معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٣

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٧

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حرف الفاء

(فِسْقٌ) : أصله الخروج ، وتارة يرد بمعنى الكفر ، وبمعنى العصيان ؛ وكلّ خارج عن أمر الله فهو فاسق. يقال فسقت الرّطبة إذا خرجت عن قشرها.

(فَما فَوْقَها)(١) : الضمير راجع للبعوضة. ولما ذكر الله فى القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفّار ذلك. فأنزل الله (٢) : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

قال قطرب : الحروف المقطعة والأمثال وضعها الله لإطفاء شغف الكفار حيث قالوا (٣) : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) ؛ فوضع الله هذه الحروف والأمثال يسمعونها ، لأنها عربية لم يسمعوها قبل ذلك ، ثم يبلغ الرسول رسالته بعد ذكرها ذلك.

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها)(٤) ؛ أى عن الجنة أو عن الشجرة ؛ والزلل متعد من زلل القدم. وأزلهما بالألف من الزوال ، وضمير التثنية لآدم وحواء ؛ وكذا (٥) فأخرجهما مما كانا فيه.

والصحيح كما قدمنا أن آدم أكل منها نسيانا ، وحلف له إبليس ، فظنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٦

(٢) البقرة : ٢٦

(٣) فصلت : ٢٦

(٤) البقرة : ٣٦

(٥) فى إعادة الضمير على آدم وحواء.

٣

أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا ، فجعل الله له الأكل من الشجرة سببا فى إخراجه من الجنة ؛ لحكم ؛ منها :

أنه كان فى حكمة الحكيم أن يكون خليفة فى الأرض ، ويقوم فيها ؛ فأراد آدم أن يقيم فى الجنة ، فجعل الله بأكل الحنطة وتناولها سببا لخروجه من الجنة ؛ لينفذ ما قضى وقدّر.

وكذلك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يكون مقامه بمكة ، وكان فى حكمة الحكيم أن يمكث فى المدينة مدة ، ويعلى كلمته فيها ، فجعل جفاء المشركين سببا لخروجه منها ؛ لسبق مقاديره إلى مواقيتها.

كذلك العبد المخلص يريد أن يكون فى طاعة ربه ، ولا يقع فى مخالفته ؛ وكان فى حكمة الحكيم أن يكون غفورا وغافرا وغفّارا ؛ فجعل خذلان العاصى سببا لخروجه عن أمره ، ثم يمنّ عليه بالتوبة ، فيتداركه برحمته ، فيظهر حكمته وتقديره ، ويبدى للعالمين غفرانه.

ومنها (١) لكون الكفّار فى صلبه إذ لم تكن الجنة محلا للكافرين ؛ وكذلك المؤمن يخرجه من النار لكون المعرفة فى قلبه ؛ إذ ليست النار محلّا للعارفين.

ومثال المؤمن والكافر فى صلب آدم كتاجر أخفى المسك فى وسط البحدق (٢) حتى لا يحسّ به قاطع الطريق ، فإذا بلغ المأمن كان المسك قد أخذ بطرف من رائحة البحدق. وكذلك البحدق تعلق به شىء من رائحة المسك ،

__________________

(١) من حكم إخراج آدم من الجنة.

(٢) فى ا : الانجداق. والبحدق ـ كعصفر : بذر قطونا. (القاموس).

٤

فيبسطهما على بساط فتهبّ الرياح فتتلاشى الروائح المستعارة ، كلّ رائحة تعود إلى أصلها ، فيبقى الأصل على ما خلق عليه. فكذلك الكافر والمؤمن فى صلب آدم ؛ فأصاب الكافر رائحة من المؤمن ، فيعمل منها الحسنات ، وأصاب المؤمن رائحة من الكافر فيعمل منها السيئات ؛ فإذا كان يوم القيامة يجمعهم الله فى بساط واحد ، فتهبّ رياح القيامة ، فترجع حسنات الكافر إلى المؤمن ، ويرث بها منزله فى الجنة ، وسيئات المؤمن إلى الكافر ويرث بها منزله فى النار [٢١٨ ا] فتتلاشى العوارى ، وتبقى الأصول على ما قدّر وقضى ؛ قال تعالى (١) : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). وقال (٢) : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ).

