معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

(ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ (١)) : أى ما يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك ، وما يخرج منها من النبات وغيره.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ (٢)) : من المطر والملائكة والرحمة والعذاب.

(وَما يَعْرُجُ فِيها (٣)) : أى يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها.

(ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ (٤)) : قد قدمنا معناه. والمعنى هنا أولم يروا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذى خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم. ويحتمل أن يكون المعنى تهديدا لهم لقوله (٥) : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ ...) الآية.

(مَسْكَنِهِمْ (٦)) : الإشارة (٧) إلى قوم سبأ ، وقد قدمنا أن مساكنهم كانت بين الشام واليمن ، وكان الرجل منهم لا يتزود ويمشى فى ظل الشجر ، ولا يخاف من أحد ؛ فكفروا بأنعم الله ، وقالوا باعد بين أسفارنا ليتزوّدوا للأسفار ويمشوا فى المفاوز ؛ فجعل الله إجابتهم كما قال (٨) : (مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ؛ أى فرّقناهم فى البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم ؛ فقيل : تفرّقوا أيدى سبا. وفى الحديث : إن سبأ أبو عشرة من القبائل ، فلما جاء السيل على بلدهم تفرّقوا فتيا من منهم ستة ، وتشاءم أربعة.

(ما ذا قالَ رَبُّكُمْ (٩)) : تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ هذه الآية فى الملائكة عليهم‌السلام ، وقد قدمنا معنى ذلك.

__________________

(١) سبأ : ٢

(٢) سبأ : ٢

(٣) سبأ : ٢

(٤) سبأ : ٩

(٥) سبأ : ٩

(٦) سبأ : ١٥

(٧) يريد الضمير. وفى ا : مسكنهم.

(٨) سبأ : ١٩

(٩) سبأ : ٢٣

٤٠١

(ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها ... (١)) الآية ، معناها يحتمل وجهين : أحدهما ليس عندهم كتاب يدل على صحة أقوالهم ، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه ؛ فأقوالهم باطلة ؛ إذ لا حجة لهم عليها ، فالقصد على هذا الرد عليهم. والآخر أنه ليس عندهم كتاب ولا جاءهم نذير ؛ فهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم ؛ فلذلك بعث الله إليهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فالقصد على هذا إثبات نبوءته.

(ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ (٢)) : المعشار : العشر ، والضمير فى بلغوا لكفّار قريش ، وفى آتيناهم للكفار المتقدمين ؛ أى أن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله المتقدمين من القوة والأموال. وقيل الضمير فى بلغوا للمتقدمين ، وفى آتيناهم لقريش ؛ أى ما بلغ المتقدمين عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة. والأول أصح ؛ وهو نظير قوله (٣) : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ (٤)) : الضمير لنبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم إذا تفكّروا فى أقواله وأفعاله دلّهم ذلك على رجاحة عقله ، ومتانة علمه ، وأنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله.

(ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (٥)) : هذا كما يقول الرجل لصاحبه إن أعطيتنى شيئا فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ، ولكنه يريد البراءة من عطائه ، فكذلك معنى هذا ؛ فهو كقوله (٦) : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).

وقيل معناه : ما سألتكم من الصلاة فهو لكم.

(ما يَشْتَهُونَ (٧)) : الضمير للكفار ، يعنى أنهم يريدون الرّجوع

__________________

(١) سبأ : ٤٤

(٢) سبأ : ٤٥

(٣) فاطر : ٤٤

(٤) سبأ : ٤٦

(٥) سبأ : ٤٧

(٦) الفرقان : ٥٧

(٧) سبأ : ٥٤

٤٠٢

إلى الدنيا ، أو دخول الجنة ، أو الانتفاع بالإيمان حينئذ ؛ فيحال بينهم وبين شهوتهم.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ (١)) : الفتح فى هذه الآية : عبارة عن العطاء ، والإمساك عبارة عن المنع ، والإرسال والإطلاق بعد المنع ، والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خير الدنيا والآخرة. فمعنى الآية لا مانع لما أعطى الله ، ولا معطى لما منع.

فإن قيل : لم أنّث الضمير فى قوله : فلا ممسك لها ؛ وذكّره فى قوله : فلا مرسل له ، وكلاهما يعود على ما الشرطية.

فالجواب أنه لما فسّر الأول بقوله : من رحمة ـ أنّث لتأنيث الرحمة ، وترك الآخر على الأصل من التذكير.

(من زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ (٢)) : توقيف ؛ وجوابه محذوف ، تقديره أفمن زيّن له سوء عمله كمن لم يزيّن له. ثم [١٦٩ ب] بنى على ذلك ما بعده ؛ فالذى زين له سوء عمله هو الذى أضلّه الله ، والذى لم يزين له سوء عمله هو الذى هداه.

(مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (٣)) : قد قدمنا فى حرف الباء أنّ البوار معناه الهلاك ، ومعناه هنا أنّ مكرهم يبطل ولا ينفعهم.

(ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ... (٤)) الآية. معناها أنّ التعمير ـ وهو طول العمر ، والنقص وهو قصره ـ مكتوب فى اللوح المحفوظ.

__________________

(١) فاطر : ٢ ، وبقية الآية : فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ...

(٢) فاطر : ٨

(٣) فاطر : ١٠

(٤) فاطر : ١١

٤٠٣

فإن قيل : إن التعمير والنقص لا يجتمعان فى شخص واحد ؛ فكيف أعاد الضمير فى قوله (١) : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) على الشخص المعمر؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول ـ وهو الصحيح ـ أن المعنى لا يزاد فى عمر إنسان ، ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب ؛ فوضع من معمر فى موضع من أحد ؛ وليس المراد شخصا واحدا ؛ وإنما ذلك كقولك : لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق.

والثانى ـ أن المعنى لا يزاد فى عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب (٢) ؛ وذلك أن يكتبه فى اللوح المحفوظ إن تصدّق فلان فعمره ستّون سنة ، وإن لم يتصدق فعمره أربعون ؛ وهذا ظاهر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلة الرحم تزيد فى العمر» ، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين ، وليس مذهب الأشعرية. وقد قال كعب حين طعن عمر : لو دعا الله فزاد فى أجله ، فأنكر الناس ذلك عليه ، فاحتج بهذه الآية.

والثالث ـ أن التعمير هو كتب ما يستقبل من العمر ، والنقص هو كتب ما مضى منه فى اللوح المحفوظ ؛ وذلك فى حق كل شخص.

(ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ (٣)) : قد قدمنا معنى البحرين ، والقصد فى هذه الآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده. وقال الزمخشرى (٤) : إن الله ضرب البحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر ؛ وهذا بعيد.

(ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ (٥)) : الآية تمثيل لمن آمن ؛ فهو كالحىّ ؛

__________________

(١) فاطر : ١١

(٢) الكشاف : ٢ ـ ٢٤٠

(٣) فاطر : ١٢

(٤) الكشاف : ٢ ـ ٢٤١

(٥) فاطر : ٢٢

٤٠٤

ومن لم يؤمن فهو كالميت. وقوله (١) : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) عبارة عن عدم سمع الكفّار للبراهين والمواعظ ؛ فشبّههم بالموتى فى عدم إحساسهم.

وقيل المعنى أنّ أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون ، فليس عليك أن تسمعهم ؛ وإنما بعثت إلى الأحياء.

وقد استدلت عائشة بالآية على أنّ الموتى لا يسمعون ؛ وأنكرت ما ورد من خطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتلى بدر حين جعلوا فى القليب ، وقوله : ما أنت بأسمع لما أقول لهم منهم» ؛ ولكن يمكن الجمع بين قولها وبين الحديث بأنّ الموتى فى القبور إذا ردّت إليهم أرواحهم سمعوا ، وإن لم ترد إلى أجسادهم لم يسمعوا ؛ فردّ الله إلى أهل القليب أرواحهم ليسمعوا خطابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهويلا لهم وحسرة فى قلوبهم.

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ (٢)) : ما نافية. والمعنى لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم. وقيل المعنى لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم ؛ فما على هذا موصولة بمعنى الذى أو مصدرية ؛ والأول أرجح ؛ لقوله (٣) : (فَهُمْ غافِلُونَ) ؛ يعنى أنّ غفلتهم بسبب عدم إنذارهم ، ويكون بمعنى قوله (٤) : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ). ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين ؛ فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقدمون.

(مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ (٥)) ؛ أى غير مشاهد له ؛ إنما يصدّق رسوله ويسمع كتابه.

__________________

(١) فاطر : ٢٢

(٢) يس : ٦

(٣) يس : ٦

(٤) السجدة : ٣

(٥) يس : ١١

٤٠٥

فإن قلت : كيف قرن بالخشية الاسم الدالّ على الرحمة فى يس وق ، وفى فاطر (١) أضافه للربوبية؟

وجوابك : معناه فى فاطر أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربّهم وهم غائبون عن عذابه وغائبون عن الناس ، فخشيتهم حقّ لا رياء ، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار. بالغيب فى موضع الحال من الفاعل فى (يَخْشَوْنَ) ؛ وإنما ذكر الرحمة مع الخشية لقصد المبالغة فى الثناء على من يخشى الله ؛ لأنه يخشاه مع علمه بحمله ورحمته. قال الزمخشرى : ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن قد صار يستعمل استعمال الاسم ، كقولنا الله.

(مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً (٢)) : هذا من قول حبيب النجار لقومه ؛ يعنى أن هؤلاء المرسلين لا يسألونكم أجرة [١٧٠ ا] على الإيمان فتخسرون (٣) معهم ويثقل عليكم ؛ وإنما يطلبونكم لمنفعتكم الأخروية ، والذى يطلبك لنفسك من غير طمع فى دنياك أولى باتباعه لتمحض نصحه ، ثم دلّهم على اتباعه :

(ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي (٤)) : معناه أى شىء يمنعنى عن عبادة ربى؟ وهذا توقيف وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ولذلك قال لهم (٥) : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ فخاطبهم بخطاب من يشاهدون رجوع قومهم واحدا بعد واحد.

(ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ (٦)) : المعنى أن الله

__________________

(١) فى فاطر : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب (آية ١٨)

(٢) يس : ٢١

(٣) هذا بالأصلين ، وفى الكشاف (٢ ـ ٢٥٠) : أى لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم.

(٤) يس : ٢٢

(٥) يس : ٢٢

(٦) يس : ٢٨

٤٠٦

أهلكهم بصيحة صاحها جبريل ، ولم يحتج فى تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء ؛ لأنهم أهون من ذلك.

وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش (١) : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). وقالوا أيضا (٢) : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). فردّ الله عليهم بقوله (٣) : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ؛ يعنى أنّ نزول الملائكة لغير النبى إنما هو للانتقام منه أو لقبض روحه. وقد جرت حكمة الله أن إيمان خلقه إنما يكون نظريا بالدليل والبرهان ، ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان به ، لأنهم رأوا الحقّ عيانا ، ورأوا المعجزات التى آمن بها الصحابة ولم يروها ؛ فطوبى لمن رأى صحفا تتلى سوادا فى بياض ، وآمن بها وصدقها ، وكيف لا وقد قال فيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أولئك إخوانى حقا.

(ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٤)) ؛ أى ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد ؛ وبهذا يتبيّن لك أن لفظ الجند أليق بالمعنى الأول ، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك.

فإن قلت : قوله تعالى فى الأحزاب (٥) : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) ؛ وقد أنزل الله خمسة آلاف ملك يوم بدر وحنين لنصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

والجواب أن معناه ما كان يصح فى حكمتنا أن ننزل فى إهلاك قوم حبيب جندا من السماء ؛ وذلك أن الله عزوجل أجرى هلاك قوم بالريح ، وقوم

__________________

(١) الفرقان : ٧

(٢) الحجر : ٧

(٣) الحجر : ٨

(٤) يس : ٢٨

(٥) الأحزاب : ٩

٤٠٧

بالصيحة ، وقوم بالغرق ، بحسب حكمته السابقة. ولما كان (١) إنزال الجنود من عظائم الأمور التى لا يستأهلها هؤلاء الكفرة أخذهم الله بأقلّ الأمور. ولما جعل الله الملائكة خدّاما لهؤلاء الأمة المحمدية يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم ، ليحظوا بحظ الردّ لحرمة حبيبهم وصفيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلهم يستغفرون لهم ، حتى إن جبريل طلب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تجوز أمّته على جناحه ليقيهم من حرّ نار جهنم ، وطلبت الملائكة يوم بدر وحنين ربها فى نصرتهم إكراما وتشريفا لنبيهم ؛ ألا تراهم ليلة القدر يطلبون النزول إليهم للسلام عليهم ، والحضور معهم ، يرغبون فى غفران ذنوبهم والتشفّع فيهم ؛ فمن أولى منك يا محمدى بالتشريف إن كنت من أمة النبى الشريف ؛ اللهم بحرمته عندك ، ومكانته لديك ، لا تحرمنا من رؤيته وجواره فى مستقرّ رحمتك ، واغفر لنا ما جنيناه ، إنك أنت الغفور الرحيم.

(ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ (٢)) : ما معطوفة على ثمره (٣) ؛ أى ليأكلوا من ثمره وممّا عملت أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة. وقيل : ما نافية. وقرئ : وما عملت بغير هاء ، وما على هذا معطوفة.

(مَنازِلَ (٤)) : مساكن ومواطن ، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كلّ ليلة واحدة منها من أول الشهر ثم يستتر فى آخره ليلة أو ليلتين. قال الزمخشرى (٥) : وهذه المنازل هى مواقع النجوم.

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ (٦)) : يعنى النفخة الأولى فى الصور ، وهى نفخة الصعق تأخذهم بغتة.

