معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خبر أصحاب الكهف وأقرب إلى الله. وقيل : إن الإشارة إلى المنسى (١) ؛ أى إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهدينى الله لشىء آخر هو أرشد من المنسىّ.

(عُقْدَةً (٢)) ؛ أى حبسة ، والمراد بها الرّتّة التى كانت فى لسان موسى من الجمرة التى جعلها فى فيه ، وهو صغير ، حين أراد فرعون أن يجربه. وإنما قال (عُقْدَةً) ـ بالتنكير ؛ لأنه طلب حلّ بعضها ليفقه قوله ؛ ولم يطلب الفصاحة الكاملة.

(عُجابٌ (٣)) وعجيب بمعنى واحد ؛ وهو قول الكفار الذين تعجّبوا من التوحيد ولم يتعجبوا من الكفر الذى لا وجه لصحته.

وروى أنّ المسلمين فرحوا بإسلام عمر ، وتغيّر المشركون لذلك ؛ فاجتمعوا ومشوا إلى أبى طالب وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء منا ، وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك ؛ فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : يا بن أخى ، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كلّ الميل على قومك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ذا تسألوننى؟» فقالوا : ارفض (٤) آلهتنا وارفضنا وندعك وإلهك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطىّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم»؟ قالوا : نعم وعشرا ؛ أى نعطيكها وعشر كلمات معها. فقال : «قولوا لا إله إلا الله». فقاموا ، وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا! إن هذا لشىء عجاب ؛ أى بليغ فى العجب.

__________________

(١) فى الآية نفسها : واذكر ربك إذا نسيت.

(٢) طه : ٢٧

(٣) ص : ٥

(٤) رفض الشيء : تركه. (القاموس).

٦٦١

(عُرُباً (١)) : جمع عروب ؛ وهى المتودّدة إلى زوجها بإظهار محبّته ؛ وعبّر عنهنّ ابن عباس بأنهن العواشق. وقيل هن الحسنة الكلام.

(عُتُلٍ (٢)) ؛ أى غليظ الجسم ، قاسى القلب ، بعيد الفهم ، كثير الجهل.

(عتبى) : معناه الرضا. ومنه (٣) : (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ). «(٤) (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). والعتاب : العذاب.

(عبرة (٥)) : اعتبارا وموعظة حيثما وقع.

(عِيداً (٦)) : كل يوم مجمع ؛ ولذا طلب عيسى المائدة أن تكون تنزل عليهم كلّ يوم عيد. وقال ابن عباس : المعنى تكون مجتمعة لجميعنا أوّلنا وآخرنا فى يوم نزولها خاصة ، لا عيدا يدور ؛ وإنما سمّى عيدا لعوده بالفرح والسرور على قوم وعلى قوم بالحزن ، وكذلك المأتم ، سمى بذلك ؛ لأنه لم يتم لأحد فيه أمر.

(عيسى ابن مريم) : قد قدمنا سرّ الإفصاح بأمه ، ولم يسمّ امرأة فى القرآن غيرها ؛ وذلك لنفى التهمة ؛ لأن العادة بين الخلق ألّا يصرح الرجل باسم امرأته ؛ فسمّاها الله باسمها كى لا يظنّ ظانّ أنها زوجته ، وخلقه الله بغير أب. وكلّم الناس فى المهد ككلامه فى حال الكهولة ، وعلّمه التوراة فى بطن أمه ، وأحيا الموتى على يديه ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، وأكرمه الله بالزّهد فى الدنيا حيث لم يتخذ من الدنيا شيئا ؛ ولهذا قال عليه‌السلام : من أراد أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى زهد أبى ذرّ. وعلمه الخطّ الجيد ؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : الخط عشرة أجزاء : أحدها لجميع الخلق وتسعة لعيسى ابن مريم خاصة.

__________________

(١) الواقعة : ٣٧

(٢) القلم : ١٣

(٣) فصلت : ٢٤

(٤) النحل : ٨٤

(٥) آل عمران : ١٣

(٦) المائدة : ١١٤

٦٦٢

وكانت مدة حمله ساعة. وقيل ثلاث ساعات. وحملت به وهى بنت عشر سنين. وقيل بنت خمس عشرة سنة.

ورفعه الله إلى السماء ، وله ثلاث وثلاثون سنة [٢١٣ ب]. ونؤمن بنزوله فى آخر الزمان ، ويقتل الدجال.

