معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٨٨

وكان لزكرياء يوم بشّر بولده اثنان وسبعون سنة. وقيل : تسع وتسعون سنة. وقيل : مائة وعشرون.

وزكرياء اسم أعجمى ، وفيه خمس لغات : أشهرها المد. والثانية القصر ؛ وقرئ بهما فى السبع. وزكريا ـ بتشديد الياء وتخفيفها. وزكر ـ كقلم.

(زَكى (١) ، وزَكاةً) : طهارة ونماء أيضا. وإنما قيل لما يجب فى الأموال صدقة ؛ لأنها تطهّر الأموال مما يكون فيها من الإثم والحرام إذا لم يؤدّ حقّ الله منها ، وتنميها وتزيد فيها بالبركة ، وتقيها من الآفات. وتأتى بمعنى الثناء. ومنه قوله (٢) : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً) ، كما يزكى الشاهد. وزكا هو ـ مخففا : صار زكيا.

(زَيْغٌ) : ميل حيثما وقع. ومنه (٣) : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ). ونزلت فى نصارى نجران ، فإنهم قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس فى كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال : نعم. قال : فحسبنا إذا ؛ فهذا من المتشابه الذى اتبعوه. وقيل : نزلت فى أبى ياسر بن أخطب اليهودى وأخيه حيىّ. ثم يدخل فى ذلك كل كافر أو مبتدع أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن.

(زبور) : فعول بمعنى مفعول ، من زبرت الكتاب ؛ أى كتبته. والزبور الذى أعطيه داود عليه‌السلام ، وهو من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وعددها مائة وأربعة. وقيل وأربعة عشر.

(زَحْفاً (٤)) : حال من الذين كفروا ، أو من الفاعل فى لقيتم ؛ ومعناه متقابلى الصفوف والأشخاص. وأصل الزحف الاندفاع.

__________________

(١) فى النور : ٢١ : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا.

(٢) مريم : ١٣

(٣) آل عمران : ٧

(٤) الأنفال : ١٥

١٤١

(زيلنا بَيْنَهُمْ (١)) : فرّقنا.

(زَفِيرٌ (٢)) : إخراج النفس من الصدر [١٢٦ ب] ، وهو أول نهيق الحمار.

(زَعِيمٌ (٣)) : بمعنى كفيل وضامن وحميل وصبير ؛ وهذا من كلام المنادى الذى جعل لهم حمل بعير لمن ردّ الصّاع.

(زَهَقَ الْباطِلُ (٤)) : ذهابه. ومن هذا زهوق النفس ؛ وهو بطلانها. والمعنى أن الإيمان يبطل الكفر.

(ذُلُلاً (٥)) : هو الذى لا يثبت القدم عليه ؛ يعنى أنه لا تثبت أشجاره ونباته.

(زاكية (٦)) : ليس له ذنب لعدم بلوغه. وقيل : إنه بلغ ؛ ولكنه لم ير له ذنبا. وقرئ زكيّة (٧). قال أبو عمرو : الصواب زكية فى الحال ، وزاكية فى غد ؛ والاختيار زكيت. مثل ميت ومائت ، ومريض ومارض ؛ وقوله (٨) : (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ؛ أى لم يكن زاكيا.

(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا (٩)) : بالفتح والزاى والهاء : نور النبات. وبضم الزاى وفتح الهاء : النجم. وبنو زهرة بتسكين الهاء.

وشبّه نعم الدنيا بالزهرة ؛ لأن الزّهر له منظر حسن ثم يضمحلّ.

وفى نصب زهرة خمسة أوجه : أن ينتصب بفعل مضمر على الذمّ ، أو يضمّن

__________________

(١) يونس : ٢٨

(٢) هود : ١٠٦ ، الأنبياء : ١٠٠

(٣) يوسف : ٧٢

(٤) الإسراء : ٨١

(٥) النحل : ٦٩

(٦) الكهف : ٧٤

(٧) الكهف : ٧٤

(٨) النور : ٢١

(٩) طه : ١٣١

١٤٢

متّعنا معنى أعطينا ، ويكون زهرة مفعول ثان له ، أو يكون بدلا من موضع الجار والمجرور ، أو يكون بدلا من أزواج على تقدير ذوى زهرة ، أو ينتصب على الحال.

(زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١)) : قد قدمنا أن الزجرة معناها الصيحة بشدة وانتهار. وأما قوله (٢) : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) ـ فمعناها الملائكة تزجر السحب وغيرها. وقيل الزاجرون بالمواعظ من بنى آدم. وقيل : هى آيات القرآن المتضمنة الزجر عن المعاصى. والمراد هنا النّفخ فى الصّور للقيام من القبور.

