نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي

نفحات الرحمن في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد بن عبدالرحيم النهاوندي


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
المطبعة: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
ISBN: 964-309-760-9
ISBN الدورة:
964-309-765-X

الصفحات: ٦٧٦

يقم على الوهيّته ، واستحقاق عبادته ﴿سُلْطاناً﴾ وحجّة وبرهانا.

روي أنّ الكفّار لمّا استولوا على المسلمين وهزموهم ، أوقع الله الرّعب في قلوبهم ، فتركوهم وفرّوا منهم من غير سبب ، حتّى أن أبا سفيان صعد الجبل وقال : أين ابن أبي كبشة ، وأين ابن أبي قحافة ، وأين ابن الخطّاب ؟ فأجابه عمر ، ودارت بينهما كلمات ، وما تجاسر أبو سفيان أن ينزل من الجبل والذّهاب إليهم(١) .

ونقل أنّ الكفّار لمّا ذهبوا إلى مكّة ، قالوا حين كانوا في بعض الطّريق : ما صنعنا شيئا ، قتلنا الأكثرين منهم وتركناهم ونحن ظاهرون ، ارجعوا حتّى نستأصلهم بالكلّيّة ، فلمّا عزموا على ذلك ألقى الله الرّعب في قلوبهم (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام ، في رواية : « ثمّ انهزم النّاس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، امض بسيفك حتّى تعارضهم ، فإن رأيتهم ركبوا القلاص (٣) وجنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة ، وإن رأيتهم قد ركبوا الخيل وهم يجتنبون القلاص فإنّهم يريدون المدينة ، فأتاهم عليّ عليه‌السلام فكانوا على القلاص ، فقال أبو سفيان لعليّ عليه‌السلام : ما تريد ؟ هو ذا نحن ذاهبون إلى مكّة ، فانصرف إلى صاحبك ، فاتّبعهم جبرئيل عليه‌السلام ، فلمّا سمعوا وقع حافر فرسه جدّوا في السّير وكان يتلوهم ، فإذا ارتحلوا قالوا : هو ذا عسكر محمّد قد أقبل ، فدخل أبو سفيان مكّة فأخبرهم الخبر ، وجاء الرّعاء والحطّابون فدخلوا مكّة فقالوا : رأينا عسكر محمّد كلّما رحل أبو سفيان نزلوا يقدمهم فارس على فرس أشقر يطلب آثارهم ، فأقبل أهل مكّة على أبي سفيان يوبّخونه (٤) .

أقول : وعليه ، فلا بدّ من كون نزول الآية في أثناء الحرب ، أو عند انقضائها.

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان حال المشركين في الدّنيا ، بيّن سوء حالهم في الآخرة بقوله : ﴿وَمَأْواهُمُ﴾ ومسكنهم في الآخرة ﴿النَّارُ﴾ لا غيرها ﴿وَبِئْسَ﴾ المثوى والمقرّ ﴿مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ ومقرّهم وساء المكان الذي خصّهم الله به في القيامة ، بسبب ظلمهم على أنفسهم بالشّرك ، وعلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين بالمقاتلة.

﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي

 الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ

__________________

(١ و٢) . تفسير الرازي ٩ : ٣٢.

(٣) قلاص وقلائص : جمع قلوص : وهي الإبل الفتيّة.

(٤) الكافي ٨ : ٣٢١ / ٥٠٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٥٨.

١٠١

يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى

 الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)

ثمّ قيل : إنّه لمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه إلى المدينة ، وقد أصابهم ما أصابهم من الجراح والمصيبة قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النّصر ؟ فأنزل الله تعالى : ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ﴾ وأنجز لكم ﴿وَعْدَهُ﴾ إيّاكم بالنّصر والغلبة على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن كان ذلك الوعد مشروطا بالتّقوى والصّبر ، وأنتم ما دمتم على طاعة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نصرتم وغلّبتم على المشركين ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ وتقتلونهم قتلا ذريعا بتيسير الله و﴿بِإِذْنِهِ﴾ وتأييده.

روي أنّ المشركين لمّا أقبلوا جعل الرّماة من المسلمين يرشقونهم بالنّبل ، والباقون يضربونهم بالسيف ، وقتل عليّ عليه‌السلام طلحة بن أبي طلحة كبش قريش ، وتسعة من أصحاب لوائهم فانهزم المشركون ، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا.

فكأنّه قال سبحانه : كنتم على هذه الحالة من النّصر والغلبة ﴿حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ﴾ وضعفتم رأيا في طاعة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لغلبة الحرص على الغنيمة ، وملتم إليها ﴿وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ من الثّبات والإقامة في المركز ، والذّهاب لأخذ الغنيمة.

روي أنّ بعض الرّماة - حين انهزم المشركون وولّوا هاربين ، والمسلمون على أعقابهم ضربا وقتلا - قالوا : فما موقفنا هنا بعد هذا ؟ وقال أميرهم عبد الله بن جبير : لا تخالفوا أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه قال: « لا تبرحوا مكانكم ، فإنّا لا نزل غالبين ما دمتم في هذا المكان » فثبت عبد الله في نفر دون العشرة في مكانه ، ونفر الباقون للنّهب.

وإليه أشار سبحانه بقوله : ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ الله ورسوله ﴿مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ﴾ الله تعالى ﴿ما تُحِبُّونَ﴾ من الظّفر والغنيمة ، وانهزام العدوّ. وقد مرّ أنّه لمّا رأى المشركون قلّة الرّماة في الشّعب حملوا عليهم ، وقتلوا أمير الرّماة ومن معه.

ثمّ حملوا على المسلمين من ورائهم ، فظهرت سرائر القوم كما بيّنها سبحانه بقوله : ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا﴾ وهم الّذين خالفوا أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتركوا المركز طمعا في الغنيمة ، وأقبلوا على النّهب.

عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : ما علمت أنّ أحدا منّا يريد الدّنيا حتّى نزلت هذه الآية (١) .

﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ بجهاده ، وهم الّذين ثبتوا على طاعة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يخلوا مراكزهم

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١١٠.

١٠٢

حتّى نالوا شرف الشّهادة ، وحازوا على درجة السّعادة.

﴿ثُمَ﴾ بعد عصيان الرّماة ﴿صَرَفَكُمْ﴾ الله ، وكفّ أيديكم ﴿عَنْهُمْ﴾ وهزمكم منهم بأن أوجد فيكم مقتضى الهزيمة من زوال الرّعب عن قلوب المشركين ، وإلقائه في قلوبكم ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ ويمتحنكم في الثّبات على الإيمان ، والصّبر في الجهاد ، حتّى يمتاز المخلصون الكاملون ، والصّابرون المحتسبون من غيرهم ﴿وَلَقَدْ عَفا﴾ الله ﴿عَنْكُمْ﴾ تفضّلا عليكم ، أو لما علم من ندمكم على عصيانكم بالفرار من الزّحف ، والهزيمة من الجهاد.

ثمّ لمّا كان امتياز الثّابتين في الإيمان من غيرهم ، والعفو عن العصاة ، تفضّلا من الله تعالى ، وصف ذاته المقدّسة بقوله : ﴿وَاللهُ ذُو فَضْلٍ﴾ عظيم ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ كافّة بتكميل نفوس المطيعين منهم ، وتعلية درجاتهم ، وتوفيق العاصين منهم للتّوبة ، وتكفير ذنوبهم.

وقيل : إنّ المراد ذو فضل عليهم في جميع أحوالهم [ سواء ] كانت الدّولة لهم أو عليهم.

﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا

 بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما

 تَعْمَلُونَ (١٥٣)

ثمّ بيّن الله تعالى وقت صرفهم عنهم بقوله : ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ وحين تذهبون في السّهل والجبل منهزمين من بأس المشركين ﴿وَلا تَلْوُونَ﴾ من شدّة الخوف ﴿عَلى أَحَدٍ﴾ من النّاس ، ولا تلتفتون إلى من في يمينكم وشمالكم وورائكم.

وقيل : إنّ المراد : لا يقف بعضكم لبعض ، ولا ينظر نفس إلى نفس أنّه والد أو ولد ، قريب أو بعيد ، صديق أو عدوّ.

﴿وَالرَّسُولُ﴾ في هذا الحال ، بأعلى صوته ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ ويناديكم - حال كونه واقفا ﴿فِي أُخْراكُمْ﴾ وساقتكم (١) ، أو في جماعة اخرى منكم ، أو في آخركم - بقوله : « إليّ عباد الله ، أنا رسول الله ، أين تفرّون عن الله ، وعن رسوله ؟ » .

وفي رواية : يقول : « من كرّ فله الجنّة » (٢) أمرا بالمعروف وهو الكرّ ، ونهيا عن المنكر وهو الانهزام ، لا استعانة بهم.

﴿فَأَثابَكُمْ﴾ الله ، وجازاكم عن عصيانكم وانهزامكم ﴿غَمًّا﴾ متّصلا ﴿بِغَمٍ﴾ آخر.

__________________

(١) السّاقة : مؤخّرة الجيش.

(٢) تفسير روح البيان ٢ : ١١٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٢.

١٠٣

قيل : إنّ الغموم كانت في احد كثيرة من غلبة العدوّ ، وقتل الاحبّة ، وما نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ذلك.

وعن القمّي رحمه‌الله : عن الباقر عليه‌السلام : « فأمّا الغمّ الأوّل : فالهزيمة والقتل ، والغمّ الآخر : فإشراف خالد بن الوليد عليهم » (١) .

وقيل : إنّ المراد : غمّا شديدا ، بسبب شجّة وجه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكسر رباعيته ، وقتل عمّه حمزة ، بعوض غمّ الرّسول بسبب عصيانكم أمره.

في أن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا من المنهزمين في احد

ثمّ أن الفخر الرازي قال في تفسيره الكبير : ومن المنهزمين عمر ، إلّا أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين ، ولم يبعد بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

أقول : ليت شعري ، من أين علم أنّه لم يكن من أوائل المنهزمين ؟ ! ثمّ أنه بعدما ثبت أنّه كان من المنهزمين ، كيف يصلح فساد عمله عدم كونه من أوائلهم ؟

ثمّ قال : ومنهم أيضا عثمان ، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما سعد وعقبة ، انهزموا حتّى بلغوا موضعا بعيدا ، ثمّ رجعوا بعد ثلاثة أيام - إلى أن قال - : وأمّا الّذين ثبّتوا مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا أربعة عشر رجلا ؛ سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار ، فمن المهاجرين أبو بكر وعليّ عليه‌السلام (٣) .

أقول : قال بعض : إنّ أبا بكر أيضا كان من المنهزمين (٤) .

وقال ابن أبي الحديد :

فإن أنس لم أنس اللذين تقدّما

و فرّهما والفرّ قد علما حوب (٥)

والظاهر أن مراده أبو بكر وعمر ، ويؤيّد ذلك الاعتبار وشهرته بين الشّيعة (٦) .

ثم قال فخر الدّين : وذكر أنّ ثمانية من هؤلاء - أي من الأربعة عشر - بايعوه يومئذ على الموت ؛ ثلاثة من المهاجرين عليّ عليه‌السلام ، وطلحة ، والزّبير ... (٧) .

أقول : فعلم أنّ أبا بكر - على تقدير كونه من الثّابتين - لم يكن من الّذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت ، ثمّ أنّ عدّ طلحة منهم مناف لما روي من اعتراض أنس بن النضر عليه وعلى عمر ، بقوله : ما يحبسكم عن القتال ؟ فقالوا : قد قتل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ أنّ الله تعالى بيّن علّة تراكم الغموم عليهم بقوله : ﴿لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ﴾ من المنافع

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٢٠ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٢.

(٢) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.

(٤) راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ : ٢٩٣.

(٥) القصائد العلوية : ٩١ ، وفيه : وما أنس لا أنس ...

(٦) راجع : إرشاد المفيد ١ : ٨٣ ، مناقب ابن شهر آشوب ٣ : ١٢٣ ، كشف الغمة ١ : ١٩٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ : ٢١.

(٧) تفسير الرازي ٩ : ٥١.

١٠٤

والخيرات الدّنيوية ﴿وَلا﴾ على ﴿ما أَصابَكُمْ﴾ من البلايا والمصائب ، فإنّ التّمرّن على عدم الاعتداد بالمنافع والمضارّ ، والاعتياد عليه ، يهون فوت المنافع والابتلاء بالمضارّ الدّنيوية.

وقيل : إنّ المراد : لئلّا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم ، أو على ما فاتكم من النّصر ، ولا على ما أصابكم من الجراح.

وقيل : إنّ التّعليل للعفو ، فإنّ السّرور بالعفو يزيل غمّ فوت الغنيمة وإصابة الجراح ، وغمّ الابتلاء بالمعصية.

ثمّ زجرهم الله تعالى عن جميع المعاصي بقوله : ﴿وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ خفيّه وجليّه ، فيجازيكم به ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ.

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ

 أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ

 مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ

 كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ

 عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي

 قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)

ثمّ - لمّا كان أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في احد طائفتين ؛ إحداهما المؤمنون الصّادقون المخلصون ، والاخرى المنافقون الكاذبون في دعواهم الإيمان - بيّن الله تعالى حسن حال المؤمنين منهم ، وتفضّله عليهم ، أوّلا لشرفهم ، بقوله : ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾ الله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وأعطاكم ﴿مِنْ بَعْدِ الْغَمِ﴾ الذي اعتراكم بسبب الخوف والهزيمة ﴿أَمَنَةً﴾ وسكينة في قلوبكم ، واطمئنانا لنفوسكم من بأس العدوّ وضرّه ، بأن ألقى عليكم لغاية سكون خاطركم في ذلك الوقت ﴿نُعاساً﴾ ووسنا ، ولكن لا على جميعكم ، بل كان ﴿يَغْشى﴾ ويعرض ﴿طائِفَةً﴾ خاصّة ﴿مِنْكُمْ﴾ وهم المؤمنون المخلصون.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : المراد من الطائفة : المهاجرون ، وعامّة الأنصار (١) .

وفي إدخال كلمة ( عامّة ) على الأنصار دون المهاجرين ، إشعار بعدم كون جميعهم خلّصين (٢) في الإيمان ، بل كان بعضهم من المنافقين ، أو كان بعضهم في قوّة الإيمان بحيث لم يطرأه خوف (٣) ، ولم

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠١.

(٢) كذا والظاهر : مخلصين.

(٣) كذا والظاهر : لم يطرأ عليه خوف.

١٠٥

يألف عينيه نوم اهتماما بطاعة الله وحفظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كأمير المؤمنين عليه‌السلام.

عن ابن مسعود رضى الله عنه ، قال : النّعاس في القتال أمنة ، وفي الصّلاة من الشّيطان (١) . وذلك لأنّه في القتال لا يكون إلّا من غاية الوثوق بالله والفراغ من الدّنيا ، ولا يكون في الصّلاة إلّا من غاية البعد عن الله.

في غشيان النعاس طائفة من الصحابة

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال : آمنهم بنعاس يغشاهم بعد خوف ، وإنّما ينعس من آمن ، والخائف لا ينام (٢) .

وعن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ألقى النّوم علينا يوم احد (٣) .