وفى مسند أحمد من حديث جابر : يخرج الدجّال فى خفقة من الدّين ، وإدبار من العلم ، وله أربعون ليلة ، يسيحها فى الأرض ؛ اليوم منها كالسنة ، واليوم منها كالشهر ، واليوم منها كالجمعة ، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه. وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا ، فيقول للناس : أنا ربّكم ، وهو أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه «كافر» يقرؤه كلّ مؤمن كاتب وغير كاتب ، يرد كلّ ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه ، وقامت الملائكة بأبوابهما ، ومعه جبال من خبز ، والناس فى جهد إلا من اتّبعه ، ومعه نهران أنا أعلم بهما منه : نهر يقول الجنة ، ونهر يقول النار ؛ فمن أدخل الذى يسمّيه الجنة فهو فى النار ، ومن أدخل الذى يسميه النار فهو فى الجنة.

قال : ويبعث معه شياطين تكلّم الناس ، ومعه فتنة عظيمة يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ، ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس ؛ فيقول الناس : أيها الناس ، هل يفعل مثل هذا إلا الرّب ، فيفر الناس إلى جبال الشام ، فيأتيهم فيحاصرهم فيشتدّ حصارهم ، ويجهدهم جهدا شديدا ، ثم ينزل عيسى فى باب «لد» فى السحر ، فيقول : أيها الناس ، ما منعكم أن تخرجوا إلى هذا الكذّاب الخبيث؟ فإذا هم بعيسى ، فتقام الصلاة ، فيقال له : تقدّم ، فيقول : ليتقدم إمامكم فيصلّى بكم ؛ فإذا صلّوا صلاة الصبح خرج بهم إليه ، فحين يراه الكذّاب ينماث ـ أى يذوب ـ كما يذوب الملح فى الماء ، فيقتله حتى إن الحجر والشجر ينادى : يا روح الله ،

٦٦٣

هذا يهودىّ ، فلا يترك ممّن كان يتبعه أحد إلا قتله.

وفى الصحيح أحاديث بمعنى ذلك. وفى أحاديث أنه يتزوّج ويولد له الولد ، ويمكث فى الأرض سبع سنين ، ويدفن معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى الصحيح أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس (١) ـ يعنى حمّاما.

وعيسى اسم عبرانى أو سريانى ، وهو أحد الأربعة الذين سمّاهم الله قبل وجودهم.

فإن قلت : قد اختاره الله لإقامة دينه ، وخصّه بما لم يخصّ به أحد غيره ؛ فلم لا يتقدم للصلاة بهذه الأمّة؟ وما الحكمة فى تمثيل الله له بآدم؟ ولم خلق من غير أب.

والجواب أن الله ينزله لتجديد الشريعة المحمدية ، فلو أمّ بهم لظنّوا أنه أتى بشريعته المتقدمة ، فنفى توهّم ذلك بقوله : ليتقدم إمامكم.

وأمّا تمثيل الله له بآدم فلأنّ بقاء آدم بالتراب وبقاء النفس بالريح ، والتراب طيّب والريح طيبة ، والتراب يميز الخبيث من الطيب ، والريح تميز الحبّ من التّبن ، والريح رحمة والأرض رحمة ، والأرض مسخّرة ، قال تعالى : ((٢) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً). والريح مسخّرة ، والأرض مختلفة : خبيث وطيب ، وحزن وسهل ، والريح مختلفة منها لواقح وصرصر ، وصبا وشمال ، ودبور وجنب ، والتراب يطفئ النار ، والريح أيضا يطفئها. وكما مثّل الله عيسى بآدم مثّل الدنيا بماء السماء ، قال تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ـ فى أنّ كثرته يضرّ ، وقلّته ينفع. ومثّل المنفق بالزرع ،

__________________

(١) بفتح الدال ، وتكسر (القاموس).

(٢) الملك : ١٥

٦٦٤

قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ). ومثّل عابد الأصنام بالعنكبوت ، قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) ، فى ضعف نسجها. ومثّل أعمال المنافقين بالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ومثّل أهل الكتاب بالحمار ، فى قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً). ومثّل بلعام بالكلب ؛ قال تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ). وشبّه التوحيد بشجرة النخلة ؛ قال تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). والكفر بشجرة الدّفلى (١) كما قدمنا. ومثّل آدم بالتراب.

وخلق الله عيسى من غير أب ، ليكون دليلا على ثبوت الصانع ؛ وذلك أنه خلق آدم من غير أب ولا أمّ ، وخلق عيسى من غير أب ، وخلقك من أب وأم ؛ ليكون دليلا على وحدانيته ، وكمال قدرته ، وبطلان الطبع والنجوم.

(عِوَجاً (٢)) : اعوجاج حيثما وقع بكسر العين [٢١٤ ا] فى المعانى التى لا تحس ، وبالفتح فى الأشخاص ونحوها. ومعناه عدم الاستقامة ، ومعناه فى قوله (٣) : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) ، الذى لا تناقض فيه ، ولا خلل فيه ، وقيل لم يجعله مخلوقا. واللفظ أعمّ من ذلك.