ومنها أنه كان فى خروجه من الجنة رحمة من الله له وإكراما بالنبوءة والتكاليف. والفائدة فيه أنه يرحم من عصاه فى جواره ، فالأولى ألّا يعاقب من عصاه فى جوار إبليس.

قيل : إنه قال : يا رب ، إنى أستحى من ولد محمد. فقال له : سأمهّد له عذرك ؛ فقال (٣) : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ؛ أى لم يعتقد الذنب ، ولم يثبت عليه ؛ بل اعتذر وندم. وكذلك مهّد الله عذر هذه الأمة المحمدية بقوله (٤) : (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ). وقال (٥) : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً). ((٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ). أدبك بأوامر ولم يرض أن يعاتبك غيرة منه إليك ، فاعتذر منك إليك.

((٧) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ، أى أخذ ، قيل ، على قراءة الجماعة. وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات ؛ فتلقى على هذا من اللقاء ،

__________________

(١) الأنفال : ٣٧

(٢) العنكبوت : ١٣

(٣) طه : ١١٥

(٤) النحل : ١١٩

(٥) النساء : ٢٨

(٦) الأنبياء : ٣٧

(٧) البقرة : ٣٧

٥

والكلمات هى قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ، بدليل ورودها فى الأعراف. وقيل غير ذلك.

وهذه إحدى الخصائص التى خصّ الله آدم بها ؛ خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وأمرهم بحمله إلى الجنة على أكتافهم ، وعلّمه أسماء كلّ شىء ، ثم عرضهم على الملائكة ، وأدخله الجنة بغير عمل إلا أمره بالصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلّمه مواجهة. ولما عطس قال : الحمد لله ، فأجابه الله بقوله : يرحمك الله ؛ يا آدم لهذا خلقتك. فهذا معنى قوله تعالى (١) : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ).

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً)(٢) : إن شرطية ، وما زائدة للتأكيد. والهدى هنا يراد به كتاب الله ورسالته.

(فَمَنْ تَبِعَ)(٣) ـ شرط ، وهو جواب الشرط الأول. وقيل : (فَلا خَوْفٌ) جواب الشرطين.

واعلم أنّ الكتاب كتابان : كتاب من الله إليك ، وكتاب منك إليه بيد الحفظة ؛ فإذا قبلت كتابه الذى فيه الأمر والنهى ، والوعد والوعيد ، ونزول البلاء عليك ، ووجود الرضا منك ؛ وإن كان فيه ما يخالف هواك ؛ أفتراه لا يقبل كتابك فى يوم القيامة وإن كان مملوءا زلّات ؛ وهى لا تضره؟ ألا تراه يقول فى إبراهيم (٤) : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). واصطفاك أنت بكتابه ، قال تعالى (٥) : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا).

__________________

(١) هود : ١١٠

(٢) البقرة : ٣٨

(٣) البقرة : ٣٨

(٤) البقرة : ١٣٠

(٥) فاطر : ٣٢

٦

والاصطفاء فعل الله ، وفعل الله مبنىّ على الابتداء ؛ قال تعالى (١) : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

والصلاح فعل العبد ، وفعل العبد مبنى على الخواتم ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأعمال بالخواتم.

وأعلم أنّ من سأل الله شيئا سأل الله منه ، فمن لا يقوم لله فيما سأل منه لا يعطيه ما يسأل ، ومن قام لله فيما سأل منه أعطاه بلا مؤنة ؛ ألا ترى أن الله أعطى لإبراهيم المال فى الدنيا والولد والمعجزات بغير سؤال ، فلما سأل إبراهيم بقوله (٢) : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ـ سأل منه الكلّ ، فقال له : أسلم ، أى الكل إلى الكل ، إن أردت الوصول إلى الكل. ولما سأل منه إحياء الموتى سأل الله منه إماتة الحى ؛ ألا ترى أنه قال (٣) : (فَلَمَّا أَسْلَما) ـ يعنى وضع السكّين على حلقه قال : إلهى بك ولك وإليك ؛ أى بك الصبر على فراقه ، ومنك إعطاؤه ، ولك الحكم فيه ، وإليك يرجع الأمر كله.

