معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

والمعنى ؛ لقوله (١) : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). [١٥٢ ا]. حكاه الكرمانى فى عجائبه (٢).

وأما التشابه فلأنه يشبه بعضه بعضا فى الصدق.

وأما الرّوح فلأنه تحيى به القلوب والأنفس.

وأما المجيد فلشرفه.

وأما العزيز فلأنه يعزّ على من يروم معارضته.

وأما البلاغ فلأنه أبلغ به الناس ما أمروا به ونهوا عنه ؛ أو لأن فيه بلاغا وكفاية عن غيره.

قال السّلفى فى بعض أجزائه : سمعت أبا الكرم النحوى ، سمعت أبا القاسم التنوخى يقول : سمعت أبا الحسن الرمانى يقول ـ وقد سئل : كل كتاب له ترجمة ، فما ترجمة كتاب الله؟ فقال : هذا بلاغ للناس ، ولينذروا به.

وذكر أبو شامة وغيره فى قوله تعالى (٣) : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) ـ أنه القرآن.

فائدة

حكى المظفّرى (٤) فى تاريخه ، قال : لما جمع أبو بكر القرآن قال : سمّوه. فقال بعضهم : سموه إنجيلا ، فكرهوه. وقال بعضهم : سموه السّفر ، فكرهوه

__________________

(١) الأعلى : ١٨

(٢) وقيل : إنه اسم الفاتحة وحدها (البرهان : ١ ـ ٢٨٠)

(٣) طه : ١٣١

(٤) البرهان : ١ ـ ٢٨١

٣٠١

من اليهود (١). فقال ابن مسعود : رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف ، فسموه بذلك.

قلت : أخرج ابن أشتة (٢) فى كتاب المصاحف من طريق عيسى بن عقبة عن ابن شهاب ، قال : لما جمعوا القرآن فكتبوه فى الورق قال أبو بكر : التمسوا له اسما. فقال بعضهم : السّفر. وقال بعضهم : المصحف ؛ فإن الحبشة يسمونه المصحف. وكان أبو بكر أوّل من جمع كتاب الله وسمّاه المصحف. ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة.

وذكر ابن الضّريس (٣) وغيره ، عن كعب ، قال : فى التوراة : يا محمد ؛ إنى منزّل عليك توراة حديثة ، تفتح أعينا عميا ، وآذانا صمّا ، وقلوبا غلفا.

وأخرج ابن أبى حاتم عن قتادة ، قال : لما أخذ موسى الألواح قال : يا ربّ ؛ إنى أجد فى الألواح أمّة أناجيلهم فى صدورهم ، فاجعلهم أمتى. قال : تلك أمة أحمد.

ففي هذين الأثرين تسمية القرآن توراة وإنجيلا. ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك. وهذا كما سميت التوراة فرقانا فى قوله (٤) : (وَإِذْ آتَيْنا

__________________

(١) فى ب : باليهود ، وفى البرهان : من يهود.

(٢) ابن أشتة : محمد بن عبد الله أحد علماء العربية والقراءات ، وله كتاب فى شواذ القراءات ، توفى سنة ٣٠٦ ه‍. وأشتة مضموم الهمزة فى التبصير (٢٠) ، ومفتوح الهمزة فى المشتبه والمستدرك والتوضيح.

(٣) هو محمد بن أيوب بن يحيى ، أحد حفاظ الحديث. له كتاب فى فضائل القرآن توفى سنة ٢٩٤. (تذكرة الحفاظ : ٢ ـ ١٩٥).

(٤) البقرة : ٥٣

٣٠٢

مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) ، وسمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبور قرآنا فى قوله : خفّف على داود القرآن.

(مَدَّ الْأَرْضَ (١)) : يقتضى أنها بسيطة لا كرة (٢) ؛ وهو ظاهر الشريعة ، وقد يرتب لفظ المد والبسط مع التكوير ؛ لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها ؛ وإنما التكوير لجملة الأرض. وقال الشيخ عبد الخالق : وكنت أسمع من الشيوخ أن فى الأرض خمسة أقوال : قيل كروية. وقيل بسيطة.

وقيل : إنها شبه مكب. وقيل بمنزلة حميلة (٣) السيف الذى يتقلد به ، وإنها شبه حلقة محيطة بهذا العالم ، كإحاطة الحميلة. وقيل شبه سمكة.

ومن أجل ذلك وضعوا الاصطرلاب الحوتى الجنوبى.

قال : والصحيح عندهم أنها كورية (٤) ، وأن السماء كورية (٥).

وقال ابن عرفة : استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ الأرض بسيطة ، ولا دليل له فى ذلك ؛ لأن اقليدس الهندسى قال الكرة الحقيقية لا يمكن إقامة الزوايا والخطوط عليها بوجه ، ونحن نجد الأرض تقام عليها الخطوط وغير ذلك ، ونراها مستوية ؛ وذلك من أدلّ دليل على أنها وإن كانت كروية فليست كالكرة الحقيقية ؛ بل أعلاها مستو كبعض الكور (٦) التى أعلاها يكون بسيطا (٧) مستويا.