(عدوة (٤)) ، بكسر العين وضمها : شاطئ الوادى. والمراد بالدنيا فى قوله (٥) : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) : القريبة من المدينة. والعدوة القصوى البعيدة. والقصوى والدنيا تأنيث الأقصى والأدنى.

(عير (٦)) : رفقة. وقيل إبل تحمل المثيرة.

__________________

(١) الدفل ـ بالكسر ، وكذكرى : نبت مر قتال.

(٢) الكهف : ١

(٣) الكهف : ١

(٤) الأنفال : ٤٢

(٥) الأنفال : ٤٢

(٦) يوسف : ٧٠

٦٦٥

(عِجافٌ (١)) : قد بلغت فى الهزال النهاية ، وكان الملك قد رأى فى نومه سبع بقرات سمان أكلتهنّ سبع عجاف ، فتعجّب كيف غلبتهن ، وكيف وسعتها فى بطونهن.

(عِضِينَ (٢)) : قد قدمنا أنّ معناه أجزاء ، ومفرده عضه. والعاضه الساحر ؛ قال عكرمة : العضه : السحر ـ بلغة قريش. يقولون للساحرة : عاضهة ، ويقال عضهوه آمنوا بما أحبّوا منه ، وكفروا بالباقى ، فأحبط كفرهم إيمانهم.

(عِجْلاً جَسَداً (٣)) : ولد البقرة ، والجمع العجاجيل ، والأنثى عجلة ؛ وبقرة معجلة. ذات عجل. قيل سمى عجلا لاستعجال بنى إسرائيل عبادته ، وكانت مدة عبادتهم له أربعون يوما ، فعوقبوا فى التّيه أربعين سنة كلّ يوم بسنة ، وكان السامرىّ من قوم يعبدون البقر ، واسمه موسى بن ظفر ، وكان جسدا لا يأكل ولا يشرب.

ونقل القرطبى عن أبى بكر الطرطوشى رحمهما‌الله أنه سئل عن قوم يجتمعون فى مكان يقرءون القرآن ، ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر ، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدّف والشّبابة ، هل الحضور معهم حلال أم لا؟ فقال :

مذهب الصوفية أنّ هذا بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما الرقص والتواجد فأوّل من أحدثه أصحاب السامرىّ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، قاموا يرقصون حوله ، ويتواجدون ، فهو دين الكفّار وعباد العجل ؛ وإنما كان مجلس النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير مع الوقار.

__________________

(١) يوسف : ٤٣

(٢) الحجر : ٩١

(٣) الأعراف : ١٤٨

٦٦٦

فينبغى للسلطان مع نوّابه أن يمنعوهم من الحضور فى المساجد وغيرها ، ولا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم.

هذا مذهب مالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد من أئمة المسلمين رضى الله عنهم أجمعين.

وقال القشيرى : كان إبراهيم عليه‌السلام مضيافا ، وكان عامّة ماله البقر ، وقدم العجل للملائكة ، واختاره سمينا زيادة فى إكرامهم. وقيل : إن جبريل مسح العجل بجناحه ، فقام مسرعا حتى لحق بأمه.

ومما يحكى من محاسن القاضى محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن فريعة البغدادى ، ووفاته سنة سبع وستين وثلاثمائة : أن العباس بن المعلى الكاتب كتب إليه : ما يقول القاضى وفّقه الله تعالى فى يهودىّ زنى بنصرانية ، فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر ، وقد قبض عليهما ؛ فما يرى القاضى فيهما؟

فكتب القاضى بديها : هذا من أعدل الشهود على أن الملاعين اليهود أشربوا (١) حبّ العجل فى صدورهم ، حتى أخرج من أيورهم. وأرى أن يناط برأس اليهودى رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية : الرأس مع الرّجل ، وأن يسحبا على الأرض ، وينادى عليهما : ظلمات بعضها فوق بعض. والسلام.

وروى أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ صالح له عجلة ، فأتى بها الغيضة ، وقال : اللهم إنى استودعكها لابنى حتى يكبر ؛ فكبر الولد ـ وكان بارّا بأمه ، وكانت من أحسن البقر ؛ فساوموها حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا ؛ وكانت

__________________

(١) فى ا : بأنهم أشربوا.

٦٦٧

البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة التى أمرهم الله بذبحها أربعين سنة.

(عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ (١)) : قد قدمنا أن اسمه الكودن (٢) ؛ وهو القوىّ المارد من الشياطين ، والفاء فيه زائدة. قال ابن عباس : هو صخر الجنى. وقال ابن زيد : استدعاه ليريه القدرة التى هى من عند الله.

وروى أن هذا العرش الذى أمر سليمان بمجيئه كان من فضة وذهب مرصّعا باليواقيت والجوهر ، وأنه كان فى جوفه سبع بيوت عليها سبعة أغلاق.