فإن قلت : ما الحكمة فى جزع إبراهيم وصبر إسماعيل؟

والجواب : إسماعيل عرف ـ برؤية المعرفة ـ أن إبراهيم إنما ابتلى بذبه ، لأنه التفت بقلبه عن الله ، فلو أنّ الولد التفت بقلبه لابتلى كما ابتلى إبراهيم. وأيضا جزع إبراهيم على مفارقة حبيب لم يكن له وصلة فى ذلك الوقت إلى من هو أحبّ إليه منه. وإبراهيم لم يجزع ؛ لأنه وصل إلى الحبيب المجازى.

وقيل لما وضع السكين على حلقه أراه الله نورا من أنواره أنساه ما يجد من الألم لوجود لذة ذلك النور ؛ كنساء مصر اللواتى قطّعن أيديهن برؤية يوسف.

__________________

(١) الأعراف : ٢٩

(٢) الصافات : ٩٩

(٣) الصافات : ١٠٣

٧

وقيل إن الله قال له : يا إبراهيم ، جزعت على مفارقة حبيب زائل عنك ، وضاق ذرعك به ، فكيف بمفارقة الحبيب الباقى؟ فكان جزعه لهذا السبب لا للولد.

(فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(١) ؛ أى عالم أهل زمانهم ؛ لأنه يجب الاعتقاد بتفضيل هذه الأمة المحمدية لفضل نبيهم.

قيل : أعطى الله الكليم عشر معجزات ، وأكرم قومه بعشر كرامات ، وشكى عليهم بعشر شكيات ، وعاقبهم بعشر عقوبات :

أول المعجزات (٢) : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ، وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ ، وَالضَّفادِعَ ، وَالدَّمَ) ، والعصا ، واليد (٣) ، والحجر ، والألواح ، والصّحف.

وأما الكرامات : وإذ أنجيناكم. وإذ فرقنا بكم البحر. ثم بعثنا كم من بعد موتكم. وظللنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى ثم عفونا عنكم من بعد ذلك فتاب عليكم. يغفر لكم خطاياكم. قد علم كلّ أناس مشربهم. وإذ آتينا موسى الكتاب.

والشكيّات : ثم اتخذتم العجل. قالوا أرنا الله جهرة. فبدّل الذين ظلموا قولا. ادع لنا ربّك. ثم يحرّفونه. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك. فيما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق (٤).

والعقوبات : ضربت (٥) عليهم الذّلة والمسكنة. والجزية. وباءوا (٦) بغضب من الله. فاقتتلوا أنفسكم. يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٠

(٢) الأعراف : ١٣٣

(٣) خرجت بيضاء من غير سوء.

(٤) هذه تسعة لا عشرة وقد سبق فى صفحة ٦٢١ من الجزء الأول. وزاد هناك : لن نصبر على طعام واحد. سمعنا وعصينا. توليتم من بعد ذلك. ولم يذكر هناك : ادع لنا ربك. فبما نقضهم ميثاقهم.

(٥) البقرة : ٦١

(٦) آل عمران : ١١٢

٨

كونوا قردة خاسئين. فأرسلنا عليهم رجزا من السماء. والله محرج ما كنتم تكتمون.

(فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ)(١) ؛ أى جعلناه فرقا ، اثنى عشر طريقا على عدد الأسباط. والبحر المراد به القلزم.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)(٢) : روى أنّ من يعبد العجل قتل من عبده حتى بلغ القتل فيهم سبعين ألفا ، فعفا الله عنهم.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ)(٣) : قبله محذوف لدلالة الكلام عليه ، وهو فحوى الخطاب ؛ أى فعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم.

(فَانْفَجَرَتْ)(٤) : قبله محذوف تقديره : فضربه فانفجرت ، أى سالت. ومنه انفجر ؛ وكان هذا الاستسقاء فى فحص التّيه ، وكان الحجر من جبل الطور ، وهو المشهور ؛ لأنه أبلغ فى الإعجاز ؛ ولهذا كانوا يجدونه فى كل مرحلة.

ولا خلاف أنه كان حجرا مربّعا منفصلا له أربع جهات كانت تنبع من كلّ جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى عليه‌السلام ، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفّت العيون.

وقيل إن هذا الحجر هو الذى وضع موسى ثوبه عليه ففرّ بثوبه ، ومرّ على ملأ من بنى إسرائيل حين رموه بالأدرة (٥) ، فلما وقف أتاه جبريل عليه‌السلام ، فقال له : إن الله تعالى يقول لك : ارفع هذا الحجر ، فإنّ لى فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ؛ فرفعه ووضعه فى مخلاته. وكان موسى ضربه اثنتى عشرة ضربة ،

__________________

(١) البقرة : ٥٠

(٢) البقرة : ٥٤

(٣) البقرة : ٥٤

(٤) البقرة : ٦٠

(٥) الآدر والمأدور : من يصيبه فتق فى إحدى خصيتيه (القاموس).

