معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [يقول عبيد الله سبحانه عبد الرحمن بن كمال الدين السيوطى عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين إنه أرحم الراحمين](١) : الحمد لله الذى جعل معجزات هذه الأمّة عقليّة ؛ لفرط ذكائهم ، وكمال أفهامهم ، وفضلهم على من تقدّمهم ؛ إذ معجزاتهم حسيّة لبلادتهم ، وقلّة بصيرتهم ، نحمده سبحانه على قوله لرسوله (٢) : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ؛ وخصّه بالإعانة على التبليغ فلم يقدر أحد (٣) منهم على معارضته بعد تحدّيهم ؛ وكانوا أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء ؛ وأمهلهم طول السنين فعجزوا. وقالوا (٤) : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ؛ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ).

فأخبر تعالى أنّ الكتاب آية من آياته قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء لفنائها بفنائهم. وكانوا أحرص الناس على إطفاء نوره ، وإخفاء أمره ؛ فلو كان فى مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها تقوية لحججهم ؛ بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى ؛ فتارة قالوا : ساحر. وتارة قالوا : أساطير الأولين. كلّ ذلك من تحيّرهم ؛ ثم رضوا بتحكيم السّيف فى أعناقهم ، وسبى

__________________

(١) من ا.

(٢) النحل : ٤٤.

(٣) فى : واحد.

(٤) العنكبوت : ٥٠ ، ٥١.

١

ذراريهم ، وحرمهم ، واستباحة أموالهم ؛ فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل من عليهم وأعلامهم وأعمامهم وبنى أعمامهم ؛ وهو فى ذلك يحتجّ عليهم بأن يأتوا بسورة واحدة وآيات يسيرة ؛ إذ هى أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ فى تكذيبه ، وأسرع فى تفريق أتباعه من بذل نفوسهم وخروجهم من أوطانهم ، مع أنهم أشدّ الخلق أنفة ، وأكثرهم مفاخرة ؛ والكلام سيّد عملهم ؛ فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة قالوا له : أنت تعرف من حال الأمم ما لا نعرف ؛ فلذلك يمكنك ما لا يمكننا. فقال لهم : هاتوها مفتريات لتبكيتهم ؛ فلم يرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، ولا طبع (١) منه أو تكلّفة ، ولو تكلّفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيره ويحميه ، نصرة لدينهم ؛ بل أظهر الله دينه ، وخرق العادة فى أسلوب كلامه وبلاغته وحلاوته ، حتى التذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهو فى لهوهم ، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : ما من الأنبياء نبىء (٣) إلّا أعطى [من الآيات](٤) ما مثله آمن عليه البشر ؛ وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه (٥) إلىّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.

فصلوات الله وسلامه على هذا النبىّ الكريم الذى أدّى الأمانة ، ونصح أمّته إلى رشدهم وهدايتهم ؛ فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ورضى الله تعالى عن أصحابه وأتباعه الذين نصروه بأنفسهم وأموالهم.

أما بعد فإنّ إطلاق السّلف رضى الله عنهم على كلام الله أنه محفوظ فى الصّدور ، مقروء بالألسنة ، مكتوب فى المصاحف هو بطريق الحقيقة [٢]

__________________

(١) من طبع الدرهم والسيف وغيرهما : صاغه.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٤

(٣) فى مسلم : من نبى

(٤) من مسلم.

(٥) فى مسلم : أوحى الله إلى.

٢

لا بطريق المجاز ؛ وليس يعنون بذلك حلول كلام الله تعالى القديم فى هذه الأجرام ، تعالى الله عن ذلك ؛ وإنما يريدون أنّ كلامه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان ، وكلام الجنان ، وكتابة البنان ، فهو موجود فيها حقيقة وعلما لا مدلولا ؛ لأنّ الشيء له وجودات أربع : وجود فى الأذهان ، ووجود فى الأعيان ، ووجود فى اللسان ، ووجود بالبنان ، أى بالكتابة بالأصابع ؛ فالوجود الأول الذات الحقيقى ، وسائر الوجودات إنما هى باعتبار الدلالة والفهم.