(زَوَّجْناهُمْ (٣)) : قرنّاهم بالحور ، وليس فى الجنة تزويج كتزويج الدنيا ؛ وإنما هو المقارنة بين الرجل والمرأة ، والصاحب والصاحبة. وقد يأتى بمعنى الصنف والنوع ؛ كقوله تعالى (٤) : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ). ((٥) أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى).((٦) مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها (٧)) : يعنى أصناف المخلوقات ، ثم فسرها بقوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). (مِنْ) فى المواضع الثلاثة للبيان.

(زَنِيمٍ (٨)) : معلّق بالقوم وليس منهم. وقيل : هو ولد الزّنى. وقيل : هو الذى فى عنقه زنمة الشاة التى تعلّق فى حلقها. وقيل : معناه مريب قبيح الأفعال. وقيل : ظلوم.

واختلف من الموصوف بهذه الصفة الذميمة؟ فقيل : لم يقصد بها شخص

__________________

(١) الصافات : ١٩

(٢) الصافات : ٢

(٣) الدخان : ٥٤

(٤) الأنعام : ١٤٣

(٥) طه : ٥٣

(٦) الشعراء : ٧

(٧) يس : ٣٦

(٨) القلم : ١٣

١٤٣

معيّن ؛ بل كل من اتّصف بها. وقيل : المقصود بها الوليد بن المغيرة ؛ لأنه وصفه بأنه «ذو (مالٍ وَبَنِينَ) ، وكان كذلك. وقيل أبو جهل. وقيل الأخنس بن شريق. ويؤيد هذا أنه كانت له زنمة فى عنقه. قال ابن عباس : عرفناه بزنمته ، وكان أيضا من ثقيف. ويعدّ فى بنى زهرة فيصح وصفه بزنيم على القولين. وقيل : الأسود ابن عبد يغوث.

(زنجبيل) : معروف. والعرب تذكره فى أشعارها ، وتستطيب برائحته. وذكر الجواليقى (١) والثعالبى أنه فارسىّ.

(زَرابِيُّ (٢)) : بسط فاخرة. وقيل : الطنافس ، واحدها زربيّة (٣).

(زبانية (٤)) : واحدهم زبنىّ (٥) ، مأخوذ من الزّبن ؛ وهو الدّفع ؛ كأنهم يدفعون أهل النار إليها. ونزلت الآية بسبب قول أبى جهل : أيتوعد محمد ؛ فو الله ما بالوادى أعظم زبنا منى. فنزلت الآية ؛ تهديدا وتعجيزا له.

والمعنى فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك ، ثم أوعد بأن يدعو له زبانية جهنم ، وهم من الملائكة الموكّلون بالعذاب.

وفى الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا»

. (زُلْزِلُوا (٦)) بالتخويف والشدة. والآية خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع

__________________

(١) المعرب : ١٧٤

(٢) الغاشية : ١٦

(٣) الضبط فى اللسان ـ زرب. قال : وتكسر زاؤها وتفتح وتضم ، وجمعها زرابى.

(٤) العلق : ١٨

(٥) فى القاموس : أو واحدها زبنية كهبرية.

(٦) البقرة : ٢١٤

١٤٤

لهم ، والأمر بالصبر على الشدائد ؛ أى لا تدخلون الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من قبلكم من الأمم.

(زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ (١)) : أى أبعد عنها.

(زُخْرُفَ الْقَوْلِ (٢)) : أى ما يزيّنه من القول والباطل. والزخرف أيضا الذهب. ومنه قوله تعالى (٣) : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ). ((٤) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً). وأما قوله تعالى (٥) : (أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [١٢٧ ا] ـ فهو تمثيل للعروس إذا زيّنت بالثّياب والحلى ، تزف إلى زوجها فلا يصلحها ، كذلك الدنيا إذا ظن أهلها أنهم متمكنون من الانتفاع بها أتتها بعض الجوائح ؛ كالريح والصّر ، وغير ذلك.

(زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ (٦)) : المراد به المغرب والعشاء. وزلف الليل ساعاته ، واحدتها زلفة.

(زُبَرَ الْحَدِيدِ (٧)) : واحدتها زبرة (٨).

(زُلْفى (٩)) : قربى ، فهو مصدر من يقربونا ؛ أى يقول الكفار ما نعبد هؤلاء الآلهة إلّا ليقرّبونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده. ويعنى بذلك الكفّار الذين عبدوا الملائكة أو الأصنام أو عيسى أو عزيرا ؛ فإن جميعهم قالوا هذه المقالة.