٩

فيظهر بكل ضربة مثل ثدى المرأة فيعرفه فتنفجر الأنهار منه ، ثم يسيل الماء.

فإن قلت : هل الانفجار والانبجاس (١) بمعنى واحد ؛ لأنه اختلف التعبير بهما (٢)؟

والجواب أنّ الانبجاس أقلّ من الانفجار ؛ لأن الانفجار انصباب الماء بكثرة ؛ والانبجاس ظهور الماء ؛ فالواقع هنا طلب موسى عليه‌السلام من ربه ؛ قال تعالى (٣) : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ). فطلبهم ابتداء فقيل ـ إجابة لطلبه : فانفجرت ، مناسبة لذلك. وفى الأعراف طلب بنو إسرائيل من موسى عليه‌السلام السقى ؛ قال تعالى (٤) : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) ؛ فقيل ـ جوابا لطلبهم : فانبجست ؛ فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغاية.

واعلم أنّ الله تعالى وضع الدولة على ثلاثة أحجار ، [والقدرة فى ثلاثة أحجار](٥) ، والملك فى ثلاثة أحجار ؛ أما الدولة فوضعها فى الكعبة ، وجعلها موضع طواف المؤمنين. وجعل مقام إبراهيم قبلة للمؤمنين. والحجر الأسود جعله بينه وبين خلقه عهدا وشهيدا.

وأما القدرة فوضعها الله فى حجر موسى ، وحجر ناقة صالح ، وحجر موسى الذى برّأه الله بسببه مما قالوا.

وأما الملك ففي خاتم سليمان ، وصخرة بيت المقدس ، وحجر داود.

وبالقدرة يخرج من الحجر الماء والذهب والنار.

__________________

(١) فى سورة الأعراف (١٦٠) : أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينا.

(٢) تفسير ابن كثير : ١ ـ ١٠١ ، والكشاف : ١ ـ ٥٧

(٣) البقرة : ٦٠

(٤) الأعراف : ١٦٠

(٥) زيادة يقتضيها الشرح الآتى.

١٠

(فَكُلُوا) : خطاب لبنى إسرائيل ؛ وجاء هنا بالفاء (١) التى للترتيب ؛ لأن الأكل بعد الدخول فيها ، وجاء فى الأعراف بالواو (٢) بعد قوله : اسكنوا ؛ لأنّ الأكل مقارن للسكنى.

(فارِضٌ)(٣) : مسنّة. وبكر : صغيرة.

(فاقِعٌ)(٤) : شديد الصفرة.

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها)(٥) ؛ أى اختلفتم ، وهو من المدارأة ؛ أى المدافعة.

(فَذَبَحُوها)(٦) ، من الذبح الذى هو قطع الحلقوم والودجين (٧). وبهذا استدل من قال بذبح البقرة ولا يجزئ غيره.

(فَأَتَمَّهُنَّ)(٨) ؛ يعنى وفى بهن. ولما ادّعى محبة الله تعالى ابتلاه بعشر : خمس فى الرأس ، وخمس فى الجسد ؛ فأتمهنّ ؛ أى وفى بهن.

وقال بعض : هو على الظاهر ، وتحت كلّ واحدة منهن إشارة.

وقيل أراد بالكلمات الدعوات ؛ وهى قوله (٩) : (رَبَّنا [٢١٩] إِنِّي أَسْكَنْتُ). ولا تخزنى.

وقيل ابتلى بالنار ، فقال : حسبى الله.

وقيل : لما وضع السكين على حلق إسماعيل قال : منك ما أرى ، ومنّى ما ترى ؛ فأنجاه الله بهذه الكلمات.

__________________

(١) آية البقرة (٥٨) : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم. وآية الأعراف (١٦١) : وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها.

(٢) آية البقرة (٥٨) : وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم. وآية الأعراف (١٦١) : وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها.

(٣) البقرة : ٦٨

(٤) البقرة : ٦٩

(٥) البقرة : ٧٢

(٦) البقرة : ٧١

(٧) الودج ـ محركة : عرق فى العنق.

