نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ﴾ ومواليهنّ ، فإنّهنّ مملوكات لهم عينا ومنفعة ، فلا يجوز التّصرّف فيهنّ إلّا برضاهم السّابق على التّصرّف ، وإن قلنا بصحّة العقد بالإجازة اللّاحقة ، كما هو الحقّ.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل : هل يتزوّج الرّجل بالأمة بغير علم أهلها ؟ قال : « هو زنا ، إنّ الله تعالى يقول : ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ (١) . ولا فرق بين كون المولى رجلا أو امرأة ، ولا بين النّكاح الدّائم والمنقطع.

فما في ( الكافي ) ، عن الصادق عليه‌السلام : « لا بأس بأن يتمتّع الرّجل بأمة المرأة ، وأمّا أمة الرّجل فلا يتمتع بها إلّا بأمره » (٢) فلعلّه لا عمل به.

﴿وَآتُوهُنَ﴾ بأذن مواليهن ﴿أُجُورَهُنَ﴾ ومهورهنّ ، وتسمية المهر أجرا لكونه عوض البضع ، وهو المنفعة. وإنّما قيّدنا الإيتاء بأذن مواليهنّ لكونها ملكا لهم ، وليكن الإيتاء ملابسا ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو عدم المطل والضّرار والنّقص. وقيل : في إطلاق إيجاب إعطاء المهر دلالة على وجوبه وإن لم يسمّ لها مهرا ، فيجب في الصّورة مهر المثل بالدّخول. والمراد من قوله : ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ ما هو المتعارف في مثل هذه المرأة من المهر.

ثمّ أشار سبحانه إلى أنّ وجوب إيتاء المهر فيما إذا كنّ ﴿مُحْصَناتٍ﴾ عفيفات.

وقيل : إنّ جواز نكاح الأمة أو استحبابه مقيّد به ، وعليه يكون المعنى : فانكحوهنّ حال كونهنّ عفائف غير زانيات.

ثمّ أنّه قيل : إنّ العرب كانو يفرّقون بين المتجاهرات بالزّنا والمستترات ، ولذا نصّ الله سبحانه على عدم الفرق بقوله : ﴿غَيْرَ مُسافِحاتٍ﴾ ومتجاهرات بالزّنا ﴿وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ﴾ ومصاحبات للأصدقاء في السّرّ ، يزنون بهنّ.

ثمّ ذكر سبحانه حكم حدّهنّ في الزّنا بقوله : ﴿فَإِذا أُحْصِنَ﴾ بالتّزويج ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ﴾ بعد النّكاح والإحصان ﴿بِفاحِشَةٍ﴾ وارتكبن الزّنا سرّا أو علانية ﴿فَعَلَيْهِنَ﴾ ثابت شرعا ﴿نِصْفُ ما﴾ ثبت ﴿عَلَى الْمُحْصَناتِ﴾ والنّساء الحرائر ﴿مِنَ الْعَذابِ﴾ والحدّ ، وهو الجلد دون الرّجم ، للإجماع ولعدم تبعّض الرّجم. فلا يزداد حدّها على خمسين جلدة إذا كانت محصنة فضلا عمّا إذا كانت بكرا.

ثمّ بيّن الله تعالى أنّ هذا النّكاح المحرّم في الأصل على قول ، أو المكروه على آخر ، جائز لا حرازة فيه ﴿ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ﴾ على نفسه ﴿الْعَنَتَ﴾ والمشقّة ﴿مِنْكُمْ﴾ لغلبة الشّهوة وعدم الصّبر عليها ،

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٨٧ / ٩٣٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٠٨.

(٢) الكافي ٥ : ٤٦٤ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤٠٨.

٢٠١

حتّى خاف من نفسه الوقوع في الزّنا ، ﴿وَ﴾ مع ذلك ﴿أَنْ تَصْبِرُوا﴾ على المشقّة ، وتكفّوا عن الزّنا ، ونكاح الإماء فهو ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ دينا ودنيا من الإقدام على نكاحهنّ لكثرة مفاسده ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ للذّنوب ﴿رَحِيمٌ﴾ بالعباد.

﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

 حَكِيمٌ (٢٦)

ثمّ أنّه تعالى - بعد ذكر هذه الآيات المقرونة بأعلى درجة الفصاحة ، وبيان هذه الأحكام المشتملة على المصالح الكثيرة - أظهر المنّة وغاية اللّطف بالعباد ترغيبا لهم في الطاعة بقوله : ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ بإنزال هذه الآيات وبيان تلك الأحكام ﴿لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ ما فيه صلاح آخرتكم ودنياكم ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ﴾ الأنبياء والمؤمنين ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في الأزمة السّالفة.

قيل : فيه دلالة على أنّ هذه الأحكام كانت في جميع الشّرائع (١) .

﴿وَ﴾ أن ﴿يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ لوضوح أنّه لو لم تكن الأحكام لم يتحقّق العصيان ، ولولاه لم تتحقّق التّوبة ، ولولاها لم تظهر صفة توّابيّته ، وعفويّته ، وغفوريّته ، ولطفه في توفيقه للتّوبة ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ بمصالح العباد ﴿حَكِيمٌ﴾ في وضع أحكامه.

﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً

 عَظِيماً (٢٧)

ثمّ أعاد ذكر الحكمة الثّالثة اهتماما بإظهار سعة رحمته بقوله : ﴿وَاللهُ يُرِيدُ﴾ ويحبّ ﴿أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ويعفو عنكم إثر ندمكم على عصيانكم ﴿وَيُرِيدُ﴾ أعداء الله ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ﴾ وينهمكون فيها ﴿أَنْ تَمِيلُوا﴾ إلى الباطل بعد إعراضكم عنه وقبولكم الحقّ ﴿مَيْلاً عَظِيماً﴾ وتضلّوا بعد الهداية ضلالا بعيدا.

﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)

ثمّ تحبّب إلى عباده بإعلامهم بغاية رأفته بهم ، وإحسانه إليهم بقوله : ﴿يُرِيدُ اللهُ﴾ بتشريعة الحنيفيّة السّمحة السّهلة التي منها تحليل نكاح الإماء ﴿أَنْ يُخَفِّفَ﴾ ويضع ﴿عَنْكُمْ﴾ التّكاليف الشّاقّة،

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٦٦.

٢٠٢

والآصار والأغلال التي كانت على الامم الماضية.

ثمّ أشار إلى علّة هذا التّخفيف بقوله : ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً﴾ في نفسه وعقله وقواه ، عاجزا عن احتمال المشاقّ ، جزوعا عند الشّدائد ، لا يصبر عن الشّهوات ، ولا يحتمل مشقّة الطّاعات.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه ، قال : ثمان آيات في سورة النّساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ...(١) ، ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ...(٢) ، ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ...(٣) ، ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...(٤) ، ﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ...(٥) ، ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ...(٦) ، ﴿ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ ...(٧) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ

 تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩)

ثمّ لمّا أجاز سبحانه في التّصرّف في النّفوس بالنّكاح ، وأمر بابتغائه بالأموال ، وإيفاء المهور والنّفقات ، نهى عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه العقلائي والنّحو المحلّل في الشّرع أوّلا بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ﴾ ولا تتصرّفوا فيها ﴿بِالْباطِلِ﴾ بالأسباب غير المبيحة للمال ، كالقمار والرّشوة والغصب والسّرقة ونحوها. وعلى هذا التّفسير تكون الآية مجملة.