__________________

(١) آل عمران : ١٨٥

(٢) الأنعام : ١١٢

(٣) الإسراء : ٩٣

(٤) الزخرف : ٣٥

(٥) يونس : ٢٤

(٦) هود : ١١٤

(٧) الكهف : ٩٦

(٨) القطعة العظيمة من الحديد.

(٩) الرمز : ٣

١٤٥

(زُمَراً (١)) فى الموضعين (٢) جمع زمرة ، وهى الجماعة من الناس ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أول زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر. والزمرة الثانية على صورة أشد نجم فى السماء إضاءة ، ثم هم بعد ذلك منازل.

(زِينَةَ اللهِ (٣)) : هى ما شرعه لعباده من الملابس والمآكل ، وكان بعض العرب إذا حجّوا يجردون من الثياب ويطوفون عراة ، ويحرمون الشحم واللّبن ؛ فنزل ذلك ردّا عليهم وإنكارا لتحريمها.

(زِلْزالَها (٤)) : مصدر ؛ وإنما أضيف إلى الأرض تهويلا ، كأنه يقول : الزلزال الذى يليق بها على عظمة جرمها.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٥)) : كناية عن كربهم.

(زَيْدٌ) : هو ابن حارثة الذى تبنّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكر فى القرآن (٦) أحد من الصحابة غيره تعظيما له.

__________________

(١) الزمر : ٧١ ، ٧٣

(٢) الزمر : ٧١ ، ٧٣

(٣) الأعراف : ٣٢

(٤) الزلزلة : ١

(٥) التغابن : ٧

(٦) فى الأحزاب : ٣٧

١٤٦

حرف الطاء المهملة

(طاغوت (١)): من الجن والإنس شياطينهم ، ويكون واحدا وجمعا ، وجمعه فى آية البقرة ، وأفرده فى غيرها ؛ لأنه اسم جنس لما عبد من دون الله.

(طالُوتُ) : هو الذى بعثه الله لقتال جالوت ، وكان ملكا وأعطى بنته لداود.

(طل (٢)) : مطر ضعيف خفيف. والمعنى أنه يكفى هذه الجنة لكرم أرضها.

(طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ (٣)) : الجيد غير الردىء ، ويراد به الحلال. وهو المراد فى كل موضع. وزاد ، كقوله (٤) : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). ((٥) كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ). لكن اختلف فى قوله تعالى (٦) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) ؛ فقيل إنها فى الزكاة ، فيكون واجبا. وقيل : فى التطوع ، فيكون مندوبا لا واجبا ؛ لأنه كما يجوز التطوع فى القليل يجوز فى الردىء.

(طَوْعاً (٧)) : انقيادا بسهولة حيث ما وقع.

(طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (٨)) ؛ أى ختم عليها.

(طَوْلاً (٩)) : هو السعة فى المال. وأباح الله فى هذه الآية تزوّج الفتيات ،

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧

(٢) البقرة : ٢٦٥

(٣) البقرة : ٢٦٧

(٤) البقرة : ٥٧

(٥) المؤمنون : ٥١

(٦) البقرة : ٢٦٧

(٧) آل عمران : ٨٣

(٨) النحل : ١٠٨

(٩) النساء : ٢٥

١٤٧

وهن الإماء ، للرجال إذا لم يجدوا طولا للمحصنات. وذهب مالك وأكثر أصحابه إلى أنه لا يجوز للحرّ نكاح أمة إلا بشرطين : أحدهما عدم الطول ، وهو عدم الوجود بما يتزوّج به امرأة. والآخر خوف الزنى وهو العنت ؛ لقوله تعالى بعد ذلك (١) : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).

وأجاز بعضهم نكاحهنّ دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر.

وانفقوا على اشتراط الإسلام فى الأمة التى تتزوج ؛ لقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) ؛ إلا أهل العراق فلم يشترطوه.

وإعراب طولا مفعول بالاستطاعة. وأن ينكح بدلا منه ؛ فهو فى موضع نصب ، بتقدير إلا أن ينكحن. ويحتمل أن يكون طولا نصب على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة ؛ لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكحن على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر.