وبهذا تعرف أنّ التلاوة غير المتلوّ ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب ؛ لأنّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث ، والثانى منها قديم لا نهاية له.

[إعجاز القرآن]

وقد أفرد علماؤنا رضى الله عنهم بتصنيف إعجاز القرآن ، وخاضوا فى وجوه إعجازه كثيرا ، منهم الخطابى (١) ، والرمّانى (٢) ، والزّملكانىّ ، والإمام الرازى ، وابن سراقة ، والقاضى أبو بكر الباقلّاني (٣) ، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين.

والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه كما قال السكاكى فى المفتاح (٤) : اعلم

__________________

(١) كتاب إعجاز القرآن للخطابى طبع فى دار التأليف سنة ١٣٧٢ ه‍. وهو حمد بن محمد ابن إبراهيم البستى ولد سنة ٣١٩ ، وتوفى سنة ٣٨٨ ، وهو من أعلام الفكر الإسلامى فى القرن الرابع.

(٢) هو على بن عيسى الرمانى المعتزلى ولد سنة ٢٧٦. ومات سنة ٣٨٤ ه‍. له رسالة فى إعجاز القرآن طبعت فى دار المعارف. وله أيضا النكت فى إعجاز القرآن طبع فى دهلى سنة ١٩٣٤.

(٣) وكتابه إعجاز القرآن معروف مشهور.

(٤) البرهان : ١ ـ ٣١١.

٣

أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ؛ وكالملاحة. وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ؛ ولا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطر السليمة إلا بإتقان علمى المعانى والبيان والتمرين فيهما.

وقال الأصبهانى فى تفسيره (١) : اعلم أن إعجاز القرآن ذكر من وجهين : أحدهما إعجاز يتعلق بنفسه. والثانى بصرف الناس عن معارضته ؛ فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه. أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذى هو اللفظ والمعنى ، فإن ألفاظه ألفاظهم ؛ قال تعالى (٢) : (قُرْآناً عَرَبِيًّا). «(٣) (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ). ولا بمعانيه ؛ فإن كثيرا منها موجود فى الكتب المتقدمة ؛ قال تعالى (٤) : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ). وما هو فى القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد ، والإخبار بالغيب ؛ فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن ؛ بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم ، ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بالمغيب سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا (٥) بالعربية أو بلغة أخرى ، بعبارة أو إشارة ؛ فإذا فالنظم المخصوص صورة القرآن ، واللفظ والمعنى عنصره ؛ وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره ، كالقرط والخاتم والسوار ، فإنه باختلاف صورها اختلفت أسماؤها ، لا بعنصرها الذى هو الذهب والفضة والحديد ؛ فإن الخاتم المتخذ من الذهب ومن الفضة ومن الحديد يسمى خاتما ، وإن كان العنصر مختلفا. وإن اتخذ خاتم وقرط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا. قال : فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص.

__________________

(١) الإتقان : ٤ ـ ١٠.

(٢) يوسف : ٢.

(٣) الشعراء : ١٩٥.

(٤) الشعراء ١٩٦.

(٥) فى الإتقان : مؤدى.

٤

[إعجاز نظمه]

وبيان كون النظم معجزا يتوقف على بيان نظم الكلام ، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لما عداه من النظم.

فنقول : مراتب تأليف الكلام خمس :

الأولى : ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث : الاسم والفعل والحرف.

والثانية : تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض ، فتحصل الجمل المفيدة ، وهو النوع الذى يتداوله الناس جميعا فى مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ، ويقال له المنثور من الكلام.

والثالثة : ضم بعض [ذلك إلى بعض](١) ضمّا له مباد ومقاطع ، ومداخل ومخارج ؛ ويقال له المنظوم.

والرابعة : أن يعتبر فى أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ، ويقال له السجع.

والخامسة : أن يجعل له مع ذلك وزن ، ويقال له الشعر.

والمنظوم إما محاورة ، ويقال له الخطابة ، وإما مكاتبة [١٣] ويقال له الرسالة ؛ فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ؛ ولكل من ذلك نظم مخصوص. والقرآن جامع لمحاسن الجميع على غير نظم شىء منها ؛ يدل على ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع ، كما يصح أن يقال هو كلام ؛ والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم. ولهذا قال تعالى (٢) : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ) ؛

__________________

(١) من ا

(٢) فصلت : ٤١ ؛ ٤٢.

