معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

وقيل المراد بالآيات هنا الزلازل والرعد والكسوف ، وغير ذلك من المخاوف.

(ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (١)) : اختلف فيها ؛ فقيل : إنها الإسراء ، فمن قال إنه كان فى اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعين. ومن قال : إنه كان فى المنام فالرؤيا منامه. والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك ، وارتداد بعض المسلمين حينئذ.

وقيل : إنها رؤيا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى منامه هزيمة الكفّار وقتلهم ببدر. والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وسخريتهم به.

وقيل إنها رؤياه أنه يدخل مكة فعجل فى سنة الحديبية فردّ عنها ، فافتتن بعض المسلمين [١٥٩ ا] بذلك.

وقيل : رأى فى المنام أنّ بنى أمية يصعدون على منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاغتمّ لذلك.

(من تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٢)) : كان الأصل أن يقال : جزاؤهم ـ بصيغة الغيبة ؛ ليرجع إلى من تبعك ؛ ولكنه ذكره بلفظ الخطاب تغليبا للمخاطب على الغائب ؛ وليدخل إبليس معهم ؛ لأنه المخاطب بقوله (٣) : (اذْهَبْ) بصيغة الأمر على وجه التهديد.

قال الزمخشرى (٤) : ليس المراد الذهاب الذى هو ضد (٥) المجيء ؛ وإنما معناه امض لشأنك الذى اخترته خذلانا له وتخلية.

__________________

(١) الاسراء : ٦٠

(٢) الإسراء : ٦٣

(٣) الإسراء : ٦٣

(٤) الكشاف : ١ ـ ٥٥١

(٥) فى الكشاف : نقيض.

٣٤١

ويحتمل أن يكون معناه الطرد والإبعاد.

(مَوْفُوراً (١)) : مكملا ، وهو مصدر فى موضع الحال.

(ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (٢)) : من المواعدة بشفاعة الأصنام وغير ذلك.

(مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣)) : الإشارة بهذه إلى الدنيا ، والعمى يراد به عمى القلب ، يعنى من كان فى الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو فى يوم القيامة أعمى ، أى حيران ، يئس من الخير.

ويحتمل أن يريد بالعمى فى الآخرة عمى البصر ، كقوله (٤) : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). وإنما جعل الأعمى فى الآخرة أضلّ سبيلا ، لأنه حينئذ لا ينفعه الاهتداء. ويجوز فى العمى الثانى أن يكون صفة كالأول ، وأن يكون من أفعل التى للتفضيل ؛ وهذا أقوى لقوله : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ؛ فعطف أضلّ الذى هو أفعل من كذا على ما هو شبيهه.

وقال سيبويه : لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا ، ولكن إنما يمتنع ذلك فى عمى البصر لا عمى القلب.

(ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (٥)) : خطاب عام لجميع الناس ؛ لأن علمهم قليل بالنظر إلى علم الله. وقيل خطاب لليهود خاصة. والأول أرجح ؛ لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح.

(ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا .... (٦)) الآية : يعنى أن ما منع الناس من الإيمان

__________________

(١) الإسراء : ٦٣

(٢) الاسراء : ٦٤

(٣) الإسراء : ٧٢

(٤) طه : ١٢٤

(٥) الإسراء : ٨٥

(٦) الإسراء : ٩٤

٣٤٢

إلا إنكار هم لبعث الرسول من البشر. وقد قدمنا معارضة هذه الآية للتى بعدها. فى سورة الكهف (١).

(ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٢)) ؛ أى دائمين. وانتصابه على الحال من الضمير فى (لَهُمْ (٣)).

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ (٤)) : الضمير عائد على قولهم (٥) : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً).

(ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها (٦)) : يعنى ما يصلح للتزين ، كالملابس ، والمطاعم ، والأشجار ، والأنهار ، وغير ذلك.

(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ (٧)) : عطف على المفعول فى (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) ؛ أى تركتموهم وتركتم ما يعبدون من دون الله. وهذا الاستثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره. ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله.

وفى مصحف ابن مسعود : وما يعبدون من دون الله.

(ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ (٨)) : أى عدة أصحاب الكهف. وقد قدمنا أن ابن عباس من ذلك القليل.

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٩)) : الضمير لجميع الخلق ، أو للمعاصرين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرئ تشرك ـ بالتاء والجزم على النهى. وهو خبر على القراءة بالياء والرفع.

__________________

(١) الكهف : ٥٥

(٢) الكهف : ٣

(٣) فى الآية الثانية السابقة لها : ... أن لهم أجرا حسنا.