(مثلات (٨)) : جمع مثله ، على وزن سمرة ، وهى العقوبة العظيمة التى تجعل

__________________

(١) الرعد : ٣

(٢) فى ب : لا كورة.

(٣) الحميلة والحمالة والمحمل : علاقة السيف (القاموس).

(٤) فى ا ، ب : كورية.

(٥) هذا بالأصلين ، وقد ذكرها المؤلف فى هذا البحث كله بلفظ : كورة ـ وهى بفتح الكاف : لوت العمامة وإدارتها. وبالضم : الصقع ، وجميعها كور ـ بفتح الواو ، وأكوار (القاموس).

(٦) هذا بالأصلين ، وقد ذكرها المؤلف فى هذا البحث كله بلفظ : كورة ـ وهى بفتح الكاف : لوت العمامة وإدارتها. وبالضم : الصقع ، وجميعها كور ـ بفتح الواو ، وأكوار (القاموس).

(٧) يريد مبسوطا.

(٨) الرعد : ٦

٣٠٣

الإنسان يضرب به المثل ؛ ولذلك وقعت الأمثال فى القرآن ؛ لأنه بالمثال يتبين الحال ؛ أفلا يخاف الإنسان أن يحل به ما حل بمن قبله إذا فعل مثل فعله.

(مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ (١)) : المعنى أن الله يسمع كل شىء ، فالجهر والإسرار عنده سواء ؛ ولذلك أتى به بعد قوله (٢) : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ).

فإن قلت : قوله تغيض الأرحام قرينة فى الخصوص.

فالجواب أنّ الفخر والآمدى قالا : إن العامّ إذا عقّب بصنف من أصنافه فمذهب مالك والشافعى بقاؤه على عمومه.

وقال الثورى : هو مقصور على ذلك الصنف ؛ فقوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ـ وإن كان لا يصدق إلا على الآدميات [١٥٢ ب] لا يخصّصه. وذكر المؤرخون أنه كان فى بلد «سلا (٣)» عشرة ملوك ولدوا من بطن واحدة.

قال ابن عطية : وقع لمالك ما يدلّ على أنّ الحامل عنده لا تحيض. ومذهب ابن القاسم أنها تحيض. قيل لابن عرفة : يلزم من قولكم إنها تحيض ألا يكون الحيض دليلا على براءة الرّحم ، فكيف جعلتموه دليلا على براءة الرحم فى العدّة والاستبراء؟ فقال : إنما حكمنا بالمظنة. فقلنا : هو مظنة لبراءة الرحم ، فتخلفه

__________________

(١) الرعد : ١٠

(٢) الرعد : ٨

(٣) فى ياقوت : سلا بلفظ الفعل الماضى : مدينة بأقصى المغرب ليس بعدها معمور إلا مدينة صغيرة ، ثم يأخذ البحر ذات الشمال وذات الجنوب ، وهو البحر المحيط. وسلا : مدينة متوسطة فى الصغر والكبر موضوعة على زاوية من الأرض قد حاذاها البحر والنهر ، وفى غربى النهر اختط عبد المؤمن مدينة وسماها المهدية. وهى من مراكش غربية جنوبية.

٣٠٤

فى بعض الأحيان لا يقدح ، كما أن الغيم فى زمن الشتاء مظنّة لنزول المطر. وقد يتخلّف.

فإن قلت : لم قدم النقص على الزيادة؟ فالجواب لأن الأصل عدم الزيادة.

فإن قلت : «سواء» (١) مصدر فى الأصل ، وهو خبر عن قوله : من أسرّ القول ؛ والمصادر لا تكون أخبارا عن الجثة ، فهل هو كقولك : زيد عدل. قال الكوفيون : أى ذو عدل ، وجعله البصريون نفس العدالة مبالغة ومجازا.

والجواب أنه ليس مثله (٢) ، وإنما جاز الإخبار هنا لأنّه ليس خبرا عن الذات ؛ بل عن المجموع. قيل لابن عرفة : هلّا قال سواء عنده ولم يقل منكم ؛ ليعمّ الكلام الإنسان والجن. بل ذكر الجن كان يكون أولى ؛ لأنهم أجهل وأشد مكرا واختفاء ؛ أو الشياطين منهم. فقال : الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف يرى ما فى باطنه من ظاهره بخلاف الناس ؛ فإن أجسامهم كثيفة ؛ فكان العلم بما فى قلوبهم أبلغ ؛ فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم بأسرار الجن من باب أحرى.

(مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (٣)) : المستخفى بالليل هو الذى لا يظهر. والسارب : المنصرف (٤) فى سربه ـ بفتح السين ؛ وقصد فى هذه الآية التسوية بينهما فى اطّلاع الله عليهما مع تباين حالهما. وقيل : إنهما صفتان لموصوف واحد ، يستخفى بالليل ويظهر بالنهار. ويعضد هذا كونه قال : وسارب بالنهار ـ بعطفه عطف الصفات ، ولم يقل ومن هو سارب بتكرار من ،

__________________

(١) فى الآية العاشرة من سورة الرعد : سواء منكم من أسر القول.