__________________

(١) فى الأصلين : كانت.

(٢) يس : ٣٥

(٣) فى الآية نفسها : ليأكلوا من ثمره ...

(٤) يس : ٣٩

(٥) الكشاف : ٢ ـ ٢٥٢

(٦) يس : ٤٩

٤٠٨

(مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا (١)) : المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر ، أو اسم مكان ، قال أبىّ بن كعب ومجاهد : إن البشر ينامون نومة قبل الحشر.

ابن عطية : وهذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه فى معنى قولهم : من مرقدنا أنها استعارة وتشبيه ، يعنى أنّ قبورهم شبّهت بالمضاجع ، لكونهم فيها على هيئة الراقد ، وإن لم يكن رقاد فى الحقيقة.

(ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٢)) : هذا (٣) [١٧٠ ب] مبتدأ محذوف الخبر ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم ، أو يكون من كلام الله تعالى ، والمؤمنون يقولونها للكفار على وجه التقريع.

(مَكانَتِهِمْ (٤)) : مكانهم. والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم فى مكانهم ؛ فلا يقدرون على الذهاب ولا على الرجوع.

(مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ (٥)) ؛ أى نحوّل خلقته من القوة إلى الضعف ، ومن الفهم إلى البله ، ومن الشباب إلى الهرم ، وشبه ذلك ؛ كما قال تعالى (٦) : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً).

واختلف فى حد التعمير الذى يصل الإنسان فيه إلى هذا. والصحيح أنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، وقد قدمنا الحديث : من صدق فى صغره حفظه الله فى كبره. فالذى تراه صادق اللهجة يحفظه فى كبره من ذهاب عقله. ومقصود الآية الاستدلال على قدرة الله ـ فى مشاهدتهم ـ على تنكيس الإنسان إذا هرم

__________________

(١) يس : ٥٢

(٢) يس : ٥٢

(٣) الإشارة إلى : ما وعد ... وفى الكشاف : (٢ ـ ٢٥٤) : هذا مبتدأ وما وعد خبره ، وما مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون هذا صفة المرقد وما وعد خبر مبتدأ محذوف ، أى هذا وعد الرحمن أو مبتدأ محذوف الخبر ، أى ما وعد الرحمن حق.

(٤) يس : ٦٧

(٥) يس : ٦٨

(٦) الروم : ٥٤

٤٠٩

فالذى يقدر على هذا يقدر على مسخكم لو لا رحمته بكم ؛ ولذلك ختم الآية بالعقل الذى هو أسّ الأمور.

(ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ (١)) : هذه الضمائر راجعة لنبيّنا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم قالوا له شاعر ؛ فرد الله عليهم بهذه الآية ؛ واعجبا منهم! وهم يرونه لا يزن شعرا ولا يذكره ؛ وإذا ذكر بيتا منه كسره ، ويقولون فيه شاعر! تبّا لهم!

فإن قلت : قد تكلّم بكلام على وزن الشعر ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : هل أنت إلا إصبع دميت. وفى سبيل الله ما لقيت.

وقال : أنا النبى لا كذب. أنا ابن عبد المطلب؟

فالجواب أن هذا ليس بشعر ، ولم يقصده ؛ وإنما جاء بالاتّفاق لا بالقصد ، كالكلام المنثور. ومثل هذا يقال فيما جاء فى القرآن من الكلام الموزون الذى تحدّاهم الله بسورة منه فلم يقدروا ، مع أنهم طبعوا على الفصاحة والشعر ؛ فهو من أعظم المعجزات. كأنه قال لهم : إن قلتم فيه إنه شاعر فأتوا أنتم بشعر مثله ، مع أنه ليس بشعر ، ولا ينبغى له الشعر لصدقه وأمانته ؛ والشعراء يتّبعهم الغاوون ألم تر أنّهم فى كلّ واد يهيمون. ولهذا ذمّ الله الشعراء ؛ لإفراط التجوّز فيه ، وإن ورد فى الحديث : إنّ من الشعر لحكمة ـ فإنما يصدق على ما هو عرى عن الأوصاف الذميمة ؛ ورحم الله الشافعى فى قوله : الشعر كلام ، والكلام منه حسن ومنه قبيح.

(مَنافِعُ وَمَشارِبُ (٣)) : قد قدمنا فى النحل معناه.