(٨) البقرة : ٢٤

(٩) إبراهيم : ٣٧

١١

وقيل : غير هذا.

قال بعضهم : ابتلى الله خليله بعشرة أشياء ، ثم أثنى عليه بعشرة ؛ ثم أعطاه عشرة.

أما الابتلاء فهو مناظرة النّمرود ، والكوكب والقمر والشمس ، وبكسر الأصنام ، ومناظرة الأب ، وبالهجرة ، وبنار النّمرود ، وبذبح الولد ، وبالإخلاص فى قول الله له : أسلم. وبالعشر كلمات ، وبالملائكة الذين بعثهم الله إليه شبه المجوس يعرض عليهم الإيمان.

وأما الثناء عليه فسمّاه أمّة قانتا لله حنيفا ، شاكرا لأنعمه ، وفيّا صديقا نبيئا قيما ، أوّابا منيبا.

واصطفاه بالاجتباء والاهتداء ، والبركة والبشارة بإسحاق ، والحجة على قومه ، والإمامة والمقام ، ونسبة الأمة المحمدية ، على جميعهم السلام ، والخلّة فى قوله تعالى (١) : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً).

((٢) فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ...) الآية. فيها تأويلان.

أحدهما أنّ المعنى من قتل فعفى عنه فعليه أداء الدية بإحسان ؛ وعلى أولياء المقتول اتّباعه بها بمعروف ؛ فعلى هذا «من» كناية عن القاتل ، وأخوه هو المقتول أو وليّه. وعفى من العفو عن القصاص. وأصله أن يتعدى بعن ؛ وإنما تعدّى هنا باللام ؛ لأنه كقولك : تجاوزت لفلان عن ذنبه.

والثانى أنّ المعنى إنّ من أعطيته الدية فعليه اتباع بمعروف ، وعلى القاتل أداء بإحسان ؛ فعلى هذا «من» كناية عن أولياء المقتول ، وأخوه هو القاتل أو عاقلته ، وعفى بمعنى يسر ؛ كقوله (٣) : (خُذِ الْعَفْوَ) ؛ أى تيسّر.

__________________

(١) النساء : ١٢٥

(٢) البقرة : ١٧٨

(٣) الأعراف : ١٩٩ ، وفى القرطبى (٧ ـ ٣٤٦) : أى اقبل من الناس ما عفا لك من أخلافهم وتيسر.

١٢

ولا إشكال فى تعدّى عفا بإلى على هذا المعنى.

((١) فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ؛ أى قتل قاتل وليّه بعد أخذ الدية منه فله القصاص منه. وقيل عذاب الآخرة.

((٢) فَمَنْ تَطَوَّعَ) ؛ أى صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة. وذلك على القول بالنسخ. وقيل تطوّع بالزيادة فى مقدار الطعام ، وذلك على القول بعدم النسخ.

((٣) فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ؛ أى كان حاضرا غير مسافر. والشهر منصوب على الظرفية. والمراد به شهر رمضان المتقدم.

((٤) فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) ؛ أى فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة.

((٥) فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) : تسمية العقوبة باسم الذنب ؛ أى قاتلوا من قاتلكم ، ولا تبالوا بحرمة صدّكم عن مكة.

((٦) فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) : وأقلّ ذلك شاة تذبحونها.

((٧) فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) : نزلت فى كعب بن عجرة لما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لعلك تؤذيك هوامّ رأسك؟ فقال : نعم. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك (٨) بشاة ؛ فمعنى الآية : إنّ من كان فى الحج واضطره مرض أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النّحر جاز له حلقه ؛ وعليه صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، حسبما فسّر فى الحديث.

__________________

(١) البقرة : ١٧٨

(٢) البقرة : ١٨٤

(٣) البقرة : ١٨٥

(٤) البقرة : ١٨٦

(٥) البقرة : ١٩٤

(٦) البقرة : ١٩٦

(٧) البقرة : ١٩٦

(٨) الفعل كعنصر وكرم.

١٣

وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التى يمنع الحج منها ، إلا الصيد ووطء النساء.