(طوعت لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ (٢)) : الضمير يعود على قابيل ، وذلك أنه كان صاحب زرع ، فقرّب أرذل زرعه ، وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبش عنده. وقد قدمنا أن النار كانت حاكم آدم ، فقام هابيل يصلّى ، فنزلت النار وأخذت كبشة ، وتركت زرع قابيل ، فحسده على قبول قربانه ، فقتله ؛ وإنما [١٢٧ ب] حسده على نكاح أخته ؛ لأن الله أوحى إلى آدم أن زوّج ذميما (٣) من قابيل واقليما (٤) من هابيل ؛ فأخبرهما آدم بوحى الله فرضى هابيل

__________________

(١) النساء : ٢٥

(٢) المائدة : ٣٠

(٣) هذا فى ا ، وفى القرطبى : ليوذا.

(٤) الكشاف : ١ ـ ٢٥١ ، وفى القرطبى : قليماء.

١٤٨

وأبى قابيل. وقال : إن أختى أحسن ، وكانت ولدت معه.

فقال آدم : يا بنى ، لا تخالف أمر الله. فقال : لم يأمرك الله ، ولكن أنت تحبّ هابيل وتزوّجه أحسن بناتك. فقال آدم : اذهبا وتحاكما إلى الله ، فوقع منهما ما أخبر الله به بقوله تعالى (١) : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما). كأنه تعالى يقول : أحرقت قربان سائر الأمم ، ولم أجوز أن أحرق قربان حبيبى ، فأمرتهم بإطعام الفقير ؛ فإذا لم أجوز إحراق القربان فكيف أحرق من قرأ القرآن؟ فلما فقد هابيل سأل عنه جميع أولاده ، فقالوا : لا ندرى أين هو؟ فاغتمّ غمّا شديدا على فقده ، وبات مهموما ؛ فرأى فى منامه هابيل وهو يناديه من بعيد : يا أبت ، الغوث! الغوث! فانتبه من نومه مذعورا ، وبكى حتى غشى عليه ، فنزل جبريل ورفع رأسه. فلما أفاق قال : يا جبريل ؛ أين ولدى هابيل؟ فقال : الله يعظّم أجرك فيه ؛ قتله قابيل. فقال آدم : أنا برىء منه. فقال له جبريل : والله برىء منه. ثم قال آدم : يا جبريل ؛ أرنيه ، فأراه له تحت التراب وإذا هو ملطّخ بالدم ، فصاح يا حسرتاه! يا ويلتاه! يا ابناه! وبكى حتى بكت الملائكة لبكائه ، وقالوا : إلهنا ؛ بكى آدم ثلاثمائة سنة ولم يسترح إلّا مدة يسيرة ، ثم اشتغل بالبكاء ؛ فقال تعالى : «الدنيا دار البكاء والعناء ، ودار البلاء والفناء».

(فَطَوَّعَتْ (٢)) : فعّلت من الطوع ؛ يقال : طاع له كذا ؛ أى أتاه طوعا. ولسانى لا يطوع بكذا ؛ أى لا ينقاد.

(طَفِقا (٣)) : أى جعلا ؛ تقول : طفق يفعل كذا ، وجعل يفعل كذا ؛

__________________

(١) المائدة : ٢٧

(٢) المائدة : ٣٠

(٣) الأعراف : ٢٢

١٤٩

قال بعضهم : معناه قصد بالرومية ، حكاه شيذلة ، وضمير التثنية على آدم وحواء.

(طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ (١)) : معناه لمّة منه ، كما جاء : إن للشيطان لمّة ، وللملك لمّة. ومن قرأ طيف ـ بياء ساكنة ـ فهو مصدر ، أو تخفيف من طيّف المشدد ، كميّت وميت. ومن قرأ طائف ـ بالألف ـ فهو اسم فاعل.

(طَرَفَيِ النَّهارِ (٢)) : أوله وآخره ؛ فالأول الصبح ، والطرف الثانى الظهر والعصر.

(طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (٣)) : أى عمله. والمعنى أنه لازم له ما قدّر له وعليه من خير أو شر ؛ يعنى أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء ، وإنما عبّر عن ذلك بالطائر ؛ لأن العرب كانت عادتها التيمّن والتشاؤم بالطير ؛ وإنما عبّر بالعنق ؛ لأنه لا ينفك عنه. ويقال : لكل ما لزم الإنسان قد لزم عنقه ؛ وهذا لك فى عنقى. ومثله (٤) : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) ؛ أى حظّهم ونصيبهم الذى قدّر لهم.

ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم.

(طه) : من أسماء النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل معناه : يا رجل. وأخرج الحاكم فى المستدرك من طريق عكرمة عن ابن عباس فى قوله : طه ـ قال : هو كقولك يا محمد ، بلسان الحبش. وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس ، قال : طه ـ بالنبطية. وأخرج عن عكرمة قال : طه : يا رجل ، بلسان الحبشة.