__________________

(١) يس : ٦٩

(٢) الكشاف : ٢ ـ ٢٥٦

(٣) يس : ٧٣

٤١٠

(مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ (١)) ؛ يعنى أن العاصى بن وائل أو أمية بن خلف ، أو أبىّ بن خلف ، على اختلاف الروايات أتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم ، فقال له : يا محمد ؛ من يحيى هذا؟ فقال له : الله يحييه ، ويميتك ثم يحييك ، ويدخلك جهنم ؛ فانظر كيف نسى خلقته الأولى ، واستعظم وجود الثانية ، هل هذا إلا من المعاندة فى المحسوس؟ فكيف يطلق اسم الخالق على من لم يخلق جميع الناس؟ ولقد أنزل الله خمس آيات على نبيه لو لم يكن منها إلا واحدة لمنعتنا من التمتع بهذه الدنيا (٢) : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ). ((٣) أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ). ((٤) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً). ((٥) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ). ((٦) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً).

فجميع المخلوقات على أصنافها لم يخلقها الله إلا لحكمة : الملائكة لخدمته ؛ وما منّا إلا مقام معلوم. والأرض للعبرة بها ؛ قل سيروا فى الأرض. وفى الأرض آيات للموقنين. والأنعام للمنفعة ؛ لتركبوا منها ومنها تأكلون. والعارف لعبادته ؛ وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون. والعالم للرحمة ؛ قال تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك. فهنيئا لمن فتح الله بصيرته وتبّا لمن أعماها له.

(ما كانُوا يَعْبُدُونَ (٧)) : يعنى الأصنام والآدميين الذين كانوا يرضون بذلك. وقد قدمنا أن فائدة دخول الأصنام والمعبودات النار زيادة نكالهم.

__________________

(١) يس : ٧٨

(٢) الجاثية : ٢١

(٣) فصلت : ٤٠

(٤) السجدة : ١٨

(٥) الرحمن : ٣١

(٦) المؤمنون : ١١٥

(٧) الصافات : ٢٢

٤١١

[١٧١ ا] (ما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١)) ؛ أى أىّ شىء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ فالقصد بهذا التأويل التهديد. أو أى شىء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره. والقصد بهذا تعظيم الله وتوبيخ لهم ، كما تقول : ما ظنّك بفلان! إذا قصدت تعظيمه.

(متعناهم إِلى حِينٍ (٢)) : الضمير يعود على قوم يونس لمّا آمنوا وخرجوا بالأطفال والبهائم ، وفرّقوا بينها وبين أولادها ، وتضرعوا إلى الله ، وأخلصوا بالبكاء ، وتابوا إلى الله توبة ، وعهدوا أن من كذب أو سرق أو زنى أقاموا عليه الحد ، وأنهم مشاركون فى علومهم وأموالهم ؛ فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.

واختلف ما المراد بالحين؟ وقد قدمناه فى حرف الحاء. وأما قوله تعالى (٣) : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) ، فقيل : سنة ، أو ستة أشهر ، أو شهران ؛ ولما دخل عليهم ذو القرنين وجدهم تائبين ، لا باب لبيت ، ولا غنىّ فيهم ولا فقير ، ولا عالم ولا جاهل ؛ كلّ واحد منهم جاد على جاره بما عنده من علم ومال ، فطلب أن يدفن معهم.

وقد ذكر الناس فى قصصهم طولا تركناه لعدم صحته.

وقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بهم ليلة الإسراء ، فآمنوا به وصدقوه ، وقد لقى غلاما فى مسيره إلى الطائف فأخبره أنه منهم ، فانظر يا محمدى من رجع إلى الله كيف يقبله؟ وكيف لا يقبله؟ وهو يقول (٤) : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ).

__________________

(١) الصافات : ٨٧

(٢) الصافات : ١٤٨

(٣) إبراهيم : ٢٥

(٤) الشورى : ٢٥

٤١٢

فإن قلت : قد قال فى آية أخرى (١) : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) فهل بين العفو والمغفرة فرق؟

قلنا : العفو عنها يستلزم مغفرتها ، فسبحان من لم يرض بغفرانها حتى بدّلها لهم حسنات مكافأة لتوبتهم.

فإن قلت : الاعتقاد أنّ طائفة من هذه الأمة لا بدّ لهم من دخول النار.

قلنا : إن لم يتوبوا ؛ وفيه إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله ؛ ولذلك ورد الحديث : المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه. وأيضا من لم يذق الشدة لم يجد حلاوة النعمة ؛ فقوم يستغيثون من النار ، وقوم تستغيث النار منهم ، وقوم تقول لهم النار : أجر يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى ، وقوم يمتحشون (٢) فيها ما شاء الله ثم يخرجون منها ويتحسر من فيها ، ((٣) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ؛ فالمؤمن الذى يدخلها تكون عليه بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم ؛ وذلك أنهم تعجبوا منه من عدم حرقها له ، فأراد الله أن يريهم يوم القيامة ليعلموا أنّ صانع النار والنور واحد ، فتحرق من يشاء خالقها ، وتهرب ممن يطيعه. قال تعالى (٤) : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٥)) : ما استفهامية معناها التوبيخ ، وهى فى موضع رفع بالابتداء ، والمجرور بعدها خبرها ينبغى الوقف على قوله : ما لكم؟ ثم يقرأ : كيف تحكمون.

