معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

ينافق لا رادّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه ، سمكة أخذتها اليهود فصاروا قردة ، وسمكة أخذت يونس فصارت رئيس السمك.

(عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (١)) ؛ أى فى السفينة. واختار الزمخشرى (٢) أن يكون المعنى من ذريّة ممن معك. ويعنى به المؤمنين إلى يوم القيامة. فمن على هذا لابتداء الغاية ؛ والتقدير على أمم ناشئة ممن معك. وعلى الأول تكون من لبيان الجنس.

(عَذابٍ غَلِيظٍ (٣)) : يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة ؛ ولذلك عطف على النجاة (٤) الأولى التى أراد بها النجاة من الريح. ويحتمل أن يريد بالثانى أيضا الريح ؛ وكرّره إعلاما بأنه عذاب غليظ ، وتعديد النعمة فى نجاتهم.

(عَصَوْا رُسُلَهُ (٥)) : فى جمع الرسل هنا وجهان :

أحدهما ـ أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان الجميع ؛ فإنهم متفقون على الإيمان بالله تعالى وعلى توحيده.

والثانى ـ أن يراد الجنس ، كما قدمنا.

وانظر كيف شنع كفرهم ، وهوّل على فعلهم بحرف التنبيه وبتكرار أسمائهم.

(عَصِيبٌ (٦)) : شديد.

__________________

(١) هود : ٤٨

(٢) الكشاف : ١ ـ ٤٤٣

(٣) هود : ٥٨

(٤) فى الآية نفسها : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ.

(٥) هود : ٥٩

(٦) هود : ٧٧

٦٤١

(عالِيَها سافِلَها (١)) : الضمائر لمدائن قوم لوط ، واسمها سدوم (٢). يقال : أحور من قطاة سدوم (٣).

روى أن جبريل أدخل جناحه تحت مدائنهم واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ، ثم أرسلها مقلوبة.

(عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٤)) ؛ أى على المدائن. والمراد أهلها ومن كان خارجا منها. وأما من كان فيها فقد هلك بقلبها.

(عَلَى الْعَرْشِ (٥)) ؛ أى على سرير الملك ؛ يعنى أنّ يوسف رفع أبويه على العرش وخرّوا سجّدا ؛ لأنه كان تحية السلام عندهم السجود ؛ وإنما سمى خالته أمّا (٦) لأن العرب تسمّيها أمّا. وكان يعقوب تزوّجها من بعد وفاة أم يوسف.

والإشارة فيه أن يعقوب لما تغرّب من كنعان جعل حجر يوسف مأواه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تغرّب من أبويه جعل حجر أبى طالب مأواه. وأنت يا محمدىّ إذا تغربت فى الدنيا ، وجعلت الآخرة منزلك جعل الله الجنة مأواك ، قال تعالى : فإنّ الجنّة هى المأوى.

(عمر) ، وعمر ، بالجزم والضم واحد ؛ وهو الحياة ، ومنه (٧) : (لَعَمْرُكَ) ، ولا يكون فى القسم إلا مفتوحا.

(عبر (٨)) يعبر : له معنيان : من عبارة الرؤيا ، ومنه (٩) : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ). ومن الجواز على الموضع. ومنه : عابرى سبيل.

__________________

(١) هود : ٨٢

(٢) فى ا : دسوم. والمثبت فى القرطبى أيضا (٩ ـ ٨١).

(٣) هود : ٨٢

(٤) هود : ٨٢

(٥) يوسف : ١٠٠

(٦) فى قوله تعالى : أبويه ـ على التغليب.

(٧) الحجر : ٧٢

(٨) يوسف : ٤٣

(٩) يوسف : ٤٣

٦٤٢

(عَمِينَ (١)) وعمون (٢) ، جمع عم ، وهو صفة على وزن فعل ، بكسر العين ، من العمى فى البصر ، أو فى البصيرة.

(عَمَدٍ تَرَوْنَها (٣)) : اختلف العلماء : هل للسماء أعمدة ترونها؟ فالقائل بها قال : لها جبل قاف ؛ وهذا القائل يجعل الضمير فى ترونها عائد على العمد ، فيكون المعنى أنها مرفوعة بغير عمد مرئىّ. وهذا لا يصح. والصواب مذهب الجمهور أنها مرفوعة بغير عمد. واستدل به ابن عبد السلام على أنّ السماء بسيطة ؛ إذ لو كانت كورية لما احتيج إلى قوله : بغير عمد ؛ لأن الكورية مرفوعة بعمد يعتمد بعضها على بعض. ابن عرفة : وهذا لا حجة فيه ؛ لأنّ الناس لا يعرفون ولا يقطعون بكونها كورية أو بسيطة ، وإنما يصحّ هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين ، فيقال لهم : بغير عمد ليفهم كمال القدرة.

وروى أن ذا القرنين لما وصل إلى جبل قاف صعد عليه حتى ربط خيله بجانب السماء ؛ وهذا يحتاج لنقل صحيح.

(عد) ، بغير ألف : من العدد ، وأعد بالألف : يسّر الشيء وهيّأه.

(عَضُداً (٤)) : أعوانا.