(٤) الكهف : ٥

(٥) فى الآية الرابعة : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا.

(٦) الكهف : ٧

(٧) الكهف : ١٦

(٨) الكهف : ٢٢

(٩) الكهف : ٢٦

٣٤٣

(ما أَشْهَدْتُهُمْ (١)) : الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم ، أو للكفار ، أو لجميع الخلق ، فيكون فيه رد المنجّمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرّصة.

(مَوْبِقاً (٢)) : مهلكا ؛ وهو اسم موضع ، أو مصدر من وبق (٣) الرجل إذا هلك ؛ وقيل إنه من أودية جهنم. والضمير فى (بَيْنَهُمْ (٤)) للمشركين وشركائهم.

(ما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥)) : يعنى العذاب. وما موصولة ، والضمير محذوف تقديره : أنذروه ؛ أو مصدرية.

(مَوْعِداً (٦)) : قيل هو الموت. وقيل عذاب الآخرة. وقيل يوم بدر.

(مَوْئِلاً (٧)) : أى منجى ، ويقال وأل الرجل إذا نجا. ومنه قول على رضى الله عنه ـ وكانت درعه صدرا (٨) بلا ظهر ، فقيل له : لو أحرزت (٩) ظهرك. فقال : إذا وليت (١٠) فلا وألت ؛ أى إذا أمكنت من ظهرى فلا نجوت.

(مَوْعِداً (١١)) ؛ أى وقتا معلوما لهلاكهم. والمهلك ـ بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر من أهلك ، فالمصدر على هذا مضاف للمفعول ؛ لأن الفعل متعد. وقرئ بفتح الميم من هلك ، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل.

(مَصْرِفاً (١٢)) ؛ أى معدلا ينصرون إليه.

__________________

(١) الكهف : ٥١

(٢) الكهف : ٥٢

(٣) فى القاموس : كوعد ، ووجل

(٤) الكهف : ٥٢

(٥) الكهف : ٥٦

(٦) الكهف : ٤٨

(٧) الكهف : ٥٨

(٨) اللسان ـ وأل.

(٩) فى ب : أجرزت. وفى اللسان والنهاية : احترزت من ظهرك.

(١٠) فى النهاية : إذا مكنت من ظهرى ...

(١١) الكهف (٥٩) : وجعلنا لمهلكهم موعدا.

(١٢) الكهف : ٥٣

٣٤٤

(مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ (١)) : قيل : بحر فارس وبحر الروم بالمشرق. وقيل عند طنجة [١٥٩ ب] حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو الأندلس. وقيل العذب المالح.

(ما كُنَّا نَبْغِ (٢)) ؛ أى نطلب فقد الحوت ؛ لأنه أمارة على وجدان الخضر عليه‌السلام.

(ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي (٣)) : هذا دليل على نبوءة الخضر ؛ لأن المعنى أنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر من الله ووحيه.

(مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ (٤)) : يعنى أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم.

(ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ (٥)) ؛ أى ما بسط الله لى من الملك خير من خراجكم ، فلا حاجة لى به ، ولكن أعينونى بقوّة الأبدان وعمل الأيدى.

(من كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ (٦)) : إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه ، وأن يلقاه لقاء رضا وقبول. وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه.

(مَوالِيَ (٧)) : أقاربى ، وقد قدمنا أن المولى له سبعة معان.

(مَرْيَمُ) بنت عمران ، ولم يذكر فى القرآن من النساء إلا مريم لنكتة تقدمت فى الكناية ومعناها بالعبرانية الخادم. وقيل المرأة التى تغازل الفتيان ؛ حكاهما الكرمانى فى عجائبه.

__________________

(١) الكهف : ٦٠

(٢) الكهف : ٦٤ ، وفى الكشاف (١ ـ ٥٧٣) : قرئ نبغ ـ بغير ياء فى الوصل ، وإثباتها أحسن ، وهى قراءة أبى عمرو. وأما الوقف فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لخط المصحف.

(٣) الكهف : ٨٢

(٤) الكهف : ٨٤

(٥) الكهف : ٩٥

(٦) الكهف : ١١٠

(٧) مريم : ٥

٣٤٥

(مَكاناً قَصِيًّا (١)) ؛ أى بعيدا ، وإنما بعدت من قومها حياء منهم أن يظنوا بها الشر.

(مخاض (٢)) : نفاس ؛ وسمى مخاضا ؛ لأن الولد يتحرك فيه للخروج.

(ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ (٣)) : لما رأت الآيات علمت أن الله سيبرّئها فجاءت به من المكان القصى إلى قومها فعاتبوها بهذا الكلام.

(مهد (٤)) : هو المعروف. وقيل المهد هنا حجرها.

(مُبارَكاً (٥)) : من البركة. وقيل نفّاع : وقيل معلم للخير ، واللفظ أعمّ من ذلك.

(ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ (٦)) : أى ما تعبدون.

(مَكاناً عَلِيًّا (٧)) : قال ابن عباس : رفعه الله إلى السماء ، وهناك مات. وفى حديث الإسراء أنه فى السماء الرابعة. وقيل : يعنى رفعة النبوءة وتشريف منزلته. والأول أشهر ، ويرجّحه الحديث.

(مَلِيًّا (٨)) ، أى حينا طويلا ، وعطف اهجرنى (٩) على محذوف تقديره : احذر رجمى لك.

(مَأْتِيًّا (١٠)) : وزنه مفعول ، فقيل إنه بمعنى فاعل ؛ لأن الوعد هو الذى يأتى. وقيل إنه على بابه ، لأن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها.

(ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ (١١)) : هذا حكاية قول جبريل حين غاب

__________________

(١) مريم : ٢٢

(٢) مريم : ٢٣

(٣) مريم : ٢٨

(٤) مريم : ٢٩

(٥) مريم : ٣١

(٦) مريم : ٤٨

(٧) مريم : ٥٧

(٨) مريم : ٤٦

(٩) فى الآية نفسها : لأرجمنك ، واهجرنى مليا.

(١٠) مريم : ٦١

(١١) مريم : ٦٤

٣٤٦

عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : أبطأت عنى ، وقد اشتقتك. فقال : إنى أشوق إليك ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ؛ فنزلت هذه الآية.

(ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (١)) : هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول. وقيل بمعنى الترك. ومعنى الآية : له ما قدامنا وما خلفنا وما نحن فيها من الجهات والأماكن ؛ فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله. وقيل : ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى فى الصّور. وما خلفنا الآخرة ، وما بين ذلك ما بين النفختين. وقيل : ما مضى من أعمارنا ، وما بقى منها ، والحال التى نحن فيها ، والأول أكثر مناسبة لسبب الآية.

(مَقاماً (٢)) : اسم مكان ، من قام ، وقرئ بالضم من أقام. ومعنى الآية : إن الكفار قالوا للمؤمنين : نحن خير منكم مقاما أى أحسن حالا فى الدنيا ، وأجمل مجلسا ، فنحن أكرم على الله منكم.

(مَدًّا (٣)) ؛ أى إمهالا.

(مَرَدًّا (٤)) : أى مرجعا وعاقبة.

(مالاً وَوَلَداً (٥)) : قائل هذه المقالة العاص بن وائل ، قال : لئن بعثت ، كما يزعم محمد ، ليكونن لى هناك مال وولد.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٦)) : قيل : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فى الصلاة حتى تورّمت قدماه ، فنزلت الآية ، تخفيفا عنه. والشقاء على هذا :

__________________

(١) مريم : ٦٤

(٢) مريم : ٧٣

(٣) مريم : ٧٩

(٤) مريم : ٧٦

(٥) مريم : ٧٧

(٦) طه : ٢

٣٤٧

إفراط التعب فى العبادة. وقيل : المراد به التأسّف على كفر الكفار. واللفظ أعمّ من ذلك كله. والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء فى الدنيا والآخرة ، لأنه أنزل عليه القرآن الذى هو من أسباب السعادة.

(مَآرِبُ أُخْرى (١)) : أى حوائج ، واحدها مأربة (٢) ، وكانت عصاه تحادثه ، وتؤانسه ، وتضيء له بالليل ، وتطعمه إذا جاع ، ويركب عليها إذا أعياه الطريق.

(ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (٣)) : إنما سأله ليريه عظم ما يفعل فى العصا من قلبها حيّة ، فمعنى السؤال تقرير على أنها عصا ، ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن يقلبها. وقيل : إنما سأله ليؤنسه فى الكلام.

فإن قلت : لم سأله عن العصا وهو عالم بها ، ولم يقل ما فى يدك؟

والجواب تعليما للمعلم مع المتعلم ؛ يسأله عن الشيء وهو عالم به ، ولما تحيّر موسى من هيبته كلام خالقه آنسه ، وانبسط معه ، وتأدب موسى معه فى إجمال الخطاب. ولعله اختصر له فى الكلام رجاء أن يسمعه مرة أخرى ، وأعطاه الله العصا فى يمينه ، وسأله عنها ؛ إشارة لك يا محمدى أن الله شرف موسى بالعصا.

