معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

(مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (١)) ، أى مكثركم. ومن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعول ، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل. وصحّ معنى القراءتين ، لأنّ الملائكة المنزلين ردف بعضهم بعضا ، فمنهم تابعون ومتبوعون ، يقال : ردفته وأردفته : إذا جئت بعده.

(مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (٢)) : من الوهن وهو الضعف. وقرئ بالتشديد والتخفيف ، ومعناهما واحد.

(مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ (٣)) ؛ أى منحازا إلى جماعة من المسلمين ؛ فإنّ الجماعة حاضرة فى الحرب ؛ فالتحيّز إليها جائز باتفاق ؛ واختلف فى التحيّز إلى الإمام والمدينة والجماعة إذا لم يكن شىء (٤) من ذلك حاضرا.

وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال : أنا فئة لكل مسلم ؛ وهذا إباحة لذلك. والفرار من الزحف من الكبائر فى أى عصر كان إلّا أن يكون الكفار أكثر من مثلى المسلمين.

(مُتَحَرِّفاً) : بالنصب على الاستثناء ، من قوله : من يولّهم يومئذ.

وقال الزمخشرى (٥) : انتصب على الحال ، ومعناه الكرّ بعد الفرّ ، ليرى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف ؛ وذلك من الخداع فى الحرب. وفى الحديث : الحرب خدعة. وقد وقع للصحابة من هذا ما تكفّل أصحاب السير بنقله.

(مُخْزِي الْكافِرِينَ (٦)) : يعنى مهلكهم فى الدنيا بالسيف ، وفى الآخرة بالنار.

__________________

(١) الأنفال : ٦

(٢) الأنفال : ١٨

(٣) الأنفال : ١٦

(٤) فى ا : شيئا.

(٥) الكشاف : ١ ـ ٣٦٩

(٦) التوبة : ٢

٥٠١

(مؤتفكات (١)) : يعنى مدائن قوم لوط ، وائتفكت بهم يعنى انقلبت.

(مُرْجَوْنَ (٢)) : بالهمز وتركه ، وهما لغتان ، ومعناه التأخير. قيل هم الثلاثة الذين خلّفوا قبل أن يتوب الله عليهم. وقيل : هم الذين بنوا مسجد الضّرار.

(معذرون (٣)) : هم المعتذرون. ثم أدغمت التاء فى الذال ، ونقلت حركتها إلى العين.

واختلف هل كانوا فى اعتذارهم صادقين أو كاذبين؟ وقيل : هم المقصّرون ؛ من عذر فى الأمر إذا قصر فيه ، ولم يجد ؛ فوزنه على هذا المفعلون.

وروى على هذا أنها نزلت فى قوم من غفار ، والاعتذار يكون بحق ويكون بباطل. ومعذّرون الذين أعذروا ، أى أتوا بعذر صحيح.

(مَجْراها وَمُرْساها (٤)) : مشتقان من الجرى والإرساء ، وهو الثبوت ، أو من وقوف السفينة. ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان ، أو مصدرين.

ويحتمل الإعراب وجهين :

أحدهما أن يكون بسم الله فى موضع الحال من الضمير فى اركبوا ؛ والتقدير اركبوا متبركين ببسم الله ، أو قائلين بسم الله ، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان ، بمعنى وقت إجرائها وإرسائها ، أو ظرفين للمكان ويكون العامل فيه ما فى قولك بسم الله من معنى الفعل ، ويكون قوله بسم الله متصلا مع ما قبله ، والجملة كلام واحد.

__________________

(١) التوبة : ٧٠

(٢) التوبة : ١٠٦

(٣) التوبة : ٩٠

(٤) هود : ٤١

٥٠٢

والوجه الثانى أن يكون كلامين ، فيوقف على اركبوا فيها ، ويكون بسم الله فى موضع خبر ، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر ؛ أى إجراؤها وإرساؤها ، ويكون بسم الله على هذا مستأنفا غير متّصل بما قبله ، ولكنه من كلام نوح ، حسبما ورد أنّ نوحا كان إذا أراد أن يجرى السفينة قال : بسم الله ؛ فتجرى. وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف.

وفى الآية إشارة إلى أن يكون العبد فى جميع تصرفاته مشتغلا بمولاه ؛ ولذلك قال الصوفية : أنت سفينة الوجود ، وسفينة نوح عليه‌السلام كان إجراؤها وإرساؤها كما أخبر الحقّ سبحانه فى كتابه (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ، وقد أرشدت الشريعة المحمدية أن يكون جميع تحركك وسكونك بذكر الله تعالى. فتفتتح عند نومك بسم الله ، وعند أكلك وشربك وخروجك من منزلك ودخولك فيه ، ولباس ثوبك وتجريده كذلك ؛ وعند استفتاح كلامك ، وعند نكاحك وسفرك وإيابك إلى أهلك ، وعند قيامك وقعودك ؛ فإن كنت فى حالك محمديّا رست سفينتك على جودىّ السلامة ، وإن تخلفت عنه لم يكن لك عاصم من أمر الله ، وغرقت فى طوفان المهالك ، وإن لم تشعر أنك هالك فتيقّظ من سكرة هواك تجد روحك فى قارورة شهواتك غارقا (١) فى فضلة معاصيك.