قال ابن عباس : كان سليمان مهيبا لا يبدأ بشيء حتى يكون هو الذى يسأل عنه ، فرأى ذات يوم رهجا (٣) قريبا منه ؛ فقال : ما هذا؟ فقالوا له : بلقيس. فقال (٤) : (أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ...) الآية؟ فقال له العفريت : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. وكان يجلس مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر ، فقال الذى عنده علم من الكتاب ـ وهو آصف (٥) بن برخيا ، وكان رجلا صالحا من بنى إسرائيل ، كان يعلم اسم الله الأعظم. وقيل هو الخضر ، وقيل جبريل. والأول أشهر : أنا آتيك به ـ فى الموضعين ـ يحتمل أن يكون فعلا مستقلا ، واسم فاعل ـ قبل أن يرتدّ إليك طرفك ؛ أى قبل أن تغمض بصرك إذا نظرت إلى شىء. فدعا باسم الله العظيم الأعظم ، وهو : يا حىّ ، يا قيّوم ، يا إلهنا ، وإله كل شىء ، إلها واحدا ، لا إله إلا أنت. وقيل : يا ذا الجلال والإكرام. فشقّت الأرض بالعرش حتى نبع بين يدى سليمان.

__________________

(١) النمل : ٣٩

(٢) والقرطبى : ١٣ ـ ٢٠٣

(٣) الرهج : الغبار.

(٤) النمل : ٣٨

(٥) كاتب سليمان (القاموس).

٦٦٨

وقيل : جىء به فى الهواء. وكان بين يدى سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجدّ.

فلما (١) رآه مستقرّا عنده جعل يشكر الله الذى أنعم عليه بعبارة فيها تعليم للناس وعرضة للاقتباس.

(عِينٌ (٢)) ، بكسر العين : جمع عيناء ، وهى الكبيرة العينين فى جمال.

(عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٣)) ؛ أى تكبّر وعداوة وقصد المخالفة ، يعنى أن كفرهم ليس ببرهان ؛ بل هو بسبب العزة والشقاق ، ونكّرهما للدلالة على شدّتهما وتفاقم الكفار فيهما.

(عصم الْكَوافِرِ (٤)) : جمع عصمة : النكاح ؛ وأمر الله المسلمين فى هذه الآية أن يفارقوا نساءهم المشركات من عبدة الأوثان ؛ فالآية على هذا محكمة. وقيل : يعنى كلّ كافرة ؛ فعلى هذا نسخ منها جواز تزوّج الكتابيات بقوله (٥) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). وقيل إن قوله (٦) : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ـ نزلت فى امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلّقها.

(عِزِينَ (٧)) : جمع عزة ـ بتخفيف الزاى ، وأصله عزوة. وقيل عزهة ، ثم حذفت الهاء وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة.

(عشار (٨)) : جمع عشراء ؛ وهى الناقة الحامل التى مرّ لحملها عشرة أشهر ،

__________________

(١) النمل : ٤٠

(٢) الصافات : ٤٨

(٣) ص : ٢

(٤) الممتحنة : ١٠

(٥) المائدة : ٥

(٦) المائدة : ٥

(٧) المعارج : ٣٧

(٨) التكوير : ٤

٦٦٩

وهى أنفس ما عند العرب وأعزّها ، فلا تعطّل إلا من شدة الهول. وتعطيلها هو تركها مسيّبة أو ترك حلبها.

(عِيشَةٍ راضِيَةٍ (١)) : قد قدمنا أنّ المراد بها ذات رضا ، فهو كقولهم : تامر ، لصاحب التمر.

قال ابن عطية : ليست بذا اسم فاعل. وقال الزمخشرى (٢) : يجوز أن يكون اسم فاعل ، نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة.

(على) : حرف جر له معان :

أشهرها الاستعلاء حسّا أو معنى ، نحو : وعليها وعلى الفلك تحملون. كلّ من عليها فان. فضّلنا بعضهم على بعض. ولهم علىّ ذنب.

ثانيها : المصاحبة ، كمع ؛ نحو : وآتى المال على حبّه ؛ أى مع حبّه. وإنّ ربّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.

ثالثها : الابتداء كمن ؛ نحو : إذا اكتالوا على الناس ؛ أى من الناس. لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم ؛ أى منهم ؛ بدليل احفظ عورتك إلا من زوجتك.

رابعها : التعليل ، كاللام ، نحو : ولتكبّروا الله على ما هداكم ؛ أى لهدايته إياكم.

خامسها : الظّرفية كفى ؛ نحو : ودخل المدينة على حين غفلة ؛ أى فى حين غفلة. واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ؛ أى فى زمن ملكه.