نقل أنّ المشركين لمّا انصرفوا كانوا يتوعّدون المسلمين بالرّجوع ، فلم يأمنوا كرّتهم ، وكانوا تحت الحجف (٤) متأهّبين للقتال ، فأنزل الله عليهم الأمنة فأخذهم النّعاس.

وروي أنّه غشيهم النّعاس في المصاف ، حتّى كان السّيف يسقط من يد أحدهم فيأخذه ، ثمّ يسقط فيأخذه.

وروي أنّه قال طلحة (٥) : رفعت رأسي يوم احد ، فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلّا هو يمتدّ تحت حجفته من النّعاس ، قال : وكنت ممّن القي عليه النّعاس يومئذ ، فكان السّيف يسقط من يدي فآخذه ، ثمّ يسقط السّوط من يدي فآخذه (٦) .

وعن الزّبير ، أنّه قال : كنت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين اشتدّ الخوف ، فأنزل الله علينا النّوم ، والله إنّي لأسمع قول معتّب بن قشير والنّعاس يغشاني ، ما أسمعه إلّا كالحلم ، يقول : ﴿لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا(٧) .

ثمّ بيّن الله تعالى سوء حال المنافقين منهم بقوله : ﴿وَطائِفَةٌ﴾ اخرى منهم وهم المنافقون كعبد الله بن ابيّ ومعتّب بن قشير وأصحابهما كانوا ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ﴾ وأوقعتهم ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾ في تدبير النّجاة ، لا همّ لهم غيره ، وذلك لكونهم في حال ﴿يَظُنُّونَ بِاللهِ﴾ من غاية جهلهم وحمقهم ظنّا ﴿غَيْرَ﴾ الظّنّ ﴿الْحَقِ﴾ والصّواب ، بل يكون ظنّهم ﴿ظَنَ﴾ أهل ﴿الْجاهِلِيَّةِ﴾ .

قيل : وجه الشّبه كونه من أقبح أنواع الظّنون.

وقيل : إنّ المراد أنّهم يظنّون ظنّا ناشئا عن غاية الجاهليّة والسّفاهة ؛ لأنّهم اعتقدوا أنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يضمحلّ قريبا ، ولن ينصره الله أبدا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٤٥.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠١.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ٤٥.

(٤) الحجف : جمع حجفة : وهي التّرس من الجلد. وفي النسخة : الجفف.

(٥) في تفسير أبي السعود وروح البيان : أبو طلحة.

(٦) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠١ ، تفسير روح البيان ٢ : ١١٢.

(٧) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠١.

١٠٦

وكانوا ﴿يَقُولُونَ﴾ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على صورة الاسترشاد ، وإنّ كان مقصودهم في الواقع الإنكار : ﴿هَلْ لَنا﴾ يا رسول الله ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ الذي وعدتنا ، وهو النّصر والغلبة ، وقيل : إنّ المراد : هل لنا من التّدبير في الإصلاح ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ قليل ، وحظّ يسير قطّ ؟

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه أن ﴿قُلْ﴾ لهم جوابا : ﴿إِنَّ الْأَمْرَ﴾ من النّصر والظّفر والتّدبير ﴿كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ وهو بالآخرة ينصر أولياءه ، ويخذل أعداءه ؛ كما قال : ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ(١).

ثمّ أنّه تعالى بعد بيان ظاهر حالهم ومقالهم ، كشف عن سرّهم ، وما في قلوبهم بقوله : ﴿يُخْفُونَ﴾ ويضمرون ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ وفي قلوبهم من الإنكار والتّكذيب ، وقيل : إنّ المراد يقول بعضهم لبعض خفية وسرّا ﴿ما لا يُبْدُونَ﴾ وضميرا أو كلاما لا يظهرون ﴿لَكَ﴾ خوفا ونفاقا.

ثمّ لمّا كان مقام السّؤال عمّا يخفون ، فأجاب سبحانه قبل المسألة بقوله : ﴿يَقُولُونَ﴾ بطريق حديث النّفس ، أو بألسنتهم فيما بينهم سرّا : ﴿لَوْ كانَ لَنا﴾ في هذه الحرب ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ الموعود ، وهو النّصر والغلبة ، أو من التّدبير والرّأي ﴿شَيْءٍ﴾ من الحظّ والنّصيب ﴿ما قُتِلْنا﴾ بسيف الأعداء ، وما غلبنا ﴿هاهُنا﴾ .

قيل : إنّ نظرهم إلى ما رأى عبد الله بن أبيّ عند مشاورة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الإقامة بالمدينة وعدم الخروج منها إلى العدوّ ، فأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ﴿قُلْ﴾ ردّا عليهم : ﴿لَوْ كُنْتُمْ﴾ مقيمين مستترين ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ وفي خبايا منازلكم في المدينة ، وحتمتم على أنفسكم أن لا تخرجوا ﴿لَبَرَزَ﴾ وخرج الأشخاص ﴿الَّذِينَ كُتِبَ﴾ في اللّوح المحفوظ ، وحتم في تقدير الله وقضائه ﴿عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ بسبب من الأسباب ، وداع من دواعي الخروج ﴿إِلى مَضاجِعِهِمْ﴾ ومصارعهم التي قدّر الله قتلهم فيها ، وقتلوا هنالك ألبتّة ، ولم ينفعهم التصميم والعزيمة على الإقامة ، فإنّ قضاء الله لا يردّ ، وحكمه لا يعقّب ، والأجل المحتوم لا يؤخّر.

روي أنّ ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه‌السلام ، فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة ، فلمّا قام قال الرّجل : من هذا ؟ فقال سليمان : ملك الموت ، قال : أرسلني مع الرّيح إلى عالم آخر ، فإنّي رأيت [ منه ] مرأى هائلا ، فأمرها عليه‌السلام ، فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم ، فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان فقال : كنت امرت بقبض روح ذلك الرّجل في هذه السّاعة في أرض كذا ، فلمّا وجدته في مجلسك قلت : متى يصل هذا إليها ، وقد أرسلته بالرّيح إلى ذلك المكان ، فوجدته هناك ، فقضي أمر الله في مكانه وزمانه (٢) .

__________________

(١) المائدة : ٥ / ٥٦.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠٢.

١٠٧

ثمّ - لمّا كان في زعم المنافقين أنّ الخروج من المدينة ، وقتل من قتل ، مفسدة محضة ، لم يكن فيها جهة خير وصلاح - بيّن الله تعالى حكمه ومصالحه ، والتّقدير : أنّ الأمر بالخروج ، ووقوع ما وقع ، لتبلغوا إلى مصالح كثيرة ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ﴾ ويمتحن بما هو كائن ﴿ما فِي صُدُورِكُمْ﴾ من الإخلاص والنّفاق ، والنّيّات السّيّئة والحسنة ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ وليخلّص ما هو كائن ﴿ما فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من العقائد الحقّة عن الشّكوك والشّبهات والوساوس ﴿وَاللهُ﴾ بذاته ﴿عَلِيمٌ﴾ أزلا ﴿بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ وما في الضّمائر من الأسرار والخفيّات ، فلا يحتاج إلى الاختيار والامتحان ، وإنّما يبرز صورة الابتلاء ، لتمرين المؤمنين ، وإظهار حال المنافقين.

نقل أنّ ثلث عسكر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا مجروحين ، وثلثهم منهزمين ، وثلثهم ثابتين مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله(١) .

وروي أنّ سعد بن عثمان ورد المدينة وأخبر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قتل ، ثمّ ورد بعده رجال ودخلوا على نسائهم فجعل النّساء يقلن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تفرّون ! وكنّ يحثين التّراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل واغزل به (٢) .

وروي أنّه اصيب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نحو من ثلاثين ، كلّهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السّلام غير مودّع (٣) .