(٢) فى القاموس : السواء : العدل والوسط.

(٣) الرعد : ١٠

(٤) فى الكشاف (١ ـ ٤٨٩) : سارب : ذاهب فى سربه ، بالفتح ، أى فى طريقه ووجهه.

٣٠٥

كما قال (١) : (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) ؛ إلا أنّ جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به ، فيكمل التقسيم إلى أربعة. وعلى هذا يكون قوله : (وَسارِبٌ) عطف على قوله : من هو مستخف ، لا على مستخف وحده (٢).

(مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ (٣)) : أى جماعات (٤) تعتقب فى حفظه وكلاءته. وقيل : أذكار وتسبيحات ودعوات. وردّه ابن عرفة بأن المجموع بالألف والتاء إذا كان مكسرا (٥) يشترط فيه العقل إذا لم تكسّره (٦) العرب كجماعات ؛ ولهذا حكى (٧) الزمخشريّ فيه معاقيب.

فإن قلت : الوارد فى الحديث أن الحفظة ملك عن اليمين وملك عن الشمال ، فكيف قال : من بين يديه ومن خلفه؟

فالجواب من وجهين :

الأول ـ أن من لابتداء الغاية ، فينزلون من أمامه ومن خلفه لعمارة يمينه وشماله بالحفظة الأول ، ثم تصعد الحفظة الأول ويستقرّون هم عن يمينه وشماله.

الثانى ـ أن الضرر اللاحق للانسان من أمامه وخلفه أصعب عليه وأشقّ ، فما هو من أمامه يأتيه مصادرة وإليه يهرب. ألا ترى قوله تعالى (٨) : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ). وما هو من خلفه يأتيه من حيث لا يشعر فحفظ هاتين الجهتين آكد من غيرهما.

__________________

(١) الرعد : ١٠

(٢) فى الكشاف (١ ـ ٤٨١) : فيه وجهان : أحدهما أن قوله وسارب عطف على من هو مستخف لا على مستخف. والثانى أنه عطف على مستخف لا أن من فى معنى الاثنين كأنه قيل سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار.

(٣) الرعد : ١١

(٤) فى الكشاف : جماعات من الملائكة.

(٥) فى ا ، ب : مكثرا ... تكثره ـ بالثاء المثلثة.

(٦) فى ا ، ب : مكثرا ... تكثره ـ بالثاء المثلثة.

(٧) الكشاف : ١ ـ ٤٩٠

(٨) الجمعة : ٨

٣٠٦

فإن قلت : هل هؤلاء المعقّبات للجنّ والإنس أو للإنس خاصة؟ فالجواب أن الضمير يعود على من أسرّ القول ومن جهر ، ومن استخفى وظهر ، يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم واستغفارهم.

(مَنْ فِي السَّماواتِ ، وَالْأَرْضِ (١)) : لا تقع من إلّا على من يعقل ، فهى هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن.

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (٢)) : أى من شفيع فى رفع العذاب عنهم ؛ فهو تأسيس. وقوله (٣) : (فَلا مَرَدَّ لَهُ) ؛ أى لا دافع عنه ابتداء قبل وقوعه بهم ، ولا ناصر لهم يرفعه عنهم بعد وقوعه.

(مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (٤)) : أمره الله أن يقول لهم هذا القول ، لأنهم لا يجدون بدّا من قولهم : الله ، كما قال تعالى (٥) : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ؛ ولذا حصل تبكيتهم بقوله تعالى : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ). والمعطوف عليه مقدّر ؛ أى [١٥٣ ا] كفرتم فاتخذتم.

فإن قلت : لم قال من دونه ، وهم اتخذوهم شركاء مع الله؟

والجواب : إنا إن نظرنا إلى نفس اتخاذهم وليّا وناصرا بالنوع فلا شك أنهم شركاء فى وصف النصرة والولاية بين الله وغيره ، وإن نظرنا إلى اتخاذهم وليّا وناصرا بالشخص فلا شك أن هذا لا يصحّ فيه الشركة.

وقد ذكر ابن التلمسانى فى مسألة الصلاة فى الدار المغصوبة أن الواحد بالشخص لا يصح انقسامه إلى مأمور ومنهىّ ؛ والواحد بالجنس أو النوع يصح فيه ذلك. ومثله بالسجود لله والسجود للصنم.

__________________

(١) الرعد : ١٥

(٢) الرعد : ١١

(٣) الرعد : ١١

(٤) الرعد : ١٦

(٥) الزخرف : ٨٧

٣٠٧

فإن قلت : لم قدم المجرور على أولياء ، والأصل تقديم المرفوع ثم المنصوب ثم المجرور؟ والجواب لأنه أضيف إلى ضمير الله.

فإن قلت : لم قال : (أَوْلِياءَ) ، ولم يقل أربابا؟ والجواب أن الأولياء أعمّ من الأرباب ؛ لأن الولى والناصر قد يكون ربّا وقد لا يكون ؛ فهم وبخّوا على الوصف الأعم ، وهو طلبهم النصرة من غير الله ؛ فيلزم منه الذمّ على الوصف الأخص ؛ وهو اتخاذهم أربابا من دون الله من باب أحرى. ولو قال اتخذتم من دونه أربابا لأفاد التوبيخ على هذا الوصف الأخص ، لا على ما دونه ، وهو مطلق النصرة.

(ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً (١)) : هذا مثل (٢) ضربه الله للحق وأهله ، والباطل وحزبه ؛ فمثل الحقّ كالماء الذى ينزل من السماء فتسيل به الأودية ، وتنتفع به الأرض ، وبالذهب والفضة والحديد والصّفر (٣) وغيرها من المعادن التى ينتفع بها الناس. وشبّه الباطل فى سرعة اضمحلاله وزواله بالزّبد (٤) الذى يرمى به السيل وبزبد تلك المعادن التى يطفو فوقها إذا أذيبت ، وليس فى الزّبد منفعة ، وليس له دوام.

وقال ابن العربى فى قانون التأويل : ضربه الله مثلا للحق والباطل ؛ فإنه خلق الماء لحياة الأبدان ، كما أنزل القرآن لحياة القلوب ، وضرب امتلاء الأودية بالماء مثالا لامتلاء القلوب بالعلم ، وضرب الأودية الجامعة للماء مثالا للقلوب الجامعة للعلم. وضرب قدر الأودية فى احتمال الماء ، بسعتها وضيقها ، وصغرها وكبرها ، مثالا لقدر القلوب فى انشراحها وضيقها بالحرج ، وضرب حمل السيل الحصيد

__________________

(١) الرعد : ١٧

(٢) الكشاف : ١ ـ ٤٩٢

(٣) الصفر : النحاس.

(٤) فى الكشاف : بزبد السيل الذى يرمى به.

٣٠٨

والهشيم ، وما يجرى به ويدفعه مثلا لما يدفعه القرآن من الجهالة والزّيغ والشكوك ووساوس الشيطان ، وضرب استقرار الماء ومكثه لانتفاع الناس به فى السّقى والزراعة مثلا لمكث العلم واستقراره فى القلوب للانتفاع به.

قال : هذا المثل الأول. وأما الثانى فضرب المثل فيما يوقد عليه النار بما فى القرآن من فائدة العلم المنتفع به كالانتفاع بالمتاع ؛ وكما أن النار تميّز الخبيث فى هذه من الطيّب ، كذلك القرآن إذا عرضت عليه العلوم يميز النافع فيها من الضارّ.

(ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (١)) : القرابات والأرحام.

(مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ (٢)) : ترتيب المعطوفات على حسبها فى الوجود الخارجى ؛ فوجود الأب سابق على وجود زوجك ، وزوجك سابق على ولدك ، ودخول الأنبياء الجنّة إما لصلاحهم أو صلاح آبائهم ، كما قال تعالى (٣) : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً). وقوله تعالى (٤) : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). أو العكس وهو أن دخول الآباء بسبب الأبناء ، كما فى الحديث : من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والده يوم القيامة تاجا أحسن من ضوء الشمس ؛ ولذلك قال الشاطبى : هنيئا مريئا ، والداك عليهما ملابس أنوار من التاج والحلى.

(مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (٥)) : أى شىء يتمتّع به وينفصل عنه. وهذه الآية إشارة إلى من يعمل للدنيا ويعمل للآخرة ، وإلا فالآخرة ليست ظرفا للدنيا بوجه. فإذا تذكّر الإنسان أيامه التى قطعها فى الشهوات

__________________

(١) الرعد : ٢٥

(٢) الرعد : ٢٣

(٣) الكهف : ٨٢

(٤) الطور : ٢١

(٥) الرعد : ٢٦

٣٠٩

ندم عليها ؛ لأنها انقضت واضمحلّت بخلاف التى قطعها فى الطاعات ؛ فإنه يفرح [١٥٣ ب] بها ويتنعم إذا تذكّرها ؛ فانظر من أى الفريقين تعدّ نفسك.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ (١)) : الظاهر أن الخبر مقدّر ، وفى الآية حذف مضافين ، والتقدير مثل الجنة التى وعد المتّقون مثل جنة تجرى من تحتها الأنهار.

وردّ على قائل هذا بأنه إن أراد بالثانية جنّة الآخرة فقد شبّه الشيء بنفسه ؛ ولا يصحّ أنها جنة الدنيا ؛ لأن المشبه بالشىء لا يقوى قوّته ، وهنا شبه الأقوى بالأضعف.

وأجيب بأنه قد يكون الفرع أقوى من الأصل ، وهو نوع من القياس. وعند الفراء أن الخبر متأخّر ، وهو : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

(مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ (٢)) : ذكر الإمام الفخر عن المفسرين إما أن تكون بعضا على بابها ، وأن من ينكر بعضه فهو كافر. وبقى عليهم أن المنطقيين قالوا إن سور القضية إن كان بعضا وكان منفيا فقد يراد به العموم ؛ ويكون بمعنى أحد ، فمعناه من ينكره كله. وقالوا : إن السالبة الكلية تناقضها موجبة جزئية.