__________________

(١) الأعراف : ٢٠١

(٢) هود : ١١٤

(٣) الإسراء : ١٣

(٤) الأعراف : ١٣١

١٥٠

(طَغَى (١)) : ترفّع وعلا حتى جاوز الحدّ أو كاد. ومنه قوله تعالى (٢) : (لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) ؛ أى كثر ؛ فيحتمل أنه طغى على أهل الأرض أو على خزّانه ، يعنى وقت طوفان نوح عليه‌السلام.

(بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٣)) : أى سيرتكم الحسنة ؛ وهذا من كلام فرعون يخاطب قومه أن هذا يذهب بدينكم ، وما أنتم عليه. والمثلى تأنيث الأمثل.

(طَهُوراً (٤)) : أى نظيفا يطهر به من توضّأ واغتسل من جنابته. والطهور : مبالغة فى طاهر ؛ ولهذا المعنى يقول الفقهاء : ماء طهور ؛ أى مطهّر ، وكل مطهر طاهر ، وليس كل طاهر طهورا.

(طود (٥)) : الجبل ، وروى أنه صار فى البحر اثنا عشر طريقا لكل سبط من بنى إسرائيل طريق.

(طَلْعُها هَضِيمٌ (٦)) : أى منضم قبل أن ينشقّ [١٢٨ ا] ويخرج من الكمّ. والهضيم : اللّين الرطب ؛ فالمعنى أن طلعها يتمّ ويرطب. وقيل : هو الرخص أول ما يخرج. وقيل : الذى ليس فيه ندى.

فإن قيل : لم ذكر النخل بعد ذكر الجنّات ، والجنات تحتوى على النخل؟

فالجواب : أن ذلك تجديد ؛ كقوله تعالى (٧) : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ). ويحتمل أنه أراد الجنّات التى ليس فيها نخل ، ثم عطف عليها النخل.

__________________

(١) الحاقة : ١١

(٢) الحاقة : ١١

(٣) طه : ٦٣

(٤) الفرقان : ٤٨

(٥) الشعراء : ٦٣

(٦) الشعراء : ١٤٨

(٧) الرحمن : ٦٨

١٥١

(طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ (١)) : النّضيد هو المنضد ، كحبّ الرمان ، فما دام بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا تفرق فليس بنضيد.

(طمسنا أَعْيُنَهُمْ (٢)) : الضمير راجع لقوم لوط لما راودوه عن ضيفه لظنّهم أنهم من بنى آدم ، وأرادوا منهم الفاحشة ، فطمس جبريل على أعينهم ، فاستوت مع وجوههم. وقيل : إن هذا الطمس عبارة عن عدم رؤيتهم لهم ، وإنهم دخلوا منزل لوط فلم يروا فيه أحدا.

والمطموس الذى لا يكون بين جفنيه شق طرف خفىّ ، ويحتمل أن يريد به العين ، أو يكون مصدرا. وفيه قولان : أحدهما أنه عبارة عن الذل ؛ لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة. والآخر أنهم يحشرون عميا ، فلا ينظرون بأبصارهم ، وإنما ينظرون بقلوبهم. واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري.

(طَلْحٍ (٣)) : شجر عظام كثيرات الشوك ؛ قاله ابن عطية. وحكى عن على ابن أبى طالب وابن عباس ، وقرأ على بن أبى طالب : وطلع منضود ـ بالعين ؛ فقيل له إنها بالحاء ؛ فقال : ما للطلح والجنّة. فقيل له : أنصلحها فى المصحف؟ فقال : المصحف اليوم لا يغيّر. وقال الزمخشري : والطلح هو شجر الموز.

(طاغية) (٤) : طغيان ، مصدر كالعاقبة والواهية وأشباههما من المصادر.

(طَرائِقَ قِدَداً (٥)) الطرائق : المذاهب والسير وشبهها. والقدد : المختلفة ، وهو جمع قدّة ؛ وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل ؛ وهو على حذف مضاف ؛ أى كنا ذوى طرائق ، أو كنا فى طرائق.

__________________

(١) ق : ١٠

(٢) القمر : ٣٧

(٣) الواقعة : ٢٩

(٤) الحاقة : ٥

(٥) الجن : ١١

١٥٢

(الطَّامَّةُ الْكُبْرى (١)) : هى القيامة. وقيل : النفخة الثانية ، واشتقاقها من قولك : طمّ الأمر إذا علا وغلب.

(طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (٢)) : الطبق فى اللغة له معنيان : أحدهما ما طابق غيره ، يقال هذا طبق لهذا إذا طابقه. والآخر جمع طبقة ، فعلى الأول يكون المعنى لتركبنّ حالا بعد حال ، كل واحدة منهما مطابقة للأخرى. وعلى الثانى يكون المعنى لتركبنّ أحوالا بعد أحوال ، هى طبقات بعضها فوق بعض.

ثم اختلف فى تفسير هذه الأحوال ، وفى قراءة : تركبنّ :

فأما من قرأه بضم الباء فهو خطاب لجنس الإنسان ، وفى تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها شدائد الموت ، ثم البعث ، ثم الحساب ، ثم الجزاء.

والآخر : أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة إلى أن يخرج إلى الدنيا إلى أن يهرم ثم يموت

والثالث : «لتركبنّ سنن من كان قبلكم».

وأما من قرأ تركبن ـ بفتح الباء ـ فهو خطاب للإنسان على المعانى الثلاثة التى ذكرنا. وقيل : خطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم اختلف القائلون على هذا ؛ فقيل لتركبنّ مكابدة الكفّار حالا بعد حال. وقيل : لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شىء. والآخر لتركبنّ السموات فى الإسراء سماء بعد سماء.

وقوله : (عَنْ طَبَقٍ) فى موضع الصّفة لطبق ، أو فى موضع حال من الضمير فى تركبن ، قاله الزمخشرى (٣).

__________________

(١) النازعات : ٣٤

(٢) الانشقاق : ١٩

(٣) فى الكشاف : ٢ ـ ٥٣٤

١٥٣

(طارق (١)) : هو فى اللغة ما يطرق ، أى يجيء ليلا. وقد فسره الله فى الآية بأنه النجم الثاقب. وهو يطلع ليلا. ومعنى الثّاقب المضىء أو المرتفع. فقيل : أراد جنس النجوم. وقيل : الثريا ؛ لأنه الذى تطلق عليه العرب النجم. وقيل : زحل ، لأنه أرفع النجوم ، إذ هو فى السماء السابعة.

(طَحاها (٢)) : مدّها أو بسطها.

(بِطَغْواها (٣)) : هو مصدر بمعنى الطغيان ، قلبت فيه الياء واوا على لغة من يقول : طغيت. والباء الخافضة كقولك : كتبت بالقلم ، أو سببية. والمعنى بسبب طغيانها. وقال ابن عباس : معناه كذبت ثمود بعذابها. ويؤيده [١٢٨ ب] قوله (٤) : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ).

(طُغْيانِهِمْ (٥)) : غيّهم وكفرهم.

(طُورِ) : جبل بالسريانية ؛ قاله مجاهد. وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك أنه بالنبطية. وذلك أن موسى لما جاء بالتوراة أبوا أن يقبلوها ، فرفع الجبل فوقهم كأنه ظلّة. وقيل لهم : إن لم تأخذوها وضع عليكم.

(طوفان (٦)) : سيل عظيم ، والطوفان : الموت الذّريع. وطوفان الليل : شدة سواده. والطوفان المبعوث على بنى إسرائيل كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم ، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة.

(طُوبى (٧)) : مصدر من طاب ، كبشرى ، ومعناها أصبت شيئا طيبا. وقيل شجرة فى الجنة.

__________________

(١) الطارق : ١

(٢) الشمس : ٦

(٣) الشمس : ١١

(٤) الحاقة : ٥

(٥) البقرة : ١٥

(٦) الأعراف : ١٣٣

(٧) الرعد : ٢٩

١٥٤

وإعرابها مبتدأ. وأخرج ابن أبى حاتم عن مجاهد ، قال : طوبى اسم الجنة بالحبشية. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير ، قال : بالهندية. طوبى فى معناه قولان : أحدهما أنه اسم الوادى ، وإعرابه على هذا بدل. ويجوز تنوينه على أنه مكان ، وترك صرفه على أنه بقعة.

والثانى أن معناه مرتين ؛ فإعرابه على هذا مصدر ؛ أى قدس الوادى مرة بعد أخرى ، أو نودى موسى مرة بعد مرة. وفى العجائب للكرمانى : هو معرّب «ليلا». وقيل : هو رجل بالعبرانية.