وروي أنّ ثمانية بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت ، ثلاثة من المهاجرين : عليّ عليه‌السلام ، وطلحة ، والزّبير ، وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحارث بن الصمّة ، وخبّاب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، ثمّ لم يقتل منهم أحد (٤) .

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما

كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان علل إيراد البليّات والمصائب على المؤمنين واستيلاء المشركين عليهم - بيّن علّة انهزام المنهزمين ، وعدم ثباتهم في الجهاد بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ عن القتال ، وانهزموا عند النّزال ﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ﴾ وتصادف الفريقان من المسلمين والكفّار ، لم يكن تولّيهم وانهزامهم بعلّة خروجهم من المدينة كما توهّم المنافقون ، ولا لقوّة المشركين وكثرة شوكتهم ، بل ﴿إِنَّمَا﴾ كان بسبب أنّه ﴿اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ﴾ ودعاهم إلى الوقوع في الخطيئة ، وارتكاب المعصية

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.

(٢) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ٥١.

(٤) تفسير الرازي ٩ : ٥١.

١٠٨

الكثيرة ، فأجابوه وأسلموا له ، وإنّما كان تسليمهم له معلّلا ﴿بِبَعْضِ ما كَسَبُوا﴾ وارتكبوا من الذّنوب والمعاصي التي كانت دون ذلك ، من مخالفة أمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حفظ الشّعب ، والحرص على الغنيمة ، فصارت تلك الذّنوب موجبة لكثرة استيلاء الشّيطان عليهم ، حتّى أوقعهم في أعظم المعاصي من الفرار من الزّحف وتسليم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الأعداء حفظا لأنفسهم.

ثمّ بعد التّوبيخ بشّرهم سبحانه بالعفو بقوله : ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللهُ﴾ بعد تلك الزّلّات والمعاصي ﴿عَنْهُمْ﴾ بفضله وسعة رحمته ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ للذّنوب ﴿حَلِيمٌ﴾ عن العاصيين ، لا يعاجل بعقوبتهم ، كي يتوب من في قلبه نور الإيمان ، ويجري قضاؤه بمن لا نصيب له منه ، ويقع ما في مكنون علمه من الفتن التي منها غصب

خلافة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقدّم المنهزمين في الرئاسة الإلهيّة على من بايعه على الموت.

روي أنّ عثمان عوتب في هزيمته يوم احد ، فقال : إنّ ذلك وإن كان خطأ ، لكنّ الله عفا عنه (١) .

ففي توصيف ذاته المقدّسة بالمغفرة والحلم إشعار باختلاف المنهزمين ، فبعضهم غفر لهم ذنوبهم ، وبعضهم حلم عنهم وأخّر عقوبتهم إلى ما بعد الموت.

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي

 الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً

فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)

ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان سوء عقائد المنافقين وشناعة أقوالهم - نهى المؤمنين عن موافقتهم ومماثلتهم ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا﴾ في فساد العقائد ، وشناعة القول ﴿كَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بقلوبهم وآمنوا بألسنتهم نفاقا ، كعبد الله بن ابيّ ، ومعتّب بن قشير ، وأضرابهما ، ﴿وَ﴾ كالّذين ﴿قالُوا﴾ - في أنفسهم ، أو تذاكروا فيما بينهم تلهّفا ﴿لِإِخْوانِهِمْ﴾ النّسبيّة والاعتقاديّة والمذهبيّة ﴿إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وسافروا في البراري والجبال للتّجارة وغيرها من الأغراض ، فماتوا في سفرهم ﴿أَوْ كانُوا غُزًّى﴾ وخرجوا من بلدهم مقاتلين فقتلوا في المعركة - : إنّهم ﴿لَوْ كانُوا﴾ مقيمين ﴿عِنْدَنا﴾ في المدينة ﴿ما ماتُوا﴾ في السّفر ﴿وَما قُتِلُوا﴾ في الغزو. فإنّهم إنّما قالوا ذلك ، واعتقدوا تلك العقيدة الفاسدة ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ﴾ القول والاعتقاد ﴿حَسْرَةً﴾ وندامة شديدة مستقرّة ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ في الدّنيا والآخرة.

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٥١.

١٠٩

وفي جعل القول الذي هو سبب للحسرة عين الحسرة مبالغة في سببيّته لها وعدم انفكاكه عنها ، وفي ذكر هذه الغاية للقول دلالة على عدم ترتّب فائدة وأثر عليه غيرها.

قيل : إنّ وجه كون هذا الكلام حسرة لهم في الدّنيا ، زعمهم أنّ من مات أو قتل منهم إنّما مات أو قتل بسبب تقصيرهم في حفظ القتلى ، ومنعهم من السّفر والقتال ، ومن اعتقد ذلك لا شكّ أنّه تزداد حسرته وتلهّفه.

وقيل : إنّ المراد : لا تكونو مثلهم في هذا القول الصادر عن الاعتقاد الفاسد السّيّء ، ليكون ذلك القول والاعتقاد حسرة لهم خاصّة دونكم. أو المراد : لا تكونوا مثلهم ، ليكون عدم مماثلتكم حسرة لهم ، أمّا في الدّنيا فلأنّهم يرونكم منصورين ، مستولين على الأعداء ، فائزين بالأماني ، حائزين للغنائم الكثيرة ، وفي الآخرة يرونكم مخصوصين بكرامة الله ونعمه ، وهم بسبب تثبّطهم عن الجهاد لهذا الاعتقاد ، حرموا عن جميع ذلك.

ثمّ ردّ الله سبحانه قولهم بقوله : ﴿وَاللهُ يُحْيِي﴾ كلّ نفس ، لا الإقامة في البلد والقعود عن القتال ، ﴿وَ﴾ هو ﴿يُمِيتُ﴾ كلّ حيّ ، لا السّفر والقتال. فإذا أراد الله حياة مسافر أو مقاتل يرجعان سالمين وإن تورّطا في المهالك ، وإذا أراد الله موت مقيم أو قاعد يموتان وإن راعيا جميع أسباب السّلامة.

ثمّ بالغ سبحانه في زجر المؤمنين عن مماثلة الكفّار ، وبعد نهيهم عنها بتهديدهم عليها بقوله :

﴿وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ من جعل أنفسكم مماثلة لهم ، وموافقتكم إيّاهم في العقائد والأقوال والأعمال ﴿بَصِيرٌ﴾ ومطّلع ، لا يخفى عليه سرّكم وعلانيتكم ، فيعاقبكم على سيّئاتكم بأشدّ العقوبة.

﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا

 يَجْمَعُونَ (١٥٧)

ثمّ رغّب سبحانه في الجهاد بوعد الثّواب بعد الزّجر عن التّقاعد ، والتّهديد عليه بقوله : ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ أيّها المؤمنون في الجهاد ﴿فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ ونصرة دينه ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ في المسافرة في طلب مرضاته ، من الهجرة إلى الرّسول ، وتحصيل العلم ، وغير ذلك ، يكون ذلك القتل والموت مستلزمين للمغفرة عن الذّنوب ، والرّحمة الدّائمة من الجنّة والنّعم و﴿لَمَغْفِرَةٌ﴾ كائنة ﴿مِنَ اللهِ﴾ لذنوبكم ونجاتكم من عذابه ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ عظيمة منه تعالى ﴿خَيْرٌ﴾ لكم ، وأنفع ﴿مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ هؤلاء الكفرة ، من الزّخارف الدّنيويّة التي يحسبونها من الخيرات ، في مدّة أعمارهم.

١١٠

عن ابن عبّاس رضى الله عنه : خير من طلاع الأرض (١) ذهبة حمراء (٢) .

﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)

ثمّ بالغ سبحانه في الوعد بقوله : ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ﴾ في السّفر لوجه الله ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ في سبيله ﴿لَإِلَى اللهِ﴾ العظيم الشّأن ، الواسع الرّحمة ، الجزيل الإحسان ﴿تُحْشَرُونَ﴾ وتوفدون ، ومن الواضح أن الحشر إلى الله والوفود عليه ونيل رضوانه ، أعلى وأنبل من الحشر إلى مغفرته ورحمته.

قيل : في الآية إشارة إلى مراتب العبودية ، ففي قوله ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ﴾ إشارة إلى من يعبده خوفا من العقاب ، وفي قوله : ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ إشارة إلى من يعبده طمعا في الثّواب ، وفي قوله : إلى ﴿اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ إشارة [ إلى ] من يعيده لحبّ ذاته ، ولكونه مستحقّا للعبادة.

عن العيّاشي : عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عمّن قتل أو مات ، قال : « لا ، الموت موت ، والقتل قتل » قيل : ما أحد يقتل إلّا وقد مات ، فقال : « قول الله أصدق من قولك ، ففرّق بينهما في القرآن قال : ﴿أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ(٣) وقال : ﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ﴾ وليس كما قلت ، الموت موت ، والقتل قتل » .

قيل : فإن الله يقول : ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ(٤) ؟ قال : « من قتل لم يذق الموت - ثمّ قال - : لا بدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت » (٥) .

﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ

 فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ

 اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)

ثمّ أنّه قيل : لمّا عاد المنهزمون لم يخاطبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتّغليظ والتّشديد ، وإنّما خاطبهم بكلام ليّن (٦) ، فمدحه الله تعالى بقوله : ﴿فَبِما رَحْمَةٍ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنَ اللهِ﴾ العظيم ، شاملة لك ، وربطه على قلبك ، وتخصيصك بمكارم الأخلاق ﴿لِنْتَ لَهُمْ﴾ وعاملت بالرّفق معهم ، وتلطّفت بهم ، بعد ما كان منهم من مخالفة أمرك ، وتسليمك إلى أعدائك.

قيل : إنّ كلمة ( ما ) في قوله : ﴿فَبِما﴾ زائدة جيء بها للتّأكيد ، وقيل : استفهاميّة في مقام التّعجّب (٧) ،

__________________

(١) طلاع الأرض : ملؤها.

(٢) تفسير أبي السعود ٢ : ١٠٤.

(٣) آل عمران : ٣ / ١٤٤.

(٤) آل عمران : ٣ / ١٨٥.

(٥) تفسير العياشي ١ : ٣٤٤ / ٧٩٩ عن الباقر عليه‌السلام ، تفسير الصافي ١ : ٣٥٧.

(٦) تفسير الرازي ٩ : ٦٠.

(٧) تفسير الرازي ٩ : ٦١.

١١١

والمعنى : فبأيّ رحمة عظيمة من الله عليك ظهر منك هذا الخلق الحسن ! وفي إسناده إلى رحمة الله دلالة على أن جميع الأخلاق الحسنة بإفاضة الله ؛ لأنّها من قبل كمال الوجود المفاض منه تعالى.

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

وروى الفخر الرازي في تفسيره : أنّ أمرأة عثمان دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو وعليّ عليه‌السلام كانا يغيلان السّلاح ، فقالت : ما فعل ابن عفّان ؟ أما والله ، تجدونه (١) أمام القوم ، فقال لها عليّ عليه‌السلام : « ألا إنّ عثمان فضح الزّمان » . فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مه » (٢) .

وفي رواية : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله حينئذ : « أعياني أزواج الأخوات أن يتحابّوا » . ثمّ لمّا دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : « لقد ذهبتم فيها عريضة » (٣) .

ثمّ أشار سبحانه إلى مصلحة اللّين ، ومفسدة خلافه بقوله : ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ في القول والفعل ، جافيا في العشرة ، كريه الخلق مع أصحابك ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ وقاسيه ، غير رفيق بهم ولا رحيم ﴿لَانْفَضُّوا﴾ وتفرّقوا ﴿مِنْ حَوْلِكَ﴾ وجوانبك ، ولم يسكنوا إليك ، حتّى تتمّ فائدة الرّسالة ، فإنّ حكمة البعثة هي هداية الخلق ، وتبليغ الشّريعة.

ومن الواضح أنّه لا يتمّ إلّا إذا مالت القلوب إلى الرّسول ، وسكنت النّفوس إليه ، وذلك متوقّف على كون الرّسول عطوفا ، رحيما ، مداريا ، رفيقا ، يتجاوز عن سيّئاتهم ، ويخصّهم بالبرّ والشّفقة والمكرمة ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا حلم أحبّ إلى الله من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه » (٤) .

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخل ، وسوء الخلق » (٥) .

وقيل : لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الشّؤم ؟ قال : « سوء الخلق » (٦) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « ألا أنبّئكم بشرّ النّاس ؟ » قالوا : بلى ، يا رسول الله ، قال : « من نزل وحده ، ومنع رفده ، وضرب عبده » . ثمّ قال : « ألا أنبّئكم بشرّ من ذلك ؟ » قالوا : بلى. قال : « من لم يقل عثرة ، ولم يقبل معذرة » (٧) .

ثمّ اعلم أنّ الله تعالى خصّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بخلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث كان له من لين الجانب والرّفق بالنّاس ما لم يكن لغيره ، واختصّ عمر بخلافه ، فإنّه كان له من الغلظة والفظاظة

__________________

(١) في المصدر : لا تجدونه.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ٩ : ٦١.

(٤) تفسير الرازي ٩ : ٦١.

(٥ و٦) . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٣٣٧.

(٧) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٣٣٨.

١١٢

وسوء الخلق ما لم يكن لأحد.

في نقل كلام لابن أبي الحديد في فظاظة عمر

روى ابن أبي الحديد : عن الزّبير بن بكّار ، أنّ عمر كان إذا غضب على بعض أهله ، لم يسكن غضبه حتّى يعضّ يده عضّا شديدا (١) ، قال : ولقوّة هذا الخلق فيه أضمر عبد الله بن عبّاس في خلافته إبطال القول بالعول (٢) ، وأظهره بعده ، فقيل له : هلا قلت هذا في أيام عمر ؟ فقال : هبته.

وقد ارتدّ جبلة بن الأيهم عن الإسلام لتهديد عمر له ، ووعيده إيّاه أن يضربه بالدّرّة (٣) .

وكفى في شراسة خلق عمر وفظاظتة ، ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة ؛ توجيها لقدح عمر في عليّ عليه‌السلام ، بقوله : لكنّه امرؤ فيه دعابة (٤) .

من قوله : واعلم أنّ الرّجل ذا الخلق المخصوص ، لا يرى الفضيلة إلّا في ذلك الخلق ، ألا ترى أنّ الرّجل يبخل فيعتقد أنّ الفضيلة في الإمساك. والبخيل يعيب أهل السّماح والجود ، وينسبهم إلى التّبذير ، وإضاعة الحزم ، وكذلك الرّجل الجواد يعيب البخلاء ، وينسبهم إلى ضيق النّفس ، وسوء الظّنّ ، وحبّ المال. والجبان يعتقد أنّ الفضيلة في الجبن ، ويعيب الشّجاعة ، ويعتقد كونها خرقا وتغريرا بالنّفس ، والشّجاع يعيب الجبان ، وينسبه إلى الضّعف ، ويعتقد أنّ الجبن ذلّ ومهانة. وهكذا القول في جميع الأخلاق والسّجايا المقسّمة بين نوع الإنسان.

ولمّا كان عمر شديد الغلظة ، وعر الجانب ، خشن الملمس ، دائم العبوس ، كان يعتقد أنّ ذاك هو الفضيلة ، وأنّ خلافه نقص ، ولو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة وسماحة الخلق ، لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة وخلافه نقص ، حتّى لو قدّرنا أنّ خلقه حاصل لعليّ عليه‌السلام ، وخلق عليّ عليه‌السلام حاصل له ، لقال في عليّ عليه‌السلام : لو لا شراسة فيه.