(مَآبِ (٣)) : مفعل ، من الأوب وهو الرجوع ؛ أى مرجعى فى الآخرة ، أو مرجعى فى التوبة. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال له : قل لهم لست مكلّفا بإيمانكم ، وإنما كلّفت بالتبليغ.

فإن قلت : أمره (٤) أولا بالعبادة ؛ ونفى الشرك مقدم عليها ؛ إذ لا يعبد إلا من لم يشرك ، وقد لا يشرك ولا يعبد.

__________________

(١) الرعد : ٣٥

(٢) الرعد : ٣٦

(٣) الرعد : ٣٦

(٤) فى الآية نفسها : قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به.

٣١٠

فالجواب أن المراد بالشرك الرياء والكبر ؛ فالمعنى أمرت أن أعبد الله عبادة خالصة من الرياء ، ولكن هذا لا يناسب السياق.

قيل : وعلى هذا يكون قوله : ولا أشرك به ـ حالا (١) ، لكن نص الأكثرون على أن «لا» تخلّص الفعل للاستقبال. فقال (٢) تكون هذه حالا مقدرة ؛ كقولهم : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا.

وقيل فى الجواب : أمرت أن أعبده عبادة لا يتخلّلها ، أو لا يعقبها ، إشراك.

وقيل : قدّمت العبادة لتدل على نفى الإشراك باللزوم ثم بالمطابقة ، فيدل اللفظ دلالتين.

(مِنْ أَطْرافِها (٣)) : أى من خيارها ، يعنى أن الله يقبض الخيار منها.

(مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤)) : المراد به القرآن أو اللوح المحفوظ.

واختلف من المراد به؟ فقيل : المراد به من أسلم من اليهود والنصارى على العموم. وقيل : الصحابة. وقيل عبد الله بن سلام.

وردّ بأنه أسلم بالمدينة والسورة مكّية ، فكيف يشهد حينئذ وهو كافر.

وأجيب باحتمال أن تكون هذه الآية خاصة مدنيّة. وقيل المراد الله تعالى ؛ فهو الذى عنده علم الكتاب.

ويضعف هذا ؛ لأنه عطف صفة على موصوف. ويقوّيه قراءة : ومن عنده علم الكتاب بمن الجارّة وخفض عند.

__________________

(١) أى فى موضع الحال على معنى : أمرت أن أعبد الله غير مشرك به (الكشاف : ١ ـ ٤٩٦)

(٢) أى الأكثرون.

(٣) الرعد : ٤١

(٤) الرعد : ٤٣

٣١١

(ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... (١)) الآية. فيها دليل على أن واضع اللغة هو الله تعالى. وفيها دليل على أن حصول العلم عقيب لنظر عادىّ ، وليس بعقلى ؛ إذ لو كان عقليا للزم من البيان الهداية. ويحتمل عدم لزومه ؛ لأن المخاطب قد لا ينظر النّظر الموصّل للعلم.

(ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ (٢)) : المعنى أىّ شىء يمنعنا من التوكّل على الله وقد هدانا سبلنا؟

فإن قلت : كيف جمعه (٣) وقد تقرر غير ما مرة أن طريق الهدى واحدة حسبما أشار إليه الزمخشرى فى قوله (٤) : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ؟) والجواب أنه على التوزيع ؛ قال تعالى (٥) : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ؛ فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه.

فإن قلت : لم كرر الأمر بالتوكل؟ والجواب أن قوله (٦) : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) راجع إلى ما تقدم من طلب الكفّار ((٧) بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ؛ أى حجة ظاهرة ، فتوكّل الرسل فى ورودها على الله. وأما قوله (٨) : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، فهو راجع إلى قولهم : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) ؛ أى نتوكل على الله فى دفع أذاكم. وقال الزمخشرى : إن هذا الثانى بمعنى الثبوت على التوكل.

(ما هُوَ بِمَيِّتٍ (٩)) : لا يراح (١٠) بالموت ؛ لأنه ذبح بين الجنة والنار.

__________________

(١) إبراهيم : ٤

(٢) إبراهيم : ١٢

(٣) يريد جمعه السبيل ، فقال : سبلنا فى الآية.

(٤) الكشاف : ١ ـ ٢٨٣. والآية فى سورة الأنعام : ١

(٥) المائدة : ٤٨

(٦) إبراهيم : ١١

(٧) إبراهيم : ١٠

(٨) إبراهيم : ١٢

(٩) إبراهيم : ١٧

(١٠) فى القرطبى (٩ ـ ٣٥٢) : لا يموت فيستريح.

٣١٢

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ (١)) : مذهب سيبويه والفراء (٢) كقولهما فى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) المتقدم آنفا.

والمثل هنا بمعنى الشبه (٣). وقال ابن عطية : بمعنى الصفة. وردّ [١٥٤ ا] بأنه ليس مطلقا ، بل التى فيها غرابة ؛ ولذلك جعلوا : لأمر ما جدع قصير أنفه ـ مثلا. وذكر الرب تشنيع عليهم ؛ يعنى كفروا بمن أنعم عليهم ورحمهم ؛ وشبّه أعمالهم بالرماد لخفته وسرعة تفرقه بالريح ، ولأنه لا ينبت شيئا بخلاف التراب ، وجمع الرياح ليفيد شدة التفرق من جميع الجهات.

(ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٤)) : أى مهرب حيث وقع. ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسم مكان.

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ (٥)) : أى ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثين لى ؛ وإنما يقول هذا الشيطان حين يتعلّقون به ويقولون له : أنت أغويتنا.

(مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً (٦)) : ابن عباس وغيره : هى لا إله إلا الله ، والشجرة الطيّبة هى النخلة فى قول الجمهور. واختار ابن عطية أنها شجرة غير معيّنة ، إلا أنها كلّ ما اتصف بتلك الصفات. والكلمة الخبيثة كلمة الكفر ، أو كلّ كلمة قبيحة. والشجرة الخبيثة هى الحنظلة لمرارتها.

__________________

(١) إبراهيم : ١٨

(٢) فى القرطبى : قال سيبويه ارتفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وهو عند الفراء على الغاء المثل ، والتقدير : والذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد ، وعنه أيضا أنه على حذف مضاف ، التقدير : مثل أعمال الذين كفروا كرماد.

(٣) فى الأصلين : التشبيه

(٤) إبراهيم : ٢١

(٥) إبراهيم : ٢٢

(٦) إبراهيم : ٢٤

٣١٣

فإن قلت : لم عبّر هنا بالاسم فرفع ؛ وقال فى المؤمن (١) : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ؛ فعبّر بالفعل ونصب؟

فالجواب أن المؤمن له حالتان ؛ لأنه انتقل من الكفر إلى الإيمان ، والكافر له حالة واحدة ثبت عليها ، ولم ينتقل عنها ؛ فلذلك عبّر عن مثله بالاسم.

فإن قلت : هل الشجرة الخبيثة مقصورة على الحنظل أو تطلق على كل ما ليس لها ساق كالقثاء والثوم ، وفيها منافع جمّة ، فكيف يشبّه بها الكافر ، وهو لا منفعة فيه بوجه؟

والجواب إنما شبّه بها من حيث أنها لا تثبت ؛ إذ ليس لها ساق ، فالتشبيه فى اضمحلال العمل الخبيث وذهابه يوم القيامة ولا يبقى إلا العمل الصالح.

(مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢)) : هو من قول الخليل عليه‌السلام ، دعاء لمن عصاه بغير الكفر ، أو لمن عصاه بالكفر ثم تاب منه ، وهو الذى يصح أن يدعى له بالمغفرة ، لكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه ـ عليه‌السلام ـ من الرحمة للخلق وحسن الخلق.

فإن قلت : كيف يدعو بما هو مستحيل عقلا وشرعا ؛ لأن النبى معصوم عن عبادة الأصنام؟

فالجواب أنه دعا على سبيل الخضوع والتذلل والخوف ؛ ألا ترى شعيبا لما قالوا له (٣) : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ـ ((٤) ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها

__________________

(١) آية المؤمن : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً (٢٤) ، والآية الأخرى : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ... (٢٦)

(٢) إبراهيم : ٣٦

(٣) الأعراف : ٨٨

(٤) الأعراف : ٨٩

٣١٤

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، فالمقام مقام خوف ، ولو ثبتت عصمتهم فهم أولى الناس بالخوف ممن اصطفاهم.

(ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (١)) : هو المقسم عليه ، يعنى أنهم حلفوا أنهم لا يبعثون.

(مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٢)) : يراد بالجبال هنا الشرائع والنبوات ، شبّهت بالجبال فى ثبوتها. والمعنى تحقير مكرهم ؛ لأنها لا تزول منه (٣) تلك الجبال الثابتة الراسخة. وقرأ الكسائى : لتزول ـ بفتح اللام ورفع تزول ، و (إِنْ) على هذه القراءة مخفّفة من الثقيلة ، واللام للتأكيد. والمعنى تعظيم مكرهم ؛ أى أن مكرهم من شدته بحيث تزول منه الجبال ، ولكنّ الله عصم ووقى منه.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ (٤)) : الآية ردّت عليهم فيما اقترحوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بالملائكة معه.

والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحى والمصالح التى يريدها الله ، لا باقتراح مقترح واختيار كافر معترض. وقيل الحق هنا العذاب. ولو أنزل الله الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم ؛ لأن عادة الله أن من اقترح آية فرآها ولم يؤمن ـ أنه يعجّل له العذاب ، وقد علم الله أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم ، فلم يفعل بهم ذلك.

(مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٥)) : يعنى البهائم والحيوانات ، و (مَنْ) معطوف على معايش (٦). وقيل على الضمير فى لكم. وهذا ضعيف فى النحو ؛ لأنه عطف

__________________

(١) إبراهيم : ٤٤

(٢) إبراهيم : ٤٦

(٣) أى من المكر.

(٤) الحجر : ٨

(٥) الحجر : ٢٠

(٦) فى الآية نفسها.

٣١٥

على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ؛ وهو قوىّ فى المعنى ؛ أى جعلنا فى الأرض معايش لكم وللحيوانات.

[١٥٤ ب] (ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١)) : الضمير عائد على الشيء (٢) وهو المطر ، واللفظ أعم من ذلك.