٥

تنبيها على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى.

قال : وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضا إذا اعتبر ؛ وذلك أنه ما من صناعة كانت محمودة أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية واتفاقات فعلية (١) ، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف (٢) فينشرح صدره بملابستها ، وتطيعه قواه فى مباشرتها ، فيقبلها بانشراح صدر ويزاولها (٣) بقلبه.

فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون فى كل واد من المعانى بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن ، وعجزوا عن الإتيان بمثله ، ولم يقصدوا لمعارضته ، فلم يخف على ذوى البلاغة أن صارفا إلهيا صرفهم عن ذلك. وأىّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزوا فى الظاهر عن معارضة ، مصروفة فى الباطن عنها.

[بم يعلم إعجاز القرآن؟]

فإن قلت : هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة أم لا؟

فالجواب ظهور ذلك على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم [ذلك](٤) ضرورة ، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال.

قال أبو الحسن الأشعرى : والذى نقوله إن الأعجمى لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا. وكذلك من ليس ببليغ. فأما البليغ الذى أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.

فإن قلت : إنما وقع العجز فى الإنس دون الجن. فالجواب إن الجن ليسوا

__________________

(١) فى الاتقان : حملية.

(٢) فى ا : حرفا من الحروف ـ تحريف.

(٣) فى الإتقان : باتساع قلب.

(٤) ليس فى

٦

من أهل اللسان العربى الذى جاء القرآن على أساليبه ؛ وإنما ذكروا فى قوله تعالى (١) : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) الآية تعظيما لشأنه ؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد ، فإذا فرض اجتماع الثقلين ، وظاهر بعضهم بعضا ، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز.

وقال بعضهم : بل وقع للجن أيضا والملائكة منويون فى الآية ؛ لأنهم لا يقدرون أيضا على الإتيان بمثل القرآن.

وقال الكرمانى (٢) فى غرائب التفسير : إنما اقتصر فى الآية على ذكر الجن والإنس ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الثقلين دون الملائكة.

فإن قلت : قد قال تعالى (٣) : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). وقد وجدنا فيه اختلافا وتفاوتا فى الفصاحة ؛ بل نجد فيه الأفصح والفصيح. والجواب أنه لو جاء القرآن على غير ذلك لكان على غير النمط المعتاد فى كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح ، فلا تتم الحجة فى الإعجاز ، فجاء على نمط كلامهم المعتاد ليتم ظهور العجز عن معارضته ولا يقولوا مثلا : أتيت بما لا قدرة لنا على جنسه ، كما لا يصح للبصير (٤) أن يقول للأعمى : قد غلبتك بنظرى ؛ لأنه يقول له : إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرا على النظر ، وكان نظرى أقوى من نظرك. فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح منى المعارضة.

[تنزيه القرآن عن الشعر]

وقيل : إن الحكمة فى تنزيه القرآن عن الشعر الموزون ـ مع أن الشعر

__________________

(١) الاسراء : ٨٨.

(٢) هو أبو القاسم برهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرمانى الشافعى ، يلقب تاج القراء. توفى بعد سنة ٥٠٠ (بغية الوعاة : ٣٨٧).

(٣) النساء : ٨٢.

(٤) فى ا : من البصير.

٧

الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره ـ أن القرآن منبع الحق ، ومجمع الصدق ؛ وقصارى أمر الشاعر التخييل (١) بتصور الباطل فى صورة الحق ، والإفراط فى الإطراء ، والمبالغة فى الذم والإيذاء ، دون إظهار الحق ، وإثبات [٣ ب] الصدق ؛ ولهذا نزه الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ؛ ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية فى أكثر الأمر إلى البطلان والكذب ـ شعريّة.