ذكر أن ابن نوح عليه‌السلام حين تخلّف عن ركوب السفينة اتخذ قارورة قدر ما تحمله ، وصعد على الجبل ، فلما بلغه الماء دخل فيها ، وأغلقها على نفسه ، وأرسل عليه إدرار البول حتى مات غريقا فيه ، فاكسرها بحجر عزيمة التوبة ، وناد بلسان حالك ومقالك : يا منقذ الغرقاء ، ويا منجى الهلكى ، انقذنى ؛ فإنى ذاهب ، لعل حنين صوتك يشفع فيك ، أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه.

__________________

(١) الروح يذكر ويؤنث.

٥٠٣

(مُتَّكَأً (١)) : بسكون التاء وتنوين الكاف هو الأترج بلغة الحبشة. قاله ابن أبى حاتم : وبفتح التاء ما يتّكأ عليه ، وإعطاؤها السكاكين للنساء يدلّ على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج وقيل كان لحما. وقيل : أعتدت لهن فراشا يتّكئن عليه.

(مُزْجاةٍ (٢)) : أى قليلة ، بلسان العجم. وقيل ناقصة. وقيل : إنّ بضاعتهم كانت عروضا ، فلذلك قالوا هذا حياء منه ، وطلبوا منه الصدقة ، ودعوا له ، وقالوا : إن الله يجزى المتصدّقين ، وسمّوا الزيادة صدقة.

وهذا يقتضى أن الصدقة كانت حلالا لهم قبل نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : تصدق علينا بردّ أخينا إلينا ، فلما شكوا له رقّ لحالهم وعرّفهم [١٨٦ ب] حينئذ بنفسه ، فتشبّه بهم واستح من مولاك بنقص بضاعتك ، لعله يمدك ، لأن الجفاء يذهب بالصفاء ، كيف يصل روح التوحيد والمعرفة الوافية إلى القلوب الجافية الخاطئة القاسية! فإن قلت : ما منعهم من قولهم : إن الله يجزيك على صدقتك ، بل عرضوا له؟

فالجواب أنهم كانوا يعتقدون كفره ، لأنهم لم يعرفوه ، فلو قالوا : إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا ، لأن الله لا يجزى الكافر. فقالوا لفظا يوهم أنهم أرادوه ولم يريدوه.

(مُعَقِّباتٌ (٣)) : قد قدمنا أنهم جماعات الملائكة ، وسمّوا بذلك لأنهم

__________________

(١) يوسف : ٣١

(٢) يوسف : ٨٨

(٣) الرعد : ١١

٥٠٤

يعقب بعضهم بعضا ؛ ومنه الحديث : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. وأما قوله تعالى (١) : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ـ فمعناه الذى يكر على الشيء فيبطله ، يقال : عقب الحاكم على حكم من قبله إذا حكم بعد حكمه بغيره.

(مصرخكم (٢)): مغيثكم. واختلف : هل هذا من قول الشيطان فى القيامة أو فى النار؟

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٣)) : الضمير للظالمين. والمعنى أنهم يسرعون يرفعون رءوسهم ويخفضونها من شدة ما يرون من الهول.

والهواء المراد به هنا الريح ؛ يعنى أنّ أفئدتهم كالهواء ، إشارة إلى ذهابها وعدم انتفاعهم بها.

ويحتمل أن يراد العقل ، ولا سيما إذا قلنا إن محلّه القلب ؛ وهو أن عقولهم تذهب وتصير كالهواء ؛ لأنهم يذهلون لشدة ما ينالهم. وهذا تشبيه. والبيانيون يجعلونه استعارة ؛ لأنهم يقولون : زيد كالأسد تشبيه ، وزيد (٤) أسد استعارة ، ورأيت أسدا يكر ويفر فى الحرب فيه خلاف عندهم ، وكذلك زيد مثل الأسد.

(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ (٥)) : يعنى الوعد بالنصر على الكفار.

فإن قلت : لم قدم المفعول الثانى على الأول؟

فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق ؛ ثم قال

__________________

(١) الرعد : ٤١

(٢) إبراهيم : ٢٢

(٣) إبراهيم : ٤٣

(٤) بل يقولون : إنه تشبيه بليغ.

(٥) إبراهيم : ٤٧

٥٠٥

(رُسُلَهُ) ، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه ؛ فقدّم الوعد أولا لقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص.

(مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (١)) : يعنى المجرمين مربوطين فى الأغلال ؛ وهذا كقوله تعالى (٢) : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً). وقوله (٣) : مقرنين دعوا هنالك ثبورا ؛ أى يا ثبوراه ، كقول القائل : يا حسرتى ، يا أسفى.