وقاس الظاهرية ذلك على حلق الرأس ؛ ولا بد فى الآية من مضمر لا يستقلّ الكلام دونه ؛ وهو المسمى فحوى الخطاب ؛ وتقديره : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه فدية.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(١) : قد قدمنا مرارا أنّ منزلة العبد من الله حيث أنزله العبد ؛ ولهذا لما قال داود : يا رب ، كن لسليمان كما كنت لى. فأوحى الله إليه : قل له يكون لى كما كنت لى أكون له كما كنت لك.

وقد أمرنا الله بهذا فى آيات من كتابه ؛ قال تعالى : " وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم". فافسحوا يفسح الله لكم. إن تنصروا الله ينصركم. يحبّهم ويحبّونه. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

وقد اختلفت الأقاويل فى قوله : اذكرونى أذكركم ـ نحوا من أربعين قولا ؛ فإن ذكرته بالإيمان يذكرك بالجنة ؛ لقوله : " وعد الله المؤمنين". وإن ذكرته بالاسترجاع يذكرك بالرحمة. وإن ذكرته بالاستغفار يذكرك بالمغفرة. وإن ذكرته بالإنفاق يذكرك بالخلف. وإن ذكرته بالشكر يذكرك بالزيادة. وإن ذكرته بالصبر [٢١٩ ب] يذكرك بالأجر. وإن ذكرته بالتقوى يذكرك بالفرج. وإن ذكرته بالتوكّل يذكرك بالكفاية. وإن ذكرته بالتوبة يذكرك بالقبول. وإن ذكرته بالدعاء يذكرك بالإجابة. وإن ذكرته بالمجاهدة يذكرك بالهداية. وإن ذكرته بالطاعة يذكرك بالمودّة. وإن ذكرته بالسجود

__________________

(١) البقرة : ١٥٢

١٤

يذكرك بالقرب. وإن ذكرته بالإحسان يذكرك بالرحمة. وإن ذكرته بالاستقامة يذكرك بالأمن. وإن ذكوته بالقرض يذكرك بالتضعيف. وإن ذكرته بالفرائض يذكرك بالفلاح. وإن ذكرته بالخشية يذكرك بالفوز. وإن ذكرته بالاعتصام يذكرك بالنصر. وإن ذكرته فى نفسك ذكرك فى نفسه. وإن ذكرته فى ملأ ذكرك فى ملأ خير من ملئك. وإن ذكرته بالنوافل ذكرك بالمحبة. وإن تقرّبت إليه شبرا تقرّب منك باعا. وإن أتيته مشيا أتاك هرولة. وإن أتيته بقراب (١) الأرض خطيئة ولم تشرك به أتاك بمثلها مغفرة ؛ وهو الغفور الرحيم.

وفى التوراة : يا ابن آدم أظهرت الذنوب معى وأخفيتها عن الخلق ، وأبديت الحسنات لخلقى ولم تخلصها لى ، وأكلت رزقى ولم تشكرنى ، وبارزتنى بالمعاصى ولم تستح منّى ، ولم تحذرنى ؛ أمّا ما أظهرت من الذنوب فقد غفرتها لك ، وما أتيت من الحسنات بغير إخلاص فقد قبلتها منك ، وما أكلت من رزقى ولم تشكرنى فلم أحرمك الزيادة ، وما بارزتنى به ولم تستح منى فأنا أستحى أن أعذّبك بعد شهادتك لى بوحدانيتى ، وأنا الغفور الرحيم.

فتأمّل أيها العاصى هذه الكرامات التى أكرمك بها ، دعاك أولا بنفسه بقوله : والله يدعو إلى دار السلام ؛ من دار أوّلها بكاء ، وأوسطها عناء ، وآخرها فناء ، إلى دار أولها عطاء ، وآخرها لقاء ؛ وهى أحسن البنيان المسدس ؛ فإن الله خلقك مسدّسا ؛ فخمسة منها يدعوك إلى خمس جهات والله سادسهم : يدعوك من تلك الجهات كلّها إليه ؛ فالأمل يدعوك من بين يديك ، والشيطان يدعوك من خلفك ، والهوى يدعوك عن يسارك ، والشهوة عن يمينك ، والدنيا

__________________

(١) قراب الشيء بالكسر ، وقرابة ، وقرابته ـ بالضم : ما قارب قدره (القاموس).

١٥

تحتك ؛ والله من فوقك ؛ فذلك قوله (١) : (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ).