عن الباقر عليه‌السلام : « الرّبا والقمار والبخس والظّلم » (٨) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « عنى بها (٩) القمار ، وكانت قريش تقامر [ الرجل ] بأهله وماله فنهاهم [ الله ] عن ذلك » (١٠) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : إنّ الباطل [ هو ] كلّ ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض (١١) .

﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ﴾ التّجارة ﴿تِجارَةً﴾ كائنة ﴿عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ﴾ بها. وعليه لا يكون الاستثناء منقطعا لعدم كون التّجارة من جنس الباطل ، ويكون المعنى : ولكن يحلّ أكلها بالتّجارة عن التراضي ويمكن توجيه الآية بنحو يكون الاستثناء متّصلا.

ثمّ بعد النّهي عن التّصرّف في الأموال بغير الوجه المحلّل ، نهى عن التّصّرف في النّفوس بالقتل - ثانيا - بقوله : ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ .

__________________

(١) النساء : ٤ / ٢٦.

(٢) النساء : ٤ / ٢٧.

(٣) النساء : ٤ / ٣١.

(٤) النساء : ٤ / ٤٨.

(٥) النساء : ٤ / ٤٠.

(٦) النساء : ٤ / ١١٠.

(٧) تفسير الرازي ١٠ : ٦٨ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٤٧.

(٨) مجمع البيان ٣ : ٥٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤٠٩.

(٩) في تفسير العياشي : نهى عن.

(١٠) تفسير العياشي ١ : ٣٩٠ / ٩٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤٠٩.

(١١) تفسير الرازي ١٠ : ٦٩.

٢٠٣

قيل : إنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا (١) .

وقيل : إنّ المراد النّهي عن قتل الشّخص نفسه (٢) .

عن الصادق عليه‌السلام : « أنّ معناه : لا تخاطروا نفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه » (٣) .

وعنه عليه‌السلام : « كان المسلمون يدخلون على عدوّهم في المغارات ، فيتمكّن منهم عدوّهم فيقتلهم كيف يشاء ، فنهاهم الله أن يدخلوا عليهم في المغارات » (٤) .

وعن القميّ قال : كان الرّجل إذا خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغزو يحمل على العدوّ وحده من غير أن يأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنهى الله أن يقتل نفسه من غير أمره (٥) .

وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، قال : « سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجبائر تكون على الكسير ، كيف يتوضّأ صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب ؟ قال : يجزيه المسح (٦) بالماء عليها في الجنابة والوضوء ، قلت : فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده ؟ فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (٧) .

أقول : يمكن باستعمال لفظ ( القتل ) و( النفس ) في عموم المجاز إرادة تعريض نفسه ونفس غيره للهلاك الدّنيوي والاخروي.

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ النّهي عن إتلاف المال والنّفس لمحض رحمته بالعباد ، حثّا على الطّاعة بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ لا يرضى بتلف أموالكم ونفوسكم ، وبوقوعكم في الضّرر والمشقة.

﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ

 يَسِيراً (٣٠)

ثمّ أخذ سبحانه بالتّهديد على المخالفة بقولة : ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ﴾ ويرتكب ذلك المذكور من إتلاف الأموال والأنفس ، حال كون ارتكابه ﴿عُدْواناً﴾ على الغير ، وتجاوزا عن الحدود الإلهيّة ﴿وَظُلْماً﴾ على العباد ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ﴾ وندخله ﴿ناراً﴾ لا توصف شدّة حرّها ﴿وَكانَ ذلِكَ﴾ التّعذيب والتّصلية ﴿عَلَى اللهِ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿يَسِيراً﴾ وسهلا.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٧٢ ، مجمع البيان ٣ : ٥٩.

(٢) مجمع البيان ٣ : ٥٩.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٦٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٠.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٩٠ / ٩٤٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٠.

(٥) تفسير القمي ١ : ١٣٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٠.

(٦) في تفسير العياشي : المسّ.

(٧) تفسير العياشي ١ : ٣٨٩ / ٩٤٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٠.

٢٠٤

﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً

 كَرِيماً (٣١)

ثمّ بالغ سبحانه في إظهار رحمته ورأفته بالمؤمنين ، وترغيبه في الطّاعة بقوله : ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ وتحترزوا ﴿كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ من القبائح ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ﴾ ونغفر لكم ﴿سَيِّئاتِكُمْ﴾ الصّغيرة ، وذنوبكم الحقيرة ﴿وَنُدْخِلْكُمْ﴾ في الآخرة ﴿مُدْخَلاً﴾ ومنزلا ﴿كَرِيماً﴾ وحسنا مرضيّا.

قيل : إنّ المراد : إدخالا مع كرامة (١) .

في بيان الكبائر وعددها

عن الباقر عليه‌السلام ، أنّه سئل عن الكبائر ، فقال : « كلّ ما أوعد الله عليه النّار » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « الكبائر التي أوجب الله عليها النّار » (٣) .

وعنه عليه‌السلام ، في هذه الآية : « من أجتنب ما أوعد الله عليه النّار ، إذا كان مؤمنا ، كفّر الله عنه سيّئاته ويدخله مدخلا كريما ، والكبائر السّبع الموجبات : قتل النّفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الرّبا ، والتّعرّب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزّحف » (٤) .

أقول : لا شبهة في وجود المعصية الصّغيرة ، وبطلان ادّعاء أنّ جميع المعاصي كبائر ، لظهور الكتاب ، وصراحة كثير من الأخبار في وجود القسمين للمعاصي.

وما عن ابن عبّاس رضى الله عنه : - من أنّ كلّ ما عصي الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل منها شيئا فليستغفر الله (٥) - فمحمول على إرادة وجوب احتراز العبد عن جميع المعاصي ، والاستغفار منه إذا ارتكب شيئا منها ، ولا يجوز له التّهاون بها.

ثمّ لا ريب أنّ جميع الكبائر ليست على حدّ واحد ، بل بعضها أكبر من بعض ، لوضوح أنّ قتل النّفس أكبر من أكل مال اليتيم ، ولعلّ أكل مال اليتيم أكبر من أكل الرّبا ، والفرار من الزّحف أكبر من قذف المحصنة ، إلى غير ذلك.

فالميزان الثّابت بالأخبار للكبائر هو ما أوعد الله عليه النّار ، وإن كان الوعيد بالدّلالة الالتزاميّة ، وما ذكر في الأخبار من عدد الكبائر من السّبع ، فمحمول على بيان أكبر الكبائر.

وهذا القول منقول عن ابن عبّاس أيضا ، واعتراض الفخر الرازي عليه - بأنّ كلّ ذنب متعلّق للذّمّ في العاجل والعقاب في الآجل (٦) ، فلا تبقى صغيرة - شطط من الكلام ، لوضوح عدم ذكر كثير من

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٤١١.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٩٣ / ٩٥٧ ، تفسير الصافي ١ : ٤١١.

(٣) الكافي ٢ : ٢١١ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١١.

(٤) ثواب الأعمال ١٣٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤١١.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٧٣.

(٦) تفسير الرازي ١٠ : ٧٤.

٢٠٥

المحرّمات كالاستمناء والقبلة وأمثالهما في القرآن.