(متوسمين (٤)) : حقيقة التوسّم النظر إلى السمة ، وهى العلامة التى يعرف بها المرء ، ومعناها الفراسة ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله.

(مُخْلِصِينَ (٥)) : المخلص : هو الذى يغويه إبليس بالتزيّن ، ولا يسمع منه ؛ أو يزين له ولا يغويه.

فإن قلت : هل التزيّن والإغواء بمعنى واحد؟

فالجواب أنّ الإغواء يستلزم الفعل ، والتزين لا يستلزمه ؛ فقوله تعالى (٦) : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) مسبّب عن الإغواء ، لا عن التزين ؛ فالمخلصين يزين لهم ولا يغويهم ، ولا يقدر عليهم بوجه.

(مُقِيمٍ (٧)) : أى ثابت يراه الناس. والضمير للمدينة المهلكة التى أخذتها (٨) الصيحة.

(مُشْرِقِينَ (٩)) : أى داخلون فى الشروق ، وهو وقت بزوغ الشمس.

__________________

(١) إبراهيم : ٤٩

(٢) الحاقة : ٣٢

(٣) الفرقان : ١٣

(٤) الحجر : ٧٥

(٥) الحجر : ٤٠

(٦) الحجر : ٤٠

(٧) الحجر : ٧٦

(٨) فى ا : أخذتهم.

(٩) الحجر : ٧٣

٥٠٦

(مُبِينٍ (١)) : أى واضح. وضمير التثنية (٢) فى (إِنَّهُما) قيل لمدينة قوم لوط أو قوم شعيب ، «فالإمام» على هذا الطريق. وقيل للوط ولشعيب ، أى أنهما على طريق من الشرع واضح.

(مستهزئين (٣)) : كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاصى بن وائل ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الطلاطلة (٤) ، كانوا يستهزءون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفى الله نبيّه أمرهم ، وأهلكهم بمكة.

وقيل : كأبى جهل وأصحابه ، أهلكهم الله ببدر. ويحتمل الجميع.

(مُنْكِرَةٌ (٥)) : نعت للقلوب (٦) ، يعنى أنهم أنكروا وحدانية الله ، واستكبروا عنها. والفاء للتسبيب ، وليس هو من باب ذكر اللازم عقب الملزوم ؛ وإنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه [١٨٧ ا] ؛ لأنّ لازم كونه إلها واحدا التصديق لا الإنكار والكفر.

وظاهر كلام الزمخشرى أنّ الوحدانية ثابتة بالعقل ؛ لأنه قال (٧) : قد ثبت بما تقدّم إبطال أن تكون الإلهية لغيره ، فكان من نتيجة [ثبات](٨) الوحدانية ووضوح [دليلها](٩) استمرارهم على شركهم.

وظاهر كلام ابن عطية أنها ثابتة بالسمع ؛ لأنه قال : لمّا تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحقّ بالوحدانية ؛ وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله متّحد وحدة تامة ، لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها.

__________________

(١) الحجر : ٧٩

(٢) من قوله فى الآية نفسها : فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ

(٣) الحجر : ٩٥

(٤) فى ا : عيطلة.

(٥) النحل : ٢٢

(٦) يريد فى المعنى ، وإلا فهى خبر لكلمة قلوبهم.

(٧) فى الكشاف : ١ ـ ٥٢٢

(٨) ليس فى ا.

(٩) ليس فى ا.

٥٠٧

والصحيح أنها مستفادة منهما معا.

ابن عرفة القضية على ثلاثة أقسام :

عقلية ؛ كقولك الواحد نصف الاثنين ، والجوهر متحيّز أو مفتقر إلى العرض.

وشرعية ؛ كقولك : الميت يبعث.

ومركبة منهما ، كقولك : الله سميع بصير.

واختلفوا فى قولك : الله إله واحد ؛ فذهب الفخر إلى صحة إثباته بالسمع. ونقل ابن التّلمسانى فى شرح المعالم الدينية عن بعضهم أنه لا يصح إثباته بالسمع.

وقال فى شرح المعالم الفقهية : إنّ ما تتوقّف دلالة المعجزة عليه لا يصحّ إثباته بالسمع ؛ كوجود الإله ؛ لئلا يلزم عليه الدور. وما لا يتوقف عليه يصح إثباته بالسمع ؛ ككونه واحدا ؛ ذكره فى أول الباب السابع فى الإجماع.

وعندى أنّ الآية تدل على صحة إثبات الوحدانية بالسمع والعقل ؛ لقوله : فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ، كأنه يقول : فالمكذبون بالآخرة قلوبهم منكرة ؛ ولو كانت لا تتوقف على السمع لقال : فالصمّ العمى ، أو فالمتصاممون قلوبهم منكرة ، فذكره عقيب الإيمان يشعر بعليّته له ، فهو دليل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة ، ولو لم يكن معلّقا على الإيمان لما ذكره بعده.

