نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)

ثمّ نبّههم بأنّه حقّ عليكم ﴿ذلِكَ﴾ العذاب الشّديد الدّائم ، وصرتم مستحقّين له جزاء ﴿بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وبما عملت جوارحكم في الدّنيا من قتل الأنبياء ، وهتك الحرمات ، وإخافة الأولياء ، والتّفوّه بمثل هذا القول الشّنيع ، والتّجرّي على الله باقتراف المعاصي.

﴿وَ﴾ اعلموا ﴿أَنَّ اللهَ﴾ حكيم ، عدل ﴿لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وليس بمعذّب بغير ذنب ، لتنافي الحكمة والعدل مع الظّلم والإيلام بغير الاستحقاق ، حيث إنّ مقتضى الحكمة وضع الشّيء في ما وضع له ، ومقتضى العدل إعطاء كلّ شيء ما يستحقّه ، وهما مع الظّلم - الذي هو التّعذيب من غير أهليّة واستحقاق - متضادّان.

﴿الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ

 قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ

 صادِقِينَ (١٨٣)

ثمّ أنّه تعالى بعد تهديد اليهود على قولهم الذي فيه هتك حرمته وحرمة كتابه ، هدّدهم على قولهم الآخر الذي فيه إبطال رسالة رسوله ، بقوله : ﴿الَّذِينَ قالُوا﴾ قيل : التّقدير : لقد سمع الله أيضا قول اليهود الّذين قالوا إبطالا لدعوى الرّسول ، واعتذارا من عدم الإيمان به ، مع مشاهدتهم المعجزات الباهرات ، واستماعهم الآيات النّيّرات : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ بتوسّط أنبيائه ﴿عَهِدَ إِلَيْنا﴾ وأخذ الميثاق الأكيد منّا ﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ من الرّسل ، ولا نصدّق دعوى أحد منهم ﴿حَتَّى يَأْتِيَنا﴾ مدّعي الرّسالة ﴿بِقُرْبانٍ﴾ وتفدية لله ، وصدقة مال يجعله له ويتقرّب إليه ، فيتقبّله الله منه ، و﴿تَأْكُلُهُ﴾ وتحرقه ﴿النَّارُ﴾ وكان ذلك علامة القبول ، ودليل صدقه ، كما كان عليه أمر أنبياء بني إسرائيل.

عن عطاء ، أنّه قال : كان بنو إسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون الثّروب وأطايب اللّحم فيضعونها في وسط بيت والسّقف مكشوف ، فيقوم النبيّ في البيت ويناجي ربّه ، وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت ، فتنزل نار بيضاء لها دويّ خفيف ولا دخان لها ، فتأكل ذلك القربان (١) .

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه ، قال : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن التابوب (٢) ، وفنحاص بن عازوراء ، وغيرهم ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمّد ، تزعم أنّك رسول الله ، وأنّه تعالى أنزل عليك كتابا ، وقد عهد الله إلينا في التّوراة أن لا

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ١٢١.

(٢) في النسخة : التاوبوت.

١٤١

نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار ، ويكون لها دويّ خفيف ، تنزل من السّماء ، فإن جئتنا بهذا صدّقناك. فنزلت هذه الآية (١) .

ثمّ لمّا كان ذلك السّؤال من باب التّعنّت بهذه المعجزة ، وأنّ أنبياءهم أتوهم ومع ذلك قتلوهم ، كزكريّا ، ويحيى ، وعيسى ، باعتقادهم ، مع أنّ العهد الذي ادّعوه كان من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لوضوح أنّه لا ينحصر دليل صدق النبيّ في هذه المعجزة ، بل كلّ معجزة كافية في إثبات النّبوّة لاشتراك الجميع في كونه خارجا عن طوق البشر ، وتصديقا من الله لدعوى من أتى بها.

ومن الواضح أنّ السّؤال التّعنّتي لا يحسن إجابته ، أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، تبكيتا لهم ، وإظهارا لكذبهم في أنّ عدم إيمانهم بك لعدم إتيانك بقربان تأكله النّار : ﴿قَدْ جاءَكُمْ﴾ وأتى أسلافكم الّذين تتخلقون أنتم بأخلاقهم ، وتتّبعون آثرهم ﴿رُسُلٌ﴾ كثيرة العدد ، عظيمة الشّأن ﴿مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ وسألتم بعينه من القربان الذي تأكله النّار ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ بعدما أتوكم بما أقترحتموه عليهم ، مضافا إلى غيره من المعجزات الدّالّة على صدقهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في ما دلّ عليه قولكم من أنّكم ملتزمون بالإيمان بنبيّ يأتيكم بقربان.

﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ

 الْمُنِيرِ (١٨٤)

ثمّ لمّا كانت مقالات المفشركين واليهود سببا لكدورة قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحزّنه ، أخذ في تسلية حبيبه بقوله : ﴿فَإِنْ﴾ عارضك اليهود والمشركون و﴿كَذَّبُوكَ﴾ في دعوى نبوّتك ، وصحّة شريعتك ، وفي ما تخبرهم به من سوء صنع أسلافهم ، فإنّ هذا التّكذيب والمعارضة ليس أمرا يخصّك ﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ﴾ كثيرة العدد ، كبيرة المقدار ، كانوا ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كنوح ، وإبراهيم وموسى وأضرابهم ، وهم صبروا على التّكذيب ، وما نالهم من المكذبين ، مع أنّهم ﴿جاؤُ﴾ وأتوهم ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ المعجزات الظّاهرات التي لم يبق لأحد معها مجال للتّكذيب ﴿وَالزُّبُرِ﴾ والصّحف السّماوية المشتملة على الأحكام والمواعظ والزّواجر ﴿وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ﴾ الموضّح للحقائق من التّوراة ، والإنجيل.

وتخصيص الكتاب بالذّكر مع كونه داخلا في عموم الزّبر ، للإشعار بكونه أشرف منها. وعطف جميعها على البيّنات ، للدّلالة على عدم كون واحد منها معجزا للأنبياء ، وأنّ كون نفس الكتاب معجزا ، من خصائص خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتابه المجيد. ووجه كون الآية تسلية وضوح أنّ البليّة إذا

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ١٢١.

١٤٢

عمت طابت.

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ

 النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)

ثمّ بالغ سبحانه في تسلية قلبه الشّريف بتذكيره الموت الذي ذكره يهوّن الخطوب ، ويسهّل جميع المصائب ، ويزيل الكروب ، بقوله : ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النّفوس البشريّة والحيوانيّة بالآخرة ﴿ذائِقَةُ﴾ طعم ﴿الْمَوْتِ﴾ وزهوق الرّوح ، بل كلّ موجود من الجسمانيّات ، وكلّ مركّب من المركّبات ايل أمره إلى الانحلال والانعدام ، فلا يبقى إلّا وجهه الكريم.

عن ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : « يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد ، ثمّ يموت أهل السّماء حتّى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت ، وحملة العرش ، وجبرئيل ، وميكائيل » قال : « فيجيء ملك الموت حتّى يقوم بين يدي الله عزوجل فيقول له : من بقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا ربّ ، لم يبق إلّا ملك الموت ، وحملة العرش ، وجبرئيل ، وميكائيل. فيقال له : قل لجبرئيل وميكائيل فليموتا. فتقول الملائكة عند ذلك : يا ربّ ، رسولاك واميناك. فيقول : إنّي قضيت على كلّ نفس فيها الرّوح الموت.