(ما يُوحى (٤)) : إبهام يراد به تعظيم الأمر.

(مَحَبَّةً مِنِّي (٥)) ؛ أى أحببتك. وقيل أراد محبة الناس حتى كان إبليس يحبّه ، وكان لا يراه أحد إلا أحبه. وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له. وقوله : (مِنِّي) يحتمل أن يتعلق بقوله : ألقيت (٦) ، أو يكون صفة لمحبة ، فيتعلق بمحذوف.

__________________

(١) طه : ١٨

(٢) مثلثة الراء ـ كما فى القاموس.

(٣) طه : ١٧

(٤) طه : ١٣

(٥) طه : ٣٩

(٦) طه : ٣٩

٣٤٨

(مَنْ يَكْفُلُهُ (١)) : يعنى يربّيه ؛ لأنه كان لا يقبل ثدى امرأة ، فطلبوا له مرضعة ، فقالت أخته ذلك ليردّ إلى أمه.

(مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (٢)) : هذا من كلام موسى ، طلب من فرعون أن يسرحهم ؛ لأنهم كانوا تحت يده فى المهنة ؛ فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله تعالى ، وبتسريح بنى إسرائيل.

(مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٣)) : يعنى به التحية أو السلامة.

(ما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٤)) : يحتمل أن يكون سؤال فرعون عن القرون الأولى محاجّة ومناقضة لموسى ، أى ما بالها لم تبعث كما زعم موسى؟ أو ما بالها لم تكن على دين موسى؟ أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم موسى فى قوله (٥) : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

ويحتمل أن يكون ذلك قطعا للكلام الأول ، وروغانا عنه ، وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ، ولذلك أضرب موسى عن الكلام فى شأنها (٦) : (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) ، يعنى اللوح المحفوظ.

(مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ (٧)) : يحتمل أن يكون اسم مصدر ، أو اسم زمان ، أو اسم مكان ، ويدل على أنه اسم مكان قوله (٨) : (مَكاناً سُوىً) ، ولكن يضعّف بقوله (٩) : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ، لأنه أجاب بظرف الزمان. ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله : يوم الزينة ، ولكن يضعّف بقوله : مكانا سوى. ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله (١٠) : لا نخلفه ، لأن الإخلاف

__________________

(١) طه : ٤٠

(٢) طه : ٤٧

(٣) طه : ٤٧

(٤) طه : ٥١

(٥) طه : ٤٨

(٦) طه : ٥٢

(٧) طه : ٥٨

(٨) طه : ٥٨

(٩) طه : ٥٩

(١٠) طه : ٥٨

٣٤٩

إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان ، ولكن يضعّف ذلك بقوله : مكانا ، وبقوله يوم الزينة ؛ فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار. ويختلف قوله مكانا باختلاف تلك الوجوه ؛ فأما إن كان الوعد اسم مكان فيكون قوله موعدا ومكانا مفعولين لقوله : اجعل ، ويطابقه قوله يوم للزينة ، من طريق المعنى لا من اللفظ ؛ وذلك أن الاجتماع فى المكان يقتضى الزمان ضرورة ، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكانا على أنه ظرف مكان ؛ والتقدير كائنا فى مكان. وإن كان الموعد اسم مصدر فينتصب مكانا على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد ، أو بالفعل من معناه ، ويطابقه قوله : يوم الزينة على حذف مضاف ، تقديره موعدكم وعد يوم الزينة. وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب ، وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف.

(مَكاناً سُوىً (١)) : معناه مستوى القرب منا ومنكم. وقيل معناه مستو فى الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع. وقرئ بكسر السين وضمها. والمعنى متفق.

(ما غَشِيَهُمْ (٢)) : إبهام لقصد التهويل ، والضمير راجع إلى قوم فرعون حين تبعوا موسى فى ألف ألف مرتين ، فلما رآهم قوم موسى خافوا ، وقالوا لموسى (٣) : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ). فقال موسى (٤) : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ). وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر فى الغار : لا تحزن إنّ الله معنا. وكذلك قال الله لهذه الأمة : وهو معكم أينما كنتم. فالذى قال : إن الله [١٦٠ ب] معنا ، نجا من شر الكفار ؛ فكيف لا ينجو من قال الله لهم : إن الله معكم ـ

__________________

(١) طه : ٥٨

(٢) طه : ٧٨

(٣) الشعراء : ٦١

(٤) الشعراء : ٦٢

٣٥٠

من عذاب النار. فأوحى الله إلى موسى (١) : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ؛ فمرّ موسى مع قومه ، وجاء فرعون ، ودخل البحر مع جنوده فأغرقهم الله أجمعين.