﴿وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا

 وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ

 عَلِيماً (٣٢)

ثمّ - لمّا كان عدم الرّضا بما قسمه الله لخلقه موجبا للحسد ، وأخذ الأموال بالباطل ، وقتل النّفوس المحترمة بغير الحقّ - نهى الله سبحانه عن الطّمع في ما في أيدي النّاس وتمنّيه ، بقوله : ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ من الأموال والأولاد والجاه ممّا يجري التّنافس فيه ، فإنّ ذلك قسمة من الله صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد ، مترتّبة على الإحاطة بجلائل شؤونهم ودقائقها.

فكلّ ما كنتم فاقدين له من الأمور الدّنيويّة وكان غيركم واجدا له ، فلعلّ عدمه خير لكم ، فعلى كلّ أحد من المفضّل والمفضّل عليه أن يرضى بما قسم له ، ولا يتمنّى المفضّل عليه حظّ المفضّل ، ولا يحسده عليه ؛ لأنّه معارضة لحكمة المقدّر ، فإنّ الأنصباء كالأشكال والصّور ، وكما أنّ الأشكال والصّور واختلافهما بمقتضى الحكمة الإلهيّة لا يطّلع على سرّها أحد ، فكذلك الاقسام والأنصباء.

عن الصادق عليه‌السلام ، في تفسير الآية : « أي لا يقل أحدكم : ليت ما اعطي فلان من المال والنّعمة والمرأة الحسناء كان لي ، فإنّ ذلك يكون حسدا ، ولكن يجوز أن يقول : اللهمّ أعطني مثله » (١).

أقول : وممّا ينبغي أن يقول : اللهمّ أعطني ما فيه صلاح دنياي وآخرتي ، بل أحسن الأدعية ما علّمه الله عباده في كتابه المجيد من قوله : ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً(٢) .

وقيل : إنّ وجه النّظم أنّه تعالى بعدما أمر بتطهير الجوارح من أقبح القبائح ، وهو أخذ المال بالباطل ، وقتل النّفس المحترمة ، أمر بتطهير القلب من أرذل الصّفات ، وهو الحسد على ما أعطاه الله غيره ، ليصير الباطن موافقا للظّاهر في الطّهارة من الذّمائم (٣) .

ثمّ علّل سبحانه النّهي عن التّمنّي بقوله : ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾ وحظّ معين لا يتخطّاه ﴿مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾ بأعمالهم وصلاح حالهم ، من النّعم الدّنيوية والاخرويّة ﴿وَلِلنِّساءِ﴾ أيضا ﴿نَصِيبٌ﴾ وحظّ ﴿مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ فاطلبوا ما تريدون بالأعمال ، لا بالتّمنّي والحسد ﴿وَسْئَلُوا اللهَ﴾ بعضا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ والتمسوا من جميع ما تحبّونه وتحتاجون إليه من خزائن جوده ورحمته التي لا تنفد ، فإن أعطاكم وأجاب سؤلكم فاشكروه ، وإن منعكم فارضوا بما قسمه لكم ، فإنّه ليس إلّا لعلمه بصلاحكم ﴿إِنَّ اللهَ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٦٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٣.

(٢) البقرة : ٢ / ٢٠١.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٨٠.

٢٠٦

كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المصالح والمفاسد ﴿عَلِيماً﴾ خبيرا.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله تعالى أحبّ شيئا لنفسه وأبغضه لخلقه ، أبغض عزوجل لخلقه المسألة ، وأحبّ لنفسه أن يسأل ، وليس شيء أحبّ إليه من أن يسأل ، فلا يستحي أحدكم أن يسأل الله عزوجل من فضله ولو شسع نعله » (١) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « ليس من نفس إلّا وقد فرض الله لها رزقا حلالا يأتيها في عافية ، وعرض لها بالحرام من وجه آخر ، فإن هي تناولت شيئا بالحرام قاصّها به من الحلال الذي فرض الله لها ، وعند الله سواهما فضل كثير » (٢) وهو قوله : ﴿وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ .

ثمّ قال : « وذكر الله بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرّزق من الضّرب في الأرض » (٣) .

قيل : إنّ سبب نزول الآية أنّه قالت أمّ سلمة رضي الله عنها : يا رسول الله ، يغزو الرّجال ولا نغزو ، ولهم من الميراث ضعف ما لنا ، فليتنا كنّا رجالا ، فنزلت (٤) .

وقيل : لمّا جعل الله الميراث للذّكر مثل حظّ الانثيين ، قالت النّساء : نحن أحوج لأنّا ضعفاء ، وهم أقدر على طلب المعاش (٥) .

في بيان طبقة الورّاث

وقيل : أتت واحدة من النّساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : ربّ الرّجال والنّساء واحد ، وأنت الرّسول إلينا وإليهم ، وأبونا آدم وامّنا حوّاء ، فما السّبب في أنّ الله يذكر الرّجال ولا يذكرنا ؟ فنزلت الآية ، فقالت : وقد سبقنا الرّجال بالجهاد ، فما لنا ؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ للحامل منكنّ أجر الصّائم القائم ، فإذا ضربها الطّلق لم يدر أحد ما لها من الأجر ، فإذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة أجر إحياء النّفس » (٦) .

وقيل : لمّا نزلت آية المواريث قال الرّجال : نرجو أن نفضّل على النّساء في الآخرة كما فضّلنا في الميراث ، وقالت النّساء : نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرّجال كما في الميراث ، فنزلت (٧) .

﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ

 فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)

ثمّ أنّه تعالى ، بعد ذكر ميراث الأقارب والأزواج ، والمنع عن إرث نساء الميّت ، خصوصا زوجة الأب وحرمة نكاحها ، وحرمة غيرها من النّساء المحرّمات ، وذكر أحكام اخر بالمناسبة ، عاد إلى بيان

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٠ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٣.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٩٤ / ٩٦١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٣.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٩٤ / ٩٦٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٣.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ١٠ : ٨٢.

(٦ و٧) . تفسير الرازي ١٠ : ٨٢.

٢٠٧

حكم الإرث وذكر طبقات الورّاث بقوله : ﴿وَلِكُلٍ﴾ من أفراد نوع الإنسان ، ذكرا كان أو انثى ﴿جَعَلْنا﴾ وقرّرنا ﴿مَوالِيَ﴾ وورّاثا يرثونه ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ بعد موته.

وهم أوّلا : ﴿الْوالِدانِ﴾ وفي طبقتهما الأولاد والأزواج ، ولعلّه لم يذكروا هنا لمعلوميّة ذلك من الآيات السّابقة ، ولتعظيم شأنهما في الطّبقة الاولى. ثمّ ذكر الطّبقة الثّانية بقوله : ﴿وَالْأَقْرَبُونَ﴾ .

عن الصادق عليه‌السلام : « إنّما عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث ، ولم يعن أولياء النّعمة ، فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرّحم التي تجرّه إليها » (١) .

ثمّ الطّبقة الثّالثة ؛ بقوله : ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ﴾ .

في ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « إذا والى الرّجل الرّجل فله ميراثه ، وعليه معقلته » (٢) ، يعني : دية جناية خطئه.

وعن الرضا عليه‌السلام : « عنى بذلك الائمّة عليهم‌السلام بهم عقد الله عزوجل أيمانكم » (٣) .