__________________

(١) غافر : ٣

(٢) امتحش الخبز : احترق (اللسان ـ محش)

(٣) الحجر : ٢

(٤) مريم : ٧٢

(٥) الصافات : ١٥٤

٤١٣

(ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١)) : هذا حكاية كلام الملائكة عليهم‌السلام ؛ وتقديره : ما منّا ملك إلّا وله مقام معلوم ، فحذف الموصوف لحذف الكلام ؛ والمقام المعلوم يحتمل أن يراد به الموضع الذى يقومون فيه ؛ لأن منهم من هو فى سماء الدنيا وكذلك فى كل سماء ، أو المنزلة من العبادة والتقريب والتّشريف ؛ ولذلك فخروا بصفوفهم وتسبيحهم ، ومنهم قيام لا يركعون ، ومنهم سجود لا يرفعون ، ومنهم قعود لا يقومون ؛ فجمع الله لهذه الأمة المحمدية فى الصلاة عبادة الملائكة من قيام وقعود ، وركوع وسجود ، وتسبيح وتكبير ؛ وزادهم من التحيات الذى كان من الرسول ليلة الإسراء حين قال : التحيات لله ... الخ ؛ فقال الله تعالى : «السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته» ، فطب نفسا وقرّ عينا يا محمدى بما خوّلك مولاك ؛ واعلم أنك تقف بين يديه ، فانظر وقوفك بم يكون؟ هلّا وهبت نفسك له وأسلمتها موافقة لقولك : وجّهت [١٧١ ب] وجهى هذا ـ بلسانك ، فأين وجهتك؟

فإن قلت : لم كان الدخول فيها بتكبيرة والخروج منها بتسليمتين ، والركوع واحد والسجود اثنين؟

والجواب لأن الواحد يقبل الواحد ؛ فإذا قلت الله أكبر فكأنك أقبلت عليه وعظّمته على كل شىء ؛ فرضى منك هذه الكلمة المشرفة ، وأقبل عليك ، وإن اشتغلت بغيره فلم تفرده وقطعت نفسك عنه ؛ ألا ترى أنّ التسليمتين قطعت عنه وانفصلت عن مناجاته ؛ كرمضان تدخل فيه بشاهد واحد وتخرج منه بشاهدين ؛ ولما كان السجود أقرب إلى الله من جميع أفعال الصلاة أمرك بسجدتين ، أو لأنّ السجود للأصنام كان عندهم مرة واحدة فزادك أخرى

__________________

(١) الصافات : ١٦٤

٤١٤

لتفرّق بين السجود لله والسجود لغيره ؛ أو لأنّ الملائكة كانوا سجودا وطلبوا من الله ليلة الإسراء بحبيبه أن يروه فأذن لهم ورفعوا رءوسهم لرؤيته فسجدوا مرة لله شكرا لرؤيته ، فأمر الله بذلك : الاولى امتثالا لأمر الله ، والثانية شكرا له بأن أهّلك لطاعته.

فإن قلت : لما كان السجود بهذه المثابة فهلّا أمر به المصلّى على الميت ؛ لأنه شفيع ، والشفيع لا يجد قربة إلى الله أفضل منه.

والجواب : لما كان فى السجود للمصلّى على الميت إيهام بالسجود له أمره الله بعدم السجود ، كأنه يقول : لا أريد أن تسجد لى حتى يرتفع الحجاب بينى وبينك.

(مَناصٍ (١)) : مفرّ ونجاة ، من قولك : ناص ينوص إذا فرّ ، التقدير وليس الحين الذى دعوا فيه حين مناص. قال أبو القاسم : معناه فرار بالنبطية.

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ (٢)) : هذا من كلام الملأ الذين خرجوا من عند أبى طالب وتفرّقوا فى طرق مكة ، ومرادهم بالملة الآخرة ما أدركوا عليه آباءهم ، أو الملة المنتظرة ؛ لأنهم كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء ، فلما جاءهم جحدوا ، واستيقنتها أنفسهم ظلما.

(ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (٣)) : هذا وعيد بهزيمتهم فى القتال ، وقد هزموا يوم بدر وغيره ؛ وما هنا صفة لجند ، وفيها معنى التحقير لهم ؛ والإشارة بهنالك إلى حيث وضعوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء. وقيل : الإشارة إلى الارتقاء فى الأسباب ؛ وهذا بعيد. وقيل الإشارة إلى موضع بدر.