وقال بعض الحكماء : لم ير متديّن صادق اللهجة مفلق فى شعره ؛ وأما ما وجد فى القرآن مما صورته صورة الموزون فالجواب عنه أن ذلك لا يسمى شعرا ؛ لأن من شرط الشعر القصد ، ولو كان شعرا لكان من اتفق له فى كلامه شىء موزون شاعرا ؛ فكان الناس كلهم شعراء ؛ لأنه قل أن يخلو كلام أحد عن ذلك.

وقد ورد ذلك على الفصحاء ، فلو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته والطعن عليه ، لأنهم كانوا أحرص شىء على ذلك ؛ وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصوى فى الانسجام. وقيل البيت الواحد وما كان على وزنه لا يسمى شعرا. وأقل الشعر بيتان فصاعدا. وقيل الرجز لا يسمى شعرا أصلا. وقيل : أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات ؛ وليس ذلك فى القرآن بحال (٢)

[الاختلاف وتنزيه القرآن عنه]

قال الغزالى : الاختلاف لفظ مشترك بين معان ، وليس المراد نفى [اختلاف

__________________

(١) فى ب : التخيل.

(٢) فى أحكام القرآن صفحة ١٥٩٧ حديث طويل فى الشعر ، وما فى القرآن من وزن ، وهو حديث يشفى الغلة فى موضوعه ، فارجع إليه إن شئت.

٨

الناس فيه ؛ بل نفى](١) الاختلاف عن ذات القرآن ؛ يقال : هذا كلام مختلف ؛ أى لا يشبه بعضه بعضا ، أو لا يشبه أوله آخره (٢) ، أو بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا ؛ وهو مختلف النّظم ؛ فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف (٣) ، وبعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة ، وبعضه على أسلوب يخالفه ؛ وكلام الله منزّه عن هذه الاختلافات ؛ فإنه على منهاج واحد فى النظم يناسب أوله آخره ، وعلى درجة واحدة فى الفصاحة ؛ فليس يشتمل على الغث والسمين ، ومسوق بمعنى واحد ؛ وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى ، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين ، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه (٤) الاختلافات ؛ إذ كلام الشعراء والمراسلين (٥) إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف فى منهج النظم ، ثم اختلاف فى درجات الفصاحة ، ثم فى أصل الفصاحة ، حتى يشتمل على الغثّ والسمين ، ولا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان ؛ بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة ، وكذلك تشتمل القصائد والأغراض (٦) على أغراض مختلفة ؛ لأن الشعراء والفصحاء فى كل واد يهيمون ؛ فتارة يمدحون الدنيا ، وتارة يذمونها ، وتارة يذمون الجبن ويسمونه ضعفا ، وتارة يمدحونه ويسمونه حزما (٧) ، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صرامة ، وتارة يذمونها ويسمونها تهورا.

ولا ينفك كلام آدمى عن هذه الاختلافات ؛ لأن منشأها اختلاف الأغراض والأحوال.

__________________

(١) من الإتقان.

(٢) فى الإتقان : أو لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة ، أو هو مختلف ، أى بعضه ...

(٣) هذا بالأصول. وفى القاموس : والزحاف ـ ككتاب ـ فى الشعر : أن يسقط بين الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر ، والشعر مزاحف ـ بفتح الحاء (زحف).

(٤) فى ا : هذا الاختلاف.

(٥) فى الاتقان : والمترسلين.

(٦) فى الاتقان : والأشعار.

(٧) هذا فى الأصول ، والإتقان.

٩

والإنسان تختلف أحواله فتسعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ، وتتعذر عليه عند الانقباض ؛ وكذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى ، فيوجب ذلك اختلافا فى كلامه بالضرورة ، فلا يصادف إنسان يتكلم فى ثلاث وعشرين سنة ـ وفى مدة (١) نزول القرآن ـ فيتكلم على غرض واحد ومنهاج واحد.

وقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرا تختلف أحواله ؛ فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

[هل غير القرآن معجز؟]

فإن قلت : هل يقال إن غير القرآن من كلام الله معجز ؛ كالتوراة والإنجيل؟

فالجواب ليس شىء من ذلك معجزا فى النظم والتأليف ، وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب. وإنما لم يكن معجزا لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن ، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدى إليه كما وقع فى القرآن ؛ ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذى ينتهى إلى حد الإعجاز.