(عَرَضْنا جَهَنَّمَ (٥)) ؛ أى أظهرناها حتى رآها الكفار.

(عَنَتِ الْوُجُوهُ (٦)) ؛ أى ذلّت وخضعت ، وكيف لا تخضع وتذل ، والأنبياء يومئذ يقولون : نفسى نفسى ، لا أسألك غيرها!

واعلم أنّ الله ذكر الوجوه فى القرآن على سبعة أوصاف ، ورتّب وجوه

__________________

(١) الأعراف : ٦٤ ، والنمل : ٦٦

(٢) الأعراف : ٦٤ ، والنمل : ٦٦

(٣) الرعد : ٢

(٤) الكهف : ٥١

(٥) الكهف : ١٠٠

(٦) طه : ١١١

٦٤٣

الكفار فى الآخرة على سبع : وجه التسليم (١) : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ). ووجه العبرة (٢) : (عَلى وَجْهِ أَبِي). ووجه الرضا والتفويض (٣) : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ). ووجه العبادة (٤) : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ). ووجه [٢١٠ ا] الإقبال والطاعة (٥) : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). ووجه الإخلاص (٦) : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ). ووجه الطهارة (٧) : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).

وأما وجوه الكفار فذكر لها سبعة ألوان من العذاب (٨) : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ). ((٩) يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ). ((١٠) كبت وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ). ((١١) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ). ((١٢) وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ). ((١٣) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ). ((١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ).

فإياك أيها الأخ أن يكون وجهك أحد هذه الوجوه ؛ واحرص على أن يكون من الوجوه السبعة الذين ذكرهم الله فى الآخرة ؛ قال تعالى (١٥) : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). ((١٦) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ. لِسَعْيِها راضِيَةٌ). ((١٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). ((١٨) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ). ((١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

__________________

(١) آل عمران : ٢٠

(٢) يوسف : ٩٣

(٣) البقرة : ١٤٤

(٤) الفتح : ٢٩

(٥) البقرة : ١٤٤ ، ١٥٠

(٦) الأنعام : ٧٩

(٧) المائدة : ٦

(٨) المؤمنون : ١٠٤

(٩) محمد : ٢٧

(١٠) النمل : ٩٠

(١١) الفرقان : ٣٤

(١٢) الإسراء : ٩٧

(١٣) عبس : ٤٠

(١٤) آل عمران : ١٠٦

(١٥) المطففين : ٢٤

(١٦) الغاشية : ٨ ، ٩

(١٧) القيامة : ٢٢ ، ٢٣

(١٨) عبس : ٣٨ ، ٣٩

(١٩) آل عمران : ١٠٧

٦٤٤

اللهم ارحمنا برحمتك التى وسعت كلّ شىء رحمة وعلما.

(عَزْماً (١)) : رأيا معزوما عليه.

(عشير (٢)) : صاحب.

(عَلى عُرُوشِها (٣)) : قد قدمنا أن المراد به السقف حيثما وقع ، وعرش الله أعظم المخلوقات ، ونسبة السموات والأرض إليه كحلقة ملقاة فى فلاة من الأرض ، ويحمله الأملاك على كواهلهم ، ذاكرين الباقيات الصالحات ، وإلا لعجزوا عن حمله.

(عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٤)) : يعنى يوم بدر. ووصفه بالعقيم ؛ لأنه لا ليلة بعده ولا يوم ؛ لأنهم يقتلون فيه. وقيل هو يوم القيامة ، والساعة مقدماته. ويقوّى ذلك قوله (٥) : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). ثم قسّم الناس إلى أصحاب الجحيم وأصحاب السّعير.

(عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦)) ؛ أى ترجعون إلى وراء ، والضمير راجع إلى المترفين ، وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات ، وهى القرآن.

(عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧)) ؛ أى عادلون. ويحتمل أن يكون صراط الدنيا ، وهو المقصود الموصل إلى الصراط الحسى.

(عَدَدَ سِنِينَ (٨)) : يعنى فى جوف الأرض أمواتا. وقيل أحياء فى الدنيا. ويقال ذلك لأهل النار على وجه الاستهزاء والسخرية ، فيجيبون بأنهم لبثوا يوما

__________________

(١) طه : ١١٥

(٢) الحج : ١٣

(٣) الحج : ٤٥

(٤) الحج : ٥٥

(٥) الحج : ٥٦

(٦) المؤمنون : ٦٦

(٧) المؤمنون : ٧٤

(٨) المؤمنون : ١١٢

٦٤٥

أو بعض يوم ، لاستقصار المدة ، ولما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدّون شيئا ، فيقال لهم (١) : اسأل العادّين. ويعنون به من يقدر أن يعدّ ، وهو من عوفى مما ابتلوا به ؛ ويعنون الملائكة.

(عَبَثاً (٢)) ؛ أى باطلا. والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب.

(عَذابَها كانَ غَراماً (٣)) ؛ أى هلاكا وخسرانا. وقيل ملازما. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل النار ، أو من كلام الله عزوجل.

(عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٤)) ؛ أى ذلّلتهم واتخذتهم عبيدا. ومعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة علىّ تعبيد بنى إسرائيل ، وليست فى الحقيقة بنعمة ؛ إنما هى نقمة ؛ لأنك كنت تذبح أبناءهم ؛ فلذلك وصلت إنا إليك فربّيتنى ؛ فالإشارة بقوله (٥) : (تِلْكَ) إلى التربية ، وأن عبّدت فى موضع رفع عطف بيان على (تِلْكَ) ، أو فى موضع نصب ، على أنه مفعول من أجله. وقيل معنى الكلام تربيتك نعمة علىّ ؛ لأنك عبّدت بنى إسرائيل ، وتركتنى ؛ ففي المعنى الأول إنكار لنعمته ، وفى الثانى اعتراف بها.

(عَوْراتٍ لَكُمْ (٦)) : معنى العورة الانكشاف فيما يكره كشفه ؛ ولذلك قيل عورة الإنسان ؛ وهى ما بين السرة إلى الركبة ؛ وضمير خطاب الجمع يعود على جواز الانكشاف فى غير هذه الأوقات الثلاثة ؛ وهى قبل الصبح ، وحين القائلة وسط النهار ، وبعد صلاة العشاء الآخرة.

وقد قدمنا فى حرف الثاء أنّ هذه الآية محكمة ، وقول المستأذن للنبى صلّى الله

__________________

(١) المؤمنون : ١١٣ : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين.

(٢) المؤمنون : ١١٥

(٣) الفرقان : ٦٥

(٤) الشعراء : ٢٢

(٥) فى الآية نفسها : وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ.

(٦) النور : ٥٨

٦٤٦

عليه وسلم فى الانصراف واحتجاجه : إن بيوتنا عورة ـ فمعناه منكشفة للعدوّ ، وخالية ، وقيل خالية للسراق ؛ فكذّبهم الله فى ذلك بقوله : إن يريدون إلا فرارا منك يا محمّد.

(عراء (١)) : الأرض التى لا شجر فيها ولا ظلّ. وقيل يعنى [٢١٠ ب] الساحل.

(عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ (٢)) ؛ أى على ملّة ودين.

(عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ (٣)) : قد قدمنا أن العارض السحاب ، والضمير يعود على قوم عاد ، فلما رأوا هذا العارض ظنّوا أنه مطر ، ففرحوا به ، فقال لهم هود : بل هو ما استعجلتم به ، ريح فيها عذاب أليم. تدمّر كلّ شىء بأمر ربها ـ عموم يراد به الخصوص.

(عَرَّفَها لَهُمْ (٤)) : الضمير يعود على أهل الجنة ، يعنى أنّ الله عرفهم منازلهم فيها ، فهو من المعرفة ؛ ولذلك صح فى الحديث : إن أحدهم أعرف بمنزله من معرفته بمنزله فى الدنيا. وقيل : إن الله طيّبها لهم ؛ فهو من العرف ، وهو طيب الرائحة. وقيل معناه شرّفها ورفعها ؛ فهو من الأعراف التى هى الجبال.

(عاصِفٌ (٥)) : ريح شديدة. والعصف ورق الزرع. وقيل التبن والرّيحان. وقيل هو الريحان المعروف. وقيل كل مشموم طيّب الريح من النبات.

(عَبْقَرِيٍ (٦)) : منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشى (٧) وهى خبرة ،

__________________

(١) الصافات : ١٤٥ : فنبذناه بالعراء.

(٢) الجاثية : ١٨

(٣) الأحقاف : ٢٤

(٤) محمد : ٦

(٥) يونس : ٢٢

(٦) الرحمن : ٧٦

(٧) فى اللسان : عبقر : قرية باليمن توشى فيها الثياب والبسط.

وارجع إلى ياقوت (عبقر).

٦٤٧

وهو الممدوح من الرجال والفرش. وتزعم العرب أنه بلد الجان ، فإذا أعجبها شىء نسبته إليه. والمعنى أن الله وصف طنافس أهل الجنة وزرابيهم ونسبها إلى عبقر. وفى الحديث فى نزع عمر (١) : فلم أر عبقريا يفرى فريّه.

(عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها (٢)) ؛ أى تكبّروا وتجبّروا. والضمير يعود على القرية ، والمراد أهلها ؛ وكذلك (٣) : (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً).

وهذا كلّه فى الدنيا ؛ لأنه قال بعده (٤) : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً). ولأن قوله : فحاسبناها وعذّبناها ـ بلفظ الماضى ، فهو حقيقة فيما وقع ، مجاز فيما لم يقع. ومعنى حاسبناها ؛ أى وأخذناهم بجميع ذنوبهم ولم يغتفر لهم شىء من صغائرها ، والعذاب هو عقابهم فى الدنيا. والنّكر هو الشديد الذى لم يعهد مثله.

فاشكر الله يا محمدىّ على أنّ عقوبتك إنما هى فى الدنيا إذا لم تتب من الذنب ولم تستغفر ـ بالآلام والأمراض والأسقام ، ولا يجمع عليك عقوبتين ، وإن استغفرت فتكتب لك حسنات.