ثمّ يجيء ملك الموت حتّى يقف بين يدي الله عزوجل فيقال له : من بقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا ربّ ، لم يبق إلّا ملك الموت ، وحملة العرش. فيقول : [ قل ] لحملة العرش فليموتوا ثمّ يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول : من بقي ؟ - وهو أعلم - فيقول : يا ربّ ، لم يبق إلّا ملك الموت. فيقول له : مت يا ملك الموت ، فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض بيمينه والسّماوات بيمينه ، فيقول : أين الّذين كانوا يدعون معي شريكا ؟ أين (١) الّذين كانوا يجعلون معي إلها آخر ؟ » (٢) انتهى. فإذا كان ذلك ، فلا ينبغي للعاقل أن يغتمّ في المصائب.

ثمّ أنّه سبحانه بعدما كنّى عن الدّار الاخرى بذوق الموت ، بيّن توفية ثواب المصدّق ، وعقاب المكذّب ، بقوله : ﴿وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾ وتعطون على نحو الكمال جزاء أعمالكم ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ.

قيل : إنّ في لفظ التّوفية إشعارا بأنّ بعض اجورهم يصل إليهم قبل القيامة ، كما ينبى عنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله: « القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيّران » (٣) .

﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ وأبعد ﴿عَنِ النَّارِ﴾ ونحّي منها يومئذ ﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ بفضل الله ورحمته ﴿فَقَدْ

__________________

(١) في النسخة : من ، بدل أين.

(٢) الكافي ٣ : ٢٥٦ / ٢٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٥.

(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ١٢٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ١٣٨.

١٤٣

فازَ﴾ بالمقصد الأعلى ، وظفر بالبغية العليا.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « موضع سوط في الجنّة خير من الدّنيا وما فيها ، وقرأ : ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ (١) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة ، فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليوت إلى النّاس ما يحبّ أن يؤتى إليه » (٢) .

وعن ( الكافي ) : عن الصادق عليه‌السلام : « خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان ، والسعي في حوائجهم ، وإنّ البارّ بالإخوان ليحبّه الرّحمن ، وفي ذلك مرجمة (٣) الشيطان ، وتزحزح عن النّيران ، ودخول في الجنان » (٤) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حديث : « قال الله تعالى : فبعزّتي حلفت ، وبجلالي أقسمت أن لا يتولّى عليّا عبد من عبادي إلّا زحزحته عن النّار ، وأدخلته الجنّة ، ولا يبغضه عبد من عبادي إلّا أبغضته ، وأدخلته النّار وبئس المصير » (٥) .

ثمّ أنّه تعالى - بعد ما بيّن أنّ أعلى المقاصد النّجاة من النّار ، والدّخول في الجنّة - بيّن أن أردأ المطالب وأدنى المقاصد هو الدّنيا ، بقوله : ﴿وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ وعيشها ولذّاتها وزخارفها بشيء ﴿إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ وسلعة مدلّسة. فشبّه سبحانه الدّنيا بالمتاع الذي يدلّس على المستام (٦) ويغرّ حتّى يشتريه.

عن سعيد بن جبير : أنّ هذا في حقّ من آثر الدّنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها ، فإنّها نعم المتاع (٧) .

﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

 وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ

 الْأُمُورِ (١٨٦)

ثمّ أنّه تعالى - بعد تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تكذيب الكفّار وأقوالهم السّيّئة المقرحة للقلب - شرع في تسلية المؤمنين عمّا يلقونه من الكفّار فيما بعد ؛ ليوطّنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، ويستعدّوا للقائه ويقابلوه بحسن الصّبر والثّبات ، فإنّ هجوم الآجال يزلزل أقدام الرّجال ، والاستعداد للرّكوب

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ٩ : ١٢٦.

(٣) في المصدر : مرغمة.

(٤) الكافي ٤ : ٤١ / ١٥ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٥.

(٥) أمالي الصدوق : ٢٩٢ / ٣٢٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٥.

(٦) المستام : المشتري.

(٧) تفسير الرازي ٩ : ١٢٦.

١٤٤

ممّا يهوّن الخطوب ن فقال تعالى : ﴿لَتُبْلَوُنَ﴾ البتّة من جانب الله أيّها المؤمنون ، ولتعاملنّ معاملة المختبر ؛ ليظهر ما عندكم من الثّبات على الإيمان ولوازمه بما يقع ﴿فِي أَمْوالِكُمْ﴾ من ضروب الآفات والمضارّ ، ﴿وَ﴾ بما يقع في ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ من القتال ، والجرح ، والأسر ، وسائر المتاعب والشّدائد والمصائب.

عن الرّضا عليه‌السلام : ﴿ فِي أَمْوالِكُمْ﴾ : بإخراج الزّكاة ، ﴿وَ﴾ في ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾ : بالتّوطين على الصّبر » (١) .

﴿وَ﴾ بالله ﴿لَتَسْمَعُنَ﴾ أقوالا سيّئة ﴿مِنَ﴾ اليهود والنّصارى ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ السّماوي من التّوراة والإنجيل ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وفي زمان سابق على نزول القرآن عليكم ﴿وَ﴾ أقوالا ﴿مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ بالله وعبدوا الأصنام ، كأبي جهل وأبي سفيان وأضرابهما ، فيها ﴿أَذىً كَثِيراً﴾ لكم ، وايلام شديد في قلوبكم ، كالطّعن في دين الإسلام ، والقدح في أحكامه ، وإلقاء الشّبهات ، وتخطئة المؤمنين وهجائهم ، وتحريض المشركين على مضادّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ما يصيبكم من المكاره ، وتقابلوه بحسن العزاء والتّحمّل ﴿وَتَتَّقُوا﴾ الله في مخالفة مرضاته من الإقدام على ما يليق بالمؤمن ، ومن المداهنة معهم ﴿فَإِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور من الصّبر والتّقوى يكون ﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ وصواب التّدبير ، وممّا ينبغي أن يعزم العازمون ويتنافس فيه المتنافسون ، لما فيه من كمال المزيّة عند الله ، وإنفاذ المقصود من الإرشاد والهداية ؛ لأنّه أقرب إلى دخول المخالف في الدّين.

ولذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مداريا للنّاس صبورا على الأذى أكثر من أن يحصى ، بل كان مداراته وصبره من كراماته ومعجزاته.

روي أنّه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمدّه ، فقال فنحاص : قد احتاج ربّك إلى أن نمدّه ، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسّيف وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له حين بعثه : « لا تغلبنّ على شيء حتّى تؤدّي إليّ » فتذكّر أبو بكر ذلك وكفّ عن الضّرب ، فنزلت (٢) .

قيل : أمر الله سبحانه بالصّبر تقليلا لمضارّ الدّنيا ، وأمر بالتّقوى تقليلا لمضارّ الآخرة ، فكانت الآية جامعة لآداب الدّنيا والآخرة (٣) .

﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ

 وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٦٩ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٦.

(٢) تفسير الرازي ٩ : ١٢٨.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ١٢٩.

١٤٥

ثمّ - لمّا كان كتمان اليهود والنّصارى ما في التّوراة والإنجيل من دلائل نبوّة خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته وعلائمه ، من أشدّ أنواع إيذائهم للرسول والمؤمنين ، وأظهر مصاديقه - تعرّض سبحانه لذلك بقوله : ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ﴾ قيل : إنّ المراد : وتذكّر يا محمّد وقتا أخذ الله ﴿مِيثاقَ﴾ اليهود والنّصارى ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ والعهد المحكم المبرم عليهم على لسان الأنبياء والرّسل ، حيث قالوا لأممهم - بعد ما بيّنوا لهم ما في الكتاب من صفات نبيّ آخر الزّمان وعلائمه - : يا عباد الله ، بالله عليكم ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾ ولتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي منها أمر نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ﴿لِلنَّاسِ﴾ الّذين لا يطّلعون بما فيه كما أوضحناه وبيّناه لكم ﴿وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ عن العوامّ بوسيلة تحريف عباراته ، أو إبدائه التّأويلات ، أو إلقاء الشّبهات.