(طِبْتُمْ (١)) : أى من الذنوب والمعاصى ؛ لأنها مخابث فى الناس ؛ فإذا أراد الله أن يدخلهم الجنة غفر لهم ، فطابوا لدخولها. ومن هذا قول العرب : طاب لى هذا ؛ أى فارقته المكاره ، وطاب له العيش.

(طائفين (٢)) : من الطواف بالبيت جمع طائف.

__________________

(١) الزمر : ٧٣

(٢) البقرة : ١٢٥

١٥٥

حرف الظاء المعجمة

(ظَهَرَ أَمْرُ اللهِ (١)) : بدا. وأظهره غيره : أبداه.

(ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً (٢)) : أصله ظللت فحذفت إحدى اللامين. والأصل فى معنى ظلّ أقام بالنهار ، ثم استعمل فى الدءوب على الشيء ليلا ونهارا ، وهذا الخطاب من موسى للسامريّ على وجه التهديد.

(ظلت أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٣)) : الأعناق : جمع عنق ، وهى الجارحة المعروفة ، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء ؛ لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ، أو لأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء.

وقيل : الأعناق الرؤساء من الناس ، شبّهوا بالأعناق ، كما يقال لهم رءوس وصدور. وقيل : هم الجماعات من الناس ، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل.

(ظَهِيرٍ (٤)) : معين.

(ظنين) : والضمير للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لكن من قرأ بالضاد (٥) فمعناه بخيل ؛ أى : لا يبخل بأداء ما ألقى عليه من الغيب ، وهو الوحى. ومن قرأ بالظاء ، فمعناه متّهم ؛ أى لا يتهم على الوحى ، بل هو أمين عليه. ورجّح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البخل بالوحى ، بل اتهموه ، فنفى عنه ذلك.

__________________

(١) التوبة : ٤٨

(٢) طه : ٩٧

(٣) الشعراء : ٥

(٤) سبأ : ٢٢

(٥) التكوير : ٢٤

١٥٦

(يَظْهَرُوهُ (١)) : ظهرت على الغيب : أى ارتفعت عليه. ومنه (٢) : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ). وأصله استطاعوا ، حذفت التاء تخفيفا ، وضمير يظهروه للسدّ. المعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون على الصعود على السد ، لارتفاعه ، ولا ينقبونه لقوته.

(ظَنَّ) : له ثلاثة معان : التحقيق. وغلبة أحد الاعتقادين. والتهمة. ومنه (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).

قيل معنى الإثم هنا الكذب ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظن أكذب الحديث ؛ لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر». وقيل : إنما يكون إثما إذا تكلم به. وأما إذا لم يتكلم فهو فى فسحة ؛ لأنه لا يقدر على دفع الخواطر ، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سدّ الذرائع فى الشرع ؛ لأنه أمر باجتناب أكثر الإثم احترازا من الوقوع فى البعض الذى هو إثم.

(ظَمَأٌ (٤)) : عطش.

(ظُلْمَ) : يقع فى القرآن على ثلاثة معان : الكفر ، والمعاصى ، وظلم الناس ؛ أى التعدّى عليهم. والجور والسفه والظلم والتعدى بمعنى واحد ، ولا يوصف سبحانه بها ؛ لأنه لا راحم فوقه ولا زاجر ، فأفعاله تعالى لا يقارنها نهى ، وإنما يتصوّر ذلك فى حقوقنا المقارنة النهى لأفعالنا المنهى عنها.

[١٢٩ ا] (ظِلالٍ) : جمع ظلة ، وهو ما علاك من فوق ، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال ، وإن كان لله فهو من المتشابه. والغمام : السحاب.

__________________

(١) الكهف : ٩٧

(٢) الكهف : ٩٧

(٣) الحجرات : ١٢

(٤) التوبة : ١٢٠

١٥٧

وقوله تعالى (١) : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) ـ فهى سحابة من نار أحرقت قوم شعيب ، فأهلك الله مدين بالصّيحة ، وأهلك الأيكة بالظلة.

فإن قلت : لم كرّر الآية فى الشعراء مع كل قصة؟

فالجواب أن ذلك أبلغ فى الاعتبار ، وأشد تنبيها للقلوب ، وأيضا فإن كل قصة منها كلام قائم مستقل بنفسه ، فختمت بما ختمت به صاحبتها.

فإن قلت : الظلل إنما تكون من فوق ؛ فلم قال (٢) : (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)؟ فالجواب إنما سماها ظلة لمن تحتهم ، لأن جهنم طبقات.

وقيل : إنما سماه ظلة لأنه يتلهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.