وقد ذكر ابن جنى فى الخاطريات فى قوله تعالى (٢) : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أن العدول عن قوله : وإما أن نلقى لغرضين : أحدهما ـ لفظى ، وهو المزاوجة لرءوس الآى. والثانى ـ معنوى ، وهو أنه تعالى أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم على موسى ؛ فجاء عنهم باللفظ [١٤] أتم وأوفى منهم (٣) فى إسنادهم الفعل إليه.

__________________

(١) فى الإتقان : وهى مدة ...

(٢) طه : ٦٥.

(٣) فى الإتقان : منه.

١٠

ثم أورد سؤالا ؛ وهو أنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان ؛ فنذهب بهم هذا الذهب من صنعة الكلام.

وأجاب بأن جميع ما ورد فى القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو معرّب عن معانيهم ، وليس هو بحقيقة ألفاظهم. ولهذا لا يشك أن قوله تعالى (١) : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ـ إن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم.

[موضع الإعجاز من القرآن]

قال أبو حيان التوحيدى (٢) : سئل بندار (٣) الفارسى عن موضع الإعجاز من القرآن (٤). فقال : هذه مسألة فيها حيف على المفتى ؛ وذلك أنه شبيه بقولكم (٥) موضع الإنسان من الإنسان ، فليس للإنسان موضع من الإنسان ، بل متى أشرت إلى جملته فقدت (٦) حقيقته ودللت على ذاته ؛ كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شىء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه ومعجزة لمحاوله ، وأهدى (٧) لقائله ؛ وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كتابه ؛ فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.

[فائدة ذكر وجوه الإعجاز]

فإذا علمت عجز الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه فما فائدة ذكرها؟ لكنا نذكر بعضها تطفلا على من سبق ، فإن كنت لا ممن أجول فى ميدانهم ، ولا أعدّ

__________________

(١) طه : ٦٣.

(٢) البرهان : ١ ـ ١٠٠.

(٣) فى ب : أبو بندار.

(٤) فى البرهان : لم أسمع كلاما ألصق بالقلب ، وأعلق بالنفس من فصل تكلم به.

(٥) فى البرهان : ما وضع.

(٦) فى البرهان : فقد حققته.

(٧) فى البرهان : وهدى.

١١

من فرسانهم لعمرك إن دار كريم أبناء الدنيا تتحمل من تطفّل عليه فكيف بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين؟ وإن كانت بعض الأوجه لا تعد من إعجازه فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه ؛ فيثلج (١) له صدرك ، وتبتهج نفسك. فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه فى دار كرامته بخلق سمع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم ، فإنه منعه فى هذه الحياة الدنيوية لذيذ المناجاة له بسبب ذنوبه ؛ مصداقه قوله تعالى (٢) : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وانظر إلى ما صح عن كليمه موسى عليه‌السلام أنه كان يسد أذنيه لئلا يسمع كلام الخلق ؛ إذ صار عنده كأشد ما يكون من أصوات البهائم المنكرة ، حتى لم يكن يستطيع سماعه بحدثان (٣) ما ذاق من اللذات التى لا يحاط بها ولا تكيّف عند سماع كلام من ليس كمثله شىء جل وعلا.

ولو لا أنه سبحانه يغيّبه عما ذاق عند مناجاته مما لا يقدر على وصفه لما أمكن أن يأنس إلى شىء من المخلوقات أبدا ، ولما انتفع به أحد ، فسبحانه من لطيف ، ما أوسع كرمه وأعظم جلاله!

ومن أعجب الأمر فى هذا عدم ذوبان اللذات وتلاشيها حتى تصير عدما محضا عند اطلاعها من ذى الجلال عما اطلعت عليه ، لو لا أنه أثبتها وأمسكها ، يشهد لهذا ما صح عن ابن الأسمر ـ وكان من الأبدال (٤) ـ أنه رأى مرة فى نومه حوراء كلمته فبقى نحو شهرين أو ثلاثة لا يستطيع أن يسمع كلاما إلا تقيأه.

__________________

(١) الفعل كنصر وفرح.