فإن كانت همتك فى دار الأشجار والبساتين والأنهار فقد دعاك لذلك بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). وإن كانت همتك الطعام والشراب فقد دعاك لذلك بقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا). ((٢) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ). (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٣). وإن كانت همتك التمتع بالنسوان فقد دعاك لذلك بقوله : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ، لو تفلت إحداهنّ على البحر لعذب ، ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاء ما فيها. وإن كانت همتك اللباس فقد رغّبك بقوله (٤) : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). وإن كانت همتك الغلمان والولدان فقد رغّبك بقوله (٥) : (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ). ((٦) غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ).

وإن كانت فى المشرب والخمور فقد ذكر لك أنّ فيها أنهارا من خمر لذة للشاربين. وإن كانت همتك رضاه والنظر إليه فقد دعاك فى مواضع من كتابه ، وحرّضك عليه ، فما ظنّك بربّ كريم يدعوك للضيافة وتقبّل دعوته ؛ أتراه لا يرضيك ، وقد بعث إليك الملائكة تبشّرك حين نزعك ، وأعطاك فى حياتك مراكب الجمال إلى بيته ، وأعناق الرجال إلى قبرك ، والبراق إلى حشرك ، قال تعالى (٧) : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً).

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٨) : هذا من رحمة الله بهذه الأمة ؛ حيث أباح لها التفريق فى قضاء رمضان ، وهو من خصائص هذه الأمة ، قال تعالى (٩) : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) المجادلة : ٧

(٢) الزخرف : ٧١

(٣) الواقعة : ٢١

(٤) الحج : ٢٣

(٥) الواقعة : ١٧

(٦) الطور : ٢٤

(٧) مريم : ٨٥

(٨) البقرة : ١٨٤

(٩) البقرة : ٨٣

١٦

الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

فإن قلت : قد قلتم : إنّ هذا الصيام من خصائص هذه الأمة ، فما معنى الصيام على غيرها؟

فالجواب أنه اختلف : فقيل ثلاثة أيام من كلّ شهر. وقيل : عاشوراء [٢٢٠ ا] ؛ ففي هذه الآية الشريفة نرى عذرين ونهيين ونسخين ورحمتين وكرامتين.

أما العذران فقوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). والثانى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ؛ أى قليلة تمضى سريعا.

وأما النّسخان فقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) ، أى فى بدء الإسلام إنّ من لم يصم ثم أطعم لم يكن له (١) بذلك.

والثانى أن المجامعة كانت حراما فى ليالى رمضان ، فأباح الله لهم بسبب عمر (٢) قوله (٣) : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ يعنى الجماع.

وأما الأمران فقوله (٤) : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ؛ وقوله (٥) : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).

وأما النّهيان ففي المؤاكلة والمجامعة بالنهار ؛ وهو قوله (٦) : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

__________________

(١) فى ابن كثير (١ ـ ٢١٥) : كان من أراد أن يفطر افتدى حتى نزلت الآية.

(٢) فى ابن كثير (١ ـ ٢١٤) : كان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبى فذكر له ذلك ، فأنزل الله عزوجل : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ...

(٣) البقرة : ١٨٧

(٤) البقرة : ١٨٥

(٥) البقرة : ١٨٥

(٦) البقرة : ١٨٧

١٧

وأما الرحمتان : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ؛ فرخّص له فى الإفطار والقضاء بأيام أخر.

وأما الكرامتان فقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ). وليلة القدر التى هى خير من ألف شهر ؛ فالصيام أفضل الطاعات ؛ لأنه يصوم بأمر ، ويفطر بأمر : كلوا واشربوا. والجوع والعطش وغير التمتّع من عذاب أهل النار ، والله لا يجمع على الصائم عذابين ، ويعطون الغرف فى الجنة بصبرهم ؛ قال تعالى (١) : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا). وكلّ عمل لا يخلو من وجهين : إما طاعة مع الغفلة ، أو معصية مع الشهوة ؛ فجعل الله قبول الطاعة بالصوم قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وجعل غفران المعصية بالصوم ؛ قال تعالى : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً) ... (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ ...).

وانتهاء المناهى أفضل من ائتمار الأوامر ؛ ألا ترى أنه قال : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. قال (٢) : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى). والصوم من انتهاء المناهى ؛ والزّهد فى الحلال أفضل من الزهد فى الحرام ، والصوم من الزّهد فى الحلال ؛ وفى نداء عباده تعالى بالإيمان من اللطائف والفضائل ما لا يحيط بها إلا هو ، كأنه سبحانه يقول : يا من أقررتم بوحدانيتى ، وعرفتم ديموميتى ، لا تقنطوا من رحمتى.