(مُفْرَطُونَ (١)) : بكسر الراء والتخفيف من الإفراط ، أى متجاوزون

__________________

(١) النحل : ٦٢

٥٠٨

الحدّ فى المعاصى. وبفتح الراء والتخفيف ، من الفرط ؛ أى يعجلون إلى النار. وبكسر الراء والتشديد من التفريط.

(منكر (١)) : هو أعم من الفحشاء (٢) ؛ لأنه يعم جميع المعاصى.

(ملئت مِنْهُمْ رُعْباً (٣)) : الضمير لأصحاب الكهف ، وضمير الخطاب لنبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ يعنى أنك يا محمد لا تستطيع النظر إليهم لما ألبستهم من الهيبة ؛ فإذا كان القوىّ الجأش لا يستطيع النظر إليهم فكيف يدعى غيره رؤيتهم؟

(مُلْتَحَداً (٤)) : أى ملجأ تميل إليه فتجعله حرزا.

(مهل (٥)) : هو بلسان أهل المغرب. وقيل بلغة البربر : دردىّ الزّيت إذا انتهى حرّه ، وروى هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : هو ما أذيب من الرصاص وشبهه.

(مُرْتَفَقاً (٦)) : هو شىء يرتفق به. وقيل يرتفق عليه من الارتفاق ، بمعنى الاتّكاء.

(مُنْقَلَباً (٧)) : أى مرجعا ؛ وهذا قول المؤمن لأخيه الكافر ؛ أى إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخى لأجدنّ فى الآخرة خيرا من جنّتى فى الدنيا.

وقرئ خير منهما بضمير الاثنين للجنتين ، وبضم الواحدة (٨) للجنة.

__________________

(١) النحل : ٩٠

(٢) فوقها فى الأصل : الفحش.

(٣) الكهف : ١٨

(٤) الكهف : ٢٧

(٥) الكهف : ٢٩

(٦) الكهف : ٣١

(٧) الكهف : ٣٦

(٨) فى ا : الوحدة.

٥٠٩

(مُقْتَدِراً (١)) : من أسماء الله ، ومعناه من له القدرة والقوة والعظمة والكبرياء ؛ وإنما يوصف بذلك تعظيما ؛ فكلّ مقدور معلوم ، وليس كل معلوم مقدورا ؛ لأن المحالات كلها معلومة للقديم سبحانه ، وليست بمقدورة له ؛ لأنه لا يوصف بالقدرة على خلق نفسه ، ولا على خلق كلامه ، أو شىء من جهاته الذاتية ، ولا على الجمع بين الضدّين ، وجعل الشخص فى مكانين فى وقت واحد ، ولا على أن يجعل العالم بأسره فى بيضة كما يعتقده الجاهل.

فإن قلت : مقدوراته أكثر أم معلوماته؟

فالجواب أن إطلاق هذا السؤال خطأ ؛ لأنه إن أراد السائل مقدوراته التى لم توجد مع معلوماته التى لم توجد لم تصح المفاضلة بينهما ؛ لأن ما ليس بشيء [١٨٧ ب] لا يقال إنه أكثر مما ليس بشيء ، وإن أراد بذلك مقدوراته الموجودة مع معلوماته أكثر ؛ لأن ذاته وصفاته معلومة له ، وليست بمقدورة له ؛ بل كانت مقدورة له ، وهكذا الموجودات فى حال وجودها فى الحال من الحدوث معلومة له ؛ وليست بمقدورة له ؛ بل كانت مقدورات له فى حال الحدوث. والله أعلم.

(مُواقِعُوها (٢)) : الضمير للمشركين وشركائهم ، وضمير التأنيث عائد على النار ؛ ويعنى أنهم يظنّون أنهم يقعون فيها ؛ والظنّ هنا بمعنى اليقين.

(مهلكهم مَوْعِداً (٣)) : بضم الميم (٤) وفتح اللام : اسم مصدر من أهلك.

(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ (٥)) : يعنى بالقتل والظلم وسائر وجوه الشر.

__________________

(١) الكهف : ٤٥

(٢) الكهف : ٥٣

(٣) الكهف : ٥٩

(٤) قراءة حفص بفتح الميم وكسر اللام.

(٥) الكهف : ٩٤

٥١٠

وقيل : كانوا يأكلون بنى آدم. والضمير يعود على يأجوج ومأجوج ؛ وهما قبيلتان من بنى آدم فى خلقتهم تشويه فى الطول والقصر وطول الأذنين.

(مثلى (١)) : حسنى ، تأنيث أمثل.