فهو غير مطعون (٥) عندي في ما قاله ، ولا منسوب إلى أنّه أراد التّنقيص (٦) من علي عليه‌السلام والقدح فيه ، ولكنّه أخبر عن خلقه ظانّا أنّ الخلافة لا تصلح إلّا لشديد الشّكيمة ، العظيم الوعورة ، وبمقتضى ما كان يظنّه من هذا المعنى تمّم خلافة أبي بكر بمشاركته إيّاه في جميع تدبيراته وسياسته وسائر أحواله ، لرفق وسهولة كانت في أخلاق أبي بكر.

وبمقتضى هذا الخلق المتمكّن عنده ، كان يشير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقامات كثيرة وخطوب

__________________

(١) زاد في المصدر : ٣٤٢ : حتى يدميها.

(٢) العول : أن تزيد السهام في الأرث على المال الموجود.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٣٤٣ ، والدّرّة : السّوط يضرب به.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٣٢٦ ، والدّعابة : اللّعب والممازحة.

(٥) في المصدر : غير ملوم.

(٦) في المصدر : الغضّ.

١١٣

متعدّدة ، بقتل قوم كان يرى قتلهم ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى استبقاءهم واستصلاحهم ، فلم يقبل عليه‌السلام مشورته على هذا الخلق ، كما أشار (١) عليه يوم بدر بقتل الأسرى ، حيث أشار أبو بكر بالفداء ، فكان الصّواب مع عمر ، ونزل القرآن بموافقته ، فلمّا كان في اليوم الثاني ، وهو يوم الحديبية ، أشار بالحرب وكره الصّلح ، فنزل القرآن بضدّ ذلك ، فليس كلّ وقت يصلح تجريد السّيف ، ولا كلّ وقت يصلح إغماده ، والسّياسة لا تجري على منهاج واحد ، ولا تلزم نظاما واحدا (٢) .

إلى أن قال : ونحن نذكر كلاما كلّيّا في سبب الغلظة والفظاظة ، وهو الخلق المنافي للخلق الذي عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فنقول : إنّه قد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني ، وقد يكون لأمر عائد إلى المزاح الجسماني ، وقد يكون لإمر راجع إلى النّفس ، فأمّا الأوّل فإنّما يكون لغلبة الأخلاط السّوداوية وترمّدها (٣) ، وعدم صفاء الدّم وكثرة كدورته وعكره ، فإذا غلظ الدّم وثخن ، غلظ الرّوح النّفساني وثخن أيضا ؛ لأنّه متولّد من الدّم فيحدث منه نوع ممّا يحدث لأصحاب الفطرة من الاستيحاش ، والنّبوة (٤) عن النّاس ، وعدم الاستئناس والبشاشة ، وصار صاحبه ذا جفاء ، وأخلاق غليظة ، ويشبّه أن يكون هذا سببا ماديّا. فإنّ الذي يقوى [ في نفسي أنّ النّفوس ] إن صحّت وثبتت ، مختلفة بالذّات.

وأمّا الرّاجع إلى النّفس فأن يجتمع عندها أقساط وأنصباء من قوى مختلفة مذمومة ، نحو أن تكون القوّة الغضبيّة عندها متوفّرة ، [ وينضاف إليها تصوّر الكمال في ذاتها وتوهمّ النقصان في غيرها ، فيعتقد أنّ حركات غيره واقعة على غير الصّواب وأن الصواب ما توهمه ] وينضاف إلى ذلك لجاج وضيق [ في ] النفس ، وحدّة واستنشاط (٥) وقلّة صبر عليه ، فيتولّد من مجموع هذه الأمور خلق دنيّ ، وهو الغلظة ، والفظاظة ، والوعورة ، والبادرة المكروهة ، وحبّهم محنة (٦) النّاس ، ولقاؤهم بالأذى ، وقلّة المراقبة لهم ، واستعمال القهر في جميع الأمور ، وتناول الأمر من السّماء وهو قادر على أن يتناوله من الأرض.

وهذا الخلق خارج عن الاعتدال ، وداخل في حيّز الجور ، ولا ينبغي أن يسمّى بأسماء المدح ، وأعني بذلك أنّ قوما يسمّون هذا النّوع من العنف والخلق الوعر رجوليّة وشدّة وشكيمة ، ويذهبون به مذهب قوّة النّفس وشجاعتها ، [ الذي ] هو بالحقيقة مدح. وشتّان ما بين الخلقين ، فإنّ صاحب هذا

__________________

(١) في المصدر : وأما إشارته.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٣٢٧.

(٣) أي صيرورتها بلون الرّماد.

(٤) النّبوة : الجفوة والابتعاد.

(٥) في المصدر : استشاطة.

(٦) في المصدر : المكروهة ، وعدم حبّه.

١١٤

الخلق الذي ذممناه ، تصدر عنه أفعال كثيرة يجور بها على نفسه ، ثمّ على إخوانه ، ثم الأقرب فالأقرب (١) ، حتّى ينتهي إلى عبيده وحرمه ، فيكون عليهم سوط عذاب ، لا يقيلهم عثرة ، ولا يرحم لهم عبرة ، وإن كانوا برآء من الذّنوب ، غير مجرمين ، ولا مكتسبي سوء ، بل يتجرّم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم حتّى يبسط يده ولسانه ، وهم لا يمتنعون منه ، ولا يتجاسرون على ردّه عن أنفسهم ، بل يذعنون له ، ويقرّون بذنوب لم يقترفوها ، استكفافا لعاديته ، وتسكينا لغضبه ، وهو في ذلك يستمرّ على طريقته ، لا يكفّ يدا ولا لسانا.

وأصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنّه مركّب من قوى مختلفة شدّة : القوّة الغضبيّة ، فهي الحاملة لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة ، والجبه والقحة (٢) ، ولهذا رأينا وشاهدنا من تشتدّ القوّة الغضبيّة فيه فيتجاوز الغضب عن نوع الإنسان إلى البهائم التي لا تعقل ، وإلى الأواني التي لا تحسّ ، فربما قام إلى الحمار والبرذون فضربهما ولكزهما ، وربّما كسر الآنية لشدّة غضبه ، وربّما عضّ القفل إذا تعسّر عليه ، وربّما كسر القلم إذا تعلّقت به شعرة من الدّواة واجتهد في إزالتها فلم تزل.

ثمّ حكى عن الزّبير بن بكّار بعض سيّئات عمر عند غضبه والشّنان (٣) الذي كان بينه وبين طلحة ، حتّى همّ أن يوقع به ، وحتّى همّ طلحة أن يجاهره ، وطلحة هو الذي قال لأبي بكر عند موته : ماذا تقول لربّك وقد ولّيت فينا فظّا غليظا ؟ وهو القائل له : يا خليفة رسول الله ، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة ؟

ثمّ قال ابن أبي الحديد : واعلم أنّا لا نريد بهذا القول ذمّه رضى الله عنه ، وكيف نذمّه وهو أولى النّاس بالمدح والتّعظيم ، ليمن نقيبته ، وبركة خلافته ، وكثرة الفتوح في أيّامه ، وانتظام امور الإسلام على يده ، ولكنّا أردنا أن نشرح حال العنف والرّفق ، وحال سعة الخلق وضيقه ، وحال البشاشة والعبوس ، وحال الطّلاقة والوعورة (٤) .

