فقال اليهودي : إنّ موسى عليه‌السلام أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك ، وإنّ محمّدا يأمركم بالقتال فتكرهونه ، فقال : ما أنت (٥) ، لو أنّ محمّدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ، فنزلت هذه الآية (٦) .

وروي أنّ ابن مسعود قال [ مثل ] ذلك ، فنزلت (٧) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « والذي نفسي بيده ، إنّ من امّتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي » (٨) .

وقيل : إنّ المراد من الآية بيان حال المنافقين (٩) . والمعنى : ما فعلوه ، فيظهر كفرهم ونفاقهم إلّا قليل منهم ، فإنّهم يفعلونه رياء وسمعة.

ثمّ حثّ الله المؤمنين إلى الإيمان الكامل ، والمنافقين إلى الإيمان الخالص ، بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ عن خلوص الإيمان ، وصدق النّيّة ﴿فَعَلُوا﴾ وامتثلوا ﴿ما يُوعَظُونَ﴾ ويؤمرون ﴿بِهِ﴾ من متابعة الرّسول ، وإطاعة أحكامه ﴿لَكانَ﴾ ذلك ﴿خَيْراً لَهُمْ﴾ وأنفع في العاجل والآجل ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ لإيمانهم.

عن الصادق عليه‌السلام : « لو أنّ أهل الخلاف فعلوا ... » (١٠) .

__________________

(١) في تفسير الرازي : جارك.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ١٦٣ ، والجدر ، جمع جدار : الحائط.

(٣) في النسخة : الخلّصين.

(٤) في النسخة : الخلّصون.

(٥) في تفسير الرازي : يا أنت.

( ٦ و٧ و٨ و٩ ) . تفسير الرازي ١٠ : ١٦٧.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ٤١٧ / ١٠٣٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٢.

٢٤٤

وعن الباقر عليه‌السلام : ﴿ ما يُوعَظُونَ بِهِ﴾ في عليّ » قال : « هكذا نزلت » (١) .

ثمّ كأنّه قيل : فماذا يكون لهم بعد التّثبّت ؟ فقال : ﴿وَإِذاً﴾ لو ثبتوا بالله ﴿لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا﴾ ومن خزائن رحمتنا ﴿أَجْراً﴾ وثوابا ﴿عَظِيماً﴾ في الآخرة ، لا ينقطع أبدا ﴿وَلَهَدَيْناهُمْ﴾ في الدّنيا بالتّوفيق ﴿صِراطاً مُسْتَقِيماً﴾ يوصلهم إلى جواهر العلوم ومقام الرّضوان.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يعلم » (٢) .

﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ

 وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ

 اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٦٩) و (٧٠)

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد على طاعته وطاعة رسوله ، بقوله : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ﴾ خالصا لوجهه ﴿فَأُولئِكَ﴾ المطيعون يحشرون في الآخرة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ بعلوّ المقام ، وعظم القدر عنده ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ الفائزين بكمال العلم والعمل ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾ العارجين بأعلى مدارج الإيمان والعرفان ﴿وَالشُّهَداءِ﴾ الباذلين مهجهم في إظهار الحقّ ، وإعلاء كلمته ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ الصّارفين أعمارهم في طاعة الله ، وطلب مرضاته.

ثمّ بالغ في إظهار حسن هذه المرافقة مع هؤلاء ، بإظهار التّعجّب من حسنها بقوله : ﴿وَحَسُنَ أُولئِكَ﴾ المذكورون ﴿رَفِيقاً﴾ للمؤمن ومصاحبا في الجنّة.

في بيان محبة ثوبان للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

روي أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان شديد الحبّ له ، قليل الصّبر عنه ، فأتاه يوما وقد تغيّر وجهه ، ونحل جسمه ، وعرف الحزن في وجهه ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حاله ، فقال : يا رسول الله ، ما بي وجع غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة ، حتّى تذكّرت (٣) الآخرة وخفت أن لا أراك هناك ؛ لأنّي إن دخلت الجنّة فأنت تكون في درجات النّبيّين ، وأنا في درجات العبيد ، فلا أراك ، وإن أنا لم أدخل الجنّة ، فحينئذ لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية (٤) .

في أنّ المؤمنين صنفان

قيل : إنّ المراد من المرافقة في الجنّة : هو رفع الحجاب بين الفاضل والمفضول ، بحيث يرى كلّ منهما الآخر ، لعدم إمكان تساويهما في الدّرجة (٥) .

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥١ / ٦٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٢.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٢٣٢.

(٣) في تفسير الرازي : حتى ألقاك فذكرت.

(٤) تفسير الرازي ١٠ : ١٧٠.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ١٧١.

٢٤٥

عن الصادق عليه‌السلام : « المؤمن مؤمنان : مؤمن وفى لله بشروطه التي اشترطها عليه ، فذلك مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقا ، وذلك ممّن يشفع ولا يشفع له ، ولا تصيبه أهوال الدّنيا ، ولا أهوال الآخرة ، ومؤمن زلّت به قدم ، فذلك كخامة (١) الزّرع ، كيفما كفئت (٢) الريح انكفأ ، وذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا وأهوال الآخرة ، ويشفع له ، وهو على خير » (٣) .

عن ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « أعينونا بالورع ، فمن لقي الله تعالى (٤) بالورع كان له عند الله فرجا ، إنّ الله يقول : ﴿مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ...﴾ - وتلا هذه الآية ، ثمّ قال - : فمنّا النبيّ ، ومنّا الصّدّيق ، ومنّا الشّهداء ، ومنّا الصّالحون » (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « لقد ذكركم الله في كتابه فقال : أولئك ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...﴾ - الآية ، فرسول الله في الآية النّبيّون ، ونحن في هذا الموضع الصّدّيقون والشّهداء ، وأنتم الصّالحون ، فتسمّوا بالصّلاح كما سمّاكم الله » (٦) .