(مُحْدَثٍ (٢)) ، بفتح الدال ، يعنى أن هذا القرآن مجدّد النزول ؛ لأنه قديم متعلق بالذات القديمة ، لم يقرأ ولم يسمع ؛ فلما خلق الله الخلق وأوجدهم كتبه فى اللوح المحفوظ أو فى ألواح على ما روى ، ونزل به جبريل إلى بيت العزّة ، كما قدمنا ؛ فصار يتجدّد بالنزول به على نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فصار مقروءا متلوّا مكتوبا مسموعا ؛ وذلك لا يوجب تغيّر حاله ، كما أن مولانا جلّ وعلا لم يكن فى الأزل معبودا ولا مسجودا [له](٣) ولا مذكورا ؛ فخلق الخلق ليعبدوه ويوحّدوه ويذكروه ؛ فصار لهم معلوما ومعبودا.

(مُشْفِقُونَ (٤)) : خائفون. والضمير عائد على الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، فهؤلاء ملائكة مطهّرون مشفقون من العقوبة.

وأنت أيها المتلطخ لا تشفق مع عصيانك ، وهو كل يوم يناديك : عبدى ـ أرسلت إليك رسائل المواعظ تناديك : ارجع إلىّ ؛ الملائكة صفو بلا كدر ، والشياطين كدر بلا صفو ؛ وأنت مجمع البحرين ، فمتى غلب صفو عقلك على كدر شهوتك أخدمتك حملة العرش بمدحة ويستغفرون للذين آمنوا ، يا مودعا بدائع البدائع ، الأكوان ألواح ، وأنت الكاتب ، وشجرة وأنت الثمر ، وقوالب وأنت المعنى ، ونافجة (٥) وأنت المسك ، ودفتر وأنت الخطوط ؛ يا عجبا لك كيف أعجبك دخان الشهوات عن أسرار المشاهدات؟ اشتغلت بجمع الفانى

__________________

(١) طه : ٦٣

(٢) الأنبياء : ٢

(٣) ليس فى ا.

(٤) الأنبياء : ٢٨

(٥) النافجة : وعاء المسك.

٥١١

عن التلذّذ بخدمتنا ، وشرهت عليها شره الكلب للجيفة ، ولم تشفق من عتابنا ؛ أما سمعت أهل الجنة يقولون : إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين ، فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ، فكيف تطمع أن تكون من أهلها وأنت غير مشفق من عذابنا. اللهم ارحمنا إذا صرنا إليك ، والطف بنا يوم الوقوف بين يديك ، فإنّ قلوبنا قد ماتت عن طاعتك ، وأعيننا قد جمدت من خشيتك ، وآذاننا صمّت عن سماع موعظتك ، وعقل العقل عن التفكر فى آياتك ، وخرس اللسان عن شكر نعمتك ، وقيدت الأقدام عن الإقدام إلى حضرتك ، فنحن كالذى استهوته الشياطين ، فلا تؤاخذنا بذنوبنا ، وعاملنا بفضلك وكرامتك بجاه أكرم الخلق عندك ، وخيرتك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مُضْغَةٍ (١)) : قطعة لحم.

(مُخَلَّقَةٍ (٢)) : تامة الخلقة.

(وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (٣)) : غير التامة ، كالسقط. وقيل المخلّقة المسوّاة السالمة من النقصان.

(معتر (٤)) : المتعرض بغير سؤال ، ووزنه مفتعل ؛ يقال : اعتررت القوم ، إذا تعرضت لهم.

والمعنى أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممّن تعرض بلسان حاله. أو أطعموا من تعفّف عن السؤال بالكلية ، ومن تعرّض للعطاء.

(الْمُخْبِتِينَ (٥)) : الخاشعين. وقيل المتواضعين. وقيل : نزلت فى أبى بكر

__________________

(١) الحج : ٥

(٢) الحج : ٥

(٣) الحج : ٥

(٤) الحج : ٣٦

(٥) الحج : ٣٤

٥١٢

وعمر وعثمان وعلىّ. وكذلك قوله بعد ذلك (١) : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ). واللفظ فيها أعمّ من ذلك.

(مُعاجِزِينَ (٢)) : مسابقين. ومعجزين : فائتين ، ويقال مثبطين.

(مُخْضَرَّةً (٣)) ؛ أى تصير الأرض خضراء بالمطر.

وقيل : إنها لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارّة ؛ وفهم بعضهم أنه أراد به صبيحة ليلة المطر ؛ وأما على معنى تصير فذلك عامّ فى كل بلد ، والفاء (٤) للعطف ، وليست بجواب ؛ ولو كانت جوابا لقوله : [١٨٨ ا] ألم تر ـ لنصبت الفعل ، وكان المعنى نفى حضرتها ؛ وذلك خلاف المقصود ؛ وإنما قال بنفى المضارع ليفيد بقاءها كذلك مدة.

(مُعْرِضُونَ (٥)) : أى لا يستمعون إلى لغو الكلام ، ولا يدخلون فيه. وأنواعه كثيرة نحو العشرين نوعا.

ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضى ذلك من باب أولى وأحرى.

(مُذْعِنِينَ (٦)) ؛ أى منقادين مطيعين لقصد الوصول إلى حقوقهم.