هذا حاصل العهد الأكيد بفنون التأكيدات ، ومع ذلك ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ وطرحوه لحبّهم الدّنيا وألقوه ﴿وَراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ ولم يراعوه ، ولم يلتفتوا إليه مع قبوله والالتزام بالعمل به ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ وأخذوا بدل الميثاق والوفاء ﴿ثَمَناً﴾ وعوضا ﴿قَلِيلاً﴾ من الزّخارف الدّنيويّة والحطام الفانية ، وأخفوا الحقّ ، واستهانوا بالعهد الأكيد الإلهي طمعا في أموال سفلتهم ، وحفظا للرّئاسة على جهلتهم ﴿فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ﴾ وساء ما يستبدلون به.

وفيه دلالة على نهاية قباحة كتمان الحقّ ، وشدّة حرمته على العالم به ، للأغراض الدّنيويّة والأهواء الفاسدة ، ولو كان الكاتم من المسلمين.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا » (١) .

﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا

 تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)

ثمّ بالغ سبحانه في تهديد الكاتمين لعلائم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدلّسين للحقّ ، بقوله : و﴿لا تَحْسَبَنَ﴾ يا محمّد ، ولا تتوهّمنّ الكاتمين ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾ ويسرّون ﴿بِما أَتَوْا﴾ من الأموال والرّئاسات ، أو بما فعلوا من نقض العهد ، وكتمان آيات نبوّتك ﴿وَيُحِبُّونَ﴾ بقلوبهم ويتمنّون ﴿أَنْ يُحْمَدُوا﴾ بين النّاس ﴿بِما لَمْ يَفْعَلُوا﴾ من الوفاء بالعهد ، والصّدق في الإخبار ، والتّقوى في الدّين.

ثمّ أكّد سبحانه النّهي عن الحسبان بقوله : ﴿فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ متمكّنين ﴿بِمَفازَةٍ﴾ ومنجاة ﴿مِنَ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٩٠٥ ، تفسير الرازي ٩ : ١٣١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٦.

١٤٦

الْعَذابِ﴾ في القيامة.

وعن القمّي ، عن الباقر عليه‌السلام : « أي ببعيد من العذاب » (١) .

﴿وَلَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿عَذابٌ﴾ بالنّار ﴿أَلِيمٌ﴾ غايته ، بسبب كفرهم ، وكتمانهم ، وتدليسهم.

عن ابن عبّاس رضي الله عنه : هم اليهود ، حرّفوا التّوراة ، وفرحوا بذلك ، وأحبّوا أن يوصفوا بالدّيانة والفضل (٢) .

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سأل اليهود عن شيء ممّا في التّوراة فكتموا الحقّ ، وأخبروه بخلافه ، وأروه أنّهم قد صدّقوه ، واستحمدوا إليه ، وفرحوا بما فعلوا (٣) .

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلّفون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغزو ، ويفرحون بقعودهم ، فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ، فطمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني على المسلمين المجاهدين (٤) .

أقول : يحتمل أنّه قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية في أولئك المنافقين ، فتوهّم (٥) أنّها نزلت فيهم.

﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)

ثمّ أعلن سبحانه بعظم سلطانه ، وسعة قدرته ازديادا للرّهبة في القلوب ، بقوله : ﴿وَلِلَّهِ﴾ وحده ﴿مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسّلطنة الاستقلاليّة التّامّة فيهما ، بحيث لا يخرج من سلطانه شيء من الأشياء ، وذرّة من الذّرّات ﴿وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من القهر والغلبة والتّعذيب ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يدفعه شيء عن إنفاذ إرادته ، ومع ذلك كيف يجترى العاقل على عصيانه ؟

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي

 الْأَلْبابِ (١٩٠)

ثمّ أكّد سبحانه تخصيصه بالسّلطنة التّامّة ، والقدرة الكاملة ، بقوله : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ﴾ السّبع أو التّسع ، وإنشائها على ما هي عليه من ذواتها ، وصفاتها ، وكواكبها ، وحركاتها ، وسائر أمورها التي تحار فيها العقول.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال في صفة السّماوات : « جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا ، وعلياهنّ سقفا

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.

(٢ و٣) . تفسير أبي السعود ٢ : ١٢٥.

(٤) تفسير الرازي ٩ : ١٣٢.

(٥) أي أبو سعيد الخدري.

١٤٧

محفوظا وسمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، ولا دسار (١) يتظمها (٢) ، ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر » (٣) .

﴿وَ﴾ في خلق ﴿الْأَرْضِ﴾ على ما هي عليه في ذاتها ، وصفاتها ، وأجزائها ، وما خلق فيها من البحار والجبال والمعادن والأشجار ، ﴿وَ﴾ في ﴿اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ﴾ وتعاقبهما ، وقيل : اختلاف لونهما وتفاوتهما بازدياد كلّ منهما ونقص الآخر ، بحسب اختلاف حال الشّمس بالنّسبة إلينا قربا وبعدا ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة ، ودلائل واضحة على وحدة خالقها ، وكمال قدرته ، وسعة علمه ، وبلوغ حكمته ، وعظم سلطانه ، وعلوّ شأنه ، ولكن لا لجميع الخلق لعمى قلوب أكثرهم ، وعدم تفكّرهم فيهان بل ﴿لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ منهم ، وذوي العقول السّليمة ، والأفهام المستقيمة الخالصة عن شوائب الأوهام والشّهوات الحيوانية ، والأهواء الزّائغة النّفسانيّة خاصّة ، لتنوّر قلوبهم ، ونفوذ بصيرتهم.

قيل : لمّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو أهل مكّة إلى عبادة الله وحده سألوه أن يأتيهم بآية تصحّح دعواه ، فنزلت.

قيل : إنّه تعالى ذكر في سورة البقرة في نظير الآية ، الآيات الثّمانية ، واكتفى هنا بذكر الثلاثة منها ؛ لأنّ السّالك إلى الله في أوّل الأمر لا بدّ له من تكثير الدّلائل ، فإذا استنار قلبه بنور المعرفة صار اشتغاله بالدّلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في المعرفة ، فيصير طالبا لتقليلها.

ففي الآية الاولى إشارة إلى مبدأ السّلوك ، ولذا قال هناك : ﴿لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(٤) وهنا : ﴿لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ﴾ فإنّ لبّ العقل خالصه ومصفاه وكماله.

عن ابن عمر ، قال : قلت لعائشة : ما أعجب ما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فبكت فأطالت ، ثمّ قالت :كلّ أمره عجيب ، أتاني في ليلة فدخل لحافي حتّى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال لي : « يا عائشة ، هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي ؟ » ، فقلت : يا رسول الله ، إنّي لاحبّ قربك واحبّ مرادك ، قد أذنت لك ، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ، ولم يكثر من صبّ الماء ، ثمّ قام يصلّي فقرأ من القرآن فجعل يبكي ، ثمّ رفع يديه وجعل يبكي ، حتّى رأيت دموعه قد بلّت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال له : يا رسول الله أتبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ! فقال : « يا بلال ، أ فلا أكون عبدا شكورا ؟ » ثمّ قال : « ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه اللّيلة : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ

__________________

(١) الدّسار : المسمار.