في نقل كلام الفاضل المقداد رحمه‌الله

وقال الفاضل المقداد في ( آيات الأحكام ) : الأيمان هنا جمع : يمين اليد ؛ لأنهم كانوا عند العهد يمسحون اليمين باليمين ، فيقول العاقد : دمك دمي ، وثأرك ثأري ، وحربك حربي ، وسلمك سلمي ، ترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحالف السّدس من ميراث حليفه. وهذا من إسناد الفعل إلى آلته. وقيل : الأيمان جمع يمين الحلف ، فيكون من إسناد الفعل إلى سببه (٤) .

إذا عرفت ذلك فهنا فوائد :

الاولى : كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب ، فأقرّهم الله عليه في مبدأ الإسلام ثمّ نسخ ذلك ، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة ، فكان المهاجر يرث الأنصاري وبالعكس ، ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ، ونزل في ذلك : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا(٥) ، ثمّ نسخ ذلك بالقرابة والرّحم والأنساب والأسباب بقوله : ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ(٦) .

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٢٦٨ / ٩٧٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٣.

(٢) الكافي ٧ : ١٧١ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٩٥ / ٩٦٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤.

(٤) كنز العرفان ٢ : ٣٢٤.

(٥) الأنفال : ٨ / ٧٢.

(٦) كنز العرفان ٢ : ٣٢٤ ، والآية من سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

٢٠٨

الثانية : هذا الحكم - أعني : الميراث بالمعاهدة والمعاقدة ، وهو المسمّى بضمان الجريرة - منسوخ عند الشّافعي مطلقا ، وقال : لا إرث به ، وعند أصحابنا ليس كذلك ، بل هو ثابت عند عدم الوارث النّسبي والسّببي لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه خطب يوم الفتح فقال : « ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به ، فإنّه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام » .

إلى أن قال الفاضل : على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتّعاهد ، فتكون الآية غير منسوخة جملة ، بل تكون محكمة ، لكن الإرث فيها مجمل مفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب ، أو من السّنّة الشّريفة.

وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين ، واختاره المعاصر (١) ، وفيه بعد ؛ لأنّه عدول عن الظّاهر ، وعن قول الأكثر ، انتهى (٢) .

وقد سبق في طرفة من الطّرائف بعض التّحقيق في ذلك (٣) .

وقيل : إنّ المراد من قوله تعالى : ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ النّصرة والنّصيحة ، والمصافاة في العشرة ، والمخالصة في المخالطة ، لا التّوارث.

ثمّ وعد سبحانه المطيعين بالثّواب والعاصين بالعقاب بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من الجزئيّات والكلّيات وجميع أعمال العباد ﴿شَهِيداً﴾ وخبيرا يجازيهم على حسب أعمالهم إنّ خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا.

﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ

 أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ

 نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا

 تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)

في بيان فضل الرجال على النساء

ثمّ لمّا كان شأن نزول آية : ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ(٤) - على ما ورد في بعض الرّوايات - في ردع النّساء عن التّكلّم في تفضيل الرّجال على النّساء في الميراث ، وتمنّيهنّ المساواة لهم في النّصيب ، أشار سبحانه إلى وجه

__________________

(١) مراد الفاضل المقداد من ( المعاصر ) هو ابن المتّوج ، وهو فخر الدين أحمد بن عبد الله بن سعيد بن المتّوج البحراني صاحب كتاب ( النهاية في تفسير الخمسمائة آية ) . الذريعة ٢٤ : ٤٠٢ / ٢١٣٧.

(٢) كنز العرفان ٢ : ٣٢٤.

(٣) راجع : الطرفة (٢٠) .

(٤) النساء : ٤ / ٣٢.

٢٠٩

التّفضيل بقوله : ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ﴾ مهيمنون عليهنّ ، مهتمّون بتنظيم امورهنّ ، مبالغون في حفظهنّ ، ناظرون في صلاحهنّ.

ثمّ علّل سبحانه هذه القيمومة بأمرين :

الأوّل : ﴿بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ﴾ الغالب ﴿عَلى بَعْضٍ﴾ الأغلب من النّساء ، من العقل والحزم ، والقوّة والفتوّة ، والشّجاعة والسّماحة ، والعلم ، [ وغيرها ] من الفضائل الدّاخلية والكمالات النّفسانيّة.

والثاني : ﴿وَبِما أَنْفَقُوا﴾ عليهنّ ﴿مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾ في نكاحهنّ ، كالمهر والنّفقة والإحسان وغيرها من الفضائل العمليّة. وفيه دلالة على وجوب نفقتهنّ على الأزواج.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل : ما فضل الرّجال على النّساء ؟ فقال : « كفضل الماء على الأرض ، فبالماء تحيا الأرض ، وبالرّجال تحيا النّساء ، ولو لا الرّجال ما خلقت النّساء » ثمّ تلا هذه الآية ، ثمّ قال : « ألا ترى إلى النّساء كيف يحضنّ ولا يمكنهنّ العبادة ؛ من القذارة ، والرّجال لا يصيبهم شيء من الطّمث » (١) .

روي أنّ سعد بن الرّبيع أحد نقباء الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها ، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وشكا ، فقال صلوات الله عليه : « لنقتصّنّ منه » . فنزلت الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أردنا أمرا وأراد الله أمرا ، والذي أراد الله خير ، ورفع القصاص » (٢) .

ثمّ أنّه تعالى بعدما أشار إلى وظيفة الرّجال ، بيّن وظيفة النّساء بقوله : ﴿فَالصَّالِحاتُ﴾ الخيّرات منهنّ ﴿قانِتاتٌ﴾ لله ، مطيعات له ولأزواجهنّ ، قائمات بأداء حقوقهم ﴿حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ﴾ من الأزواج بحفظ أنفسهنّ من الأجانب ، وأموال أزواجهنّ من التّلف والتّبذير في غيابهم.

عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما أستفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة ، تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفّظه إذا غاب عنها ، في نفسها وماله » (٣).

وقيل : إنّ المراد : حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار (٤) .

﴿بِما حَفِظَ اللهُ﴾ لهنّ ، وبعوض الحقوق التي جعلها الله لهنّ رعاية لهنّ على أزواجهنّ ، من العدل والإحسان إليهنّ ، وإيجاب إمساكهنّ بالمعروف ، وإعطائهنّ المهور والنفقات وغيرها.

وحاصل المعنى : أنّ حفظهنّ لحقوق الأزواج يكون في مقابل حفظ الله حقوقهنّ على الأزواج.

وقيل : إنّ المعنى : كونهنّ حافظات للغيب يكون بسبب حفظ الله لهنّ من الزّلل ، وتوفيق الله إيّاهنّ للقيام بحقوق الأزواج (٥) .

__________________

(١) علل الشرائع : ٥١٢ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ٢٠٢.

(٣) الكافي ٥ : ٣٢٧ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٤.

(٤) كنز العرفان ٢ : ٢١٢.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٨٩.