وسبب نزولها أنّ رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودىّ خصومة ، فدعاه اليهودى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعرض عنه ودعاه إلى كعب ابن الأشرف.

__________________

(١) الحج : ٣٧

(٢) الحج : ٥١

(٣) الحج : ٦٣

(٤) الفاء فى قوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة.

(٥) المؤمنون : ٧١

(٦) النور : ٤٩

٥١٣

(مُتَبَرِّجاتٍ (١)) : أى مظهرات للزينة ؛ فأباح الله للنساء وضع الثياب بشرط ألّا يقصدن إظهار زينة.

وقيل متبرجات متكشفات الشعور.

(مُسْتَقَرًّا (٢)) : إقامة.

(مُشْرِقِينَ (٣)) : قد قدمنا أنه وقت طلوع الشمس. وقيل معناه هنا نحو المشرق. وانتصابه على الحال.

(مدركون (٤)) : لما خاف قوم موسى من إدراك فرعون لهم قالوا هذا.

(مسحرين (٥)) : معلّلين (٦) بالطعام والشراب ؛ أى أنك بشر مثلنا.

(مجرمين (٧)) : يحتمل أن يريد به كفار قريش أو المتقدمين.

(مُنْظَرُونَ (٨)) : تمنّوا أن يؤخّروا حين لم ينفعهم التمنى.

(مخسرين (٩)) ؛ أى ناقصين الكيل والوزن.

(مُبْصِرَةً (١٠)) : واضحة الدلالة. وإسناد الإبصار لآيات موسى مجاز ؛ وهو فى الحقيقة لمتأملها.

(مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ (١١)) : هذا من كلام بلقيس تأكيدا للمعنى الذى أرادته حين قالت لقومها : إنى مجربة هذا الرجل بهديّة من نفائس الأموال ؛

__________________

(١) النور : ٦٠

(٢) الفرقان : ٢٤

(٣) تقدمت فى الحجر : ٧٣ ، وهذه فى الشعراء : ٦٠

(٤) الشعراء : ٦١

(٥) الشعراء : ١٨٥

(٦) والقرطبى : ١٣ ـ ١٣٠

(٧) الشعراء : ٢٠٠ ، والنمل : ٦٩

(٨) الشعراء : ٢٠٣

(٩) الشعراء : ١٨١

(١٠) النمل : ١٣

(١١) النمل : ٣٥

٥١٤

فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال ، وإن كان نبيئا لم يرضه المال ؛ وإنما يرضيه دخولنا فى دينه.

وقد أكثر الناس فى وصف هذه الهدية ، تركناه لطوله ؛ فانظر هذا اللطف والسياسة من نبىّ الله سليمان فى دعاية بلقيس إلى الإيمان ؛ فقدّم لها أولا الكتاب ، وقدم فيه اسمه على اسم الله ؛ لأنه واسطة بينه وبين الله ، ولما كان الأنبياء فى البشرية من جبلّة المرسل إليهم ، وجنسهم فى الظاهر ، واصطفاهم الله بعلمه وحكمته ، كانوا أكثر فهما وإدراكا. ولذلك قال لمن أتى بهديّة بلقيس (١) : (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) ؛ فلما رأت ذلك منه خافت وفزعت وأسلمت مع سليمان.

فإن قلت : كيف خفى على سليمان مكانها ، وكانت المسافة بين محله وبين بلدها قريبة ؛ وهى مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟

فالجواب أن الله أخفى ذلك عنه لمصلحة رآها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب.

فإن قلت : كيف قال الهدهد : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ـ مع قول سليمان : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، كأنه سوّى بينهما.

والجواب فرق ما بينهما أنّ سليمان قال ذلك من المعجزات والنبوءة وأسباب الدين وأسباب الدنيا ؛ فهذا العطف على شكر مولاه وعطف الهدهد على الملك ، ولم يرد إلا ما أعطيته بلقيس من أسباب الدنيا اللائقة بحالها ؛ فبين الكلامين بون بعيد.

__________________

(١) النمل : ٣٦

٥١٥

(مُمَرَّدٌ (١)) : أملس ، ومنه الشجرة المرداء ، والأمرد الذى لا شعر على وجهه.

(محضرين (٢)) : أى للنار.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (٣)) : منصوب على الحال ، من قولك (٤) : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) ؛ لأن الخطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد هو وأمّته ؛ فلذلك جمعهم فى قوله : منيبين.

وقيل هو حال من قوله (٥) : (فَطَرَ النَّاسَ) ، وهذا بعيد.

(معوقين (٦)) ؛ أى يمنعون الناس من الجهاد ، ويعوقونهم بأقوالهم وأفعالهم. ويقال عاقه عن الأمر ، وعوقه وعقاه.

(مُقْمَحُونَ (٧)) : يقال قمح البعير إذا رفع رأسه ، وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك.

والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رءوسهم إلى الارتفاع. وقيل : المعنى مقمحون ممنوعون من كلّ خير.

(مُظْلِمُونَ (٨)) : داخلون فى الظلام.

(مُدْبِرِينَ (٩)) : أى تركوا إبراهيم إعراضا منهم ، وخرجوا إلى عيدهم. وقيل : إنه أراد بالسقم (١٠) الطاعون ؛ وهو داء يعدى ، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى.

__________________

(١) النمل : ٤٤

(٢) القصص : ٦١

(٣) الروم : ٣١

(٤) آية ٣٠ قبلها فى السورة.

(٥) آية ٣٠ قبلها فى السورة.

(٦) الاحزاب : ١٨

(٧) يس : ٨

(٨) يس : ٣٧

(٩) الصافات : ٩٠

(١٠) فى قوله : آية ٨٩ قبلها : فقال إنى سقيم.

٥١٦

(مُسْتَسْلِمُونَ (١)) : أى معطون بأيديهم.

(مُشْتَرِكُونَ (٢)) ؛ أى فى النار.

(محسنين (٣)) : جمع محسن ، ووصف به إبراهيم لمّا ابتلاه فوجده مجدّا [١٨٨ ب] فى طاعته.

فإن قلت : لم قال فى حقه (كَذلِكَ) دون قوله (إِنَّا) وقال فى غيره (إِنَّا كَذلِكَ)؟

فالجواب أنه تقدم فى قصة إبراهيم نفسها (إِنَّا (٤) كَذلِكَ) ، فأغنى عن تكرار (إِنَّا) هنا.

(مدحضين (٥)) ؛ أى مغلوب فى القرعة والحاجة ، وسبب مقارعته أنه (٦) لما ركب السفينة وقفت ولم تجر ، فقالوا : إنما وقفت من حادث حدث ، فنقترع لنرى على من تخرج القرعة فنطرحه ؛ فاقترعوا ، فخرجت القرعة على يونس ، فطرحوه فى البحر ؛ فأوحى الله إلى حوت من حيتانه : «اذهب فالتقمه ، ولئن خدشت له لحما ، أو كسرت له عظاما لأعذّبنك عذابا لم أعذّبه أحدا من العالمين ؛ فالتقمته (٧) ومشت به البحار كلّها تفخر على أبناء جنسها ، حتى نبذته بالعراء وهو سقيم بعد أربعين يوما».

وروى أن الحوت صام أربعين يوما.

وأنت يا محمدى ، أكرمك الله بالقرآن ، وفضّلك بالإيمان ، ولا تمتنع عن الآثام ، ولا تفخر على أبناء جنسك.

ولما خسف الله بقارون ، واستغاثت الأرض ، وقالت : اللهم كما أريتنا عدوّا من أعدائك فأرنا حبيبا من أحبابك لنتسلّى برؤية الحبيب.

__________________

(١) الصافات : ٢٦

(٢) الصافات : ٣٣

(٣) الصافات : ١١٠

(٤) الصافات : ١٠٥

(٥) الصافات : ١٤١

(٦) هو يونس كما فى الآية ١٣٩

(٧) الحوت : السمك كما فى القاموس.

٥١٧

وكذلك بيت المقدس لما خرّبه بخت نصّر استغاث بالله ، فأراه الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء ؛ وهذه هى الحكمة فى إسرائه من بيت المقدس.

ولما أوحى الله إلى البحر أن ينفلق لفرعون حتى يدخل فيه استغاث ، فدخل فيه موسى أمامه.

وكذلك النار لما علمت أنها دار أعدائه سألته أن يريها أحبّاءه ، فأدخل المؤمنين النار لتتسلّى برؤية الأحبّاء عن رؤية الأعداء ؛ قال تعالى (١) : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ؛ والمقصود بورودهم إجابة دعوة النار لا الإحراق ؛ قال تعالى (٢) : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

واعلم أنّ الله تعالى ابتلى تسعة من الأنبياء فوجدوا تسعة أشياء : ابتلى آدم بوسوسة الشيطان فوجد التوبة ، وإبراهيم بالنار فوجد الخلّة ، وإسماعيل بالذبح فوجد الفداء ، ويعقوب بالشدّة والقحط فوجد [الفرج ، والملك](٣) ، ويوسف بالسجن فوجد الصديقية ، وأيوب بالبلاء فوجد الصبر ، ويونس بالحوت فوجد النجاة ، ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليتم فوجد العزّة ؛ قال تعالى (٤) : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، وسليمان ابتلاه الله نزول الملك فوجد الإنابة. وسبب زوال ملكه أنه نظر إليه فابتلاه الله بإلقاء الجسد على كرسيه وإلى ملئه وقوّته فابتلاه بآصف ، وإلى سياسته فابتلاه بالهدهد ؛ فقال (٥) : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ؛ وإلى جنوده فابتلاه بنملة قالت له تنظر إلى جنودك ولو عرضت عليك جنودى سنة لم يفرغوا ؛ فإياك والنظر إلى غيره سبحانه ، فتبتلى ؛ لأنّ من عادته سبحانه أنّ من أحبّ شيئا ابتلى بفراقه ؛ فإن رجع إلى الله ردّه الله عليه ؛ كسليمان

__________________

(١) مريم : ٧١

(٢) مريم : ٧٢

(٣) مكان ما بين القوسين بياض بالأصلين.