__________________

(١) ص : ٣

(٢) ص : ٧

(٣) ص : ١١

٤١٥

ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصّبوا للباطل فهلكوا.

(ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً (١)) : المراد بهؤلاء قريش ومن تبعهم. والصيحة الواحدة : النفخ فى الصّور. وقيل : ما أصابهم من قتل وشدائد ؛ وهو أظهر ؛ لأن من مات فقد قامت قيامته ؛ وقد ورد فى الحديث.

(مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٢)) : بضم النون وإسكان الصاد ، وبفتحها وإسكان الصاد ، وبضم النون والصاد ، وبفتحهما ؛ بمعنى المشقة. وهذا من كلام أيوب لمّا سلّط الله عليه الشيطان ليفتنه ، وأهلك ماله وولده ، ووسوس فلبه ، استغاث ودعا الله بتفريج كربه خوفا من فتنته.

فإن قلت : أين هذا من قوله تعالى (٣) : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) ؛ وأىّ قدرة للشيطان حتى ينسب ما أصابه من البلاء إليه؟

فالجواب أنه صبر على ما أصابه فى المال والولد والنفس ، فلما وصل إلى الوسوسة استغاث ؛ ويكفيك من صبره أن الله قرنه بنون العظمة وهاء الضمير ، فلا يعتقد فى رسول الله غير ذلك ، ونسبة الفعل للشيطان على جهة نسبة الشر إليه ؛ كقول موسى (٤) : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ). ((٥) هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نام ليلة الوادى : إن بهذا الوادى شيطانا فهو تنسب إليه الشرور. ولذلك يتبرأ يوم القيامة ممن أطاعه ، ويقول (٦) : (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). فالنسبة إليه نسبة مجازية ، كما أن نسبة الخير إلى الله حقيقة. وقد صحّ أنّ التائبين يمرون يوم القيامة تحت لواء آدم [١٧٢ ا] ، والشاكرين تحت لواء نوح ،

__________________

(١) ص : ١٥

(٢) ص : ٤١

(٣) ص : ٤٤

(٤) الكهف : ٦٣

(٥) القصص : ١٥

(٦) إبراهيم : ٢٢

٤١٦

والموفين بالعهود تحت لواء إبراهيم ، والمحزونين تحت لواء يعقوب ، والمحبوسين تحت لواء يوسف ، والصابرين تحت لواء أيوب ، والمخلصين تحت لواء موسى ، والزاهدين تحت لواء عيسى ، والصادقين تحت لواء يحيى ، والمحبين تحت لواء الحبيب على جميعهم الصلاة والسلام ، والمؤذنين تحت لواء بلال ، والصالحين تحت لواء عمر ، والصدّيقين تحت لواء أبى بكر ، والمتقين تحت لواء عثمان ، والراكعين تحت لواء على رضى الله عنهم أجمعين.

(ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (١)) : الضمير يعود على نعيم الجنة ؛ لتقدم ذكره ، أو لرزق الدنيا.

(مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٢)) : هذا كلام الأتباع ؛ دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب ؛ فهو كقولهم (٣) : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ).

(ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٤)) : قيل إن القائلين لهذه المقالة أبو جهل ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأمثالهم. والرجال المذكورون هم عمّار ، وبلال ، وصهيب ، وأمثالهم. واللفظ أعمّ من ذلك.

والمعنى أنهم قالوا فى النار : ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدهم فى الدنيا من الأشرار.

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٥)) : القصد بهذه الآية الاحتجاج على نبوءة نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر بأمور

__________________

(١) ص : ٥٤

(٢) ص : ٦١

(٣) الأعراف : ٣٨

(٤) ص : ٦٢

(٥) ص : ٦٩

٤١٧

لم يكن يعلمها. والملأ الأعلى هم الملائكة ، وعليهم يعود الضمير فى يختصمون ؛ واختصامهم هو فى قصة آدم حين قال الله لهم : إنى جاعل فى الأرض خليفة. حسبما تضمنته قصته فى مواضع من القرآن.

وقيل : إن الملائكة تقول : هؤلاء بنو آدم الذين اخترتهم وفضّلتهم وجعلتهم خلفاء ، وأمرتنا بالسجود لأبيهم قد عصوك ، وتركوا خدمتك وأمرك. فيقول الله لهم : دعوهم فإنما استزلّهم الشيطان وأغواهم هو وأولاده ، ولو ابتليتكم بما ابتليتهم به لوقعتم فيما وقعوا فيه. وفى الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربّه فقال : يا محمد ؛ فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال : لا أدرى. قال : فى الكفّارات ؛ وهى إسباغ الوضوء على المكاره. وفى رواية فى المسرات ، والمشى بالأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

وقيل الضمير فى يختصمون للكفار ؛ أى يختصمون فى الملأ الأعلى ؛ فيقول بعضهم : هم بنات الله ، ويقول آخرون : هم آلهة تعبد ؛ وهذا بعيد.

(ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (١)) : أى الذين يتصنعون ويتخيّلون بما ليسوا من أهله.

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى (٢)) : أى يقول الكفار : ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقرّبونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده. ويعنى بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة ، أو الذين عبدوا الأصنام ، أو الذين عبدوا عيسى أو عزيزا ؛ فإن جميعهم قالوا هذه المقالة.

(مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)) : هذا إشارة إلى كذبهم فى قولهم (٤) : (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ).

__________________

(١) ص : ٨٦

(٢) الزمر : ٣

(٣) الزمر : ٣

(٤) الزمر : ٣

٤١٨

(ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (١)) : هذا تهديد ومبالغة فى الخذلان والتّخلية لهم على ما هم عليه.

(مَثانِيَ (٢)) : جمع مثنى ؛ أى تثنّى فى القصص. ويحتمل أن يكون مشتقا من الثناء ؛ لأنه يثنى فيه على الله.

فإن قيل : مثانى جمع ، فكيف يوصف به المفرد؟

فالجواب أنّ القرآن ينقسم إلى سور وآيات كثيرة ؛ فهو جمع بهذا الاعتبار. ويجوز أن يكون كقولهم (٣) : برمة أعشار ، وثوب أخلاق. أو يكون تمييزا من متشابه (٤) ، كقولك : حسن شمائل.

(ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥)) ؛ أى يقال للكفار والعصاة : ذوقوا ما كسبتم من الكفر والمعصية.

(مَيِّتُونَ (٦)) : فى هذا وعيد للكفار ؛ لأنهم إذا ماتوا ظهر لهم من كان على الحق ومن كان على الباطل. وفيه إخبار أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يموت لئلا يختلف الناس فى موته ، كما اختلفت الأمم فى غيره.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ (٧)) : أى لا أحد أظلم ممّن كذب على الله بأنه اتخذ صاحبة وولدا. وفى آية أخرى (٨) : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ). وفى أخرى (٩) : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) [١٧٢ ب] (عَلَى اللهِ

__________________

(١) الزمر : ١٥

(٢) الزمر : ٢٣

(٣) برمة أعشار : مكسرة على عشر قطع. أو عظيمة لا يحملها إلا عشرة (القاموس).

(٤) فى الآية نفسها : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها.

(٥) الزمر : ٢٤

(٦) الزمر : ٣٠

(٧) الزمر : ٣٢

(٨) البقرة : ١١٤

(٩) الأنعام : ٢١

٤١٩

كَذِباً). وفى أخرى : ((١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ). وهذه الأظلمية تختلف باختلاف الأنواع ، وتطلق كلّ آية على ما يليق بها من الكذب وغيره ، حسبما بيناه فى غير هذا الموضع.

(ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ (٢)) : من الأوامر واجتناب نواهيه.

(مَقالِيدُ (٣)) : بالفارسية مفاتيح. وقيل خزائن. واحدها إقليد. وقيل مقليد (٤). وقيل لا واحد لها من لفظها. ومعناها مالك السموات ومدبّر أمرها وحافظها ، وهى من باب الكناية ؛ لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذى يملك مقاليدها ، كما أن الخزائن أيضا تجىء فى جهة الله عزوجل إنما تجىء استعارة بمعنى اتساع قدرته ، وأنه المبتدع المخترع. ويشبه أن يقال فيما قد أوجد من المخلوقات ، وهذا يتجوّز به على جهة التقريب والتفهيم للسامعين. وقد ورد القرآن بذكر الخزائن ، ووقعت فى الحديث الصحيح : ما ذا فتح الليلة من الخزائن. والحقيقة فى هذا غير بعيدة ؛ لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة ، كما هو اختزان الشيء.

قال عثمان بن عفان : فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مقاليد السموات والأرض ، فقال : «هى لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ؛ هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير»

__________________

(١) الكهف : ٥٧

(٢) الزمر : ٥٥

(٣) الزمر : ٦٣

(٤) فى القرطبى (١٥ ـ ٢٧٤) : واحدها مقليد ، وقيل مقلاد ، وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. وقال الشريف الرضى : قال أبو عبيدة : واحدها مقليد ، وواحد الأقاليد إقليد ، وهما بمعنى واحد. وقال غيره : واحدهما ـ قلد ـ على غير قياس (تلخيص البيان : ٣٨٥).

٤٢٠