٢١٠

حكم نشوز الزوجة

ثمّ لمّا بيّن سبحانه وظيفة الزّوجة من التمكين والطّاعة للزّوج ، بيّن حكم خروجها عن الطّاعة بقوله : ﴿وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ﴾ وترفّعهنّ عن الطّاعة بظهور أماراته في أقوالهنّ وأفعالهن ﴿فَعِظُوهُنَ﴾ وخوّفوهنّ بسوء عاقبة النّشوز ، وعقاب الله عليه ، وانصحوهنّ بالتّرغيب إلى حسن العشرة والقيام بالطّاعة ﴿وَاهْجُرُوهُنَ﴾ وتباعدوا منهنّ ﴿فِي الْمَضاجِعِ﴾ والمراقد ، إن لم يفد الوعظ والنّصح. قيل : هو أن لا يبيت معها في فراشها ، بل في فراش آخر (١) .

وقيل : هو أن يولّيها ظهره في الفراش (٢) .

وقيل : هو أن لا يجامعها (٣) . ولا يبعد أن يكون من الوجوه امتناعه عن التّكلّم معها.

﴿وَاضْرِبُوهُنَ﴾ إن لم يفد الهجران ، ضربا غير جارح لحما ، أو كاسر عظما.

عن الباقر عليه‌السلام : « أنّه الضّرب بالمسواك » (٤) . ولا يبعد أنّه بيان أقلّه ووجوب رعاية ما يوجب ردعها في الهجر والضّرب ، وعدم جواز التعدّي عنه.

﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ وقمن بحقوقكم بالضّرب ، ورجعن عن النّشوز إلى الطّاعة ﴿فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ ولا تطلبوا إلى إيذائهنّ طريقا بالتّوبيخ والضّرب وغيرهما.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يعضها بلسانه ، فإن انتهت فلا سبيل له عليها ، فإن أبت هجر مضجعها ، فإن أبت ضربها ، فإن لم تتّعظ بالضّرب بعث الحكمين » (٥) .

ثمّ رغّب سبحانه الأزواج بعد انتهائهنّ بالرّفق بهنّ ، واستمالة قلوبهنّ ، وقبول توبتهنّ ، بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا﴾ شأنا ﴿كَبِيراً﴾ قدرة.

ففيه إشارة إلى أنّه تعالى مع علوّ شأنه ، وكمال قدرته ، يعاملكم مع عصيانكم بالرّفق ، ويخاطبكم بالشّفقة ويستميل قلوبكم ، ويقبل توبتكم ، فعاملوا أزواجكم بعد ندمهم على النّشوز معاملة ربّكم العليّ معكم.

﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا

 إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان حكم النّشوز من طرف الزّوجة - بيّن حكم النّشوز ، وعدم القيام بالحقوق ، إذا كان من الزّوجين ، مخاطبا للحكّام بقوله : ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أيّها الحكّام ﴿شِقاقَ بَيْنِهِما﴾ والنّشوز،

__________________

(١و٢ و٣) . كنز العرفان ٢ : ٢١٢.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٦٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٩١.

٢١١

وتجاوز الحدود الشّرعيّة منهما ﴿فَابْعَثُوا حَكَماً﴾ عادلا منصفا ، صالحا للحكومة من طرف الزّوج كائنا ﴿مِنْ أَهْلِهِ﴾ وأقاربه إلى الزّوجة ﴿وَحَكَماً﴾ آخر ، على صفة حكم الزّوج من طرف الزّوجة ، كائنا ﴿مِنْ أَهْلِها﴾ وعشيرتها إلى الزّوج لإصلاح ذات البين.

قيل : تعيين أهل الزّوجين للحكميّة لكونه أعرف بحالهما (١) .

وقيل : هو على سبيل النّدب ، ويجوز البعث لغير الأهل لحصول الغرض (٢) .

وعلى أيّ حال وتقدير فالحكمان المعيّنان ﴿إِنْ يُرِيدا﴾ وقصدا ﴿إِصْلاحاً﴾ وتوفيقا بين الزّوجين بالشّروط والالتزمات نظرا إلى صلاحهما ﴿يُوَفِّقِ اللهُ﴾ ويؤلّف بقدرته ﴿بَيْنِهِما﴾ قيل : إنّ ضمير التّثنية الاولى أيضا راجع إلى الزّوجين (٣) ، وقيل : الثّانية أيضا راجعة إلى الحكمين (٤)﴿إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً﴾ بالكلّيّات ﴿خَبِيراً﴾ بالجزئيّات ، أو عليما بالبواطن خبيرا بالظّواهر من الأقوال والأفعال.

في ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « الحكمان يشترطان إن شاءا فرّقا وإن شاءا جمعا ، فإن جمعا فجائز ، وإن فرّقا فجائز » (٥) .

[ و] قال : « ليس لهما أن يفرّقا حتّى يستأمراهما » (٦) .

﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى

 وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ

 السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)

ثمّ أنّه تعالى لمّا أرشد الزّوجين إلى طريق الإصلاح بينهما ، أرشد النّاس إلى طريق الإصلاح بينهم وبين الله بقوله : ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ﴾ وأطيعوه أيّها النّاس جوانحا وجوارحا ﴿وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ من الإشراك جليّا وخفيّا ، ﴿وَ﴾ أحسنوا ﴿بِالْوالِدَيْنِ﴾ وإن علوا ﴿إِحْساناً﴾ لائقا بعظيم حقوقهما.

وفي إقران ذكر وجوب برّهما بوجوب عبادة ذاته المقدّسة تنبيه على كمال العناية بهما ، وعلوّ قدرهما ، والتّأكيد في وجوب طاعتهما ، والقيام بخدمتهما ، والسّعي في حوائجهما ، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة ، والخضوع لهما ، وتليين الكلام معهما.

روي أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من اليمن فاستأذنه في الجهاد ، فقال صلوات الله عليه : « هل لك أحد باليمن ؟ » فقال : أبواي ، فقال : « أبواك أذنا لك ؟ » فقل : لا ، فقال : « فارجع فاستأذنهما ، فإن أذنا

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٩٣.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧٥.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧٥.

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧٥.

(٥) الكافي ٦ : ١٤٦ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥.

(٦) الكافي ٦ : ١٤٧ / ٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥.

٢١٢

لك فجاهد ، وإلّا فبرّهما » (١) .

وعن العيّاشي : عنهما عليهما‌السلام ، في هذه الآية : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الوالدين ، وعليّا عليه‌السلام الآخر » (٢) .

ثمّ بعد الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، أمر بالإحسان إلى الأرحام بقوله : ﴿وَبِذِي الْقُرْبى﴾ والأرحام القريب منكم والبعيد ، فإنّهم أحقّ بالإحسان من غيرهم. ﴿وَ﴾ بعدهم ﴿الْيَتامى﴾ لضعفهم ، وصغرهم ، وعدم الكافل لهم ، ﴿وَ﴾ بعدهم ﴿الْمَساكِينِ﴾ والفقراء ، ﴿وَ﴾ بعدهم ﴿الْجارِ ذِي الْقُرْبى﴾ ومن له قرب الدّار ، ﴿وَ﴾ بعدهم ﴿الْجارِ الْجُنُبِ﴾ ومن يكون له بعد الدّار.

بيان حدّ الجار وحقوقه

في ( الكافي ) : عن الباقر عليه‌السلام : « حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب ، من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ أربعين دارا جيران من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله » (٤) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الجيران ثلاثة : جار له ثلاثة حقوق. حقّ الجار وحقّ القرابة وحقّ الإسلام ، وجار له حقّان : حقّ الجار ، وحقّ الإسلام ، وجار له حقّ واحد : حقّ الجار (٥) ، وهو المشرك من أهل الكتاب » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « حسن الجوار يزيد في العمر » (٧) .