﴿ذلِكَ الْفَضْلُ﴾ وزيادة الثّواب كائن ﴿مِنَ اللهِ﴾ المفضّل ﴿وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً﴾ بجزاء المطيعين ، ومقدار استحقاقهم الفضل.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١)

ثمّ لمّا كان الجهاد من أهمّ الطّاعات حثّ الله إليه بعد المبالغة في الحثّ إلى طاعته وطاعة رسوله بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ واحترزوا كيد أعدائكم ، أو خذوا أسلحتكم - كما عن الباقر عليه‌السلام (٧) - وأستعدوا للجهاد ﴿فَانْفِرُوا﴾ واخرجوا إلى الجهاد ﴿ثُباتٍ﴾ وجماعات متفرّقات ، سريّة بعد سريّة ﴿أَوِ انْفِرُوا﴾ إلى غزوة واحدة كلّكم ﴿جَمِيعاً﴾ وكوكبة واحدة.

﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ

 مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ

 مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٢) و (٧٣)

__________________

(١) الخامة : أول كلّ شيء ، وهنا بمعنى أول ما ينبت من الزرع الغضّ.

(٢) في الكافي : كفأته.

(٣) الكافي ٢ : ١٩٣ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٣.

(٤) زاد في المصدر : منكم.

(٥) الكافي ٢ : ٦٣ / ١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٣.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٤١٧ / ١٠٣٤ ، الكافي ٨ : ٣٥ / ٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٣.

(٧) مجمع البيان ٣ : ١١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٤.

٢٤٦

ثمّ لمّا كان في موقع الجهاد مجال نفاق المنافقين ، عاد سبحانه إلى ذكر حالهم وتقاعدهم عن الخروج إليه ، بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ﴾ أيّها المسلمون لله ﴿لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ﴾ وليتثاقلنّ من الخروج إلى الجهاد ، ويتخلّف عنكم.

وقيل : إنّ المعنى : أنّه ليثبّطنّ سائر المسلمين ويصرفهم عن الخروج ، كعبد الله بن ابيّ.

﴿فَإِنْ أَصابَتْكُمْ﴾ بعد الخروج إلى الجهاد ﴿مُصِيبَةٌ﴾ وبليّة من الأعداء ، كالقتل ، والجرح ، والهزيمة ﴿قالَ﴾ ذلك المنافق المبطئ ؛ فرحا بتقاعده ، وحامدا لربّه : ﴿قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ﴾ بالسّلامة والحياة ﴿إِذْ لَمْ أَكُنْ﴾ في المعركة ﴿مَعَهُمْ شَهِيداً﴾ وحاضرا ، فيصيبني ما أصابهم ﴿وَلَئِنْ أَصابَكُمْ﴾ ونالكم ﴿فَضْلٌ﴾ من فتح وغنيمة ﴿مِنَ﴾ جانب ﴿اللهِ﴾ وبإعانته ﴿لَيَقُولَنَ﴾ ذلك المنافق تحسّرا وحزنا ﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ وصداقة ، حتّى يفرح لفرحكم : ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ﴾ في تلك الغزوة ﴿فَأَفُوزَ﴾ وأنال ﴿فَوْزاً﴾ وحظّا ﴿عَظِيماً﴾ وافرا من الغنيمة.

وفي ذكر الجملة الاعتراضية بين فعل القول ومفعوله ، دلالة على أن تمنّيهم الحضور في الوقعة كان للحرص على المال ، لا للاشتياق إلى نصرة المسلمين بمقتضى المودّة والخلطة.

﴿فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي

 سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤)

ثمّ عاد سبحانه إلى الحثّ في الجهاد بقوله : ﴿فَلْيُقاتِلْ﴾ ألبتّة ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ولطلب مرضاته المؤمنون الخلّص (١)﴿الَّذِينَ يَشْرُونَ﴾ ويبيعون ﴿الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ ومتاعها ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ ويختارون الفوز برضوان الله ، والنّعم الخالصة الدّائمة على العيش المكدّر الزّائل.

ثمّ بالغ في التّرغيب فيه بقوله : ﴿وَمَنْ يُقاتِلْ﴾ أعداء الدّين ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ولإعلاء كلمة التّوحيد والحقّ ﴿فَيُقْتَلْ﴾ بأيديهم ﴿أَوْ يَغْلِبْ﴾ عليهم فيقتلهم ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ في الآخرة ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ وثوابا جسيما لا يقادر قدره.

﴿وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ

 وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ

 لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)

__________________

(١) في النسخة : الخلصون.

٢٤٧

ثمّ لام المتقاعدين عن القتال وأنكره عليهم بقوله : ﴿وَما﴾ العذر ﴿لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿لا تُقاتِلُونَ﴾ الكفّار ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ وَ﴾ لتخليص ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾ والمستذلّين بين المشركين ﴿مِنَ الرِّجالِ﴾ المؤمنين ﴿وَالنِّساءِ﴾ المؤمنات ﴿وَالْوِلْدانِ﴾ - الصّغار ﴿الَّذِينَ﴾ لا يؤخذون بجرم الكبار - من أسر الكفّار ، وهم من كثرة أذيّة المشركين ﴿يَقُولُونَ﴾ متضرّعين إلى الله : ﴿رَبَّنا أَخْرِجْنا﴾ وخلّصنا ﴿مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ التي نحن فيها ﴿الظَّالِمِ﴾ علينا ﴿أَهْلُها﴾ وساكنوها ﴿وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ﴾ ومن رحمتك ﴿وَلِيًّا﴾ من المؤمنين يقوم بمصالحنا ، و حفظ ديننا ﴿وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾ ينصرنا على أعدائنا ، ويدفع عنّا أذاهم.

قيل : هم المسلمون الّذين حبسوا في مكّة وصدّهم المشركون عن الهجرة ، أو عجزوا عنها فبقوا في الذّلّة ، وتلقّوا الأذى (١) ، فيسرّ الله لبعضهم الهجرة إلى المدينة ، وجعل لبعضهم - الّذين بقوا فيها إلى الفتح - خير وليّ وأعزّ ناصر ، وهو نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن العيّاشي : عنهما عليهما‌السلام ، في هذه الآية قالا : « نحن أولئك » (٢) .

﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ

 فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)

ثمّ بيّن الله سبحانه أنّ الجهاد لغرض نصرة الدّين من خصائص المؤمنين حثّا لهم ، بقوله : ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هم الّذين ﴿يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ولنصرة دينه ، فالله ناصرهم ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ ولاتّباع الشّيطان ، وترويج الباطل ، فالشّيطان وليّهم ، والله خاذلهم ﴿فَقاتِلُوا﴾ يا أولياء الله ﴿أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ﴾ وأتباعه وحزبه ، ولا تخافوا كيدهم ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ﴾ لأهل الإيمان ، وسعيه في إطفاء نور الحقّ منذ كان ﴿كانَ ضَعِيفاً﴾ وبلا نتيجة ، بالإضافة إلى كيد الله بالكافرين.

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا

 كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً

 وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا

 قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٠٢.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٤١٨ / ١٠٣٧ و١٠٣٨ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٦.

٢٤٨

ثمّ قيل : إنّ فريقا من المؤمنين يظهرون الرّغبة في الجهاد قبل وجوبه ، فلمّا وجب الجهاد تثاقلوا عنه ، وأظهروا الكراهة منه ، فلامهم الله ووبّخهم (١) بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمّد ﴿إِلَى﴾ المؤمنين ﴿الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ﴾ حين إظهارهم الرّغبة في الجهاد ، واستئذانهم فيه ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ عنه ، ولا تتعرّضوا للكفّار ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ واشتغلوا بسائر ما امرتم به.

روي أنّ ناسا من المؤمنين أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يهاجر إلى المدينة ، وشكوا إليه ما يلقونه من أذى المشركين ، وقالوا : كنّا في عزّ في حالة الجاهليّة ، والآن صرنا أذلّة ، فلو أذنت لنا قتلناهم على فرشهم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كفّوا أيديكم - إي أمسكوا عن القتال - وأقيموا الصّلاة ، وآتوا الزّكاة ، واشتغلوا بما امرتم به ، فإنّي لم أؤمر بقتالهم » . وكانوا في مدّة إقامتهم بمكّة مستمرّين على تلك الحالة ، فلمّا هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، وامروا بالقتال في وقت بدر ، كرهه بعضهم وشقّ ذلك عليه ، وذلك قوله تعالى : ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ(٢) وفرض ﴿إِذا فَرِيقٌ﴾ وجمع ﴿مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ المشركين أن يقتلوهم ، خشية ﴿كَخَشْيَةِ اللهِ﴾ الكائنة في قلوبهم أن ينزل عليهم بأسه ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ من خشيتهم من الله ، أو من أهل خشية الله. وفي التّرديد إيهام على المخاطب ، أو إشعار باختلاف الفريق في شدّة الخوف.

﴿وَقالُوا﴾ بألسنتهم ، أو في قلوبهم تمنّيا لطول البقاء ، لا اعتراضا على الله : ﴿رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ﴾ وفرضت ﴿عَلَيْنَا الْقِتالَ﴾ مع الكفّار ﴿لَوْ لا أَخَّرْتَنا﴾ وأمهلتنا ﴿إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أجّلته لنا ، والموت الذي قدّرته علينا.

قيل : إنّ الآية نزلت في المنافقين ؛ وهم المراد بالفريق منهم (٣) .

ثمّ أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بوعظهم بقوله : ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا﴾ والانتفاع بها ﴿قَلِيلٌ﴾ المدّة ، سريع التّقضّي ، قليل اللّذّة ، لشوبه بالمكاره والغموم ، قليل القدر ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ من الدّنيا ونعمها ؛ لأنّها دائمة خالصة من الكدورات ، عظيمة القدر ، ولكن تكون ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ وأطاعه ﴿وَلا تُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب أعمالكم ﴿فَتِيلاً﴾ وشيئا يسيرا.

﴿أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ

 يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ١٨٤.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٢٣٩.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ١٨٥.

٢٤٩

عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الموت لا مناص منه ، تقصيرا للآمال ، بقوله : ﴿أَيْنَما تَكُونُوا﴾ أيّها النّاس ، وفي أيّ مكان تتمكّنوا ﴿يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ ويصيبكم الفناء ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ﴾ متحصّنين ﴿فِي بُرُوجٍ﴾ وقصور حصينة ﴿مُشَيَّدَةٍ﴾ محكمة ، أو مجصّصة ، فإذا كان الموت لا بدّ منه ، فبأن يقع على وجه يكون مستعقبا للسّعادة الأبديّة كان أولى.

ثمّ أنّه تعالى بعدما ذكر تثاقل ضعفاء المؤمنين أو المنافقين عن الجهاد ، أردفه بذكر سوء مقالهم ، من بقوله : ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾ من سعة ونعمة وراحة ﴿يَقُولُوا هذِهِ﴾ الحسنة ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ومن فضله ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ من جدب وغلاء وشدّة ﴿يَقُولُوا﴾ لك من غاية الجهل والحمق ، أو العناد : ﴿هذِهِ﴾ السّيّئة ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾ ومن شؤمك.

قيل : كانت المدينة مملوءة من النّعم وقت مقدم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الإمساك ، كما جرت عادته في جميع الامم ، كما قال الله تعالى : ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(١) فعند ذلك قالت اليهود والمنافقون : وما رأينا أعظم شؤما من هذا الرّجل ، نقصت ثمارنا ، وغلت أسعارنا منذ قدم ، فقوله تعالى : ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾ يعني : الخصب ، ورخص السّعر ، وتتابع الأمطار ، قالوا : ﴿هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ من الجدب وغلاء السّعر ، قالوا : هذا من شؤم محمّد. وهذا كقوله تعالى : ﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ(٢) ، وعن قوم صالح قالوا : ﴿اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ(٣) .