(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ (٣)) : هذا تمثيل للكفّار فى حيرتهم وضلالهم ، فالظلمات أعمال الكفار والبحر اللجّىّ صدره (٤) ، والموج جهله ، والسحاب الغطاء الذى على قلبه.

وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة. وفى وصف هذه الظلمة بهذه الأوصاف مبالغة ، كما أن فى وصف النور المذكور قبلها مبالغة. وأما قوله تعالى ـ حكاية عن يونس عليه‌السلام (٥) : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ـ فهى ظلمة المشيمة ، وظلمة الرّحم ، وظلمة البطن ، وظلمة الليل ، وظلمة البحر ؛ ففي هذه الآية توحيد ، ثم تنزيه ، ثم اعتراف. وفيها ثلاث ظلمات ، وثلاثة مفاتيح ظلمة ، وثلاث هبات ، وثلاثة علوم ، وثلاثة أذكار. وقد وعد سبحانه بنجاة من قالها.

__________________

(١) الشعراء : ١٨٩

(٢) الزمر : ١٦

(٣) النور : ٤٠

(٤) فى القرطبي (١٢ ـ ٢٨٥) : قلبه.

(٥) الأنبياء : ٨٧

١٥٨

وروى أنس عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يونس عليه‌السلام حين نادى فى الظلمات ارتفع نداؤه إلى العرش ، فقالت الملائكة : هذا صوت ضعيف ، من موضع غربة فأغثه. فقال الله تعالى : قد أجبتكم فيه. قال تعالى (١) : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ). وروى أن قارون سمعه ، فقال : يا رب ، ما هذا الصوت الغريب؟ فأخبر بذلك ، فبكى رحمة عليه لرحمة منه ؛ فخفف الله عنه العذاب.

تنبيه

اجعل أيها العبد دار دنياك كبطن حوت يونس له ، فلا تنس فيها ذكر مولاك ، لعله ينقذك من بحر هواك ؛ لأن يونس كان فى ثلاثة غموم ، فدعا مرة أنجاه الله منها ؛ فكيف لا ينجيك أيها المحمدى إن دعوت به مرارا من غم القيامة ، وغم العقاب والحساب. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد دعا بهذا فى مرضه إلا غفر الله له». وإذا تأملت قوله : لا إله إلا أنت ـ تفهم منه قرب مولانا منه مع بعد مكانه فى قعر البحور. وقول نبينا ومولانا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، فخاطبه بالغيبة مع قربه منه كان ذلك دليلا على أنه لا يقرب أحد منه إلا بتقريبه له ، وهو معكم أين ما كنتم.

(ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٢)) : معطوف على معنى السجود. والمعنى أن الظلال تسجد غدوة وعشية ؛ وسجودها انقيادها لمشيئة الله. وقيل : سجودها فيها بالمشى.

__________________

(١) الأنبياء : ٨٨

(٢) الرعد : ١٥

١٥٩

(ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ (١)) : جمع ظلّة مثل قلّة وقلال. وقرئ بالضم. والأرائك جمع أريكة ، وهى السرير.

(ظِلٍّ مَمْدُودٍ (٢)) : أى دائم ، لا تنسخه الشمس. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها. واقرءوا إن شئتم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

فإن قلت : قد قلتم : إن الجنة لا شمس فيها ، فما معنى هذا الظل؟

فالجواب أنه على تقدير أن تكون هناك ، وإنما ظلهم كما بين طلوع الشمس ، فهى نورانية شعشعانية لا حرّ فيها ولا قر.

(ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٣)) : يعنى أسود ، وهو الدخان فى قول الجمهور. وقيل : سرادق النار المحيط بأهله ؛ فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم. وقيل : هو جبل فى جهنم.

(ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٤)) : [١٢٩ ب] يعنى دخان جهنم يتشعّب على ثلاث ؛ فيقال للمكذبين حين يطلبون الظلّ الذى يرون المؤمنين مستظلين فى ظلّ العرش : انطلقوا ، فلا يغنيهم شيئا ، كما قال تعالى (٥) : (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ). فنفى عنهم أن يظلهم كما يظلّ العرش المؤمنين ، ونفى أيضا أن يمنع عنهم.

(ظِهْرِيًّا (٦)) : أى ما يطرح وراء الظهور ، ولا يعبأ به ؛ وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب ؛ وهذا من قول شعيب عليه‌السلام ؛ لقومه

__________________

(١) يس : ٥٦

(٢) الواقعة : ٣٠

(٣) الواقعة : ٤٣

(٤) المرسلات : ٣٠

(٥) المرسلات : ٣١

(٦) هود : ٩٢

١٦٠