(٢) في نهج البلاغة : ينظمها.

(٣) نهج البلاغة : ٤١ الخطبة ١.

(٤) البقرة ٢ : ١٦٤.

١٤٨

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...  ﴾ ثمّ قال : « ويل لمن قرأها ، ولم يتفكّر فيها » (١) .

وروي أنّه قال : « ويل لمن لاكها بين فكّيه ، ولم يتأمّل فيها » (٢) .

وعن عليّ عليه‌السلام : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا قام من اللّيل يتسوّك ، ثمّ ينظر إلى السّماء ويقول : ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (٣) .

﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ

 السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ

 النَّارِ (١٩١)

ثمّ وصف الله سبحانه اولي الألباب بقوله : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ بألسنتهم وقلوبهم حال كونهم ﴿قِياماً وَقُعُوداً وَ﴾ مضطجعين ﴿عَلى جُنُوبِهِمْ﴾ وفي سائر أحوالهم.

قيل : إنّه ثبت في الطّبّ : أنّ كون الإنسان مستلقيا على قفاه ، يمتنع عن استكمال الفكر والتّدبّر ، بخلاف الاضطجاع على الجنب ، وأنّ الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق (٤) .

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أراد أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر الله » (٥) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أكثر ذكر الله أحبّه [ الله ] » (٦) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « [ لا يزال ] المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله قائما وجالسا ومضطجعا ، إنّ الله يقول : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ﴾ الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا » (٧) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمران بن حصين : « صلّ قائما ، فإن لم تستطع [ فقاعدا ، فإن لم تستطع ] فعلى جنب تومئ إيماء » (٨) .

ثمّ لمّا كان كمال الذّكر بكونه مع التّفكّر ، وصفهم بقوله : ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ﴾ وإنشائها ﴿وَالْأَرْضِ﴾ وإيجادها ، ويعتبرون بهما.

وقيل : إنّ المراد : يتفكّرون في ما خلق الله في السّماوات من الشّمس والقمر والنّجوم ، وفي ما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار والأشجار والوحوش والطّيور.

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ١٣٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ١٤٥.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ٩ : ١٣٤.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ٩ : ١٣٦.

(٦) الكافي ٢ : ٣٦٢ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.

(٧) العياشي ١ : ٣٥٧ / ٨٢٩ و٨٣١ ، وتفسير الصافي ١ : ٣٧٧ عن الباقر عليه‌السلام.

(٨) تفسير أبي السعود ٢ : ١٢٩.

١٤٩

وإنّما خصّ التّفكّر بالخلق ؛ لأنّ معرفة حقيقة ذاته تعالى غير ممكنة للبشر ، فلا فائدة لهم في التّفكّر في ذاته المقدّسة ، ولذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تفكّروا في الخلق ، ولا تتفكّروا في الخالق » (١) .

قيل : لمّا كان الإنسان مركّبا من النّفس والبدن ، كانت العبوديّة بحسب النّفس والبدن ، فأشار إلى عبوديّة البدن بقوله : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ... ﴾ فإنّ ذلك لا يتمّ إلّا باستعمال الجوارح والأعضاء وأشار إلى عبودية القلب والرّوح بقوله : ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...﴾ .

في فضيلة التفكر وفوائده

ثمّ - لمّا كان نتيجة التّفكّر في المخلوقات تنوّر القلب ، وزيادة المعرفة بسعة قدرة الله وكمال حكمته - وصفهم بعد التّفكّر في عجائب صنع السّماوات والأرض بإظهار المعرفة بقولهم : ﴿رَبَّنا﴾ اعترفنا بأنّك ﴿ما خَلَقْتَ هذا﴾ الخلق العظيم ، والمصنوع العجيب ﴿باطِلاً﴾ وعبثا ، بل فيه حكم بالغة وأسرار عظيمة لا تحيط بأقلّ قليل منها عقول الكائنات ، ولا يمكن ان يبلغ إلى عشر من أعشارها إدراك الممكنات.

ثمّ لمّا كان من لوازم التّفكّر في الخلق ، تنزيه خالقه عن التّشبيه به ، يبادرون بعد التّفكّر إلى تنزيهه تعالى من الصّفات الإمكانيّة بقولهم : ﴿سُبْحانَكَ﴾ أن يكون لك خصائص الممكنات ، ونقدّسك عن نقائض المخلوقات ، وننزّهك عمّا لا يليق بك من العبث ، وفعل ما لا حكمة فيه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة » (٢) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « نبّه بالتّفكّر قلبك ، وجاف عن اللّيل جنبك ، واتّق الله ربّك » (٣) .

وعن الرّضا عليه‌السلام : « ليس العبادة كثرة الصّلاة والصّوم ، وإنّما العبادة التّفكّر في أمر الله » (٤) .

وروي أنّه كان أكثر عبادة أبي ذرّ التّفكّر [ والاعتبار ](٥) .

ويشهد على كون التفكّر أفضل العبادات ، وضوح أنّ الغرض من الخلق المعرفة ، وهي موقوفة على التّفكّر في صنائع الله عزوجل ، فإنّ من تفكّر فيها - على ما هي عليه من النّمط البديع - قضى باتّصاف صانعها بالوجوب الذّاتي ، لامتناع انتهاء وجود الممكن إلّا إلى الواجب. ومن اتّساقها على النّظام الأتمّ ، علم بوحدانيّته الذّاتيّة ، وقدرته الكاملة ، وعلمه الواسع ، وحكمته البالغة.

ومن لوازم حكمته جعل التّكاليف ، ولازمه جعل الثّواب والعقاب ، ولازمه إيجاد عالم آخر ، وبعث المكلّفين فيه ، ليتعامل معهم على حسب استحقاقهم ، وأنّ من قدر على إنشائهم بلا مثال كان على

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ١٣٧.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١٤٥.

(٣) الكافي ٢ : ٤٥ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.

(٤) الكافي ٢ : ٤٥ / ٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٧.

(٥) الخصال : ٤٢ / ٣٣ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٤٣١ / ٣٩.

١٥٠

إعادتهم أقدر. فظهر أنّ معرفة المبدأ والمعاد ، ووظائف العبوديّة ، ووجوب القيام بها نتيجة التّفكّر في الآفاق والأنفس.

ثمّ لمّا كان على المؤمن بعد معرفة الله ، وظهور عظمته في قلبه ، غاية التّخضّع ، وإظهار ذلّة العبوديّة - ومن الواضح أنّ أحبّ أنواعه عند الله الضّراعة وسؤال الحاجة ، وأنّ أهمّ الحوائج للعباد ، المؤمنين بالمعاد ، النّجاة من العذاب ، والسّلامة من العقاب - حكى الله بعد مدحهم بالتّفكّر والمعرفة والتّسبيح ، ضراعتهم ومسألتهم النّجاة من النّار بقوله : ﴿فَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾ الذي أعددته للكافرين بك ، والجاحدين لربوبيّتك ، واحفظنا منه بالتّوفيق للاجتناب عن الزّلّات والمعاصي ، حيث إنّه لا تسلم نفس من اقتراف الذّنوب مع خذلانك ، ولا يرجى النّجاة من المهالك إلّا بحفظك ، فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء ، والشّيطان عدوّ مبين.