(عَلا فِي الْأَرْضِ (٥)) يعلو : تكبّر ؛ ومنه (٦) : (قَوْماً عالِينَ). والعلىّ اسم الله ، والمتعالى والأعلى من العلاء ؛ بمعنى الجلال والعظمة. وقيل بمعنى التنزيه عما لا يليق به.

(عزب) الشيء : غاب. ومنه (٧) : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) ؛ أى لا يخفى عنه.

__________________

(١) اللسان ـ عبقر.

(٢) الطلاق : ٨

(٣) الطلاق : ٨

(٤) الطلاق : ١٠

(٥) القصص : ٤

(٦) المؤمنون : ٤٦

(٧) يونس : ٦١

٦٤٨

(عَبَسَ وَبَسَرَ (١)) : البسور : تقطيب الوجه ، وهو أشدّ من العبوس. والمراد بهذا الوصف الوليد بن المغيرة لمّا حسده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يدر ما يقول فيه ، وضاقت عليه الحيل عبس فى وجهه ، وقال لما قال له : إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك لمحمد ، ففكّر فى نفسه ، وقال : أقول فيه قولا يرضيهم ؛ فقال : أقول فى القرآن شعر؟ ما هو بشعر. أقول كاهن؟ ما هو بكاهن. أقول سحر ؛ وإنه قول البشر غير منزل من عند الله.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٢)) ؛ أى حيث شاءوا من منازلهم تفجيرا سهلا ، لا يصعب عليهم. وفى الأثر : إن فى قصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الجنة عينا تتفجّر إلى قصور الأنبياء والمؤمنين على قدر اتّباعهم له ، وكيف لا وهو منبع الخير الدنياوى والأخروى ، وجميع علومهم متفجرة من علمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وهل نال جميع الموجودات من الخيرات إلا من فيض جوده؟ أو هل خلق الله الجنة إلّا من أجله ، فيعطيها من شاء من خلقه. و (عَيْناً) فى الآية بدل من كافور ، على القول بأن الخمر تمزج بالكافور. وبدل من موضع كأس على القول الآخر ، كأنه قال : يشربون خمرا خمر عين. وقيل : هو مفعول بيشربون. وقيل منصوب بإضمار فعل.

قال ابن عطية : الباء زائدة ، والمعنى يشربها. وهذا ضعيف ؛ لأن الباء تزاد فى مواضع ليس هذا محلّها ؛ وإنما هى كقولك : شربت الماء بالعسل ؛ لأن العين المذكورة يمزج بها الكأس من الخمر.

فلتتأمّل أيها الناظر إلى وصفهم بالعبودية وإضافتهم إلى الوصف العظيم ، تعرف بذلك عظيم منزلتهم ، ويشهد لذلك تشريف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) المدثر : ٢٢

(٢) الإنسان : ٦

٦٤٩

بقوله (١) : سبحان الذى أسرى بعبده [٢١١ ب] ، ولم يقل بنبيّه ؛ لأن العبودية أشرف التحلية.

وإذا تأملت وصف العبودية فى القرآن لا تجدها إلّا لمن يتصف بالطاعة ؛ كقوله (٢) : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً). فما أحسنها من إضافة من محبّ لمحبوب ؛ مرة أضافهم إلى الاسم العظيم ، ومرة إلى الرحمة ؛ وأعظم من هذا أنه أضاف العاصى إلى نفسه ، بقوله (٣) : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ؛ كى لا يقدر إبليس أن يسلبه منه ولا يضرّه ؛ فالذى أضافك إليه مع عصيانك أتراه لا يرزقك؟ أو إن رجعت إليه لا يقبلك؟ أو إن استغفرته لا يغفر لك؟ كلا ، والله ؛ بل يقبلك على ما فيك من العيوب ، فسبحان من خلق الخلق ليرزقهم ، ويظهر قدرته فيهم ، ويميتهم ليظهر قهره ، ويحييهم ليظهر جلالته ، ويدخلهم جنّته ليظهر فضله ، ويعذبهم ليظهر عدله فيهم ونقمته ؛ لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

(عَطاءً حِساباً (٤)) ؛ أى كافيا ، من أحسبه الشيء إذا كفاه. وقيل معناه على حسب أعمالهم. ويقال أصل هذا أن تعطيه حتى يقول حسبى حسبى ؛ فهناك أعطاهم بغير حساب.

وفى موضع قال (٥) : (كَفى بِنا حاسِبِينَ). وهم المعاملون بالفضل. وفى موضع قال (٦) : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). وهم من أراد الله أن يعاملهم بالعدل.

(عَسْعَسَ (٧)) : من الأضداد. ويقال عسعس الليل : أقبل ظلامه فى أوله ،

__________________

(١) الإسراء : ١

(٢) الفرقان : ٦٣

(٣) الزمر : ٥٣

(٤) النبأ : ٣٦

(٥) الأنبياء : ٤٧

(٦) الإسراء : ١٤

(٧) التكوير : ١٧

٦٥٠

وقيل فى آخره. وهذا أرجح ؛ لأنّ آخر الليل أفضله ، ولأنه أعقبه بقوله : والصبح إذا تنفّس ؛ أى استطار واتسع ضوؤه.