__________________

(١) الحاقة : ٢١

(٢) الكشاف : ٢ ـ ٤٨٦

٦٧٠

سادسها : معنى الباء ، نحو : حقيق على ألّا أقول على الله إلّا الحقّ ؛ أى بأن أقول ، كما قرأ أبىّ.

فائدة

هى فى : وتوكّل على الحىّ الذى لا يموت ـ بمعنى الإضافة والإسناد ؛ أى أضف توكّلك وأسنده إليه. كذا قيل. وعندى أنها بمعنى باء الاستعانة.

وفى نحو : كتب على نفسه الرحمة ـ لتأكيد المجازات. قال بعضهم : وإذا ذكرت النعمة فى الغالب مع الحمد لم تقترن بعلى ، وإذا أريدت النقمة أتى بها ؛ ولهذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى ما يعجبه قال : الحمد لله الذى بنعمته وجلاله تتمّ الصالحات. وإذا رأى ما يكره قال : الحمد لله على كل حال.

تنبيه

ترد (عَلى) اسما فيما ذكره الأخفش إذا كان مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمّى واحد ، نحو (١) : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) لما تقدمت الإشارة إليه فى (إِلى). وترد فعلا من العلوّ ؛ نحو (٢) : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) [٢١٥ ا] (عَلا فِي الْأَرْضِ).

(عن) : حرف جرّ له معان :

أشهرها المجاوزة ؛ نحو : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ؛ أى يجاوزونه ويتعدّون عنه.

ثانيها ـ البدل ؛ نحو : لا تجزى نفس عن نفس شيئا.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧

(٢) القصص : ٤

٦٧١

ثالثها ـ التعليل ؛ نحو : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه ـ أى لأجل موعدة. ما نحن بتاركى آلهتنا عن قولك ـ أى لقولك.

رابعها ـ معنى على ؛ نحو : فإنما يبخل عن نفسه ـ أى عليها.

خامسها ـ معنى من ، نحو : يقبل التوبة عن عباده ـ أى منهم ؛ بدليل : فتقبّل من أحدهما.

سادسها ـ معنى بعد ، نحو : يحرّفون الكلم عن مواضعه ؛ بدليل أنّ فى آية أخرى : من بعد مواضعه. لتركبن طبقا عن طبق ـ أى حالة بعد حالة.

تنبيه

ترد اسما إذا دخل عليها من ، وجعل منه ابن هشام (١) : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ). قال : فتقدّر معطوفة على مجرور من لا على من ومجرورها.

(عَسى) : فعل جامد لا يتصرّف ، ومن ثمّ ادّعى قوم أنه حرف ، ومعناه الترجّى فى المحبوب ، والإشفاق فى المكروه. وقد اجتمعا فى قوله (٢) : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ). قال ابن فارس (٣) : وتأتى للقرب والدنوّ ؛ نحو (٤) : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ). قال الكسائى : كلّ ما فى القرآن من عسى على وجه الخبر فهو موحد ، نحو الآية السابقة ، وواحد على معنى عسى الأمر أن يكون كذا. وما كان

__________________

(١) المغنى : ١ ـ ١٢٨ ، والآية فى الأعراف : ١٧

(٢) البقرة : ٢١٦

(٣) الصاحبى : ١٢٧

(٤) النمل : ٧٢

٦٧٢

على الاستفهام فإنه يجمع ، نحو (١) : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). قال أبو عبيدة : معناه هل عددتم ذلك (٢)؟

وأخرج ابن أبى حاتم والبيهقى وغيرهما عن ابن عباس قال : كلّ عسى فى القرآن فهى واجبة. وقال الشافعى : يقال عسى من الله واجبة.

وقال ابن الأنبارى : عسى فى القرآن واجبة إلا فى موضعين :

أحدهما : ((٣) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) ـ يعنى يا بنى النضير ، فما رحمهم‌الله ؛ بل قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوقع عليهم العقوبة.

والثانى : ((٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ). فلم يقع التبديل. وأبطل بعضهم الاستثناء ، وعمم القاعدة ؛ لأنّ الرحمة كانت مشروطة بألّا يعودوا كما قال : وإن عدتم عدنا. وقد عادوا فوجب عليهم العذاب ، والتبديل مشروط بأن يطلّق ولم يطلّق. فلا يجب.

وفى الكشاف (٥) فى سورة التحريم : عسى إطماع من الله لعباده. وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون على ما جرت به العادة (٦) من الإجابة بلعل وعسى ؛ ووقوع ذلك من الجبابرة موقع القطع والبتّ.

والثانى : أن يكون جىء [به](٧) تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.

__________________

(١) محمد : ٢٢

(٢) بعدها فى الصاحبى : هل جزتموه؟

(٣) الإسراء : ٨

(٤) التحريم : ٥

(٥) الكشاف : ٢ ـ ٤٧٣

(٦) فى الكشاف : عادة الجبابرة.