(٢) الأعراف : ١٤٦.

(٣) حدثان الأمر ـ بالكسر : أوله (القاموس).

(٤) فى القاموس : الأبدال قوم بهم يقيم الله عزوجل الأرض ، لا يموت أحدهم إلا قام مقامه آخر من سائر الناس (بدل).

١٢

فانظر هذا الأمر كيف صار كلام الناس بالنسبة إلى كلام الحوراء الذى هو من جنس كلامهم أدنى وأقبح من صوت الحمير والكلاب بالنسبة إلى كلام الناس ؛ إذ لا تجد من يتقيأ من سماع صوت الحمير أو الكلاب ، ولو سمعته إثر سماعك أفصح كلام وأعذبه ، فكيف نسبة كلام الخلق إلى كلام الخالق الذى جلّ عن المثل فى ذاته وصفاته وأفعاله.

وقال أيضا رضى الله عنه : دخلت مسجد نبىء بالإسكندرية بالديمان (١) ، فوجدت النبيء المدفون هناك قائما يصلى ، عليه عباءة مخططة ، فقال : تقدم فصل. قلت له : تقدم أنت فصل. قال : إنكم من أمة نبىء لا ينبغى لنا التقدم عليه. قال : قلت له : بحق هذا النبى ـ وقد وضع فمه على فمى إجلالا للفظه النبى كى لا تبرز فى الهواء. قال : فتقدمت وصليت.

فانظر إلى هذا المصاب الحالّ بنا فى عدم احترامنا لذكر هذا الرسول والكتاب المنزل عليه ، فقف به على قدم الاعتذار ، واكشف رأس التّجبّر والاستكبار ، وناد بلسان الاضطرار (٢) : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) لعلك تسمع كلامه إذ تشفعت إليه بكلامى فأنت من المقبولين ، وتنال بذلك الفوز مع الذين أنعم الله عليهم [٤ ب] من النبيين والصديقين ، وحاشاك نسيان أخيك الجالب لك من أسرار كلامه تعالى ما تزيد فيه حلاوته والنظر فيه يزيدك له محبة.

__________________

(١) فى ا : بالدبعات!

(٢) الأعراف : ٢٣.

١٣

الوجه الأول من وجوه اعجازه

[العلوم المستنبطة منه]

وكيف لا وقد احتوى على علوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ، ولا أحاط بعلمها أحد فى كلمات قليلة وأحرف معدودة. قال تعالى (١) : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ). وقال (٢) : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ستكون فتن. قيل : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله ؛ فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم. أخرجه الترمذى وغيره.

وأخرج سعيد بن منصور ، عن ابن مسعود ، قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن ؛ فإن فيه علم الأولين (٣) والآخرين.

قال البيهقى (٤) : يعنى أصول العلم.

وأخرج البيهقى عن الحسن ، قال : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة منها : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ؛ ثم أودع علوم الثلاثة فى الفرقان.

وقال الإمام الشافعى رضى الله عنه : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن.

وقال أيضا : جميع ما حكم به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن.

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) فى الإتقان : خبر

(٤) هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن على بن عبد الله البيهقى ، صاحب كتاب السنن ، ودلائل النبوة ، وغيرهما. توفى سنة ٤٥٨ (طبقات الشافعية : ٣ ـ ٣).

١٤

ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى لا أحلّ إلا ما أحلّ الله فى كتابه ، ولا أحرّم إلا ما حرم الله فى كتابه. أخرجه بهذا اللفظ الشافعى فى الأم.

وقال سعيد بن جبير : ما بلغنى حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه إلا وجدت مصداقه فى كتاب الله.

وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله. أخرجهما ابن أبى حاتم.

وقال الشافعى أيضا : ليست تنزل بأحد فى الدين نازلة إلا وفى كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.

فإن قيل : من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة؟ قلنا : ذلك مأخوذ من كتاب الله فى الحقيقة ؛ لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرض علينا الأخذ بقوله.

وقال الشافعى مرة بمكة : سلونى عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله. فقيل له : ما تقول فى المحرم يقتل الزّنبور؟ فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (١) ، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعىّ بن حراش (٢) ، عن حذيفة بن اليمان عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدى : أبو بكر وعمر.

وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب ـ أنه أمر بقتل المحرم الزنبور.

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) بحاء مهملة مكسورة وراء مفتوحة وشين معجمة (الإكمال ١ ـ ١٩٧).

١٥

وأخرج البخارى عن ابن مسعود أنه قال (١) : لعن الله الواشمة والمستوشمة ، والمتنمّصات والمتفلّجات (٢) للحسن ، المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد (٣) ، فقالت له : بلغنى أنك لعنت كيت وكيت! فقال : وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فى كتاب الله؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت (٤) : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). قالت : بلى. قال : فإنه قد نهى عنه.

وحكى ابن سراقة فى كتاب الإعجاز عن أبى بكر بن مجاهد ـ أنه قال : ما شىء فى العالم إلا وهو فى كتاب الله عزوجل ؛ فقيل (٥) : فأين ذكر الخانات؟ قال فى قوله عزوجل (٦) : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ). فهى الخانات. وقال ابن برّجان (٧) : ما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شىء فهو فى القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد ، فهمه من فهمه ، وعمى عنه من عمى (٨) ، وكذا كل ما حكم أو قضى به ، وإنما يدركه الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٦٧٨.

(٢) الواشمة : فاعلة الوشم. والطالبة للوشم مستوشمة. والنامصة : التى تزبل الشعر من الوجه. والمتنمصة : هى التى تطلب فعل ذلك بها. والمتفلجات المراد مفلجات الأسنان بأن تبرد ما بين أسنانها الثنايا والرباعيات ، وهو من الفلج ، وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها فى السن إظهارا للصغر وحسن الأسنان.

(٣) فى مسلم : يقال لها أم يعقوب.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) فى ا : فقال.

(٦) النور : ٢٩.

(٧) فى ا : جرجان ، وفى الإتقان : برهان ـ تصحيف ، وهو عبد السلام بن عبد الرحمن أحد أئمة اللغة والنحو فى زمانه توفى سنة ٦٢٧ (بغية الوعاة ٣٠٦).

(٨) فى ا : وعمه عنه من عمه. والعمة محركة : التردد فى الضلال والتحير فى منازعة أو طريق ، أو ألا يعرف الحجة.

١٦

وقال غيره : ما من شىء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهّمه الله ، حتى إن بعضهم استنبط عمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله فى سورة المنافقين (١) : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها). فإنها رأس ثلاث (٢) وستين سورة وأعقبها بالتغابن (٣) فى فقده.

وقال ابن أبى الفضل المرسى (٤) : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا واهبها والمتكلم بها ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر به سبحانه [٥ ا] ؛ ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ، مثل الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، حتى قال : لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله.

[استنباط العلوم منه]

ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضعفوا عن حمل ما حمله (٥) الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، فنوعوا (٦) علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه ، فاعتنى قوم بضبط لغاته ، وتحرير كلماته ، ومعرفة مخارج حروفه ، وعد (٧) كلماته وآياته وسوره ، وأحزابه ، وأنصافه وأرباعه ، وعدد سجداته ، والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك ؛ من حصر الكلمات المتشابهة ، والآيات المتماثلة ، من غير تعرض لمعانيه ، ولا تدبر لما أودع فيه ، فسموا القراء.

__________________

(١) آية ١١

(٢) فى ا : فإنه ثلاث.

(٣) فى الإتقان : وأعقبها بالتغابن ليظهر التغابن فى؟ فقده؟. وسورة المنافقون هى السورة الثالثة والستون ، وسورة التغابن جاءت بعدها.

(٤) فى تفسيره (الإتقان : ١٢٦).

(٥) فى ا : عن حل ما أحله ...

(٦) فى ب : فيدعوا.

(٧) فى ا : وعدد. وفى الاتقان : وعددها.

١٧

واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنى من الأسماء وتوابعها ، وضروب الأفعال ، والحروف العاملة وغيرها ، وأوسعوا الكلام فى الأسماء وتوابعها ، وضروب الأفعال واللازم والمتعدى ، ورسوم خط الكلمات ، وجميع ما تعلق به ؛ حتى إن بعضهم أعرب مشكله ، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.

واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ، ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ، فأجروا الأول على حكمه ، وأوضحوا معنى الخفى منه ؛ وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى ، وأعمل كلّ فكره ، وقال بمقتضى نظره.

واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية ، والشواهد الأصلية والنظرية ؛ مثل قوله (١) : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ؛ فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده ، وقدمه ، وبقائه ، وقدرته وعلمه ، وتنزيهه عما لا يليق به ؛ وسموا هذا العلم بأصول الدين.

وتأملت (٢) طائفة منهم معانى خطابه ، فرأت منها ما يقتضى العموم ، ومنها ما يقتضى الخصوص إلى غير ذلك ؛ فاستنبطوا منها أحكام اللغات من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا فى التخصيص والإخبار ، والنص والظاهر والمجمل ، والمحكم والمتشابه ، والأمر والنهى ، والنسخ ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة ، واستصحاب الحال والاستقراء ، وسموا هذا الفن أصول الفقه.

وحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام ، وسائر الأحكام ؛ فأسسوا (٣) أصوله ، وفرّعوا فروعه ، وبسطوا القول فى ذلك بسطا حسنا ؛ وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضا.

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢

(٢) فى ب : ونالت. وفى ا : وتناولت.

(٣) فى ب. فاستثبتوا.

١٨

وتلمّحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية ، ونقلوا أخبارهم. ودوّنوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء ، وسموا ذلك بالتاريخ والقصص.

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التى تقلقل قلوب الرجال ، وتكاد تدكدك الجبال ؛ فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد ، والتحذير والتبشير ، وذكر الموت والمعاد ، والنشر والحشر ، والحساب والعقاب ، والجنة والنار ، فصولا من المواعظ ، وأصولا من الزواجر ؛ فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.

واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد فى قصة يوسف فى البقرات السّمان ، وفى منامى صاحبى السجن ، وفى رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة ؛ وسموه تعبير الرؤيا ؛ واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب (١) ؛ فإن عزّ عليهم إخراجها منه فمن السنة التى هى شارحة للكتاب ، فإن عسر فمن الحكم والأمثال ، ثم نظروا إلى اصطلاح (٢) العوام فى مخاطباتهم وعرف عاداتهم الذى أشار إليه القرآن بقوله (٣) : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ).

وأخذ قوم ما فى آية المواريث من ذكر السّهام وأربابها وغير ذلك ، وسموه علم الفرائض ، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثّمن حساب الفرائض ومسائل العول ، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.

ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة ، فى الليل والنهار ، والشمس والقمر ومنازله ، والنجوم والبروج ، وغير ذلك ؛ فاستخرجوا منه علم المواقيت.

__________________

(١) فى ب : الكتب.

(٢) فى ا : إصلاح.

(٣) الأعراف : ١٩٩

١٩

ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ ، وبديع النظم ، وحسن السياق ، والمبادى [ه ب] والمقاطع ، والمخالص ، والتلوين فى الخطاب ، والإطناب والإيجاز ، وغير ذلك ؛ فاستنبطوا منه المعانى والبيان والبديع.

ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها ، مثل الفناء والبقاء والحضور ، والخوف ، والهيبة ، والأنس والوحشة ، وانقبض والبسط ، وما أشبه ذلك ـ (١) هذه الفنون التى أخذتها الملة الإسلامية منه.

وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل ، مثل الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة ، والجبر ، والمقابلة ، والنجامة ، وغير ذلك.

أما الطبّ فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة ؛ وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة. وقد جمع ذلك فى آية واحدة ، وهى قوله (٢) : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

وعرّفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله ، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله فى قوله (٣) : (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). ثم زاد على طب الأجساد طبّ القلوب وشفاء الصدور.

وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التى ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بثّ فيها فى العالم العلوى والسفلى من المخلوقات.

وأما الهندسة ففي قوله (٤) : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ...) الآية.

__________________

(١) هى كذلك فى الأصول ، والاتقان.

(٢) الفرقان : ٦٧

(٣) النحل : ٦٩

(٤) المرسلات : ٣٠

٢٠