وقال : « حسن الجوار يعمّر الدّيار ، ويزيد في الأعمار » (٨) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « ليس حسن الجوار كفّ الأذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى»(٩).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « والذي نفس محمّد بيده ، لا يؤدّي حقّ الجار إلّا من رحم الله ، وقليل ما هم ، أتدرون ما حقّ الجار ؟ إن افتقر أغنيته ، وإن استقرض أقرضته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن أصابه شرّ عزّيته ، وإن مرض عدته ، وإن مات شيّعت جنازته » (١٠) .

وقيل : عنى بالجار ذي القربى : القريب النّسيب ، وبالجار الجنب : الجار الأجنبي (١١) .

ثمّ ذكر الصّنف السّابع بقوله : ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ قيل : هو الذي صحبك وحصل في جنبك ،

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٩٥.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٩٧ / ٩٧١ و٩٧٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥.

(٣) الكافي ٢ : ٤٩١ / ٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥. (٤) الكافي ٢ : ٤٩١ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٥.

(٥) في مجمع البيان : الجوار. (٦) مجمع البيان ٣ : ٧٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦.

(٧) الكافي ٢ : ٤٨٩ / ٣ ، وفيه : يزيد في الرزق ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦.

(٨) الكافي ٢ : ٤٨٩ / ٨ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦. (٩) الكافي ٢ : ٤٨٩ / ٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦.

(١٠) تفسير الرازي ١٠ : ٩٦. (١١) تفسير الرازي ١٠ : ٩٦.

٢١٣

إمّا بكونه رفيقا في سفر ، أو جارا ملاصقا ، أو شريكا في تعلّم أو حرفة ، أو قاعدا بجنبك في مجلس أو مسجد ، أو غير ذلك ممّن له أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن [ ترعى ذلك الحقّ ولا تنساه و] تجعله ذريعة إلى الإحسان إليّه (١) .

وقيل : إنّه المرأة فإنّها تكون معك وتضجع إلى جنبك (٢) .

﴿وَ﴾ بعدهم ﴿ابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر المنقطع عن بلده وماله ، والإحسان إليه بأن تؤويه وتزوّده ، وقيل : هو الضّيف (٣) . ﴿وَ﴾ بعده ﴿ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ﴾ من العبيد والإماء.

عن القمي رحمه‌الله قال : الصّاحب بالجنب يعني صاحبك في السّفر ، وابن السبيل يعني أبناء الطّريق الّذين يستعينون بك في طريقهم ، وما ملكت أيمانكم يعني الأهل والخادم (٤) .

وقيل : هو كلّ حيوان تملكه (٥) . وعلى كلّ تقدير ، فإنّ الإحسان إلى الكلّ طاعة عظيمة.

قيل : كانوا في الجاهليّة يسيئون إلى المملوك ، فيكلّفون الإماء بالبغي (٦) والتّكسّب بفروجهنّ (٧).

ثمّ لمّا كان عمدة الموانع عن الإحسان والتّوجّه إلى الفقراء والضّعفاء والمماليك التّكبّر والتّطاول ، هدّد الله التّاركين للإحسان إليهم بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً﴾ ومتكبرا ﴿فَخُوراً﴾ ومتطاولا على النّاس.

﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

 وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)

ثمّ قسّمهم سبحانه قسمين ، وعرّف القسم الأوّل بقوله : ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ بأموالهم ولا ينفقونها في سبيل الله ووجوه البرّ من الجهاد ، وإعانة الفقراء ، وصلة الأرحام ، وأمثال ذلك.

ثمّ بالغ سبحانه في [ بيان ] حبّهم البخل بقوله : ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ ويرغّبونهم فيه ، ولا يرضون بإنفاق أحد إلى أحد ﴿وَيَكْتُمُونَ﴾ ويسترون من النّاس ﴿ما آتاهُمُ اللهُ﴾ وأعطاهم ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وسعة جوده ، بأن يظهروا الفقر والإعسار مع كونهم أغنياء موسرين لئلا يتوقّع منهم البذل أحد.

ثمّ لمّا كان هذا الخلق الرّذيل ملازما للكفر - ولو بسبب إنكار حقوق الله من الزّكاة ، وصلة الرّحم،

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ٩٦.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ٩٧.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٩٧.

(٤) تفسير القمّي ١ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٩٧ ، تفسير روح البيان ٢ : ٢٠٦.

(٦) كذا ، وفي تفسير الرازي : البغاء.

(٧) تفسير الرازي ١٠ : ٩٧.

٢١٤

والإحسان إلى الفقراء - وإظهار الشّكاية من الله وصفهم الله بالكفر ، وهددهم بقوله : ﴿وَأَعْتَدْنا﴾ وهيّئنا في الآخرة ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ بالله ونعمه والدّار الآخرة ﴿عَذاباً مُهِيناً﴾ لهم لاستهانتهم بأحكام الله وعباده.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خصلتان لا تجتمعان في مسلم : البخل ، وسوء الخلق » (١) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة : لا يكون فيهم من يسأل بكفّه ، ولا يكون فيه بخيل ... » (٢)

عن ابن عبّاس : أنّهم اليهود ، بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفته في التّوراة ، وأمروا قومهم أيضا بالكتمان ، ﴿وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ من العلم بما في كتابهم من صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَأَعْتَدْنا﴾ في الآخرة لليهود ﴿عَذاباً مُهِيناً(٣) .

وقيل : إنّ اليهود كانوا يقولون للأنصار بطريق النّصيحة : لا تنفقوا أموالكم ، فإنا نخشى عليكم الفقر (٤) .

﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ

 يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)

ثمّ عرّف الله القسم الثاني بقوله : ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ ويصرفون ﴿أَمْوالَهُمْ﴾ في وجوه البرّ ، ولكن لا لغرض طاعة الله ، والقرب إليه ، وطلب الآخرة ، بل يكون غرضهم من البذل والإنفاق ﴿رِئاءَ النَّاسِ﴾ ولتحصيل الجاه بينهم ، والمدح في ألسنتهم.

ثمّ أشار سبحانه إلى علّة ريائهم بالإنفاق بقوله : ﴿وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ عن صميم القلب حتّى يقصدوا بإنفاقهم التّقرّب إلى الله وطاعته ، والنّجاة في الآخرة.

ومن البيّن أنّ هؤلاء المرائين قرناء الشّيطان يضلّهم عن الصّراط المستقيم ، ويهديهم إلى الجحيم ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً﴾ ومصاحبا في الدّنيا ، لا يرجى منه خير ، ولا يكون له فلاح ﴿فَساءَ﴾ إذن الشّيطان ﴿قَرِيناً﴾ وبئس مصاحبا ، حيث إنّه يحرم قرينه من النّعم الدّائمة ، ويدخله بتسويلاته الجحيم الحاطمة.

قيل : نزلت في المنافقين لذكر الرّياء في إنفاقهم ، وهو النّفاق (٥) .

وقيل : نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) .

__________________

(١) الخصال : ٧٥ / ١١٧ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٧.

(٢) الخصال : ١٣١ / ١٣٧ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٦.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ٩٨.

(٤) تفسير أبي السعود ٢ : ١٧٦.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ٩٩.

(٦) تفسير الرازي ١٠ : ٩٩.