قال بعضهم : النداء على عشرين وجها :

خمس من الله فى الدنيا ، وخمس للآدميين فى الدنيا ، وخمس من الملائكة فى الدنيا ، وخمس من الملائكة فى الآخرة.

__________________

(١) الفرقان : ٧٥

(٢) النازعات : ٤٠

١٨

أما الذى من الله فنداء الجنس : يأيها الناس. ونداء النسبة : يا بنى آدم. يا بنى إسرائيل. ونداء المدحة : يأيها الذين آمنوا ؛ لأنّ الله جمع أوصاف المؤمنين ونعوتهم ومعانيهم فى هذا النداء ؛ لأنه لم تبق حسنة إلا دخلت تحته ، كما أن الله علم على ذاته القدسية ؛ ومن ذكره فكأنما ذكر جميع أسمائه التى هى ألف اسم : ثلاثمائة فى التوراة ، وثلاثمائة فى الإنجيل ، وثلاثمائة فى الزّبور ، وواحد فى صحف إبراهيم ، وتسع وتسعون فى القرآن ؛ فأوّل جميع الكتب الله.

ونداء المذمّة : يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم.

ونداء الإضافة : يا عبادى الذين آمنوا. يا عبادى الذين أسرفوا.

وأما الذى للآدميّين : نداء الشريعة ، وهو لإبراهيم حيث قال له : وأذّن فى الناس بالحجّ. ونداء العتاب ليوسف (١) : يأيها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ. ونداء الإيمان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : ربّنا إنّنا سمعنا مناديا ... الآية. ونداء الجمعة للمؤمنين : يأيّها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة. ونداء الجماعة للمنافقين.

وأما الذى للملائكة فى الدنيا : فملك ينادى فى كل صباح : يا أبناء الثلاثين ، لا تغترّوا بالشباب. يا أبناء الأربعين ، لا تجترئوا. يا أبناء الخمسين ، ألا تستحيون. يا أبناء الستين ، قد دنا حصاد كم. يا أبناء السبعين ، الرحيل الرحيل.

وملك ينادى بالمقابر كل يوم : يأهل القبور ، من تغبطون اليوم؟ قالوا : نغبط أهل المساجد الذين يذكرون الله ولا نذكر ، ويصلّون ولا نصلى ،

__________________

(١) يوسف : ٨٨

١٩

ويصومون ولا نصوم. وملك ينادى عند رأس قبر النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا من زال عن سنّة صاحب هذا القبر فقد برئ من شفاعته. وملك ينادى فى الموقف : من حجّ وكسبه حرام ردّ الله حجّه.

وأما الذى من الملائكة فى الآخرة فأوّله عند البعث : أيتها العظام البالية ، والأجساد النّخرة ، هلمّوا إلى الحساب [٢٢٠ ب] عند ربّكم. وملك عند الحساب : أبشروا يا أمة محمد ، فإنّ رحمة الله قريب منكم. وملك عند المحاسبة يقول : أين فلان ابن فلان؟ هلمّ إلى العرض على الرحمن. وملك ينادى عند الفراغ من الحساب : ألا إنّ فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وملك آخر على أهل الشقاوة ينادى : ألا إن فلان ابن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبدا. أعاذنا الله من ذلك بمنّه.

(فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)(١) : يعنى بقبولهم ورحمتهم ، لا بقرب المسافة.

وسبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام سئل أين ربّنا؟ فوقنا أو تحتنا ، أو بيننا أو يسارنا ، أو خلفنا أو قدّامنا؟ فأنزل الله (٢) : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ). يعنى وحاجتكم أنا ، لا المكان ؛ فإن وجدتمونى فما تصنعون بالمكان وأنا منزّه عن المكان.

وفى رواية : إن اليهود سألوه عليه‌السلام أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله (٣) : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ؛ يعنى بالعلم والقدرة والإجابة لا بالذات ، فادعونى سرّا أو جهرا ؛ فإنى قريب أجيب ؛

__________________

(١) البقرة : ١٨٦

(٢) البقرة : ١٨٦

(٣) ق : ١٦

٢٠