قيل : في ذكر ( الفاء ) إشعار بترتّب هذا السّؤال على الذّكر والفكر ، وحصول المعرفة الكاملة ، كأنّهم قالوا : وإذ عرفنا سرّك ، وأطعنا أمرك ، ونزّهناك عمّا لا يليق بك ، فاحفظنا من عذاب النّار الذي هو جزاء من لا يعرفك.

﴿رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)

ثمّ لمّا كان الالتفات بعظم الحاجة موجبا لقوّة الدّاعي في الطلب والإلحاح ، حكى عنهم ذكر عظمة مطلوبهم بقوله : ﴿رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ غاية الخزي ، وأبعدته من مقام قربك ، وحرمته من ساحة رحمتك ، وأهنته بين خلقك ، وفضحته على رؤوس الأشهاد ، وأهلكته أبد الآباد.

وفي التّصدير بالنّداء مبالغة في التّضرّع ، وإلحاح في الدّعاء ، وفي توصيفه بالرّبوبيّة وإضافتها إلى ضمير المتكلّم استرحام واستعطاف. وفي التّأكيد ب ( إنّ ) إظهار لكمال اليقين بمضمون الجملة ، وإيذان بشدّة الخوف. وفي ذكر النّار موضع الإضمار إشعار بتهويل أمرها. وفي ذكر ( تدخل ) بدل ( تعذب ) تعيين كيفيّة التّعذيب ، وتبيين غاية فظاعته. وفي ترتيب الخزي على التّعذيب بالنّار دلالة على أنّ العذاب الرّوحاني أشدّ من الجسماني ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « هبني صبرت على عذابك ، فكيف أصبر على فراقك ؟ » (١) .

ثمّ بالغوا في إظهار نهاية فظاعة حالهم تأكيدا لاستدعائهم ، بقوله : ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم بعصيانك ، حين دخولهم في النّار ﴿مِنْ أَنْصارٍ﴾ وأعوان كي يدفعوا عنهم العذاب.

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٨٤٧.

١٥١

وفيه إشعار بخلود عذابهم ، بفقدان من يقوم بنصرتهم وتخليصهم. وفي ذكر الظّالمين موضع الضّمير الرّاجع إلى المدخلين دلالة على ذمّهم ، وعلّة استحقاقهم لأشدّ العذاب.

ثمّ لمّا كان المراد بالنّاصر هو المدافع بالقهر ، فلا دلالة في نفيه على نفي الشّفاعة التي هي ضراعة الشّفيع في التّخليص.

عن العيّاشي : عن الباقر عليه‌السلام : « ما لهم من أئمّة يسمّونهم بأسمائهم » (١) .

﴿رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا

 ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)

ثمّ - لمّا كان الانقياد وحسن الخدمة والطاعة دخيلا في تعطّف المسؤول ، وإقدامه في قضاء حاجه السّائل ، وإجابة دعائه - حكى الله عن المؤمنين إظهار إيمانهم وطاعتهم له ولرسوله بقوله : ﴿رَبَّنا﴾ ومليكنا ﴿إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً﴾ وداعيا عظيم الشّأن ، كثير الاهتمام بالدّعوة ، بحيث يرفع صوته بها ، وهو ﴿يُنادِي﴾ ويدعو عامّة النّاس بصوت عال ﴿لِلْإِيمانِ﴾ بك وبوحدانيّتك ، وكمال صفاتك ، وصحّة شريعتك ، ويدعوهم إلى سبيل مرضاتك ، والالتزام بطاعتك بكلمة جامعة لجميع هذه الأمور ، هي ﴿أَنْ آمِنُوا﴾ أيّها النّاس ﴿بِرَبِّكُمْ﴾ وخالقكم اللّطيف بكم ، والرّؤوف المتولّي لجميع اموركم ، الحافظ لمصالحكم ، لوضوح أنّ معرفته تعالى بصفة الرّبوبيّة والإيمان به ملازم للإيمان برسوله وكتابه وشريعته.

ويحتمل أن يكون وجه تخصيص الأمر بالإيمان بالرّبّ ، تفخيم شأنه.

﴿فَآمَنَّا﴾ به بلا مماطلة امتثالا لأمره ، وبادرنا إلى الإقرار به إجابة لدعوته ﴿رَبَّنا﴾ إذن ﴿فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ وتجاوز عن كبائر معاصينا ، جزاء لإيماننا بك ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا﴾ وامح صغائر زلّاتنا. وقيل : إنّ الجملة تأكيد للاولى.

ثمّ بعد سؤال المغفرة والتماس الأمن من العقوبة ، يتوجّهون الى النّعم واللّذائذ ، ويسألون أتمّها وأعلاها بقولهم : ﴿وَتَوَفَّنا﴾ واقبض أرواحنا ، وأخرجنا من الدّنيا حال كوننا مصاحبين ﴿مَعَ الْأَبْرارِ﴾ محظوظين بجوارهم ، ملتذّين بمرافقتهم وصحبتهم ، فإنّ صحبة الأحبّة أتمّ اللّذائذ وأعلا الحظوظ.

وقيل : إنّ المراد : حال كوننا معدودين في زمرة المطيعين ، أو التّابعين لهم في أعمالهم ، حتّى نكون في درجاتهم.

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٣٥٧ / ٨٣٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٨.

١٥٢

﴿رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ

 الْمِيعادَ (١٩٤)

ثمّ بعد طلب الأمن من العقوبة ، وسؤال أهم النّعم ، يعمّون السّؤال ، ويستدعون جميع المثوبات الموعودة للمؤمنين ، بقولهم : ﴿رَبَّنا وَآتِنا﴾ برحمتك ، وأعطنا بجودك وكرمك ﴿ما وَعَدْتَنا﴾ من الثّواب والأجر الدّنيوي والاخروي ﴿عَلى﴾ تصديق ﴿رُسُلِكَ﴾ . وقيل : إنّ المراد : ما وعدتنا بالوعد الكائن على ألسنة رسلك ، ووسائط تبليغ وحيك.

وفي تكرير النّداء بقولهم : ﴿رَبَّنا﴾ إظهار المبالغة في الضّراعة.

عن الصادق عليه‌السلام : « من حزبه (١) أمر فقال : ربّنا ؛ خمس مرّات ، أنجاه الله ممّا يخاف ، وأعطاه ما أراد » (٢) .

وفي ذكر جميع الرّسل - مع كون المراد من المنادي للإيمان خصوص خاتم النّبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله - إشعار باتّفاقهم في الوعد ، وتأكّده بكثرة الشّهود ، وإظهار كمال الثّقة بإنجازه.

ثمّ أنّه تعالى - بعدما حكى عن المؤمنين تقديم سؤال المغفرة والأمن من العقوبة على سؤال الجنّة وسائر النّعم والمثوبات ، إظهارا لأهميّته وكونه أصلا ، وغيره فرعا وتبعا - حكى عنهم ختم دعواتهم به تثبيتا لذلك ، بقوله : ﴿وَلا تُخْزِنا﴾ ولا تهنّا بين النّاس ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ بالعذاب الدّائم.

وقيل : إنّ السّؤال الأوّل - وهو الوقاية من النّار - طلب الأمن من العذاب الجسماني ، والسّؤال الآخر من قولهم : ﴿وَلا تُخْزِنا﴾ طلب السّلامة من الخزي والهوان ؛ وهو العذاب الرّوحاني ، حيث يظهر يوم القيامة لبعض العباد أنّ اعتقاده كان ضلالا ، وعمله كان ذنبا ؛ كما قال تعالى : ﴿وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا(٣) ، فعند ذلك يحصل لهم خجلة عظيمة ، وحسرة كاملة ، وأسف شديد ، وذلك هو العذاب الرّوحاني ، وهو أشدّ من العذاب الجسماني.