(عدلك (١)) ، بتشديد الدال : قوّم خلقك ، وبالتخفيف : صرفك إلى ما يشاء من الصورة فى الحسن والقبح ، والطول والقصر ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك ، من اختلاف الصور.

وبالجملة فابن آدم من أكرم المخلوقات فى تعديل صورهم فى أيديهم ، والمشى على أرجلهم ، وانتصاب قامتهم ، وتركيب أجسادهم ، والعلم والعقل ، والأكل باليمين ، وستر العورة ، واللباس ؛ والرجال باللّحى ، والنساء بالذوائب.

فتأمّل يا ابن آدم فى هذه الكرامات التى أكرمك بها ، وأضافك بالكرامة إليه ، فى قوله (٢) : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ). وإلى رسوله فى قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). وإلى كلامه فى قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). وإلى مدخل رحمته (٣) : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً). وإلى تفصيل أعضائك من عظم ولحم ، ومخ وعصب ، وعروق ودم ، وجلد وظفر وشعر ؛ كل واحد منها لحكمة ، لولاها لم يكن الجسد بحسب العادة ؛ فالعظام منها هى عمود الجسد ، فضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال من العضلات والعصب ـ ربطت بها ، ولم يجعلها عظما واحدا ؛ لأنك ترجع مثل الحجر ، ومثل الخشبة ؛ لا تتحرك ، ولا تجلس ولا تقوم ، ولا تركع ولا تسجد لخالقك ، وجعل العصب على مقدار مخصوص ، ولو كان أقواها هو لم تصحّ عادة حركة الجسم ؛ ولا تصرّفه فى منافعه ؛ ثم خلق الله تعالى المخّ فى العظام فى غاية الرطوبة ، ليرطب يبس العظام وشدّتها ، ولتقوى العظام برطوبته ؛ ولو لا ذلك لضعفت قوّتها ، وانخرم نظام الجسم لضعفها بحسب مجرى

__________________

(١) الانفطار : ٧

(٢) الانفطار : ٦

(٣) النساء : ٣١

٦٥١

العادة. ثم خلق اللحم ، وعبّأه على العظم ، وسدّ به خلل الجسد كله ، فصار مستويا لحمة واحدة ، واعتدلت هيئة الجسد به ، واستوت.

ثم خلق العروق فى جميع الجسد جداول لجريان الغذاء فيها إلى أركان الجسد ، لكلّ موضع من الجسد عدد معلوم من العروق صغارا وكبارا ؛ ليأخذ الصغير من الغذاء حاجته والكبير حاجته. ولو كانت أكثر مما هو عليه أو أنقص ، أو على غير ما هى عليه من الترتيب ـ ما صحّ من الجسد بحسب العادة شىء. ثم أجرى الدم فى العروق سيّالا خاثرا ، ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يجر فى العروق. ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء. ثم كسا اللحم بالجلد ؛ ليستره كلّه ، كالوعاء له. ولو لا ذلك لكان قشرا أحمر. وفى ذلك هلاكه. ثم كساه الشعر وقاية للجلد [٢١١ ب] وزينة فى بعض المواضع. وما لم يكن فيه الشعر جعل له اللباس عوضا منه ، وجعل أصوله مغروزة فى اللحم ليتمّ الانتفاع ببقائه ولين أصوله ، ولم يجعلها يابسة مثل رءوس الإبر ، إذ لو كانت كذلك لم يهنه عيش.

وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين ، ولو لا ذلك لأهلكها الغبار والسقط ، وجعلها على وجه يتمكن بسهولة من رفعها على الناظر عند قصد النظر ، ومن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تؤذى برؤيته دينا أو دنيا ، ولم يجعل شعرها طبقا واحدا لينظر من خللها.

ثم خلق شفتين ينطبقان على الفم يصونان الفم والحلق من الرياح والغبار ، وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح. ولما فيهما أيضا من كمال الزينة وغيرها.

ثم خلق بعدهما الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطحنه. وجعل اللسان الذى يجمع به ما تفرق من المأكول فى أرجاء الفم ؛ ليتمكن تسهيله للابتلاع

٦٥٢

بطحن الأرحاء ؛ وخلق فيه معنى الذوق لكل مأكول ومشروب. ولم يخلق جلّ وعلا الأسنان فى أول الخلقة لئلا يضر بأمّه فى حال رضاعه بالعضّ ؛ ولأنه لا يحتاج إليها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية التى تفتقر إلى الأسنان ؛ فلما كبر وترعرع وصلح للغذاء خلق له الأسنان ، وجعلها نوعين : بعضها محددة الأطراف ؛ وهى التى للقطع ، يقطع بها المأكول ، وبعضها بسيطة وهى التى للطحن ؛ فسبحانه! ما أكثر عجائب صنعه ، وأوسع الآيات الدالة عليه! ولكن لا نبصر شيئا إلا بتوفيق الله تعالى.