(٤) النجم : ٩

(٥) النمل : ٢٢

٥١٨

لما رجع إلى الله ردّ الله عليه ملكه. وموسى لما رجع إلى الله ردّ الله عليه عصاه ؛ فقال له : خذها ولا تخف. ويعقوب قال : إنما أشكوا بثّى وحزنى إلى الله جمع الله شمله به ؛ وإبراهيم لما رجع إلى الله فى ذبح ولده فداه الله بذبح عظيم.

وتأمّل هذا اللطف منه سبحانه حيث لم يرد مواجهة خليلة بقتل ولده بالوحى ، فأراه فى المنام ؛ وكذلك الحق سبحانه يقول : «ما تردّدت فى شىء كترددى فى قبض روح المؤمن ؛ هو يكره الموت وأنا أحبّ لقياه».

(مُلِيمٌ (١)) ؛ من اللوم ، وهو التعيير ؛ وذلك أنه فعل ما يلام عليه فى خروجه من قومه بغير إذن ربّه ، فحبسه فى بطن الحوت حتى طهره ، وأخرجه بتسبيحة واحدة ؛ وكذلك المؤمن يحبسه فى النار حتى يطهره من غير ألم يناله (٢) فيها لأن له عقد الوصلة ، كأيوب حلف أن يضرب زوجته (٣) مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ بيده ضغثا ـ وهو ملء كفّ من الحشيش كى لا تتأذّى امرأته بالضرب.

فإن قلت : كيف يجمع بين هذا وبين قوله (٤) : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) ـ فإنها تقتضى أنه لو لا التسبيح للبث ، فاللبث منتف لوجود التسبيح ؛ وهذه تقتضى لو لا تداركه النعمة لنبذ ، وهو مذموم ؛ فهو يقتضى انتفاء النبذ ، وانتفاء النبذ هو اللّبث ، وهذه [١٨٩ ا] تقتضى ثبوت اللبث لا انتفاء اللبث ، والأولى تقتضى انتفاء اللبث وكون اللبث مثبتا منفيا محال ؛ أو يقال الأولى تقتضى ثبوت النبذ والثانية انتفاؤه.

__________________

(١) الصافات : ١٤٢

(٢) فى ا : تبا لهم لأن لهم.

(٣) فوقها فى ب : امرأته.

(٤) الصافات : ١٤٣

٥١٩

وأجاب بعض الفضلاء بأنّ لو الأولى فى قوّة لو لا التسبيح لثبت اللبث ، والثانية فى قوة لو انتفت النعمة لنبذ ، ولما كان الواقع من مراد الله تعالى أنّ التسبيح ثابت كان انتفاؤه محالا ، والواقع أيضا أن النعمة ثابتة فانتفاؤها محال ، ولما كان ملزوم الشرطين محالا لا جرم ترتب عليه محال ؛ ونظّروه بقوله تعالى (١) : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ أى لا استؤصلوا ، ((٢) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ). وهذه تقتضى عدم الهلاك ، وإن أنزل الملك ؛ ولما كان جعل الملك على الوجه الذى طلبوه رسولا محالا لما سبق فى علمه لا جرم ترتّب عليه المحال ، والحقّ الواضح الذى لا تكلف فيه أن الآية الثانية إنما نفت النبذ المقيّد بكونه مذموما ، والنفى المقيد لا يستلزم نفى المطلق ؛ فلا يلزم نفى النبذ على وجه الإكرام ؛ وبه ينبغى الجواب عن آيتى الأنعام ؛ فإن الإهلاك الذى كنى عنه بقضاء الأمر إنما رتّب على إنزال الملك على صورته لا على صورة الرجل ، واللبس عليهم ؛ والذى يستلزم بقاءهم هو إنزاله على صفة الرجل ، أو يقال نلبس عليهم الأمر ، ثم نهالك.

(مُغْتَسَلٌ (٣)) وغسول : الماء الذى يغتسل به ، والموضع الذى يغتسل فيه أيضا.

وروى أنّ أيوب ضرب الأرض مرتين فنبع له عينان ، فاغتسل من أحدهما ، وشرب من الأخرى.

(مُقْتَحِمٌ (٤)) : أى داخل فى زحام وشدّة ؛ وهذا من كلام خزنة النار ، خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولا ، ثم دخل بعدهم أتباعهم ، وهم الفوج المشار إليه.

__________________

(١) الأنعام : ٨

(٢) الأنعام : ٩

(٣) ص : ٤٢

(٤) ص : ٥٩

٥٢٠