٢١٥

وعلى أيّ تقدير ، تدلّ الآية على أنّ المنفق رياء والبخلاء الّذين لا ينفقون بشيء متشاركون في الذّم والعقاب لاشتراكهم في ترك الإنفاق في ما ينبغي وكما ينبغي.

﴿وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ

 عَلِيماً (٣٩)

ثمّ لام الله سبحانه كلا الفريقين على ترك الإيمان والإنفاق لوجه الله وفي سبيله الذي فيه نفع عظيم ، وفي تركه ضرر كثير ، بقوله : ﴿وَما ذا عَلَيْهِمْ﴾ من الضّرر المتصوّر ﴿لَوْ﴾ أنّهم ﴿آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مع وضوح دلائل التّوحيد والمعاد ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ في سبيل الله شيئا ﴿مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ﴾ من المال مع كثرة منافعه ، وعدم تصوّر الضّرر فيه. وفيه غاية الحثّ والتّحريض إليهما.

ثمّ هدّد سبحانه على تركهما بقوله : ﴿وَكانَ اللهُ بِهِمْ﴾ وبأخلاقهم وأعمالهم الظّاهرة والخفيّة ﴿عَلِيماً﴾ ومن الواضح أنّ الاعتقاد بأنّ الله القادر ، المنتقم ، الشّديد العقاب ، مطلّع على ظاهره وباطنه من أقوى الرّوادع عن الكفر والعصيان والنّفاق والرّياء.

﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً

 عَظِيماً (٤٠)

ثمّ بالغ سبحانه في ترغيب النّاس إلى الإيمان والإنفاق في سبيله بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ تعالى ﴿لا يَظْلِمُ﴾ أحدا عمل عملا بزيادة عقاب ، أو بنقص ثواب ﴿مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ وبقدر نملة صغيرة لاستحالة صدور الظّلم منه ، مع كمال حكمته ، وعدم حاجته. وفيه مبالغة في تنزيه ساحته عن الظّلم.

ثمّ أعلن عن سعة رحمته وعظمة فضله بقوله : ﴿وَإِنْ تَكُ﴾ زنة الذّرّة ﴿حَسَنَةً﴾ وفعلة خير ﴿يُضاعِفْها﴾ الله بإضعاف ثوابها ﴿وَيُؤْتِ﴾ صاحبها ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾ ومن خزائن رحمته ، زائدا على ما يستحقّه في مقابل عمله ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ وثوابا جسيما لا يعرف أحد عظمة هذا الفضل وجسامته.

وفي توصيفه بالعظمة دلالة على أنّه أضعاف الدّنيا وما فيها ، حيث إنّه وصف الدّنيا وما فيها في كتابه بالمتاع القليل.

﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)

ثمّ أنّه تعالى - بعد تهديد الكفّار والمنافقين والبخلاء والمنفقين رياء بعلمه بسرائرهم وبواطن امورهم ، وتعذيبهم من غير ظلم - هدّدهم بأنّه يقطع عذرهم ، ويتمّ عليهم الحجّة ، مضافا إلى علمه

٢١٦

بإقامة الشّهود عليهم من الأنبياء والرّسل ؛ بحيث لا يمكن لأحد منهم الإنكار ودعوى العذر ، بقوله :﴿فَكَيْفَ﴾ ترون حال الكفرة والعصاة في القيامة ، من شدّة الهول والفزع ﴿إِذا جِئْنا﴾ في ذلك اليوم ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الامم ﴿بِشَهِيدٍ﴾ عليهم من أنفسهم ، وهو رسولهم ، يشهد بفساد عقائدهم ، وعنادهم لله ورسله ، وارتكابهم السّيّئات طغيانا وكفرا ﴿وَجِئْنا بِكَ﴾ يا محمّد ، بعد شهادة الرّسل ﴿عَلى﴾ صدق ﴿هؤُلاءِ﴾ الرّسل ﴿شَهِيداً﴾ تشهد بصدقهم في ما شهدوا به.

وقيل : إنّ كلمة ( هؤلاء ) إشارة إلى المكذّبين ، والمعنى : أنّك تشهد بكفرهم ، كما شهدت الأنبياءعليهم‌السلام.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابن مسعود : « اقرأ القرآن عليّ » قال : فقلت : يا رسول الله ، أنت الذي علّمتنيه. فقال : « احبّ أن أسمعه من غيري » قال ابن مسعود : فأفتتحت سورة النّساء ، فلمّا انتهيت إلى هذه الآية ، بكى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال ابن مسعود : فأمسكت عن القراءة (١) .

وفي حديث ، قال : « فيقام الرّسل فيسألون عن تأدية الرّسالات التي حملوها إلى اممهم ، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى اممهم وتسأل الامم فيجحدون ، كما قال الله : ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(٢) ، فيقولون : ﴿ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ﴾ فتشهد الرّسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهد بصدق الرّسل ، ويكذّب من جحدها من الامم ، فيقول لكلّ امّة منهم : بلى قد ﴿جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(٣) ، أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم ، بتبليغ الرّسل إليكم رسالاتهم.

ولذلك قال الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً﴾ فلا يستطيعون ردّ شهادته خوفا من أن يختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون. ويشهد على منافقي (٤) أمّته وكفارهم بإلحادهم ، وعنادهم ، ونقضهم عهدهم (٥) ، وتغييرهم سنّته » (٦) الخبر.

وفي ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « نزلت في امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة ، في كلّ قرن منهم إمام [ منّا ] شاهد عليهم ، ومحمّد شاهد علينا » (٧) .

﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٥.

(٢) الأعراف : ٧ / ٦.

(٣) المائدة : ٥ / ١٩.

(٤) زاد في الاحتجاج : قومه و.

(٥) في الإحتجاج : عهده.

(٦) الإحتجاج : ٢٤٢ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٨.

(٧) الكافي ١ : ١٤٦ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٨.

٢١٧

اللهَ حَدِيثاً (٤٢)

ثمّ كأنّه قيل : ما شدّة حالهم التي أشرت إليها بقولك : ﴿فَكَيْفَ﴾ إلى آخره ، فقال سبحانه : ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ وفي ذلك الوقت ﴿يَوَدُّ﴾ ويتمنّى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ وخالفوا أحكامه ، وعارضوه بالتّكذيب ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ وتنطبق عليهم بعد انشقاقها ، وسقوطهم في بطنها ، بحيث لا يبقى منهم أثر فوقها.

وقيل : إنّ المراد : يودّون أنّهم لم يبعثوا ، وأنّهم كانوا والأرض سواء (١) .

وقيل : يودّون أنّهم صاروا كالبهائم ترابا ، كما حكى الله أنّ الكافر يقول يومئذ : ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً(٢) .

وعن القمّي رحمه‌الله ، قال : يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا [ فيه ] على غصبه (٣) .

﴿وَ﴾ إذن ﴿لا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً﴾ لعدم قدرتهم على الكتمان بعد ظهور أعمالهم وعقائدهم عند الله ، وثبوت كفرهم وعصيانهم بشهادة الرّسل.

عن الصادق عليه‌السلام ، عن جدّه أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة : « ختم على أفواههم ، وتكلّمت الأيدي ، وشهدت الأرجل ، ونطقت الجلود بما عملوا ، فلا يكتمون الله حديثا » (٤) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : يودّون لو تنطبق عليهم الأرض ، ولم يكونوا كتموا أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا كفروا به ولا نافقوا (٥) .