ثم لما كان المأكول شديدا كثيفا ، ولم يكن يجرى فى الفم إلى الحلق ـ وهو كذلك على يبسه ـ أنبع الله تعالى فى الفم عينا نبّاعة على الدوام أحلى من كل حلو ، وأعذب من كل عذب ، فيحرك اللسان الغذاء ، ويمزجه بذلك الماء ، فيعود زلقا ، فينحدر فى الحلق بلا مؤنة ؛ ولهذا إذا أبدل الله تعالى تلك العين جفوفا من المرض لم يمض على الحلق شىء ، وإن مضى فبمشقّة عظيمة ؛ ومن عجيب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم فى كلّ وقت حتى يتكلف الإنسان مؤنة عظيمة فى طرح ذلك عنه. جرت على وجه الحكمة فيه أنّ تعدد أوجه منفعتها ؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم خلق أظفار اليدين والرجلين ، لتشتدّ بها أطرافها ، لكثرة حركتها ، والتصرف بها فى الأمور ، وليحكّ بها ، وينتفع فى موضع الحاجة.

وانظر إلى خلق الأصابع ، وجعلها مفرقة ذات مفاصل ؛ ليتمكن بذلك من قبضها وبسطها بحسب الحاجة.

ولما كان الشّعر والظّفر مما يطول لما فى طولها من الصالح لبعض الناس ،

٦٥٣

وفى بعض الأوقات ، وكان جزّها مما يحتاج إليه فى بعض الأوقات ، لم يجعلها كسائر الأعضاء فى تألم الإنسان بقطعها.

فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل ، وحسن المعانى من ربّ جميل لجميع الحيوان ؛ وخص هذا الآدمى بخصائص وحكم يعجز ذكرها. وقد أشرنا إلى بعضها ؛ وقد ذكر أهل علم التشريح تفصيلها.

وبالجملة فهذا الآدمىّ هو العالم الأكبر ، وجميع المخلوقات هو العالم الأصغر. وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرق فى كلّ الأشياء ؛ فإن كان للسماء علوّ فللآدمىّ القامة. وإن كان فى الفلك شمس وقمر فللآدمى العينان. وإن كان له نجوم فللآدمى الأسنان. وإن كان للفلك الدوران فللآدمى السير. وإن كان للسماء القطر فلعين الآدمى الدمعة. وإن كان للبرق لمعة فللآدمى اللمحة. وإن كان للأرض الزلزلة فلنفس الآدمى الرّعدة. وإن كان للأرض القرار فللآدمى السكون والوقار. وإن كان فى الأرض الأنهار فللآدمى العروق. وإن كان للأرض النبات والأشجار فلنفس الآدمى الشعور. وإن كان فى السماء العرش فهمّة المؤمن أعلى وأعظم ؛ وهى متعلقة بالمولى. وإن كان فى السماء الجنّة فللمؤمن القلب ؛ وهو أزين منها ؛ لأن الجنة محل الشهوة ، والقلب محل المعرفة ؛ وخازن الجنّة رضوان وخازن قلب المؤمن الرحمن. إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وفى رواية : القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء.

اللهم يا مقلّب القلوب [٢١٢ ا] ثبّت قلوبنا على طاعتك ، وأعنها على عبادتك ، وهب لها أرواحا تقودها إلى مشاهدتك ؛ فإنك قلت : ((١) وَالسَّابِقُونَ

__________________

(١) الواقعة : ١٠ ، ١١

٦٥٤

السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). ((١) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ). وأعذنا من أرواح أصحاب المشأمة.

قال بعضهم : للمؤمنين أربعة أرواح : روح الإيمان ، وبها عبدوا الله ووحّدوه. وروح القوة ، وبها جاهدوا أعداء الله. وروح الشهوة ، وبها أصابوا لذة المطعم والمشرب والتمتّع. وروح الحياة ، وبها تحركوا إلى الطلبات.

وأما أصحاب المشأمة فبروح الحياة استعانوا على طول الأمل ، وبروح القوة على المعصية ، وبروح الشهوة على أخذ الحرام والشبهة ؛ فلذلك شبههم بالأنعام فقال (٢) : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ).

وقال آخر : إن كان فى العالم سبع سماوات فللآدمىّ سبعة أعضاء ، وأمر أن يسجد عليها : اليدين ، والرجلين. والركبتين ، والوجه. وإن كان فى العالم الحيوان فللآدمى القمل والبراغيث والصئبان وإن كان للعالم شمس فللآدمى المعرفة أنور منها والعلم. وفى العالم النجوم وفى الآدمى العلوم. وفى العالم الطيور وفى الآدمى الخواطر. وفى العالم جبال وفى الآدمى العظام. وفى العالم أربع مياه : عذب ، ومنتن ، ومرّ ، ومالح. وفى الآدمى العذب فى فمه ، والمرّ فى أذنيه ، والمالح فى عينيه ، والمنتن فى أنفه.

فتفكّر يا بن آدم كيف خلقك وصوّرك على سبعة أعضاء ، وسبعين مفصلا ، ومائة وثمانية وأربعين عظما ، وثلاثمائة وستين عرقا ، ومائة ألف وأربعة وعشرين ألف شعرة ، حياتها بروح واحدة. وجميع الأجناس المختلفون خالقهم العزيز الجبّار.

__________________

(١) الواقعة : ٨

(٢) الفرقان : ٤٤

٦٥٥

(عَيْنٍ آنِيَةٍ (١)) : قد قدمنا أنها شديدة الحر ، ووزن آنية هنا فاعلة ، بخلاف آنية من فضة فإن وزنها أفعلة.