(٧) من الكشاف.

٦٧٣

وفى البرهان (١) : عسى ولعل من الله واجبتان. وإن كانتا رجاء وطمعا فى كلام المخلوقين ؛ لأن الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون ، والبارى منزّه عن ذلك. والوجه فى استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكّون ولا يقطعون على الكائن منها ، والله يعلم الكائن منها على الصحة صارت لها نسبتان : نسبة إلى الله تعالى تسمّى نسبة قطع ويقين ، ونسبة إلى المخلوق تسمى نسبة شكّ وظن ؛ فصارت هذه الألفاظ لذلك تارة ترد بلفظ القطع حسبما هى عليه عند الله نحو (٢) : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). وتارة بلفظ الشكّ بحسب ما هى عليه عند الخلق ، نحو (٣) : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ). ((٤) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). وقد علم الله حال إرسالهما ما يفضى إليه حال فرعون ، لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج فى نفس موسى وهارون من الطمع والرجاء ، ولما نزل القرآن بلغة العرب جاء على مذاهبهم فى ذلك ، والعرب قد تخرج الكلام المتيقّن فى صورة المشكوك الأغراض.

وقال ابن الدهان : عسى فعل ماضى اللفظ والمعنى ؛ لأنه طمع قد حصل فى شىء مستقبل. وقال قوم : ماضى اللفظ مستقبل المعنى ؛ لأنه إخبار [٢١٥ ب] عن طمع يريد أن يقع.

تنبيه

وردت فى القرآن عسى على وجهين :

أحدهما رافعة لاسم صريح بعده فعل مضارع مقرون بأن. والأشهر

__________________

(١) البرهان : ٤ ـ ٢٩٨ ، ٣٩٢

(٢) المائدة : ٥٤

(٣) المائدة : ٥٢

(٤) طه : ٤٤

٦٧٤

فى إعرابها حينئذ أنها فعل ناقص عامل عمل كان ، فالمرفوع اسمها وما بعده الخبر. وقيل متعدّ بمنزلة قارب معنى وعملا ، أو قاصر بمنزلة قرب ، وأن يفعل بدل اشتمال من فاعلها.

الثانى أن يقع بعدها (١) أن والفعل ، فالمفهوم من كلامهم أنها حينئذ تامة.

وقال ابن مالك : عندى أنها ناقصة أبدا ، وأن وصلتها سدّت مسدّ الجزءين كما فى (٢) : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا).

(عِنْدَ) : ظرف مكان تستعمل فى الحضور والقرب ، سواء كانا حسيّين ، نحو (٣) : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ). ((٤) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى). ((٥) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى). أو معنويّين نحو (٦) : (وقالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ). ((٧) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ). ((٨) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ). ((٩) أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ). ((١٠) ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ). فالمراد فى هذه الآية قرب التشريف والمنزلة وطلب الجار قبل الدار.

ولا تستعمل إلا ظرفا أو مجرورة بمن خاصة ، نحو : من عندك. ولما جاءهم رسول من عند الله. وتعاقبها لدى ولدن ، نحو (١١) : (لَدَى الْحَناجِرِ). ((١٢) لَدَى الْبابِ). ((١٣) وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ). ((١٤) وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ). وقد اجتمعتا فى قوله تعالى (١٥) : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً).

__________________

(١) نحو : عسى الله أن يأتى بالفتح.

(٢) العنكبوت : ٢

(٣) النمل : ٤٠

(٤) النجم : ١٤

(٥) النجم : ١٥

(٦) النمل : ٤٠

(٧) ص : ٤٧

(٨) القمر : ٥٥

(٩) آل عمران : ١٦٩

(١٠) التحريم : ١١

(١١) غافر : ١٨

(١٢) يوسف : ٢٥

(١٣) آل عمران : ٤٤

(١٤) آل عمران : ٤٤

(١٥) الكهف : ٦٥

٦٧٥

ولو جىء فيهما بعند أو لدن صحّ ، ولكن ترك دفعا للتكرار ، وإنما حسن تكرار لدى فى : وما كنت لديهم ، لتباعد ما بينهما.

وتفارق عند ولدى «لدن» من ستة أوجه ؛ فعند ولدى تصلح فى محل ابتداء غاية وغيرها ، ولا تصلح لدن إلا فى ابتداء غاية.

وعند ولدى يكونان فضلة نحو : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ). ((١) وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ). ولدن لا تكون فضلة.

وجر «لدن» بمن أكثر من نصبها ، حتى إنها لم تجىء فى القرآن منصوبة. وجرّ «عند» كثير. وجرّ «لدى» ممتنع.

وعند ولدى معربان ، ولدن مبنية ، فى لغة الأكثرين.