في نقل كلام ابن أبي الحديد في حسن خلق أمير المؤمنين عليه‌السلام وحلمه

إلى أن قال : في حلم أمير المؤمنين عليه‌السلام وصفحه ولينه ، حلمه وصفحه عن مروان بن الحكم بعد وقعة الجمل ، وظفره عليه ؛ مع أنّه من أشدّ النّاس عداوة له ، وصفحه عن عائشة وإرجاعها إلى المدينة محترمة مكرّمة ، ومعاملته مع أهل البصرة معاملة رسول

__________________

(١) في المصدر : على الأقرب فالأقرب من معامليه.

(٢) الجبه : المقابلة بما يكره الآخر ، والقحة : هي قلّة الحياء والاجتراء على فعل المساوئ.

(٣) في المصدر : الشأن.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ٦ : ٣٤٠ - ٣٤٤.

١١٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أهل مكّة بعد الفتح ، مع أنّهم حاربوه وضربوا وجهه ووجه أولاده بالسّيف ، وواجهوه بالشّتم واللّعن (١) .

وقال أيضا في مقدّمة شرحه : إنّه عليه‌السلام كان أحلم النّاس. ثمّ استشهد بحلمه عن هؤلاء وغيرهم من أعدائه ، مع قدرته على الانتقام. إلى أن قال : وأمّا سجاحة الأخلاق (٢) ، وبشر الوجه ، فإنّه عليه‌السلام المضروب به المثل ، حتّى عابه بذلك أعداؤه ... (٣) إلى آخره.

وإنّما بسطنا الكلام وخرجنا عمّا هو المقصود من وضع الكتاب في المقام ؛ لأن يشهد الورق عند الله على ولايتي لأوليائه ، وبراءتي من أعدائه يوم القيامة.

ثمّ أنّه تعالى بعد مدح نبيّه باللّين والرّفق ، رتّب عليه الأمر بلوازمه اهتماما به ، بقوله : ﴿فَاعْفُ﴾ وتجاوز ﴿عَنْهُمْ﴾ في ما يتعلّق بحقوقك ، كما عفا الله عنهم في ما تعلّق بحقوقه من الذّنب ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾ الله ﴿لَهُمْ﴾ في جميع معاصيهم ، إتماما للشّفقة عليهم ، وإكمالا للبرّ بهم ﴿وَشاوِرْهُمْ﴾ واستطلع آراءهم ﴿فِي الْأَمْرِ﴾ المهمّ عندك ، حربا كان أو غيره ، لتطييب قلوبهم ، والإحاطة بمراتب عقولهم وخلوصهم وحبّهم ، وتعليمهم المشورة في الأمور ، وإجراء تلك السّنّة في الامّة.

روى الفخر الرازي : عن الواحدي ، عن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّه قال : الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر (٤) .

ثمّ قال : وعندي فيه إشكال ؛ لأنّ الّذين أمر الله نبيّه بمشاورتهم في هذه الآية هم الّذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم ، وهم المنهزمون. فهب أنّ عمر كان منهم فدخل تحت الآية ، إلّا أنّ أبا بكر ما كان منهم ، فكيف يدخل تحت هذه الآية ؟ (٥) .

في استفادة قدح الشيخين من رواية ابن عبّاس

أقول : وبعد أنّه نفسه روى أنّ عمر كان من المنهزمين (٦) ، واتّفاق أكثر أصحابه عليه ، لم يكن مجال لقوله : ( هب أنّه كان منهم ) لدلالة هذا الكلام على عدم التّسليم. ثمّ بعد تسليمه دلالة رواية ابن عبّاس بالالتزام على أن أبا بكر كان من المنهزمين ، لا وجه لإنكاره ، وجعله وجها للأشكال في الرّواية ، مع أنّ ابن عبّاس كان أتقن من غيره ، وتأيّدها بالاعتبار ، لوضوح عدم كون أبي بكر أقوى إيمانا وأربط جأشا من عمر ، ولدلالة الإخاء الذي جعله الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهما على أنّهما فرسا رهان.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢٢ - ٢٣.

(٢) سجاحة الأخلاق : ليونتها وسهولتها.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢٥.

(٤ و٥) . تفسير الرازي ٩ : ٦٧.

(٦) تفسير الرازي ٩ : ٥٠.

١١٦

ثمّ أنّ الرّواية دالّة على قدح عظيم فيهما ، حيث إنّها - لدلالتها على تخصيص المشورة بهما ، مع وضوح أنّ مشورة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لتطييب القلوب - دالّة على أنّ حفظ الإسلام كان موقوفا على تطييب قلوبهما ، وحفظ خاطرهما أزيد من تطييب قلوب المنهزمين ؛ لأنّه لا يؤمن مع ملالة خاطرهما على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من إخلالهما في أمره ، وإفسادهما في دينه ، فافهم.

وعن العيّاشي رحمه‌الله : كتب الجواد عليه‌السلام إلى عليّ بن مهزيار « أن سل فلانا أن يشير عليّ ويتخيّر لنفسه ، فهو يعلم ما يجوز في بلده ، وكيف يعامل السّلاطين ، فإنّ المشورة مباركة ، قال الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في محكم كتابه - وتلا هذه الآية وقال - : ﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ يعني : الاستخارة » (١) .

في ( نهج البلاغة ) : « من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرّجال شاركها في عقولها » (٢) .

وفيه : « الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه » (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « وشاور في أمرك الّذين يخشون الله » (٤) .

ثمّ نبّه سبحانه على وجوب التّوكّل على الله في إنجاح المقصود بعد المشاورة ؛ بقوله : ﴿فَإِذا عَزَمْتَ﴾ وأحكمت الرّأي بعد المشاورة على عمل ، واطمأنّت به نفسك ، فلا تعتمد عليه ، بل إذا أردت إنفاذه ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ واعتمد عليه فيه ، حتّى يرشدك إلى ما هو أصلح وأرشد لك ، حيث إنّه لا يعلم ما هو الأصلح من جميع الجهات في الواقع إلّا الله ، لا أنت ولا من تشاوره.

في معنى التوكل

ثمّ بيّن سبحانه فضيلة التّوكّل ترغيبا إليه بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ في امورهم عليه ، حيث إنّ التّوكّل على الله ، وتفويض الأمور إليه ، لا يكون إلّا بعد معرفته ، ومعرفته ملازمة لمحبّته ، ومن أحبّ الله أحبّه الله ، ومن أحبّه الله نصره وهداه إلى كلّ خير وصلاح.

قيل : إنّ الآية دالّة على أنّ التّوكّل ليس معناه أن يهمل الإنسان نفسه ، ولا يراعي الأسباب الظّاهرة ، كما توهّمه كثير من الجهّال ، وإلّا لكان أمره تعالى بالمشاورة منافيا لأمره بالتّوكّل ، بل معناه أن يراعي الإنسان جميع الأسباب والمعدّات الظاهريّة ، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها ، بل يعوّل على لطف الله وعصمته.

﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ

 وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٤٨ / ٨٠٤ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٤.

(٢) نهج البلاغة : ٥٠٠ / ١٦١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٤.

(٣) نهج البلاغة : ٥٠٦ / ٢١١ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٤.

(٤) الخصال : ١٦٩ / ٢٢٢ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٤.

١١٧

ثمّ بالغ سبحانه في حثّ المؤمنين على التّوكّل ، بتوجيه الخطاب إليهم تشريفا لهم وتحبيبا ، بقوله : ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ﴾ أيّها المؤمنون على أعدائكم ، كما نصركم يوم بدر ﴿فَلا غالِبَ لَكُمْ﴾ من الموجودات ، ولا قاهر عليكم من الممكنات ، بل أنتم الغالبون القاهرون ﴿وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ﴾ الله ، ويترك نصركم ، ويخلّي بينكم وبين الأعداء ، كما خذلكم يوم احد ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ﴾ على الأعداء ، ويقدر على عونكم في الأمور ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ وعند خذلانه.