(عالِيَةٍ (٢)) : نعت للجنة ، لكن يحتمل أن تكون من علوّ المكان ، أو من علوّ المقدار ، أو الوجهين.

(عَيْنٌ جارِيَةٌ (٣)) : يحتمل أن يريد جنس العيون ، أو واحدة شرّفها بالتعيين.

(عَلَيْنا لَلْهُدى (٤)) ؛ أى بيان الخير والشر. وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية ، خلافا للمعتزلة.

(عائِلاً فَأَغْنى (٥)) : يقال عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا ، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله ؛ وهذا الفقر والغنى هو فى المال ، وغناه عليه‌السلام هو أن أعطاه الله الكفاف. وقيل : هو رضاه بما أعطاه الله. وقيل المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به.

(عَلَقٍ (٦)) : جمع علقة ، وهى النّطفة من الدم ، يخلق منها الإنسان. وإنما جمع العلق فى سورة اقرأ (٧) ؛ لأنه أراد الجماعة ، بخلاف قوله (٨) : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ؛ لأنه أراد كلّ واحد على حدته ، ولم يدخل آدم فى الإنسان هنا ؛ لأنه لم يخلق من علقة ؛ وإنما خلق من طين.

فليتأمل العاقل خلقته من علقة فى رحم مغمومة (٩) من دم حيض ،

__________________

(١) الغاشية : ٥

(٢) الغاشية : ١٠

(٣) الغاشية : ١٢

(٤) الليل : ١٢

(٥) الضحى : ٨

(٦) العلق : ٢

(٧) هى سورة العلق.

(٨) الحج : ٥

(٩) من غم عليه الأمر : ستر ـ ورطب مغموم جعل فى الجرة وستر ثم غطى حتى أرطب ـ اللسان ـ غم.

٦٥٦

فلما كبر وترعرع صار يخاصم مولاه ؛ كما قال تعالى (١) : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

(عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٢)) : هذا تفسير للأكرم المذكور قبله (٣) ؛ فدلّ بهذا على أن نعمة التعليم أكبر نعمة. وخص من التعليمات الكتابة بالقلم ، لما فيها من تخليد العلوم ، ومصالح الدنيا والدين. وقرأ ابن الزبير علم الخط بالقلم.

يا معاشر العلماء ، قد كتبتم ودرستم ، ولو ناقشكم بالمحاسبة لأفلستم ؛ ما يكون جوابكم إذا قال لكم : يا أمّة أحمد ، قد كرّمتم وفضّلتم ، وأعطيتكم ما لم أعطها أمة قبلكم ، وشرفتكم بما شرفت به الأنبياء. أما سمعتم ما قلت لنوح (٤) : (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا). ولكم (٥) : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). وقلت لإبراهيم (٦) : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، ولكم (٧) : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا). وأعطيت العصا لموسى. ولكم قلت (٨) : (قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ). وأحييت على يد عيسى الموتى ؛ وقلت لكم (٩) : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ). وأعطيت الملك لسليمان ، وأعطيتكم الملك ، وخصوصا الملك الكبير. وأحضرت العرش على [٢١٢ ب] يد آصف وأزلفت الجنة لكم. ولئن بشرت يعقوب بريح القميص فقد قلت لكم (١٠) : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). فبأىّ عمل تدخلوها؟ وبأى نية نويتموها؟ علّمتكم ما لم تعلموا ، وخاطبتكم بما تفهمون ، واستملت قلوبكم لتأنسوا ؛

__________________

(١) يس : ٧٧

(٢) العلق : ٤

(٣) فى الآية التى قبلها (٣) : اقرأ وربك الأكرم.

(٤) هود : ٤٨

(٥) النمل : ٥٩

(٦) الأنبياء : ٦٩

(٧) مريم : ٧٢

(٨) الأحزاب : ٧٠ ، ٧١

(٩) الأنعام : ١٢٢

(١٠) الواقعة : ٨٩

٦٥٧

فلم تزيدوا إلا بعدا ، ودعوتكم لدار كرامتى فأعرضتم عنها ، فلا إلىّ تقرّبتم ، ولا لها أردتم ، ولا بها تلذّذتم. أما علمتم أنكم لا تدعون لدياركم إلّا من تحبّون أن تطعموه ، ولا تنسبون إلى أنفسكم إلا من تريدون أن تكرموه. أما سمعتم قولى : والله يدعو إلى دار السلام. يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ؛ فلم تقاعستم؟ اللهم إنك أنعمت علينا بنعم لا تحصى ، وأعظمها الخطّ بالقلم ، وعلمتنا ما لم نكن نعلم ، فجعلناها سلّما لمعاصيك ، فحلمت عنا ، ولم تعاجلنا بالعقوبة فضلا منك علينا ، فأنّى لنا بجوابك عند العرض عليك ، والوقوف بين يديك ، إلا قولنا لك : غرّنا حلمك وكرمك ، فأتمم علينا جودك وإحسانك ، وقولك لعبدك : سترتها عليك فى الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، وإن لم يقع منك ذلك فقيّض نبينا وحبيبنا للشفاعة ؛ فإنك أخبرتنا على لسانه الصادق المصدّق ؛ أنّ شفاعته لأهل الكبائر من أمته ، ونحن من أمته المؤمنون به المصلّون عليه. عليه الصلاة والسلام ؛ يا سيد الخلق ، ها أنا أتوسّل بك إلى ربى فى غفران ذنوبى.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (١)) : يعنى العلوم على الإطلاق ، أو علم الكتابة بالقلم. وعلى هذا فالإنسان نبيّنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لقوله : وعلّمك ما لم تكن تعلم. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكتب ولم يقرأ.