والمعنى أنه ما من شىء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بمقدار محدود.

(مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٣)) : دليل على تحريم القنوط. وقرئ يقنط ـ بفتح النون وكسرها ، وهما لغتان.

(ما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٤)) ؛ أى ما شأنكم؟ أو بأى شىء جئتم؟ والخطاب مع الملائكة الذين جاءوا لإبراهيم عليه‌السلام بالبشرى.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٥)) : الكاف متعلقة بقوله (٦) : (أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ؛ أى أنذر قريشا عذابا مثل العذاب الذى أنزل على المقتسمين. وقد قدمنا فى حرف الهمزة معنى المقتسمين.

(مَنافِعُ (٧)) : يعنى شرب ألبان الأنعام ، والحرث بها ، وغير ذلك ، وهذا فيه ترقّ وتدريج ؛ لأن الدّفء متيسّر قريب ؛ إذ ليس فيه إلّا إزالة صوفها ووبرها والانتفاع به ؛ فليس عليها فيه مضرّة ، ثم الامتنان بالمنافع أقوى منه ؛ لأن فيه تسخيرها والحمل عليها ؛ وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعله لو لا ما أبيح له ؛ إذ فيه تكليف ومشقة عليها ، ثم الامتنان بالأكل منها أقوى

__________________

(١) الحجر : ٢١

(٢) فى الآية نفسها.

(٣) الحجر : ٥٦

(٤) الحجر : ٥٧

(٥) الحجر : ٩٠

(٦) الحجر : ٨٩

(٧) النحل : ٥

٣١٦

من ذلك وأشد ؛ لأن فيه ذبحها ؛ وهذا لا يقدر الإنسان عليه ؛ لأنها محترمة ، فكيف تذبح لو لا ما أباح الله لنا ذلك.

(ما لا تَعْلَمُونَ (١)) : يعنى أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها ، وكل من ذكر فى هذه الآية شيئا مخصوصا ، فهو على وجه المثال. قال بعض العلماء : كنت يوما أتصيّد فى البرية ، فقامت بين يدىّ هائشة عظيمة كالرجا ، ولها أرجل كثيرة. قال : فشددت عليها حتى كدت أن أدركها فانفلتت إلىّ ، وقالت بلسان طلق : ما تريد؟ ما تريد؟ فقلت لها : من أنت؟ فقالت : من الذين قال الله فيهم : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، فولّيت عنها.

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ (٢)) : قال الزمخشرى (٣) : مختلف الهيئات والمناظر. وقال ابن عطية : أى أصنافه ، كقولك : ألوان من التمر ؛ لأن المذكورات أصناف عدّت فى النعمة والانتفاع بها على وجوه ، ولا يظهر إلا من حيث تلوّنها حمرة وصفرة وغير ذلك. ويحتمل أن يكون تنبيها على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة. قال : والأول أبين. وفى الآية رد على الطبائعيين ؛ لأن أفعال الطبيعة لا تختلف ، فبطل كون الأرض تفعل بطبعها.

(ماءً لَكُمْ (٤)) : يحتمل أن يتعلق بأنزل ، أو يكون فى موضع خبر لشراب ، أو صفة لماء ؛ فسبحان اللطيف بعباده. وانظر كيف قدم المجرور لشرف خلقها وعظمها ، وقدم (٥) الزرع لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره ، وقدم الزيتون على التمر ؛ لأنه مما يؤتدم به ، فهو مكمل للقوت ؛ والتمر مما يتفكه به ، فهو تزيينى ، فكان أدون ؛ لأنه زائد على القوت غير مكمل به.

__________________

(١) النحل : ٨

(٢) النحل : ١٣

(٣) فى الكشاف : ١ ـ ٥٢١

(٤) النحل : ١٠

(٥) فى الآية ١١ بعدها.

٣١٧

وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز ، وليس بأرضهم إلا التمر ؛ فهو عندهم أشرف من العنب ، لأن محبة الإنسان لما تعاهد وربّى عليه أقوى من محبته لغيره ؛ فالترتيب فى هذه على هذا جهة العدل.

فإن قلت : لم جمع العنب وأفرد التمر ، وأفرد فى الآية الأولى والأخيرة وجمع الوسطى ، وختم الأولى بالتفكير والثانية بالعقل (١) والثالثة بالتذكير (٢)؟

فالجواب إنما جمع العنب لظهور الاختلاف فى أنواعه ؛ لأن منه الأبيض والأكحل والأحمر ؛ فالاختلاف فى أنواعه بالطعم واللّون والجرم ، والتمر إنما الاختلاف فى أنواعه بالطعم والجرم فقط. وأفرد فى الآية الأولى لأنها تقدمتها آيات سماوية ، وهى أكثر من الآيات الأرضية ، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، ويقال : إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها هى والأولى آيات.

ويحتمل أن يقال لما كانت الثانية نعمة سماوية وهى أشرف وأجلى وأظهر من النعمة الأرضية جعل كل واحد على انفراده آيات لشهرته وظهوره ، أو لأن المذكورات أو لا راجعة إما لمجرد القوت أو لوصف النبات ؛ وكلاهما شىء واحد ، بخلاف الثانية [١٥٥ ا].