وعن القمّي : [ يتمنّى الّذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه ، و] أن لم يكتموا ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام (٦) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ

 وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ

 أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٦.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٦ ، والآية من سورة النبأ : ٧٨ / ٤٠.

(٣) تفسير القمي ١ : ١٣٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٨.

(٤) تفسير العياشي ١ : ٣٩٨ / ٩٧٦ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٨.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٦.

(٦) تفسير القمي ١ : ١٣٩ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٨.

٢١٨

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)

ثمّ لمّا أمر الله سبحانه النّاس بعبادته ، والإحسان إلى الأقارب والضّعفاء ، ورغّب في ما أمر ، ورهّب عن المخالفة ، بيّن شرائط أهم عباداته ، وهي الصّلاة ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ ولا تشتغلوا بها ، وقيل : إنّ المراد : لا تدخلوا مواضع الصّلاة ، وهي المساجد ﴿وَأَنْتُمْ سُكارى﴾ من الخمر ، أو من النّوم (١)﴿حَتَّى تَعْلَمُوا﴾ وتفهموا ﴿ما تَقُولُونَ﴾ في حال الصّلاة.

روي أنّ جماعة من الصّحابة صنع لهم عبد الرّحمن بن عوف طعاما وشرابا ، حين كانت الخمرة مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا جاء وقت صلاة المغرب ، فقدّموا أحدهم ليصلّي بهم ، فقرأ : ( أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد ) ، فنزلت. فكانوا لا يشربون [ في ] أوقات الصّلاة ، فإذا صلّوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السّكر ، وعلموا ما يقولون (٢) .

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : نزلت في جماعة من أكابر الصّحابة قبل تحريم الخمر وكانوا يشربونها ، ثمّ يأتون المسجد للصّلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنهاهم الله عنه (٣) .

وعن الكاظم عليه‌السلام : « أنّ المراد سكر الشّراب ، ثمّ نسخها تحريم الخمر » (٤) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا نعس أحدكم ، وهو في الصّلاة ، فليرقد حتّى يذهب عنه النّوم ، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس لعلّه يذهب يستغفر فيسبّ نفسه » (٥) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « لا تقم إلى الصّلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا ، فإنّها من خلال النّفاق ، وقد نهى الله أن تقوموا إلى الصّلاة وأنتم سكارى » قال : « سكر النّوم » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « سكر النّوم » (٧) .

وعنه عليه‌السلام ، أنّه سئل عن هذه الآية ، قال : « يعني سكر النّوم ، يقول : بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم ، وليس كما يصف كثير من النّاس يزعمون أنّ المؤمنين يسكرون من الشّراب ، والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر » (٨) .

تحقيق في جميع الأخبار

وقد تصدّى شيخنا البهائي لجمع الأخبار في حاشية ( أسرار التّنزيل ) ، ونقله الفيض رحمه‌الله في ( صافيه ) بعين عباراته ، فراجع (٩) .

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٨١.

(٢) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٧.

(٣) تفسير الرازي ١٠ : ١٠٨.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٨٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

(٥) تفسير الرازي ١٠ : ١١٠.

(٦) تفسير العياشي ١ : ٣٩٨ / ٩٧٧ ، علل الشرائع : ٣٥٨ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

(٧) الكافي ٣ : ٣٧١ / ١٥ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

(٨) تفسير العياشي ١ : ٣٩٩ / ٩٨٠ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

(٩) تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

٢١٩

والتّحقيق والأولى في الجمع أنّ العامة خصّوا الآية بالسّكر من الخمر ، وأنكروا شمولها لسكر النّوم لكونه مجازا. فتلك الأخبار الواردة عن المعصومين ناظرة إلى المنع عن تخصيص الآية بالسّكر من الخمر ، وتعميمها بالدّلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة والفحوى لجميع أحوال عدم إلتفات الإنسان لما يقول ، ولو كان من جهة غلبة النّوم.

ومعنى قوله عليه‌السلام : « نسخها تحريم الخمر » . منع تحريم الخمر عن وجود سكر الخمر للمؤمن ، وانحصار السّكر في السّكر من النّوم. ولعلّ ما ذكرنا كان مراد الشّيخ.

ثمّ ذكر سبحانه الشّرط الآخر لصحّة الصّلاة ، أو للقرب إلى مكانها ، بقوله : ﴿وَلا جُنُباً﴾ في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ حال كونكم ﴿عابِرِي سَبِيلٍ﴾ ومجتازين من المسجد ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ من الجنابة.

عن الباقر عليه‌السلام ، والقمّي عن الصادق عليه‌السلام : « الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا مجتازين ، فإنّ الله يقول : ﴿وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (١) .

وقد صحّح إرادة الأركان المخصوصة من ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ﴾ بقرينة قوله : ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ﴾ وإرادة موضع الصّلاة ، وهو المسجد ، بقرينة قوله : ﴿إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ﴾ وهذا الوجه وإن كان خلاف الظّاهر إلّا أنّه لا بدّ منه بعد ثبوت إرادة الحكمين من القضيّتين بدلالة الرّوايات المعتبرة.

ثمّ ذكر حكم تعذّر الطّهارة المائيّة بقوله : ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ في حال الجناية ﴿مَرْضى﴾ يضرّكم استعمال الماء والاغتسال ﴿أَوْ﴾ كنتم ﴿عَلى سَفَرٍ﴾ ومتلبّسين به ، في طريق لا يوجد فيه الماء ﴿أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ﴾ والمكان المنخفض من الأرض ، كنّي به عن الحدث ، لغلبة وقوعه فيه ﴿أَوْ لامَسْتُمُ﴾ وباشرتم ﴿النِّساءَ﴾ بالجماع قبلا أو دبرا ، كما في المستفيض من الأخبار ﴿فَلَمْ تَجِدُوا﴾ بعد الحدث الأصغر أو الأكبر ﴿ماءً﴾ كافيا للوضوء أو الغسل ، أو لم تتمكّنوا من استعماله للضّرر أو الحرج ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ وتعمّدوا ﴿صَعِيداً طَيِّباً﴾ وأرضا طاهرة.

في بيان معنى الصّعيد

عن الصادق عليه‌السلام : « الصّعيد : الموضع المرتفع ، والطّيّب : الذي ينحدر منه الماء » (٢) .

أقول : قال الفاضل المقداد ، في ( آيات الأحكام ) ، في تفسير الآية : واقصدوا شيئا من وجه الأرض - إلى أن قال - : ولذلك قال أصحابنا : لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب ومسح أجزأه ، وبه قال أبو حنيفة ... إلى آخره (٣) .

وعن الزّجّاج أنّه قال : الصّعيد : وجه الأرض ؛ ترابا [ كان ] أو غيره (٤) ، ولا أعلم خلافا بين أهل اللّغة (٥) .

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٣٩ ، تفسير العياشي ١ : ٣٩٩ / ٩٨١ ، علل الشرائع : ٢٨٨ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤١٩.

(٢) معاني الأخبار : ٢٨٣ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٤٢٠.

(٣) كنز العرفان ١ : ٢٦ / ٩.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٨٠.

(٥) مجمع البيان ٣ : ٨٢.

٢٢٠