ثمّ أمر الله بردّهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿كُلٌ﴾ من الحسنات والسّيّئات ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ يقبض ويبسط على حسب الحكمة والإرادة.

ثمّ بيّن الله شدّة حماقتهم بإظهار التّعجّب من قلّة فهمهم ؛ بقوله : ﴿فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ﴾ ويفهمون ﴿حَدِيثاً﴾ من الأحاديث وقولا من الأقوال ، إن هم إلّا كالأنعام.

﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ

 لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩)

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٩٤.

(٢) الأعراف : ٧ / ١٣١.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ١٨٨ ، والآية من سورة النمل : ٢٧ / ٤٧.

٢٥٠

ثمّ أنّه تعالى بعد التّنبيه على أنّ إيجاد الحسنات والسّيّئات كلّها بيده وعن إرادته ، نبّه على اختلاف أسبابها بقوله : ﴿ما أَصابَكَ﴾ أيّها الإنسان ﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾ من الحسنات ، ومن خير من الخيرات ﴿فَمِنَ اللهِ﴾ وبتفضّله وإحسانه ، أو بحكمة الامتحان ﴿وَما أَصابَكَ﴾ وورد عليك ﴿مِنْ سَيِّئَةٍ﴾ وبليّة ﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ وبسبب سيئاتك ومعاصيك ، وإن كان إيجادها أيضا من الله.

عن الرضا عليه‌السلام : « قال الله : [ يا ] ابن آدم [ بمشيئتي ] كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء [ و] بقوّتي أدّيت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويّا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، وذلك أنّي لا اسأل عمّا أفعل وهم يسألون » (١) .

وعن عائشة : ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب ، حتّى الشّوكة يشاكها ، وحتّى انقطاع شسع نعله ، إلّا بذنب ، وما يغفر الله أكثر (٢) .

أقول : حاصل المستفاد من [ الآية ] الكريمة أنّ جميع ما يصيب الإنسان سواء أكان من الحسنات أو من السّيّئات ، فبإيجاد الله تعالى ، لا يشركه أحد في إيجاده. وأمّا سببها فما كان من الحسنات فبسبب التّفضّل ، وقابليّة الفيض ، وامتحان العبد ، وما كان من السّيّئات فبسبب استحقاق العقوبة على المعاصي الحاصلة بالشّهوات النّفسانيّة.

ثمّ لمّا كان بيان هذا المطلب العالي بعبارة وافية من أدلّة الرّسالة ، أعلن سبحانه برسالته ، بقوله : ﴿وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ﴾ جميعا العرب والعجم ، والأبيض والأسود ﴿رَسُولاً﴾ ومبلّغا عن الله ، والمعجزات التي أتيتها شهادة الله على رسالتك وصدقك ﴿وَكَفى بِاللهِ﴾ للنّاس ﴿شَهِيداً﴾ ومصدّقا ؛ فلا ينبغي لأحد التّشكيك في صدقك والخروج عن طاعتك.

﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)

ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على رسالته ، أكّد وجوب طاعته بقوله : ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿فَقَدْ أَطاعَ اللهَ﴾ في الحقيقة ، لكونه مبلّغا عنه ، والله أمر بطاعته.

قيل : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : « من أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله » ، فقال المنافقون : لقد قارب (٣) هذا الرّجل الشّرك ، إنّه ينهى أن يعبد غير الله ، ويريد أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت

__________________

(١) الكافي ١ : ١٢٢ / ١٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٧ عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٠٦ ، تفسير روح البيان ٢ : ٢٤٢.

(٣) في تفسير أبي السعود والصافي : قارف.

٢٥١

النّصارى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية (١) .

ثمّ هدّد الله سبحانه المعرضين عن طاعته ، بقوله : ﴿وَمَنْ تَوَلَّى﴾ وأعرض عن طاعتك ﴿فَما أَرْسَلْناكَ﴾ كي تكون ﴿عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ ومراقبا لأعمالهم ، ومحاسبا لهم ، بل إنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، ووظيفتك الإرشاد بالبيان وإلينا الهداية بالتّوفيق ، فلا تحرص على زجرهم عن العصيان ، ولا تغتمّ بسبب إعراضهم عن الطّاعة.

﴿وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ

 يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١)

ثمّ وبّخ الله سبحانه المنافقين بإظهار الطّاعة ، وإبطال المخالفة ، بقوله : ﴿وَيَقُولُونَ﴾ حين تأمرهم بشيء : شأننا ﴿طاعَةٌ﴾ خالصة دائمة ﴿فَإِذا بَرَزُوا﴾ خرجوا ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾ وخلوا إلى أنفسهم ﴿بَيَّتَ﴾ ودبّر ﴿طائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ وهم السّاعون في مخالفتك أمرا ﴿غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾ لهم وتأمرهم به ﴿وَاللهُ يَكْتُبُ﴾ في صحائف أعمالهم ﴿ما يُبَيِّتُونَ﴾ ويدبّرون من مخالفتك وعصيانك ، فيجازيهم به ، ويعاقبهم عليه أشدّ العقاب ﴿فَأَعْرِضْ﴾ أنت ﴿عَنْهُمْ﴾ ولا تتعرّض لعقوبتهم ، وهتك سترهم ، وتفضيحهم بذكر أسمائهم ، حتّى يستقيم أمرك وأمر دينك ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ في شأنهم ، فإن الله يكفيك شرّهم ﴿وَكَفى﴾ لك ﴿بِاللهِ وَكِيلاً﴾ وكافيا لحفظك وجميع امورك.

﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً

كَثِيراً (٨٢)

ثمّ لمّا كان نفاق المنافقين لعدم اعتقادهم بصدق الرّسول مع ظهور معجزاته خصوصا القرآن المجيد الذي هو أعظمها ، وكان لعدم التّدبّر فيه ، حثّهم عليه بقوله : ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ وهلّا يتأمّلون في إعجاز بيانه وعلوّ مطالبه ، حتّى يظهر لهم بهذه المعجزة العظيمة صدق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوى الرّسالة.