ولدن قد لا تضاف ، وقد تضاف للجملة بخلافهما. وقال الراغب (٢) : لدن : أخصّ من عند وأبلغ ، لأنه يدلّ على ابتدائها بالفعل.

وعند أمكن من لدن من وجهين : أنها تكون ظرفية للأعيان والمعانى بخلاف لدى ، وعند تستعمل فى الحاضر والغائب ، ولا تستعمل لدى إلّا فى الحاضر ؛ ذكرهما ابن الشجرى وغيره.

__________________

(١) المؤمنون : ٦٢

(٢) فى المفردات : ٤٩.

٦٧٦

حرف الغين المعجمة

(غمام) : سحاب أبيض ، سمّى بذلك لأنه يغمّ السماء ، أى يسترها. ومنه : ((١) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) : جمع ظلة ، وهو ما علاك من فوق ، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال ، وإن كان لله (٢) فهو من المتشابه ؛ فيجب الإيمان بها من غير تكييف كما قدمنا فى وجه المتشابه وتأويله عند المتأوّلين يأتيهم عذاب الله فى الآخرة ، أو أمره فى الدنيا. ويحتمل أن يكون ينظرون بمعنى يطلبون ذلك لجهلهم ؛ كقولهم (٣) : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ).

(غَفُورٌ) : من أسماء الله ، ومعناه الساتر على عباده ذنوبهم. ومنه المغفر ؛ لأنه يستر الرأس. وغفرت المتاع فى الوعاء إذا جعلته فيه ، لأنه يغطيه ويستره.

(غلول) : من الخيانة والأخذ من المغنم بغير حق. وقد جاء الوعيد لمن غلّ شيئا بأن يسوقه يوم القيامة على رقبته فى قوله تعالى (٤) : (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ). وقد جاء ذلك مفسّرا فى الحديث ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لألفينّ أحدكم على رقبته رقاع يوم القيامة. لألفينّ أحدكم على رقبته صامت. لألفين أحدكم على رقبته إنسان ؛ فيقول : يا رسول الله. أغثنى ؛ فأقول : لا أملك لك من الله شيئا.

فتأمّل أيها المخالف ، هل يمنعك من الله أحد إلا أن يأخذ الله لمن يشاء.

__________________

(١) البقرة : ٢١٠

(٢) أى النظر.

(٣) البقرة : ١١٨

(٤) آل عمران : ١٦١

٦٧٧

هذا رسول الله سيد الأوّلين والآخرين يقول : يا بنى عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد ، لا أملك لك من الله شيئا. فكيف يتّكل المغرور على أحد فى مخالفته أمر الله.

(غائط (١)) : مكان منخفض ، ثم استعمل فى حاجة الإنسان ؛ لأن العرب كانوا يطلبون ذلك فى قضاء [٢١٦ ا] حوائجهم ، فكنى عن الحدث بالغائط.

(غَمَراتِ الْمَوْتِ (٢)) : شدائده وكرباته كما يغمر الشيء إذا علاه وغطّاه ؛ فتذكر أيها الأخ كرباته وسكراته ، فإن كنت منهمكا نقرّك ، وإن كنت تائبا رقاك بمحبة تأخيره لتغنم أو تعجيله لتسلم. وإن كنت محبّا شوّقك ؛ لأن المحب يحبّ لقاء حبيبه ؛ ولكن التفويض أعلى. ولو انتظرنا ضربة شرطى لتكدّر عيشنا ، فكيف وفى كلّ نفس يمكن مجىء الموت بسكراته وغصصه ؛ ونودّ أن لو قدرنا على صياح وأنين ، ويودّ من حضره فترة ساعة ؛ ليقول : لا إله إلا الله ، فلا يمهل ، وتجذب روحه من كل عضو وعرق ، فتبرد قدماه ، ثم ساقاه ، ثم فخذاه ، وهكذا حتى تبلغ الحلقوم ؛ فعنده ينقطع نظره إلى دنياه ، ويغلق عنه باب توبته ؛ كما روى أن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر ، ثم يرى ملائكة ربّه تعالى وثناء هم عليه ، وقولهم (٣) : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ...) الآية ؛ فيا لها من مصيبة لو عقل ؛ ولهذا كانوا رضى الله عنهم يديمون ذكر الموت ، ويخافون من سوء العقيدة. وفى الصحيحين : إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته ، فليس شىء أحبّ إليه مما أمامه ؛ ومن ختم له

__________________

(١) النساء : ٤٣

(٢) الأنعام : ٩٣

(٣) الأنعام : ٩٣

٦٧٨

بشرّ فضدّه ؛ وسببه عقيدة فاسدة تثمر عند موته الجحود أو الشك ، فما لم يرحم بتوبة عذابه دائم ، نسأل الله العافية.