ثمّ بعد التّنبيه على أنّ جميع الأمور من النّصر ، والخذلان ، وغيرهما ، بإرادة الله وقضائه ، أكّد وجوب التوكل على عباده ، بقوله : ﴿وَعَلَى اللهِ﴾ وحده دون غيره

استقلالا وتشريكا ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ كلّهم في كلّ الأمور ، وليعتمد على لطفه العارفون ، لاستلزام العرفان والإيمان به ، سلب القدرة عن النّفس ، وتفويض الأمور إليه ، والاعتماد بلطفه وفضله.

في فضيلة التوكل

عن عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يدخل سبعون ألفا من أمّتي الجنّة بغير حساب » . قيل : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : « هم الّذين لا يكيدون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيّرون ، وعلى ربّهم يتوكّلون » .

فقال عكاشة بن محصن : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنت منهم » ، ثمّ قام آخر ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « سبقك بها عكاشة » .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله ، يرزقكم كما يرزق الطّير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا » (١) .

﴿وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ

 ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)

ثمّ أنّه روي أنّ الرّماة الّذين تركوا المركز يوم احد ، وأفاضوا في طلب الغنيمة ، قالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أخذ شيئا فهو له ، ولا يقسّم الغنائم كما لم يقسّمها يوم بدر ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتّى يأتيكم أمري ؟ » . فقالوا : تركنا بقيّة إخواننا وقوفا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل ظننتم أنّا نغلّ (٢) ولا نقسّم بينكم » (٣) .

فنزّه الله تعالى نبيّه عن الغلول والخيانة بقوله : ﴿وَما كانَ﴾ يصحّ وينبغي ﴿لِنَبِيٍ﴾ ولا يستقيم له ، مع

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١١٧.

(٢) الغلّ : الخيانة.

(٣) تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

١١٨

كونه أمين الله في أرضه ﴿أَنْ يَغُلَ﴾ المسلمين ، ويخونهم في الغنيمة ، لغاية التّنافي بين ذلك المنصب ، الذي هو أعلى درجة كمال الإنسانيّة ، وبين الخيانة التي هي سبب للعار في الدّنيا ، والنّار في الآخرة.

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث طلائع ، فغنم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدهم ، فقسّمها بين الحاضرين ، ولم يترك للطلائع شيئا ، فنزلت (١) .

والمعنى : ما كان لنبيّ أن يعطي قوما من العسكر الغنيمة ، ويمنعها من الآخرين ، بل عليه أن يقسّمها بين الكلّ بالسّويّة. وإنّما عبّر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول للتّغليظ في النّهي.

وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : أنّ أشراف النّاس طمعوا أن يخصّهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الغنائم بشيء زائد ، فنزلت (٢) .

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم ، وتأخّرت القسمة لبعض الموانع ، فجاء قوم فقالوا : ألا تقسّم غنائمنا ؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو كان لكم مثل احد ذهبا ما حبست عنكم درهما ، أتحسبون أنّي أغللكم مغنمكم ! » فأنزل الله هذه الآية (٣) .

وعن القمّي رحمه‌الله : نزلت في حرب بدر ، وكان سبب نزولها أنّه كان في الغنيمة التي أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء ففقدت ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لنا لا نرى القطيفة ؟ ما أظنّ إلّا رسول الله أخذها ! فأنزل الله في ذلك هذه الآية ، فجاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ فلانا غلّ قطيفة ، فاحفرها (٤) هنالك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحفر ذلك الموضع ، فأخرج القطيفة (٥) .

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ رضا النّاس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ... ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتّى أظهر الله القطيفة ، وبرّأ نبيّه من الخيانة ، وأنزل في كتابه :

﴿وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ﴾ الآية (٦) . وعن عكرمة ما يقرب منه (٧) .

وروي أنّها نزلت في أداء الوحي ، [ حيث ] كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ القرآن ، وفيه عيب دينهم ، وسبّ آلهتهم ، فسألوه أن يترك ذلك ، فنزلت (٨) .

ثمّ أنّه تعالى بعد تنزيه الأنبياء عن الغلول بيّن شدّة قبحه وحرمته تأكيدا لنزاهتهم عنه ، بقوله : ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ﴾ ويخون في مال في الدّنيا ﴿يَأْتِ بِما غَلَ﴾ وخان فيه بعينه ، حاملا [ له ] على ظهره ﴿يَوْمَ

__________________

(١) تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

(٢ و٣) . تفسير الرازي ٩ : ٧٠.

(٤) في المصدر : فاخبأها.

(٥) تفسير القمي ١ : ١٢٦ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٥.

(٦) أما لي الصدوق : ١٦٤ / ١٦٣ ، تفسير الصافي ١ : ٣٦٥.

(٧) تفسير الرازي ٩ : ٧٠.

(٨) تفسير الرازي ٩ : ٧٠.

١١٩

الْقِيامَةِ﴾ .

في حرمة الخيانة وشدة عذابها

عن ابن عبّاس رضى الله عنه ، أنّه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنّم ، ثمّ يقال له : أنزل إليه فخذه ، فينزل إليه ، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره ، فلا يقبل منه (١) .

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « ألا لأعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء ، وببقرة لها خوار ، وبشاة لها ثغاء ، فينادي : يا محمّد ، يا محمّد ! فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، فقد بلّغتك » (٢) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من بعثناه على عمل فغلّ شيئا ، جاء يوم القيامة يحمله على عنقه » (٣) .

قيل لأبي هريرة : كيف يأتي بما غلّ وهو كثير كبير ، بأن غلّ أموالا جمّة ؟ فقال : أ رأيت من كان ضرسه مثل احد ، وفخذه مثل جبل (٤) ، وساقه مثل ودقان (٥) ، ومجلسه ما بين المدينة وريدان (٦) ، يحمل مثل هذا ؟ وقيل : إنّ المراد : يأت بما احتمل من إثمه (٧) .

﴿ثُمَّ تُوَفَّى﴾ وتعطى كاملا ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ من النّفوس ﴿ما كَسَبَتْ﴾ وحصلت في مدّة عمرها من جزاء عملها ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ شيئا ، لا بزيادة العذاب ، ولا بتنقيص الثّواب.

قيل : كان المناسب أن يقال : ثمّ يوفّى الغالّ ما كسب (٨) ، وإنّما عدل عنه إلى حكم عموم النّاس ليكون كالبرهان على المقصود ، والمبالغة فيه ، فإنّه إذا كان كلّ كاسب مجزيّا بعمله ، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك (٩) .

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل سلمان رضوان الله عليه على الغنيمة ، فجاءه رجل وقال : يا سلمان ، كان في ثوبي خرق ، فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به ، فهل عليّ جناح ؟ فقال سلمان : كلّ شيء بقدره ، فسلّ الرّجل الخيط من ثوبه ، ثمّ ألقاه في المتاع (١٠) .

وروي أنّ رجلا جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشراك (١١) أو شراكين من الغنم ، فقال : أصبت هذا يوم خيبر ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شراك أو شراكان من نار » (١٢) .

وروي أنّ رجلا رمي بسهم في خيبر ، فقال القوم لمّا مات : هنيئا له الشّهادة ، فقال [ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ] : « كلّا.

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٧٣.

(٢) تفسير الرازي ٩ : ٧٣ ، تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ٦٩ ، تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

(٤) جبل : منطقة يراد بها العراق.

(٥) ودقان : اسم موضع.

(٦) ريدان : حصن باليمن.

(٧) تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

(٨) في النسخة : توفّى الغال ما كسبت.

(٩) تفسير روح البيان ٢ : ١١٨.

(١٠) تفسير الرازي ٩ : ٧٠.

(١١) الشّراك : سير النّعل على ظهر القدم.

(١٢) تفسير الرازي ٩ : ٧٠.

١٢٠