في أحد وجوه إعجاز القرآن

ثمّ أرشدهم إلى أحد وجوه إعجازه بقوله : ﴿وَلَوْ كانَ﴾ هذا القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ﴾ وكلاما صادرا من البشر ، كما زعمه الكفّار ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ وتفاوتا فاحشا في عباراته من جهة الفصاحة والأسلوب ، وفي مطالبه من جهة

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٠٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٧.

٢٥٢

الصحّة والفساد فكون جميع عباراته بطولها في أعلى درجة الفصاحة ، ومطالبه مع كثرتها في غاية الصّحّة والمتانة ، دليل قاطع على أنّه كلام الله ، لا كلام البشر ، لقضاء العادة بأن كلام البشر لا يخلو من الاختلاف في الفصاحة إذا كان طويلا ، والأخبار الغيبيّة الحدسيّة لا تخلو من عدم مطابقة بعضها للواقع ، ومطالبه العلميّة الكثيرة لا تخلو عن بطلان بعضها.

﴿وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي

 الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ

 وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)

ثمّ أنّه تعالى لمّا أمّن نبيّه من شرّ المنافقين ، وأحكم أساس نبوّته بالإشارة إلى وجه إعجاز كتابه ، أخبره بإفساد المنافقين في المسلمين بقوله : ﴿وَإِذا جاءَهُمْ﴾ وبلغهم من سرايا المسلمين ، أو من طرف المشركين ﴿أَمْرٌ﴾ وشيء ﴿مِنَ الْأَمْنِ﴾ للمسلمين كالظّفر على الأعداء ، أو تقاعد المشركين عن حربهم ﴿أَوِ﴾ من ﴿الْخَوْفِ﴾ كنكبة المسلمين وضعفهم ، أو هزيمتهم عن العدوّ ، أو تجمّع الكفّار لحربهم ، فهم بمحض سماع الخبر ﴿أَذاعُوا بِهِ﴾ وأفشوه بين المسلمين ، من غير تحقيق عن صدقه ، ومن غير ملاحظة للصّلاح في إفشائه ، فقد يكون في إفشائه تغرير المسلمين ، أو تخويفهم من العدوّ ، وضعفهم في المعارضة أو في الإيمان ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ وفوّضوه ﴿إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ﴾ وأهل البصيرة والعلم ﴿مِنْهُمْ﴾ وإلى نظرهم في تحقيق الصّدق ، وتشخيص الصّلاح في الإفشاء ، والتّدبير في كيفيّة الذّكر ، وطلبوا معرفة الحال من جهتهم ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ ويستخرجون واقع الأمر ﴿مِنْهُمْ﴾ بأنظارهم الصّائبة ، ومعرفتهم الكاملة بحقائق الأمور.

قيل : كان قوم من ضعفه المسلمين إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أخبرهم الرّسول بما اوحي إليه من وعد بالظّفر ، أو تخويف من الكفرة ، أذاعوا به لعدم حزمهم ، وكانت إذاعتهم مفسدة(١) .

وقيل : كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فيعود وبالا على المسلمين ، ولو ردّوه إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى اولي الأمر منهم حتّى يسمعوا منهم ، ويعرفوا هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واولي الأمر (٢) .

عن الباقر عليه‌السلام : « هم الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام » (٣) .

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٠٨.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ٢٠٩.

(٣) جوامع الجامع : ٩٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٩.

٢٥٣

وعن الرضا عليه‌السلام : « يعني : آل محمّد عليهم‌السلام ، وهم الّذين يستنبطون من القرآن ، ويعرفون الحلال والحرام ، وهم حجّة الله على خلقه » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « من وضع ولاية الله ، وأهل استنباط علم الله في غير أهل الصّفوة من بيوتات الأنبياء ، فقد خالف أمر الله عزوجل ، وجعل الجهّال ولاة أمر الله ، والمتكلّفين بغير هدى ، وزعموا أنّهم أهل استنباط علم الله ، فكذّبوا على الله ، وزاغوا عن وصيّة الله وطاعته ، ولم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله تبارك وتعالى ، فضلّوا وأضلّوا أتباعهم ، فلا تكون لهم يوم القيامة حجّة » (٢) .

ثمّ لمّا أمر الله بطاعة رسوله ، والجهاد في سبيله ، وردّ الأمور إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى اولي الله ، أظهر منّته على العباد بفضله عليهم ، وهدايتهم إلى الحقّ ، حثّا على طاعة أحكامه ، بقوله : ﴿وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ بإرسال الرّسول ، وإنزال القرآن ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ عليكم بهدايتكم إلى دين الإسلام.

وعن الباقر عليه‌السلام : « فضل الله : رسول الله ، ورحمته : [ ولاية ] الأئمّة عليهم‌السلام » (٣) .

وعنهم عليهم‌السلام : « فضل الله ورحمته : النبيّ ، وعليّ عليهما‌السلام » (٤) .

والله (٥)﴿لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾ في الكفر والطّغيان ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ منكم ، وهم اولوا الألباب.

قيل : إنّ قسّ بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

﴿فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ

 بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)

ثمّ لمّا أمر الله سبحانه في الآية السّابقة بالجهاد ، وبيّن نفرة جمع من ضعفة المسلمين وجميع المنافقين عنه ، حثّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بالجدّ فيه بنفسه ، وتحريض المؤمنين عليه بقوله : ﴿فَقاتِلْ﴾ يا محمّد وحدك ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ونصرة دينه ، وإن خذلك جميع النّاس ، ولم ينصرك أحد.

قيل : إنّ التقدير : إن أردت الفوز فقاتل الكفّار (٧) .