وقيل : إنّ المراد : لا تهنّا حين إعطاء الثّواب ، بل عظّمنا وأكرمنا. فإنّه يمكن أن يكون إعطاء الثّواب مقرونا بالتّوهين.

ثمّ حكى الله سبحانه عن المؤمنين إظهار اليقين بامتناع صدور خلف الوعد منه تعالى ، بقوله : ﴿إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ لإظهار أنّ سؤال الوفاء بالوعد ليس لخوف صدور خلف الوعد منه تعالى ، بل لإظهار الاستكانة ، أو احتمال التّقصير من قبلهم ، والخوف من أنّهم لا يكونون من جملة الموعودين ، لسوء العاقبة ، أو القصور في الامتثال ، فمرجعها إلى الدّعاء بالتّثبّت على الإيمان والطّاعة.

__________________

(١) حزبه الأمر : اشتدّ عليه.

(٢) تفسير الرازي ٩ : ١٥١ ، تفسير أبي السعود ٢ : ١٣٣.

(٣) الزمر : ٣٩ / ٤٨.

١٥٣

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّه البعث بعد الموت (١) . يعني : المراد من الميعاد : البعث الموعود.

في ذكر آداب الدعاء وكيفيته

ثمّ اعلم أنّ الله تعالى علّم عباده - في هذه الآيات من قوله : ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ(٢) إلى قوله : ﴿لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ - آداب الدّعاء وكيفيّاته ، حيث ظهر منها أنّه لا بدّ للدّاعي قبل الدّعاء [ من ] التّفكّر في آيات الله ، وتحصيل المعرفة به ، ثمّ ثنائه بالتّسبيح والتّهليل ، ثمّ مخاطبته بخطاب فيه كمال الضرّاعة ، وإظهار العبوديّة والاستكانة ، ثمّ ندائه بما فيه جلب العطوفة ؛ كقول : يا ربّ ، يا رحيم ، يا رؤوف ، وأمثال ذلك ، ثمّ تذكّر ما فيه اشتداد شوقه إلى الدّعاء ، وما يؤثّر في تقوية داعي المدعوّ إلى الإجابة ، ثمّ يخصّ دعاءه بالمهمّات ، ويكون نظره إلى الحوائج الاخرويّة ، ولا يعتني إلى الدّنيا وما فيها ، ولا يطلب في دعائه شيئا منها ، ويقدّم أوّلا طلب المغفرة ؛ لأنّها - مع كونها من أهمّ الحوائج - لها أثر تامّ في إجابة الدّعاء به.

عن ابن عبّاس رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ، ومن كلّ ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب » الخبر (٣) .

ويسأل النّجاة من النّار والهوان في الآخرة ، ثمّ يطلب النّعم والدّرجات الرّفيعة في الجنان - لتقدّم التّخلية على التّحلية - وأن يكون على يقين بكرم الله ، وأنّه يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه حسب ما وعد ، وأنّه لا يخلف الوعد ، ولا يسوء ظنّه به تعالى.

﴿فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ

 مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا

 وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً

 مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)

ثمّ رتّب الله على دعواتهم الجامعة لآدابها الإجابة السّريعة بقوله : ﴿فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ وتحقّق إنجاح مسؤولهم من مليكهم اللّطيف بهم ، المكمّل لنفوسهم.

وقيل : إنّ ( استجاب ) أخصّ من ( أجاب ) ، فإنّ ( أجاب ) معناه : أعطاه الجواب ، وهو أعمّ من إعطاء المطلوب ، وإنّما يقال : ( استجاب ) إذا حصل المطلوب.

__________________

(١) تفسير البيضاوي ١ : ١٩٦ ، تفسير أبي السعود ٢ : ١٣٣.

(٢) آل عمران : ٣ / ١٩١.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ١٤٩.

١٥٤

واستجابته كانت بإنجاز وعده بالثّواب على الإيمان وأعمالهم الصّالحة المسلتزمة للمغفرة والوقاية من النّار ، موجّها الخطاب إليهم تشريفا لهم ، وتطييبا لقلوبهم ، بقوله : ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ﴾ ولا ابطل ﴿عَمَلَ عامِلٍ﴾ أيّ عامل كان ﴿مِنْكُمْ﴾ من الكاملين في الإيمان ، أو الضّعفاء ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى﴾ ومن خسيس النّسب أو شريفه ؛ لأنّه ﴿بَعْضُكُمْ﴾ منشعب ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾ آخر ، وكلّكم من أصل واحد ، فلا مزيّة لأحد على أحد عند الله إلّا بالتّقوى والعمل الصّالح ، فمع تساوي النّسبة إلى الله ، وكون التّفاوت والمزيّة بالإيمان والقيام بوظائف العبودية ، لا يمكن إثابة بعض دون بعض.

وقيل : إنّ المراد من قوله : ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أنّكم متوافقون في الدّين والأعمال ؛ كما قال في حقّ المنافقين : ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ(١) .

وقيل : إنّ ( من ) بمعنى : ( الكاف ) والمعنى : بعضكم كبعض (٢) ، والمقصود : بيان شركة النّساء مع الرّجال في ما وعد للأعمال.

روي أنّ امّ سلمة قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أسمع الله يذكر الرّجال في الهجرة ، ولا يذكر النّساء ، فنزلت الآية (٣) .

ثمّ ذكر الله تفصيل أعظم الأعمال التي يستحقّ بها غاية الثّواب ، بقوله : ﴿فَالَّذِينَ هاجَرُوا﴾ من أوطانهم حفظا لدينهم ، واختيارا لخدمة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشوقا إلى صحبته - عن القمّي رحمه‌الله يعني : أمير المؤمنين ، وسلمان (٤) - أو لم يهاجروا اختيارا ﴿وَ﴾ لكن ﴿أُخْرِجُوا﴾ قهرا وجبرا ﴿مِنْ دِيارِهِمْ﴾ التي ولدوا فيها وتوطّنوها ، واضطرّوا إلى ترك الإقامة بها بسبب إيذاء المشركين ، والخوف على أنفسهم وأعراضهم ، ﴿وَ﴾ الّذين ﴿أُوذُوا﴾ من الكفّار ، بأيّ نوع من أنواع الإيذاء ﴿فِي سَبِيلِي﴾ لأجل تحصيل مرضاتي من الإقرار بالتّوحيد ، والدّخول في الملّة الحنيفيّة ﴿وَ﴾ الّذين ﴿قاتَلُوا﴾ أعداء الدّين ، وجاهدوا معهم نصرة للإسلام ﴿وَقُتِلُوا﴾ في ترويج الشّريعة ، تالله ﴿لَأُكَفِّرَنَ﴾ وأمحونّ ﴿عَنْهُمْ﴾ ومن صحيفة أعمالهم ﴿سَيِّئاتِهِمْ﴾ وخطاياهم ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ﴾ في القيامة برحمتي وفضلي ﴿جَنَّاتٍ﴾ عديدة ، تكون من محسّناتها وصفاتها أنّه ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، ولاثيبنّهم وفاء بالوعد ﴿ثَواباً﴾ عظيما على هذه الأعمال وغيرها ، حال كون ذلك الثّواب تشريفا لهم ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ومن قبل فضله وجوده.