وإذا تأملنا وجدنا أسباب سوء الخاتمة موجودة فينا ، وسأنبئك بأقلها ؛ وهى :

الإصرار على فعل منهىّ ، أو صفة مذمومة ؛ كعجب ونحوه.

ومنها الغفلة عن ذكر الله ، فقد خطف خلق كثير بنزعة الشيطان لتمكّنه منهم. ولهذا اختار الشارع لفظ الشهادتين ؛ فإن الشيطان يجهد فى شبهة مكفّرة عند الموت ، غالبها فى الرسالة ؛ لعلمه اقتصارنا على التعليلة ؛ وكل ما نزغ فى التوحيد دفع بلا إله إلا الله ، أو فى الرسالة دفع بمحمد رسول الله ؛ فكأنّ التهليلة صلاة ؛ وذكر سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبطلها ؛ وإن كان أجنبيا منها. كيف وأجلّ أسنان مفتاح التهليلة الشهادة الثانية ؛ فأكثر من ذكر هذه الكلمة المشرّفة ، حتى تمتزج مع معناها بلحمك ودمك ؛ واطلب منه سبحانه الثبات عليها ؛ فقد قطع ظهور (١) العابدين سوء الخاتمة ، فكيف يخصب لك جناب حتى ترى ما خطّ لك فى أمّ الكتاب. وعلامة حسن الخاتمة استقامة ودوام ذكر ؛ للحديث : يموت المرء على ما عاش عليه. ولحديث : كلّ ميسّر لما خلق له. فكيف نطمع بحسنها وقد غرقنا فى حبّ الدنيا والمواظبة على خصال مذمومة ، وعند فراقنا لها يخاف علينا من استيلاء الشيطان لتمكّنه منّا عند الموت. وعلامة ذلك أن فى حبها طول أملنا ؛ ونسينا الآخرة ؛ والهوى يصدّ عن الحقّ ؛ فكل فتنة أتتنا فمن حبّ الدنيا والجهل بمصارع أقراننا فى كل ساعة. أمرنا الصادق الصّدوق أن نكون فيها كالغريب أو عابرى سبيل ؛ وإذا أمسينا فلا ننتظر

__________________

(١) جمع ظهر.

٦٧٩

الصباح ، وإذا أصبحنا فلا ننتظر المساء ، ونأخذ من صحتنا لسقمنا ، ومن حياتنا لموتنا ؛ فأعرضنا عن نصحه ، وأطللنا أملنا مع رؤيتنا لموت الأطفال والشبّان ؛ ولهذا بادر من فتح الله بصيرته ، فكان يصلّى الصبح بوضوء العشاء ؛ وآخر لم يضع جنبه على الأرض عشرين سنة ، وآخر حسب ما بين مضغ اللقمة وبلعها خمسين تسبيحة ؛ فكان لا يتقوّت إلا بحساء الشعير ؛ وآخر يقوم ليلا ولا يغفى إلا إغفاء الطير. وآخر ورده كلّ يوم مائة ألف تسبيحة. وآخر لا يتحدث مع أخيه فيعاتبه على ذلك ، فيقول له : أبادر خروج روحى. ونحن مشتغلون بدنيا فانية ؛ ويا ليتنا نلنا منها شيئا ؛ هذا سليمان أعطى منها ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده ، والرياح تجرى بأمره رخاء حيث أراد ، فلما استوسق ملكه قال : هذا من فضل ربى ... الآية ؛ فما عدّها نعمة كما نعدّها ، ولا حسبها [٢١٦ ب] كرامة من الله كما نظنّها ؛ بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم ؛ ونحن أنعم علينا بنعمها لنصرفها فى الطاعة ، فغفلنا عنه وصرفناها فى معصيته ؛ أليس من الخسران المبين ما نحن فيه من الضلال المبين؟ عشنا عيش البهائم ؛ بل هى أحسن حالا منّا ؛ لأنها تحس ونحن فى موت الحسّ. اللهم يا منقذ الغرقاء ، ويا منجّى الهلكى بعد أن يئسوا ، أنقذنا من هذا الوحل العظيم بجاه نبيك الكريم ، عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم.

(غبر) : له معنيان : ذهب وبقى. ومنه (١) : (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) ؛ أى فى الهالكين. قد غبرت فى العذاب : أى بقيت فيه ولم تسر مع لوط. ويقال فى الباقين ؛ وإنما جمع جمع المذكر تغليبا فى الرجال.

(غَيًّا (٢)) : خسرانا. وقد يكون بمعنى الضلال ، كقوله (٣) : (وَإِنْ يَرَوْا

__________________

(١) الشعراء : ٧١

(٢) مريم : ٥٩

(٣) الأعراف : ١٤٦

٦٨٠