وقيل : إنّه تعالى بعد ذكر سيّئات أخلاق المنافقين ، ومضادّتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسعيهم في الإفساد بين

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٤٢٢ / ١٠٥٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٩.

(٢) إكمال الدين : ٢١٨ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٩.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٤٢٢ / ١٠٥١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٩.

(٤) جوامع الجامع : ٩٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤٣٩.

(٥) لا محلّ للقسم هنا ، واللام في قوله تعالى : لَاتَّبَعْتُمُ واقعة في جواب ( لو لا ) فهي حرف جواب وربط ، وليست لام القسم.

(٦) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٢.

(٧) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٣.

٢٥٤

المسلمين ، كأنّه قال : فلا تعتدّ بهم ، ولا تلتفت إلى أفعالهم ، بل قاتل في سبيل الله (١) .

و﴿لا تُكَلَّفُ﴾ ولا تحمل عليه ﴿إِلَّا نَفْسَكَ﴾ فإنّ الله ناصرك. ففيه دلالة على أنّ الجهاد كان واجبا عليه ، وإن لم يساعده غيره.

قيل : نزلت في بدر الصّغرى ، فإنّه واعده أبو سفيان اللّقاء فيها ، فكره بعض النّاس الخروج معه ، فخرج وما معه إلّا سبعون ، ولم يلتفت إلى أحد ، ولو لم يخرج معه أحد لخرج وحده (٢) .

ثمّ أمره بتحريض المؤمنين بقوله : ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على القتال ، ورغّبهم فيه بالنّصح ، ووعد النّصر والغنيمة ، وثواب الآخرة ، ولا تعنف بهم - على ما قيل (٣) - ﴿عَسَى اللهُ﴾ وأرجه ﴿أَنْ يَكُفَ﴾ ويمنع عنك ، وعن المسلمين ﴿بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش ، ومكروههم ﴿وَاللهُ أَشَدُّ﴾ منهم ﴿بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً﴾ وعذابا.

﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ

 كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)

ثمّ قيل : إنّه لمّا حرّض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القتال ، شفع بعض المنافقين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأذن لبعضهم في التّخلّف عنه (٤) ، فنهى الله تعالى عن تلك الشّفاعة بقوله : ﴿مَنْ يَشْفَعْ﴾ إلى أحد ﴿شَفاعَةً حَسَنَةً﴾ مرضيّة عند الله ؛ كأن [ يشفع ] في

الإحسان إلى مؤمن ، أو دفع شرّ عنه ، طلبا لمرضاة الله.

وعن ابن عبّاس : الشّفاعة الحسنة أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفّار (٥) .

﴿يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ﴾ وحظّ ﴿مِنْها﴾ بالانتفاع من أجرها وثوابها.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اشفعوا تؤجروا » (٦) .

﴿وَمَنْ يَشْفَعْ﴾ عند أحد ﴿شَفاعَةً سَيِّئَةً﴾ غير مرضيّة ، كأن يشفع في معصية أو تضييع حقّ وعن ابن عبّاس : أن يشفع كفره بالمحبّة للكفّار ، وترك إيذائهم (٧) .

﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ﴾ وحظّ ﴿مِنْها﴾ بالابتلاء بعقوبتها ﴿وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأجر والعقوبة ﴿مُقِيتاً﴾ وقادرا ، أو على كلّ شيء من الشّفاعة الحسنة والسّيّئة مطّلعا وحافظا.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٣.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٤.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ٢٤٨.

(٤) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٦.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٦.

(٦) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٧.

(٧) تفسير الرازي ١٠ : ٢٠٦.

٢٥٥

عن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، أو دلّ على خير ، أو أشار به ، فهو شريك » (١) .

﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

 حَسِيباً (٨٦)

في وجوب ردّ السّلام والتحية

ثمّ أنّه تعالى بعد الأمر بجهاد الكفّار والشّدّة عليهم ، أمر بمسالمتهم إذا سلّموا ، أو بردّ تحيّتهم ، بقوله : ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ واكرمتم بنوع من الأكرام - [ عن ] القمّي : السّلام وغيره من البرّ (٢) - [ سواء ] كان المحيّي مسلما أو كافرا ﴿فَحَيُّوا﴾ المحيّي وقابلوا تحيّته ﴿بِأَحْسَنَ مِنْها﴾ كأن تقولوا في جواب من قال : سلام عليكم ؛ عليكم السّلام ، أو مع زيادة : ورحمة الله وبركاته ، لوضوح أنّ تحيّة الإسلام السّلام ﴿أَوْ رُدُّوها﴾ بأن تقولوا في جوابه : سلام عليكم.

في بيان كيفية الردّ بالأحسن

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إذا عطس أحدكم [ فسمّتوه ] قولوا : يرحمكم (٣) الله ، ويقول هو : يغفر الله لكم ويرحمكم ، قال الله تعالى : ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ الآية » (٤) .

في ( المناقب ) : جاءت جارية للحسن بطاقة ريحان ، فقال لها : « أنت حرّة لوجه الله » فقيل له في ذلك ، فقال : « أدّبنا الله تعالى فقال : ﴿وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ الآية ، وكان أحسن منها إعتاقها» (٥).

عن الباقر عليه‌السلام : « مرّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه بقوم ، فسلّم عليهم فقالوا : عليك السّلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه ، فقال أمير المؤمنين : لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم عليه‌السلام ؛ إنّما قالوا : ﴿رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ (٦) .

وروي أنّ رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : السّلام عليك ، فقال : « وعليك السّلام ورحمة الله » ، وقال آخر : السّلام عليك ورحمة الله ، فقال : « وعليك السّلام ورحمة الله وبركاته » ، وقال آخر : السّلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال : « وعليك » ، فقال الرّجل نقصتني ، فأين ما قال الله - وتلا هذه الآية - فقال : « إنّك لم تترك لي فضلا ، فرددت عليك مثله » (٧) .