(عصر (٢)) : دهر ؛ أقسم الله به فى كتابه ، لكن اختلف ما المراد به؟ فقيل صلاة العصر ؛ أقسم الله بها لفضلها ؛ ولذا ورد فى الحديث : من فاتته صلاة العصر فكأنما أوتر أهله وماله ؛ أى خسرهما. وقيل إنه العشىّ ؛ أقسم به كما أقسم بالضّحى ؛ ويؤيّد هذا قول أبىّ بن كعب : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العصر ، فقال : أقسم ربكم بآخر النهار.

__________________

(١) العلق : ٥

(٢) العصر : ١

٦٥٨

(عَلَى الْأَفْئِدَةِ (١)) : يعنى أنّ النار تبلغ القلوب بإحراقها. قال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع ما فى القلوب من العقائد والنيّات باطلاع الله إياها.

(عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٢)) : هو تركها بالكلية ؛ وهذا كقوله تعالى : أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات. وقيل هم الذين يؤخّرونها عن وقتها تهاونا بها ، كما ورد فى الحديث. وكذلك قالت عائشة رضى الله عنها : والله ما ضيّعوها ، وإنما أخّروها عن وقتها المختار.

(عُدْوانَ (٣)) : ظلم وتعدّ حيثما وقع. وقوله (٤) : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ؛ أى فلا جزاء ظلم إلا على ظالم ؛ تسمية لعقوبته باسم ذنبه.

(عَرَفاتٍ (٥)) : اسم علم للموقف. سمّى بذلك لتعارف الناس به. والتنوين فيه فى مقابلة النون فى جمع المذكر ، لا تنوين صرف ؛ فإن فيه التعريف والتأنيث. وقيل : إنما سمى به لأنّ آدم عرف فيه حوّاء.

(عرج (٦)) : يعرج ـ بفتح الراء فى الماضى وضمها فى المضارع : صعد وارتقى. ومنه (٧) : (الْمَعارِجِ). وعرج بالكسر فى الماضى والفتح فى المضارع : صار أعرج.

(عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (٨)) ؛ أى لا تكثروا الحلف به فتبتذلوا اسمه. ويقال هذا عرضة لك ؛ أى عدة (٩) لك.

(عقود (١٠)) : ما عقده المرء على نفسه مع غيره من بيع ونكاح وعتق

__________________

(١) الهمزة : ٧

(٢) الماعون : ٥

(٣) البقرة : ١٩٣

(٤) البقرة : ١٩٣

(٥) البقرة : ١٩٨

(٦) البقرة : ١٩٨

(٧) المعارج : ٣

(٨) البقرة : ٢٢٤

(٩) فى القاموس : وهو عرضة لذلك : مقرن له قوى عليه.

(١٠) المائدة : ١

٦٥٩

وشبه ذلك. وقيل : ما عقده مع ربه من الطاعات ؛ كالحج والصيام وشبه ذلك. وقيل : ما عقده الله على عباده من التحليل والتحريم فى دينه. ويجب الوفاء بكل ذلك كما وصّى بذلك فى غير ما موضع.

(عرف (١)) : هو أفعال الخير. وقيل العرف الجارى بين الناس من العوائد. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد.

(عُصْبَةٌ (٢)) ؛ أى جماعة من العشرة ، ومراد إخوة يوسف بهذا القدرة على النّفع ، وأنهم لا يقاومون اطمئنانا لأبيهم.

(عُقْبَى الدَّارِ (٣)) ؛ أى عاقبة. وعاقب له معنيان : من العقوبة على الذنب ، ومن العقبى. ومنه (٤) : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ [٢١٣ ا] مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) ؛ أى أصبتم عقبى.

(عَيْنٍ) : له فى القرآن معنيان : العين المبصرة ، وعين الماء : وله فى غير القرآن معان كثيرة.

(عِتِيًّا (٥)) ، وعسيا وعسوّا بمعنى واحد ، وهو يبس فى الأعضاء والمفاصل. وقيل مبالغة فى الكبر.

(عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٦)) : هذا كلام أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله. والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف ؛ أى عسى أن يؤتينى الله من الآيات والحجج ما هو أعظم فى الدلالة على نبوءتى من خبر أصحاب الكهف. واللفظ يقتضى أن المعنى عسى أن يوفقنى الله تعالى

__________________

(١) الأعراف : ١٩٩

(٢) يوسف : ٨

(٣) الرعد : ٢٢

(٤) الممتحنة : ١١

(٥) مريم : ٨

(٦) الكهف : ٢٤

٦٦٠