وقيل : إن فرعون لما عاين العذاب أراد الإيمان فى حال الغرق ، فرفع جبريل الطين وجعله فى فيه حتى استغاث بجبريل سبعين مرة ، فلم يغثه ، فعاتبه الله ، وقال لجبريل : استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثه ، وعزّتى وجلالى لو استغاث بى لأغثته ؛ وكذلك عاتب موسى لما استغاث به قارون فلم يغثه ، فهنيئا لك يا محمدى فى استغاثتك بمولاك إن رجعت إليه أفتراه لا يغيثك؟ وهو يقول (٢) : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

(ما هَدى (٣)) : الضمير يعود على فرعون لتقدّم الذكر له.

فإن قيل : إن قوله (٤) : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) ، يغنى عن قوله : وما هدى.

فالجواب أنه مبالغة وتأكيد. وقال الزمخشرى : إنه تهكّم بفرعون فى قوله (٥) : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).

(ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٦)) : قصص هذه الآية أن الله لما أمر موسى أن يسير ببنى إسرائيل إلى الطور تقدم وحده مبادرة إلى أمر الله وطلبا لرضاه ، وأمر بنى إسرائيل أن يسيروا بعده ، واستخلف عليهم أخاه هارون ، فأمرهم السامرىّ حينئذ بعبادة العجل ، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه

__________________

(١) الشعراء : ٦٣

(٢) النمل : ٦٢

(٣) طه : ٧٩

(٤) طه : ٧٩

(٥) غافر : ٢٩

(٦) طه : ٨٣

٣٥١

قال الله له (١) : وما أعجلك ... الآية ؛ فهذا السؤال على وجه الإنكار لتقدمه (٢) على قومه. وقيل : ليخبره بما صنعوا بعده من عبادة العجل ، فاعتذر موسى بعذرين :

أحدهما أن قوله على أثره ؛ أى قريب منه ، فلم يتقدم عليهم بكثير يوجب العتاب.

والثانى أنه إنما تقدّم طلبا لرضاه ، وغلبة المحبة ، ولذلك لم يطق الصبر مع قومه. وهذا كان سبب مراجعته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له : ارجع إلى ربك ، واسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. ورحم الله القائل :

لعلّى أراهم أو أرى من يراهم

(ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ (٣)) : هذا خطاب موسى لهارون لما رجع من الطور بعد كمال الأربعين يوما التى كلّمه الله فيها ، و «لا» زائدة للتأكيد. والمعنى ما منعك أن تتّبعنى فى المشى إلى الطور ، أو تتّبعنى فى الغضب لله وشدة الزّجر لمن عبدوا العجل وقتالهم بمن لم يعبده.

(ما قَدْ سَبَقَ (٤)) : يعنى أخبار الأمم المتقدمين.

(ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ (٥)) : الضمير للخلق. والمعنى يعلم ما كان قبلهم ، وما يكون بعدهم. وقال مجاهد : ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة.

__________________

(١) طه : ٨٣

(٢) العبارة فى الكشاف أوضح : كان قد مضى مع النقباء إلى الطور على الموعد المضروب ، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه (٢ ـ ٣١).

(٣) طه : ٩٢

(٤) طه : ٩٩

(٥) طه : ١١٠

٣٥٢

(مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١)) : من واقعة على الشافع (٢) ، والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع.

(مَعِيشَةً ضَنْكاً (٣)) ؛ أى ضيقة ، فقيل إن ذلك فى الدنيا ، فإن الكافر ضيق المعيشة لشدة حرصه ، وإن كان واسع الحال. وقال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدّر عليه عيشة. وقيل ذلك فى البرزخ. وقيل فى جهنم يأكل الزّقّوم ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (٤)) : الضمير عائد على المشركين من قريش ، ويعنى بالذكر القرآن ، ومحدث : أى محدث النزول.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها (٥)) : لما قالوا (٦) : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بالآيات ، أخبرهم أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات ، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا. ثم قال : أفهم يؤمنون ؛ أى إن حالهم فى عدم الإيمان وفى الهلاك كحال من قبلهم.

ويحتمل أن يكون المعنى إن كل قرية هلكت لم تؤمن ؛ فهؤلاء كذلك ، ولا يكون على هذا جوابا لقولهم : فليأتنا بآية ، بل يكون إخبارا مستأنفا على وجه التهديد. وأهلكنا فى موضع الصفة لقرية ، والمراد أهل القرية.

(ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ (٧)) ؛ أى ما جعلنا الرسل أجسادا

__________________

(١) طه : ١٠٩

(٢) فى الآية نفسها : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن.

(٣) طه : ١٢٤

(٤) الأنبياء : ٢

(٥) الأنبياء : ٦

(٦) آية ٥ قبلها.

(٧) الأنبياء : ٨

٣٥٣

غير طاعمين ، ووحّد الجسد لإرادة الجنس. ولا يأكلون الطعام صفة لجسد. وفى الآية ردّ على قولهم : ما لهذا [١٦١ ا] الرسول يأكل الطعام.

(مَنْ نَشاءُ (١)) : يعنى المؤمنين.

(ما أَرْسَلْنا ... (٢)) الآية ردّ على المشركين. والمعنى أنّ كلّ رسول إنما أتى بلا إله إلا الله ؛ فكلمتهم واحدة ، وفيها تصديق للحديث : «الأنبياء أولاد علّات أبوهم (٣) واحد وأمهاتهم مختلفة»

. (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)) : مرادهم القيامة أو نزول العذاب بهم.

(مَنْ فَعَلَ هذا (٥)) : هذا من قول قوم إبراهيم ، وقبله محذوف تقديره : فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة فقالوا : من فعل هذا؟

(ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦)) : لما رجعوا إلى أنفسهم بالفكرة والنظر ، قالوا لإبراهيم : لقد علمت عدم نطقهم ، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟ فقد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ، وهم مع ذلك يعبدونهم ؛ فهذا غاية الضلال فى فعلهم ، وغاية المعاندة والمكابرة فى جدالهم.

(مَسَّنِيَ الضُّرُّ (٧)) : هذا من كلام نبى الله أيوب حين سلط الله عليه البلاء ، فخاف على ذهاب قلبه ؛ إذ هو موضع المعرفة.

__________________

(١) الأنبياء : ٩

(٢) الأنبياء : ٢٥

(٣) فى اللسان (عل) : وفى الحديث : الأنبياء أولاد علات : معناه أنهم لأمهات مختلفة ودينهم واحد ، كذا فى التهذيب. وفى النهاية لابن الأثير : أراد أن إيمانهم واحد ، وشرائعهم مختلفة.

(٤) الأنبياء : ٣٨

(٥) الأنبياء : ٥٩

(٦) الأنبياء : ٦٥

(٧) الأنبياء : ٨٣

٣٥٤

فإن قلت : قد وصفه الله بالصبر فى قوله تعالى (١) : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) ، وقرنه بنون العظمة فما بال قوله : مسّنى الضرّ؟

فالجواب أن قوله : مسنى ليس تصريحا بالدعاء ، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ؛ ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه ؛ فكان فى ذلك من حسن التلطّف مما ليس فى التصريح بالطلب.

وقيل غير هذا من الجواب أعرضنا عنه لطوله.

وفى الآية إشارة إلى الرجوع إلى الله فى رفع المحن والشدائد ؛ ولذا طلب موسى لغيره جذوة (٢) لعلهم يصطلون ؛ فأوصله الله بالوادى المقدس ، وطلب الخضر لغيره فأوصله الله لعين الحياة ؛ فلا تنس أيها الناظر فى هذا الكتاب الدعاء لموصّله إليك من غير كلفة ؛ ولك مثله ، كما ورد فى الحديث ، واسأله سبحانه أن يفرّج عنّا كرب الآخرة ؛ إذ لا يفرجها غيره سبحانه ؛ وتأمل إلى نداء أيوب ربّه بما يوافق حاله ويقتضيه مقامه وهو الرحمة ، فاستجاب له ورحمه.

روى أن الله أنبع له عينا من ماء ، وأمره بالشرب منها ، فبرأ باطنه ، واغتسل منها فبرأ ظاهره ، وردّ إلى أكمل جماله ، وأتى بأحسن الثياب ؛ وكانت امرأته غائبة عنه فى بعض شأنها ، فلم تره فى موضعه الذى تركته فيه ، فجزعت وظنّت أنه نقل منه ، وجعلت تتولّه ؛ فقال لها : ما شأنك أيتها المرأة؟ فهابته لحسن هيئته وجمال منظره ، وقالت : فقدت مريضا كان لى هنا ، ومعالم المكان قد تغيرت ؛ وتأملت إلى مقاله فعرفته ، وقالت : أنت أيوب! قال : نعم ، واعتنقها وبكى ، ولم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه بعد ما فقده.