ثمّ بالغ سبحانه في تأكيد الوعد ، وتشريف الثواب بقوله : ﴿وَاللهُ﴾ مذخور ﴿عِنْدَهُ﴾ وفي خزائن

__________________

(١) التوبة : ٩ / ٦٧.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ٩ : ١٥٠.

(٤) تفسير القمي ١ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٩.

١٥٥

جوده ﴿حُسْنُ الثَّوابِ﴾ وأكمل الجزاء على طاعته ، لا يعادله ثواب ، ولا يشابهه جزاء.

قيل : في تصدير الوعد الكريم بعدم الإضاعة ، ثمّ تعقيبه بهذا الإحسان الجسيم الذي لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ من عظم شأن المحسن ما لا يخفى.

ثمّ أنّ ظاهر الآية وإن كان ثبوت هذا الأجر العظيم للّذين اجتمعت لهم جميع هذه الأمور من الهجرة ، والإخراج من الاوطان ، والإيذاء ، والمقاتلة والقتل ، ولكن يحتمل أن يكون لمن له أحدها ، ويؤيّده سعة رحمة الله وفضله.

عن ( الأمالي ) : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا هاجر من مكّة إلى المدينة ليلحق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وقد قارع الفرسان من قريش ، ومعه فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة بنت الزّبير ، فسار ظاهرا قاهرا حتّى نزل ضجنان (١) فتلوّم بها يوما وليلة ، ولحق به نفر من ضعفاء المؤمنين ، وفيهم امّ أيمن مولاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان يصلّي ليلته تلك هو والفواطم ويذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، فلن يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر ، فصلّى بهم صلاة الفجر ، ثمّ سار لوجهه.

فجعل هو وهنّ يصنعون ذلك منزلا بعد منزل ، يعبدون الله عزوجل ويرغبون إليه كذلك حتّى قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً(٢) الآيات ، إلى قوله : ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى﴾ الذّكر : علىّ عليه‌السلام ، والانثى : الفواطم ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ يعني : عليّ من فاطمة ، أو قال : من الفواطم ، وهنّ من عليّ (٣) .

وعن القمّي رحمه‌الله : ﴿فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ﴾ يعني : أبا ذرّ حين اخرج وعمّار اللذين اوذوا في سبيل الله (٤) .

أقول : الظّاهر أنّ الرّواية بيان لأظهر مصاديق الآية وأكملها ، لا أنّها تفسير لها ، بل هي عامّة لكلّ من اتّصف بتلك الصّفات.

﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

 الْمِهادُ (١٩٧)

ثمّ لمّا وعد الله سبحانه الثّواب العظيم على الإيمان والهجرة ، وكان المهاجرون في شدّة الفقر والفاقة ، صاروا معرضا للطّعن بأنّه لو كان لهم منزلة عند الله لأعطاهم من الدّنيا ما يعيشون به في

__________________

(١) ضجنان : جبل على بريد من مكة.

(٢) آل عمران ٣ / ١٩١.

(٣) أمالي الصدوق : ٤٧١ / ١٠٣١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٩.

(٤) تفسير القمي ١ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٧٩.

١٥٦

الرّاحة ، فدفع الله ذلك الطّعن ، وسلّى قلوب المؤمنين مخاطبا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تشريفا له ، وإيذانا بكونه المسلّي عن الله والمبلّغ ، بقوله : ﴿لا يَغُرَّنَّكَ﴾ ولا يلقينّك في اعتقاد خلاف الواقع - وقيل : إنّ الخطاب لكلّ أحد - ﴿تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ﴾ وتصرّفهم في المكاسب والمتاجر ، وتبسّطهم في المعيشة ، والمؤمنون في شدّة الفاقة - أو المراد : سيرهم في الأرض آمنين ، والمؤمنون في خوف - أنّ للكفّار منزلة عند الله دون المؤمنين ، فإنّ الغنى أو الأمن الذي يكون للكفّار ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾ في الدّنيا ، وانتفاع يسير فيها ، يزول بسرعة ولو كانت مدّته طويلة ، لوضوح أنّ أمد الدّنيا - بالنّسبة إلى طول مدّة الآخرة - أقلّ من دقيقة بالإضافة إلى أضعاف عمر الدّنيا ، وأنّه لا قدر لنعمها في جنب أقلّ قليل من نعم الآخرة.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « ما الدّنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ ، فلينظر ما (١) يرجع ! » (٢) .

﴿ثُمَ﴾ بعد انقضاء أجلهم يكون ﴿مَأْواهُمْ﴾ ومنزلهم إلى الأبد ﴿جَهَنَّمُ﴾ يصلونها ﴿وَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ تلك جهنم ، وساء ما مهّدوا وهيئوا لأنفسهم من النّار بسبب كفرهم بالله ، وحبّهم للدّنيا.

قيل : إنّ مشركي مكّة كانوا يتّجرون ويتنعّمون ، وإنّ بعض المسلمين كانوا يرونهم في رخاء ولين عيش فيقولون : [ إنّ ] أعداء الله في ما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت (٣) .

وقيل : إنّ اليهود كانت تضرب في الأرض فتصيب الأموال ، فنزلت (٤) ، فبيّن الله تعالى أنّ الدّنيا مع قلّتها وخساستها مورثة للعذاب الدّائم. ومن الواضح أنّ النّعمة القليلة لا تعدّ نعمة إذا كانت مستتبعة للمضرّة الشّديدة ، بل يجب على العاقل أن يتحرّز منها ، ويفرّ عنها.

﴿لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها

 نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)

ثمّ أتبع الله سبحانه وعيد الكفّار المنهمكين في حبّ الدّنيا بوعد المؤمنين المهتمّين بامور الآخرة ، بالثّواب العظيم ، وبيّن حسن حالهم فيها ، غبّ (٥) بيان كرّر ذكره إثر ما قرّر ، مع زيادة بيان خلودهم في الجنّات العالية والنّعم الباقية ، ليتمّ بذلك سرورهم ، ويتزايد به إيضاح سوء حال مخالفيهم ، بقوله : ﴿لكِنِ﴾ المؤمنون ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ وخافوا من عصيان مليكهم ، واحترزوا عن الإشراك به

__________________

(١) في تفسير أبي السعود : بم.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٣٥.

(٣ و٤) . تفسير الرازي ٩ : ١٥٢.

(٥) الغبّ : بمعنى بعد.

١٥٧

والكفران لنعمه ، يكون ﴿لَهُمْ﴾ خاصّة بالاستحقاق ﴿جَنَّاتٌ﴾ عديدة ، وبساتين عالية ذوات أشجار وفيرة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾ الكثيرة ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا ، آمنين من الخروج منها ، وتكون تلك النّعم العظيمة ﴿نُزُلاً﴾ وتهيئة تشريفيّة ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ للنّازلين عليه ، والوافدين لديه.

وقيل : إنّ المراد أنّها تكون رزقا وعطاء لهم من فضله.

﴿وَما﴾ هو مذخور ﴿عِنْدِ اللهِ﴾ وفي خزائن رحمته من النّعم ﴿خَيْرٌ﴾ وأنفع ؛ لكثرتها ودوامها ، وخلوصها من شوب المكاره ﴿لِلْأَبْرارِ﴾ والمطيعين لله ، ممّا يتقلّب فيه الكفّار ، ويكتسبون من الأموال ، ويتمتّع به الفجّار ، وينتفعون من متاع الدّنيا ؛ لقلّته ، وسرعة زواله ، وشوبه بأنواع المكاره والآلام ، مع وخامة تبعاته ووباله.