وقال فى الأولى : يتفكرون ؛ لأنها أمور عادية ؛ إذ حصول الشراب والشجر عن الماء أمر عادى ، وقد لا يكون عنه شىء. وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر أمر عقلى ، وليس بعادى. والثالث يقال لمن آمن بالحجة والدليل بعد أن كان نسيه فهو أمر تذكرى ؛ فلذلك قال : لقوم يذكرون.

فإن قلت : هل التذكّر والتفكر بمعنى واحد أم لا؟ والجواب أن التذكّر ثان عن التفكر ؛ ولهذا اختلفوا ؛ فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها

__________________

(١) هى الآية ١٢ من السورة نفسها.

(٢) الآية ١٣ من سورة النحل.

٣١٨

تذكرية ، وأن النفوس كانت عالمة لكل علم ، فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك ، فبكل ما تعلمه إنما هو تذكر لما كان وذهب.

ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكّر ، وبعضها تذكّر ، فالتفكر لما لم يكن يعلمه ، والتذكر لما علمه ونسيه ؛ فلذلك جعله ثالثا.

وقال ابن الخطيب : التّفكّر إعمال الفكر لطلب الفائدة ، والمذكورات معه راجعة لباب القوت ، وكل الناس محتاج إليه ؛ فعند ذلك يتفكرون النعم بها فيشكرونه. وأما الثانية فتدبرها أعلى رتبة إذ منافعها أخفى وأغمض ؛ فيستحق صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل.

(مَواخِرَ فِيهِ (١)) : جمع ماخرة : يقال مخرت السفينة ، والمخر : شقّ الماء. وقيل صوت جرى الفلك بالريح ؛ ويترتب على هذا أن يكون المخر من الريح. وأن يكون من السفينة ونحوها ؛ وهو فى هذه الآية من السفن. ويقال للسحاب بنات مخر تشبيها ؛ إذ فى جريها ذلك الصوت الذى هو عن الريح والماء الذى فى السحاب ، وأمرها يشبه أمر البحر ؛ على أن الزّجّاج قد قال : بنات المخر : سحائب بيض لا ماء فيها. وقال بعض اللغويين المخر فى كلام العرب الشق ؛ يقال مخر الماء الأرض. قال ابن عطية : فهذا بيّن أن يقال فيه للفلك مواخر. وقال قوم : مواخر معناه تجىء وتذهب بريح واحدة ، وهذه الأقوال ليست تفسيرا للفظة ، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال ، فنصّوا على هذه الأحوال ؛ إذ هى موضع النعمة المعددة ؛ إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيها ، وإنما النعمة فى مخرها بهذه الأحوال فى التجارة والسفر فيها ، وما يمنح الله فيها من الأرباح والمنن.

__________________

(١) النحل : ١٤

٣١٩

فإن قلت : ما فائدة تقديم المواخر فى هذه الآية على آية فاطر (١)؟

والجواب لما كان الفلك المفعول الأول لترى ، ومواخر المفعول الثانى ، و (فِيهِ) ظرف وحقّه التأخير ، والواو فى ولتبتغوا للعطف على لام العلّة فى قوله : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ) ـ أخّره ليجيء على القياس فى هذه السورة. وأما فى فاطر فقدّم (فِيهِ) لما قبله وهو قوله (٢) : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) ؛ فقدّم الجارّ على الفعل والفاعل والمفعول جميعا ولم يزد الواو فى لتبتغوا لأن اللام فى لتبتغوا هاهنا لام العلة ، وليس بعطف على شىء قبله. وقيل فى الجواب غير هذا مما يطول ذكره.

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ (٣)) : تقرير يقتضى الرد على من عبد غير الله ؛ وإنّما عبّر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل ، أو مشاكلة لقوله : أفمن يخلق. وأورد الزمخشرى (٤) هنا سؤالين : أحدهما أن الأصنام لا تعقل ، فهلّا قيل : كما لا يخلق؟ وأجاب ابن عرفة بأنه لو عبّر بما لكان الإنكار عليهم بأمرين : من حيث كونها غير عاقلة ، وكونها لا تخلق ، وما المقصود فى الآية إلا إنكار عبادتها من حيث كونها لا تخلق فقط.

وأجاب الزمخشرى (٥) بأمرين : أحدهما أما أنهم سموها آلهة وعبدوها ، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون. وردّه ابن عرفة بأنه إقرار لهم على معتقدهم.

وأما (٦) أنهم عاملوها معاملة من يعقل فروعى فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق. وردّه ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوى ؛ كقوله (٧) : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ). وقوله :

__________________

(١) آية فاطر (١٢) : وترى الفلك فيه مواخر ...

(٢) آية فاطر (١٢) : وترى الفلك فيه مواخر ...

(٣) النحل : ١٧

(٤) الكشاف : ١ ـ ٥٢١

(٥) الكشاف : ١ ـ ٥٢١

(٦) هذا هذا الأمر الثاني.

(٧) آل عمران : ٥٤

٣٢٠