__________________

(١) ص : ٤٤

(٢) فى ا : حاجة.

٣٥٥

وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى (١) : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا). وإنما وصف الرحمة بالعندية فى هذه الآية لأنه بالغ فى التضرع والدعاء ؛ فقابله سبحانه بالمبالغة ؛ لأن لفظ (عِنْدِنا) حيث جاء يدل على أنه سبحانه يتولّى ذلك من غير واسطة.

ولما بدأ القصة فى ص بقوله تعالى (٢) : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا) ختم بقوله (٣) : (مِنَّا) ؛ ليكون آخر الآية مطابقا لأول الآية.

(ما هُمْ بِسُكارى (٤)) : نفى لحقيقة السكر ؛ وقرئ سكرى ، والمعنى متفق.

(مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ (٥)) : نزلت فى قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتّفق له ما يعجبه فى ماله وولده قال : هذا دين حسن ، وإذا اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام ؛ فالحرف هنا كناية [عن القلق والاضطراب](٦). وأصله من الانحراف عن الشيء ، أو من الحرف بمعنى الطرف ، أى أنه فى طرف من الدين لا فى وسطه.

(ما لا يَضُرُّهُ (٧)) : يعنى الأصنام ، و (يَدْعُوا) بمعنى يعبد فى الموضعين (٨).

فإن قلت : قد وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن (٩) ضرها أقرب من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته.

__________________

(١) الأنبياء : ٨٤

(٢) ص : ٤١

(٣) ص : ٤٣

(٤) الحج : ٢

(٥) الحج : ١١

(٦) من الكشاف : ٢ ـ ٥٧

(٧) الحج : ١٢

(٨) الحج : ١٢ ، ١٣

(٩) فى الآية (١٣) بعدها : يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.

٣٥٦

والجواب أن الضرّ المنفى أوّلا يراد به ما يكون من فعلها ، وهى لا تفعل شيئا. والضر الثانى يراد به ما كان يكون بسببها من العذاب وغيره.

فإن قلت : ما بال اللام دخلت على «من» فى قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) ، وهى فى الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول؟

وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه : أحدها أن اللام [١٦١ ب] مقدمة على موضعها ، كأن الأصل أن يقول : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه ؛ فموضعها الدخول على المبتدأ.

وثانيها أنّ (يَدْعُوا) هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول ، وتم الكلام ؛ ثم ابتدأ قوله : لمن مبتدأ وخبره لبئس المولى.

وثالثها أنّ معنى يدعو : يقول يوم القيامة إذا رأى مضرّة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ فى أول الكلام.

(ما يَغِيظُ (١)) : يعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب به ما يغيظه من الأمر ، أو ليس يذهب؟

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (٢)) : دخل فى هذا من فى السموات من الملائكة ومن فى الأرض من الملائكة والجنّ ، ولم يدخل الناس فى ذلك ؛ لأنه ذكرهم فى آخرها على وجه التحديد. وليس المراد بالسجود فى هذه الآية السجود المعروف ؛ لأنه لا يصح فى حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما ؛ وإنما المراد به الانقياد.

ثم إن الانقياد يكون على وجهين : أحدهما ـ الانقياد لطاعة الله طوعا ،

__________________

(١) الحج : ١٥

(٢) الحج : ١٨

٣٥٧

والآخر الانقياد لما يجرى الله على المخلوقات من أفعاله وتدبيره شاءوا أو أبوا.

(مَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ (١)) ؛ لأنه المعز المذلّ الذى يفعل الأشياء لغير غرض ؛ فلو اجتمع الثّقلان على رفع عبد أراد الله وضعه لم يقدروا ؛ وبالعكس ، والعيان يشهد لذلك.

(مَكانَ الْبَيْتِ (٢)) : موضعه ؛ وذلك أنّ الله درس (٣) البيت الحرام فى الطوفان ، فدل الله إبراهيم على مكانه ، وأمره ببنائه ، كما قدمنا.

(مَنافِعَ لَهُمْ (٤)) : التجارة. وقيل أعمال الحج وثوابه ، واللفظ أعمّ من ذلك.

(ما يُتْلى عَلَيْكُمْ (٥)) : يعنى ما حرّمه فى غير هذا الموضع ؛ كالميتة.

(مَنافِعُ (٦)) : من قال إن شعائر الله هى الهدايا ، فالمنافع بها شرب لبنها ، وركوبها لمن اضطر إليها ، والأجل المسمى نحرها ، ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر ؛ والأجل المسمّى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة.

(مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٧)) : من قال إن الشعائر الهدايا فمحلّها موضع نحرها وهو منى ، ومكّة ؛ وخص البيت بالذكر ؛ لأنه أشرف الحرم ، وهو المقصود بالهدى ، و (ثُمَّ) على هذا القول ليست للترتيب فى الزمان ؛ لأن محلها قبل نحرها ؛ وإنما هى لترتيب الجمل.

__________________

(١) الحج : ١٨

(٢) الحج : ٢٦

(٣) درس الرسم دروسا : عفا ، ودرسته الريح ، لازم ومتعد (القاموس).

(٤) الحج : ٢٨

(٥) الحج : ٣٠

(٦) الحج : ٣٣

(٧) الحج : ٣٣

٣٥٨

ومن قال إن الشعائر مواضع الحج فمحلّها مأخوذ من إحلال المحرم ؛ أى آخر ذلك كله الطواف بالبيت ؛ يعنى طواف الإفاضة ؛ إذ به يحلّ المحرم من إحرامه.

(مَنْسَكاً (١)) ؛ أى موضعا للعبادة. ويحتمل أن يكون اسم مصدر ، بمعنى عبادة. والمراد بذلك الذبائح ؛ لقوله تعالى (٢) : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، بخلاف ما يفعل الكفار من الذبائح تقربا إلى الأصنام.

(مَنْ يَنْصُرُهُ (٣)) : الضمير عائد على الله. والمعنى إنّ الله ينصر من ينصر دينه وأولياءه ، وهو وعد تضمّن الحضّ على القتال.

(مَشِيدٍ (٤)) : أى مبنىّ بالشّيد وهو الجص. وقيل المشيد المرفوع البنيان ، وكان هذا القصر بقية من بقايا ثمود.

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ (٥)) : المراد بهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مكّنهم الله فى أرضه. وقيل الصحابة. وقيل الخلفاء الأربعة ؛ لأنهم الذين مكّنوا فى الأرض بالخلافة ، وفعلوا ما وصفهم الله به فى الآية.

(مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ (٦)) : قد قدمنا فى آية النحل (٧) أن هذا من معنى التجوّز ، ولكن وعد فى هذه الآية بالنصر لمن بغى عليه.

فإن قلت : أى مناسبة لختم هذه الآية بالعفو والمغفرة؟

والجواب من وجهين :

__________________

(١) الحج : ٣٤

(٢) الحج : ٣٤

(٣) الحج : ٤٠

(٤) الحج : ٤٥

(٥) الحج : ٤١

(٦) الحج : ٦٠

(٧) آية النحل (١٢٦) : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.

٣٥٩

أحدهما ـ أن فى ذكر هذين الوصفين إشعارا بأن العفو أفضل من المعاقبة ، كما قدمنا ؛ فهو حضّ عليه.

والثانى ـ أن فى ذكرهما إعلاما بعفو عن المعاقب حين عاقب ، ولم يأخذ بالعفو الذى هو أولى.

(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ (١)) : يعنى علما ضروريا ؛ فنفى أولا البرهان النظرى ، وهو المراد بالسلطان ؛ ثم العلم الضرورى ، وليس اللفظ بظاهر فى هذا المعنى ؛ بل الأحسن نفى العلم الضرورى والنظريّ معا.

(مَوْلاكُمْ (٢)) ؛ أى وليّكم وباصركم بدلالة ما بعد ذلك.

(مَكِينٍ (٣)) : متمكّن ؛ والمراد به رحم المرأة.

(ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (٤)) : يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين ، أو المصدر.

(ماءً بِقَدَرٍ (٥)) : يعنى المطر الذى ينزل من السماء ، فتكون منه العيون والأنهار. وقيل يعنى أنهارا ، وهى النيل والفرات ودجلة [١٦٢ ا] وسيحان (٦) ، ولا دليل على هذا التخصيص. ومعنى بقدر : بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (٧)) : هذا الكلام من قوم نوح لما قال لهم : إنى رسول الله إليكم ـ استبعدوا أن تكون النبوءة لبشر ، وأثبتوا الربوبية لحجر.

__________________

(١) الحج : ٧١

(٢) الحج : ٧٨

(٣) المؤمنون : ١٣

(٤) المؤمنون : ١٧

(٥) المؤمنون : ١٨

(٦) سبحان : نهر بالشام ، وآخر بالبصرة (القاموس).

(٧) المؤمنون : ٢٤ ، ٣٣

٣٦٠