عن الصادق عليه‌السلام : « من قال السّلام عليكم ، فهي عشر حسنات ، ومن قال : السّلام عليكم ورحمة

__________________

(١) الخصال : ١٣٨ / ١٥٦.

(٢) تفسير القمي ١ : ١٤٥.

(٣) في الخصال : يرحمك.

(٤) الخصال : ٦٣٣.

(٥) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٨.

(٦) الكافي ٢ : ٤٧٢ / ١٣ ، والآية من سورة هود : ١١ / ٧٣.

(٧) مجمع البيان ٣ : ١٣١ ، تفسير البيضاوي ١ : ٢٢٨ ، تفسير أبي السعود ٢ : ٢١١.

٢٥٦

الله ، فهي عشرون حسنة ، ومن قال : السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فهي ثلاثون حسنة » (١) .

وعنه عليه‌السلام : « من تمام التّحيّة للمقيم المصافحة ، وتمام التّسليم على المسافر المعانقة » (٢) .

وعنه عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « لا تبدأوا أهل الكتاب بالتّسليم ، وإذا سلّموا عليكم فقولوا : وعليكم » (٣) .

في كراهة التسليم على ثلاثة عشر طائفة

وعنه ، عن أبيه عليهما‌السلام : « لا تسلّموا على اليهود ، ولا على النّصارى ، ولا على المجوس ، ولا على عبدة الأصنام (٤) ، ولا على موائد شرب الخمر ، ولا على صاحب الشّطرنج والنّرد ، ولا على المخنّث ، ولا على الشّاعر الذي يقذف المحصنات ، ولا على المصلّي ؛ وذلك أن المصلّي لا يستطيع أن يردّ السّلام ، لأنّ التّسليم من المسلّم تطوّع ، والرّدّ عليه فريضة ، ولا على آكل الرّبا ، ولا على رجل جالس على غائط ، ولا على الذي في الحمام ، ولا على الفاسق المعلن بفسقه » (٥) .

ثمّ هدّد الله سبحانه على مخالفة الأمر بردّ التّحيّة ، أو الإساءة بالمحيّي ، بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من النّقير والقطمير من أعمالكم ﴿حَسِيباً﴾ فيحاسبكم على جميع ما يصدر منكم ، ويجازيكم عليها ، فكونوا من مخالفته على حذر.

﴿اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ

 حَدِيثاً (٨٧)

ثمّ أظهر سبحانه عظمته ووحدانيّته في الالوهيّة والقدرة ، وذكر يوم القيامة واجتماعهم للحساب فيه ، إرعابا للقلوب وتخويفا من العصيان ، بقوله : ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ فاخضعوا لعظمته وقدرته ، وخصّوه بالعبوديّة والطّاعة ، واعلموا أنّه بالله ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ ويسوقنّكم من القبور ﴿إِلى﴾ حساب ﴿يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ وهو يوم يقوم النّاس لربّ العالمين ﴿لا رَيْبَ﴾ لعاقل ﴿فِيهِ﴾ .

ثمّ أكّد صدق هذا الحديث ، بعد الحلف ونفي الرّيب عنه ، بقوله : ﴿وَمَنْ﴾ هو ﴿أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ وخبرا ، فإنّ الكذب ممكن في خبر غيره ، ولا يمكن في خبره ؛ لمنافاته لحكمته وغناه.

في الحديث القدسيّ : « كذّبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك » (٦) .

﴿فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٧١ / ٩.

(٢) الكافي ٢ : ٤٧٢ / ١٤.

(٣) الكافي ٢ : ٤٧٤ / ٢.

(٤) في الخصال : الأوثان.

(٥) الخصال : ٤٨٤ / ٥٧.

(٦) تفسير روح البيان ٢ : ٢٥٥.

٢٥٧

أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)

ثمّ أنّه تعالى بعد إرعاب النّاس بعظمته وقدرته ، وبعثهم إلى يوم الجزاء ، ونفي الرّيب فيه ، ردع المؤمنين عن موادّة المنافقين ، وعن الرّيب في كفرهم ، بقوله : ﴿فَما لَكُمْ﴾ اختلفتم ﴿فِي﴾ كفر ﴿الْمُنافِقِينَ﴾ بعد ظهوره ، وتفرّقتم فيه ﴿فِئَتَيْنِ﴾ وفرقتين.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكّة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين ، فاختلف المسلمون في كفرهم وإسلامهم وتشاجروا فيه (١) .

وعن عكرمة : أنّها نزلت في قوم ضلّوا ، وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة ، فاختلف المسلمون فيهم (٢) .

وقيل : إنّها نزلت في قوم قدموا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلمين ، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ، ثمّ قالوا : يا رسول الله ، نريد أن نخرج إلى الصّحراء ، فأذن لنا فيه ، فأذن لهم ، فلمّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتّى لحقوا بالمشركين ، فتكلّم المؤمنون فيهم فقال بعضهم : لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا ، وقال قوم : هم مسلمون ، وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر حتّى يظهر لنا أمرهم (٣) .

فبيّن الله تعالى نفاقهم بقوله : ﴿وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ﴾ وردّهم إلى أحكام الكفر ، من الذّل والصّغار ، والقتل والسّبي ﴿بِما كَسَبُوا﴾ من إظهار الارتداد.

ثمّ لمّا كان المؤمنون يتمنّون إيمان المنافقين ويحتالون فيه ، قطع الله طمعهم في إيمانهم ، بقوله :

﴿أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾ إلى الحقّ وطريق الجنّة ﴿مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾ وخذله ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ﴾ عن الهدى ، وخذله ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ إلى الإيمان ، وطريقا إلى الجنان.

﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى

 يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا

 تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)

ثمّ بالغ سبحانه في صرف قلوب المؤمنين عن موالاتهم بقوله : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وتمنّوا أن ترتدّوا إلى الكفر ﴿كَما كَفَرُوا﴾ وارتدّوا عن الإسلام ﴿فَتَكُونُونَ﴾ أنتم وهم ﴿سَواءً﴾ في الكفر ، فلمّا علمتم أنّهم طالبون هلاككم الأبدي ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ﴾ لأنفسكم ﴿أَوْلِياءَ﴾ ولا ترضوا بهم لكم

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٨.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٩.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٢١٨.

٢٥٨

أصدقاء ﴿حَتَّى﴾ يؤمنوا ، وتحقّقوا إيمانهم بأن ﴿يُهاجِرُوا﴾ عن بلاد الشّرك إلى دار الإسلام ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ولنصرة دينه ، وخدمة الرّسول ، لا للأغراض الدّنيويّة ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ وأعرضوا عن موافقتكم في الإيمان ، والهجرة عن الأوطان بخلوص النّيّة ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ إذا قدرتم عليهم ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من الحلّ والحرم ﴿وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ﴾ لأنفسكم ﴿وَلِيًّا﴾ ولا صديقا ﴿وَلا نَصِيراً﴾ ولا معينا بوجه أبدا ، ما داموا على حالة الكفر والشّقاق.

﴿إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ

 صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ

 فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ

 عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)

ثمّ استثنى من الكفّار الّذين أمر بقتلهم طائفتين ، أمّا الطّائفة الاولى : فبقوله : ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ وينتهون ﴿إِلى قَوْمٍ﴾ كافرين يكون ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ﴾ وعهد أكيد ، أن لا تتحاربوا.

قيل : هم الأسلميّون ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وادع (١) وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه ، فله من الجوار مثل الذي لهلال(٢).

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : هم بنو بكر بن زيد مناة (٣) .

وعن قتادة : هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة (٤) .

وأمّا الطّائفة الثانية : فبقوله : ﴿أَوْ جاؤُكُمْ﴾ حال كونهم ﴿حَصِرَتْ﴾ وضاقت ﴿صُدُورُهُمْ﴾ عن ﴿أَنْ يُقاتِلُوكُمْ﴾ مع قومهم ، لكونكم مسلمين معاهدين معهم ﴿أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ معكم ، لكونهم على دينهم ، فهم لا لكم ولا عليكم.

في معاهدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني مدلج

قيل : هم بنو مدلج ، عاهدوا المسلمين أن لا يقاتلوهم ، وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم ، فضاقت صدورهم عن قتال المسلمين للعهد الذي بينهم وللرّعب الذي قذف الله في قلوبهم ، وضاقت صدورهم عن قتال قومهم لأنّهم كانوا على دينهم (٥) .

ثمّ منّ الله على المسلمين بكفّ أذى المعاهدين عنهم بقوله : ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ تسليط الكفّار عليكم

__________________

(١) أي صالح وهادن وسالم.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٢٥٧.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٢٢٢.

(٤) تفسير الرازي ١٠ : ٢٢٣ ، عن مقاتل.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ٢٥٧.

٢٥٩

﴿لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ برفع أثر العهد ، وتقوية قلوبهم ، وإزالة الرّعب عنهم ، إذن ﴿فَلَقاتَلُوكُمْ﴾ ألبتّة وقتلوكم ، ولكن لم يشأ ذلك ، لكرامتكم عليه باتّباع الرّسول ودين الإسلام ، فإذا علمتم ذلك ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ واجتنبوا عن التّعرّض لكم ﴿فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ﴾ بمشيئة الله ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ وتلقّوكم بالانقياد والتّسليم ﴿فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ بالقتل والأسر.

في ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « نزلت في بني مدلج ، جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : إنّا [ قد ] حصرت صدورنا أن نشهد أنّك لرسول الله ، فلسنا معك ولا مع قومنا عليك ، فوادعهم إلى أن يفرغ من العرب ، ثمّ يدعوهم فإن أجابوا وإلّا قاتلهم » (١) .

ذكر معاهدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني الأشجع

عن القمّي ، في قوله تعالى : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ إلى آخر الآية : أنّها نزلت في أشجع ، وبني ضمرة ، وكان خبرهم أنّه لمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بدر لموعده مرّ قريبا من بلادهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هادن بني ضمرة ووادعهم قبل ذلك ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذه بنو ضمرة قريبا منّا ، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة ، أو يعينوا علينا قريشا ، فلو بدأنا بهم ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّا إنّهم أبرّ العرب بالوالدين ، وأوصلهم للرّحم ، وأوفاهم بالعهد » .

وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة ، [ وهم بطن من كنانة ، وكانت أشجع بينهم وبين بني ضمرة حلف في المراعاة والأمان ، فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بني ضمرة ، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة ] فلمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسيرهم إلى بني ضمرة ، تهيّأ للمصير إلى أشجع فيغزوهم للموادعة التي كانت بينه وبين ضمرة ، فأنزل الله : ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا ...﴾ ثمّ استثنى أشجع فقال : ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ الآية.

وكانت أشجع محالّها البيضاء والجبل والمستباخ ، وقد كانوا قربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهابوا لقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليهم من يغزوهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا ، فهمّ بالمسير إليهم ، فبينا هو على ذلك إذ جاءت أشجع ورئيسها مسعود بن رخيلة (٢) وهم سبعمائة ، فنزلوا شعب سلع (٣) ، وذلك في شهر ربيع سنة ست ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسيد بن حصين

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٢٧ / ٥٠٤.

(٢) مسعود بن رخيلة ؛ بالخاء ، انظر : اسد الغابة ٤ : ٣٥٧ والإصابة في تمييز الصحابة ٣ : ٤١٠ / ٧٩٤٣ ، وفي النسخة والصافي ( رحيلة ) بالحاء وفي القمي : ( رجيلة ) بالجيم.

(٣) الشّعب : هو الطريق في الجبل ، وسلع : هو جبل بسوق المدينة ، أو هو نفسه الشق في الجبل ، انظر معجم البلدان ٣ : ٢٦٧.

٢٦٠