عن ابن مسعود رضى الله عنه : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلّا والموت خير لها ، أمّا البرّة فإنّ الله تعالى يقول : ﴿وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ﴾ وأمّا الفاجرة فإنّه يقول : ﴿إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً(١) .

وعن ابن الخطاب ، قال : جئت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مشربة (٢) ، وإنّه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، وعند رجليه قرظا مصبورا (٣) ، وعند رأسه اهب (٤) معلّقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما يبكيك ؟ » فقلت : يا رسول الله ، إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : « أما ترضى أن تكون لهما الدّنيا ولناالآخرة»(٥) .

﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ

 لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ

 الْحِسابِ (١٩٩)

ثمّ أنّه تعالى بعدما بين سوء حال الكفار ، الذين منهم أهل الكتابين ، بشّر بحسن حالم من آمن منهم بدين الإسلام ، بقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ الّذين دخلوا في دين الإسلام عن صميم القلب ، كعبد الله بن سلام وأضرابه ﴿لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ﴾ ويصّدق بوحدانيّته ﴿وَ﴾ يعترف بأنّ ﴿ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ من الدّين والقرآن حقّ ، وأنّهما من الله.

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١٥٤ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ١٧٨.

(٢) المشربة : الغرفة.

(٣) القرظ : ورق السّلم يدبغ به ، ومصبور ، أي مجموع مكوّم.

(٤) الأهب : جمع إهاب ، وهو الجلد قبل الدّبغ.

(٥) تفسير روح البيان ٢ : ١٥٤.

١٥٨

وتقديمه (١) على قوله : ﴿وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ﴾ من الكتابين ، في الذّكر - مع أنّ الأمر في الوجود بالعكس - للإشعار بأشرفيّة الإيمان بالأول من الثّاني ، وأنّ الإيمان بالكتابين متوقّف على ثبوتهما بالقرآن ، لانقطاع التّواتر عنهما ، وثبوت التّحريف فيهما ، حسب ما حقّق في محلّه ، فلو لم يكن إخبار القرآن بكونهما من عند الله لم يكن طريق إلى الإيمان بهما.

ثمّ وصفهم الله بكونهم ﴿خاشِعِينَ﴾ متواضعين ﴿لِلَّهِ﴾ خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه ، أو تعظيما له ، وبكونهم ﴿لا يَشْتَرُونَ﴾ ولا يستدلون ﴿بِآياتِ اللهِ﴾ المنزلة في الكتابين ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ وعوضا يسيرا ، ولا يحرّفونهما ، ولا يكتمون ما فيهما من شواهد نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله استجلابا لحطام الدّنيا ، وحفظا لرئاستهم ، كما هو دأب من لم يسلم من أحبارهم وقسّيسيهم ﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بهذه الصّفات الكريمة الفائقة ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ العظيم الموعود ، وثوابهم المذخور ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ اللّطيف بهم ، يصل إليهم في الآخرة بلا تأخير ولا تسويف ، بسبب طول الحساب ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ﴾ لسعة علمه بجميع الأشياء ، فلا حاجة له في تعيين جزاء العاملين إلى فكر ووعي صدر ، ومدّة وتحقيق وكتب ، فيكون أجر كلّ أحد سريع الوصول إليه.

عن ابن عبّاس : أنّها نزلت في النّجاشي ، فإنّه لمّا مات نعاه جبرئيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : « اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم » ، فخرج إلى البقيع ، ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النّجاشي ، وصلّى عليه واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا ، يصلّي على علج (٢) نصراني لم يره قطّ ، وليس على دينه ، فنزلت (٣) .

وقيل : نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران ، وآثنين وثلاثين رجلا من الحبشة ، وثمانية من الرّوم ، كانوا على دين عيسى عليه‌السلام فأسلموا (٤) .

وقال بعض : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم (٥) .

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ

 تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

ثمّ أنّه تعالى لمّا ذكر في السّورة المباركة كثيرا من الاصول كالتوحيد والعدل والنّبوّة والمعاد ، وكثيرا من الفروع كالحجّ والجهاد وغيرهما ، ختمها ببيان ما يوجب المحافظة عليها ، والقيام بالعمل بها ،

__________________

(١) أي تقديم قوله تعالى : (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ على) قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ).

(٢) العلج : الكافر من العجم.

(٣ و٤) . مجمع البيان ٢ : ٩١٦.

١٥٩

بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ على مشاقّ التّكاليف ، وما يصيبكم من الشّدائد كالقحط ، والفقر ، والبلايا ، والأمراض ، وسائر المصائب ، أو على أداء الواجبات ﴿وَصابِرُوا﴾ في قتال أعداء الله في مواطن الحروب ، وفي أداء حقوق النّاس وتحمّل المكاره منهم ، أو على ترك المحرّمات.

وتخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصّبر ، لاختصاصها بمزيد التّعب والمشقّة.

عن القمّي : عن الصادق عليه‌السلام : « اصبروا على المصائب ، وصابروا على الفرائض » (١) .

وعن العيّاشي : عنه عليه‌السلام : « اصبروا على المعاصي ، وصابروا على الفرائض » (٢) .

وفي رواية : « اصبروا على دينكم ، وصابروا عدوّكم ممّن يخالفكم » (٣) .

وعن ( المعاني ) : عنه عليه‌السلام : « اصبروا على المصائب ، وصابروهم على الفتنة » (٤) .

وعن الباقر عليه‌السلام : « وصابروهم على التقيّة » (٥) .

﴿وَرابِطُوا﴾ على الأئمّة ، كما عن الصادق عليه‌السلام (٦) . وفي رواية اخرى : « ورابطوا إمامكم » (٧) . وفي اخرى : « رابطوا على ما تقتدون به » (٨) .

أو المراد : رابطوا الصّلوات ، أي انتظروها واحدة بعد واحدة ، كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، معلّلا بأنّ المرابطة لم تكن حينئذ (٩) .

وعن أبي سلمة ، أنّه قال : لم يكن في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غزو يرابط فيه ، وإنّما نزلت هذه الآية في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة (١٠) .

ونقل أنّه ذكر انتظار الصّلاة بعد الصّلاة ، فقال أبو هريرة : فذلكم الرّباط ، ثلاث مرّات (١١) .

ويحتمل إرادة القدر المشترك بين المعاني المذكورة ، ويؤيّده ما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « من الرّباط انتظار الصّلاة بعد الصّلاة » (١٢) .

ويحتمل أنّ يكون المعنى : أقيموا في الثّغور رابطين خيلكم فيها ، مترصّدين للغزو والجهاد ، كما هو ظاهر اللّفظ عند العرف.

عن القمّي رحمه‌الله : عن السجاد عليه‌السلام : « نزلت في العبّاس وفينا ، ولم يكن الرّباط الذي امرنا به ، وسيكون

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٥٨ / ٨٣٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٣٥٩ / ٨٣٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٤) معاني الأخبار : ٣٦٩ / ١ ، وفيه : على التقية ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٥) معاني الأخبار : ٣٦٩ / ١ ، عن الصادق عليه‌السلام ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٦) الكافي ٢ : ٦٦ / ٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٧) تفسير العياشي ١ : ٣٥٩ / ٨٣٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٨) معاني الأخبار : ٣٦٩ / ١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨٠.

(٩) مجمع البيان : ٩١٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨١.

(١٠ و١١) . تفسير الرازي ٩ : ١٥٦.

(١٢) مجمع البيان ٢ : ٩١٨ ، تفسير الصافي ١ : ٣٨١.

١٦٠