معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

تنبيهات

الأول ـ قد (١) تجتمع فواصل فى موضع واحد ، ويخالف بينها ؛ كأوائل النحل ؛ فإنه تعالى بدأ بذكر الأفلاك ، فقال (٢) : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) ، ثم ذكر خلق الإنسان (مِن نُّطْفَةٍ (٣)) ؛ ثم ذكر خلق «الأنعام» ، ثم عجائب النبات ، فقال (٤) : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ ...) الآية. فجعل مقطع هذه الآية التفكر ؛ لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر (٥).

ولما كان هنا مظنة سؤال ؛ وهو أنه : لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر؟ وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال ـ كان بحال التفكر والنظر والتأمل باقيا ؛ فأجاب عنه تعالى من وجهين : أحدهما ـ أن تغييرات العالم السّفلى (٦) مربوطة بأحوال حركات الأفلاك ، فتلك الحركات [٩ ا] كيف حصلت؟ فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى التسلسل ؛ وإن كان من الخالق الحكيم فذلك إقرار بوجود الإله تعالى ؛ وهو المراد بقوله (٧) : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). فجعل مقطع هذه الآية العقل ؛ وكأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل ، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك ، وهو الإله القادر المختار.

__________________

(١) البرهان : ١ ـ ٨٤.

(٢) النحل : ٣.

(٣). ٤.

(٤). ١٠ ، ١١.

(٥) فى البرهان ، والاتقان : القادر؟ ال؟.

(٦) فى البرهان : الأسفل.

(٧) النحل : ١٢.

٤١

والثانى ـ أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة ـ واحدة ، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها فى غاية الحمرة والآخر فى غاية السواد ، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت فى الآثار ؛ فعلمنا أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله (١) : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). كأنه قال : اذكر ما يرسخ فى عقلك أن الواجب (٢) بالطبع والذات لا يختلف تأثيره ، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع ، بل الفاعل المختار ؛ فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.

ومن ذلك قوله تعالى (٣) : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) الآيات. فإن الأولى ختمت بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، والثانية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). والثالثة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ؛ لأن الوصايا التى فى الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى ؛ لأن الإشراك بالله لعدم استكمال العقل الدال على توحيده وعظمته. وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانهما إلى الولد بكل طريق. وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحى الكريم ؛ وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل. وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب فى القاتل ؛ فحسن بعد ذلك يعقلون.

وأما الثانية ، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية ؛ فإن من علم أن له أيتاما يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامل به أيتامه. ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة

__________________

(١) النحل : ١٣

(٢) فى البرهان : أن الموجب.

(٣) الأنعام : ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٣

٤٢

ولا بخس. وكذا من وعد له وعد لم يحب أن يخلف ، ومن أحب ذلك عامل الناس به ليعاملوه بمثله ، فترك ذلك إنما يكون لغفلته عن تدبر ذلك وتأمله ؛ فلذلك ناسب الختم بقوله : لعلكم تذكرون.

وأما الثالثة فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية يؤدى إلى غضبه وإلى عقابه فحسن (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ؛ أى عقاب الله بسببه.

ومن ذلك قوله تعالى فى الأنعام أيضا (١) : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ...) الآيات ، فإنه ختم الأولى بقوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، والثانية بقوله : (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) ؛ والثالثة بقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك ، فناسب ختمه بيعلمون. وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى الدنيا ثم إلى حياة وموت ، والنظر فى ذلك والفكر فيه أدق ؛ فناسب ختمه بيفقهون ؛ لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة. ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعى إلى شكره تعالى على نعمه.

ومن ذلك قوله تعالى (٢) : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ). حيث ختم الأولى بتؤمنون والثانية بتذكّرون. ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحد ؛ فقول من قال شعر عناد وكفر محض ، فناسب ختمه بقوله : قليلا ما تؤمنون. وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تدبّر وتذكّر ؛ لأن كلا منهما نثر ، فليست مخالفته لهما فى وضوحها لكل أحد كمخالفة

__________________

(١). ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩

(٢) الحاقة : ٤١ ، ٤٢

٤٣

الشعر ؛ وإنما تظهر بتدبر ما فى القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعانى الأنيقة [٩ ب] فحسن ختمه بقوله : قليلا ما تذكّرون.

[اختلاف الفاصلتين فى موضعين]

ومن (١) بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين فى موضعين والمحدّث عنه واحد لنكتة لطيفة ؛ كقوله تعالى فى سورة إبراهيم (٢) : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، ثم قال فى سورة النحل (٣) : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). قال ابن المنيّر (٤) : كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها ؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : كونك ظلوما ، وكونك كفارا ، يعنى لعدم وفائك بشكرها ، ولى عند إعطائها وصفان (٥) ، وهما إنى غفور رحيم ، أقابل ظلمك بغفرانى وكفرك برحمتى ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير ، ولا أجازى جفاك إلا بالوفاء.

وقال غيره : إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه ، وسورة النحل بوصف المنعم ؛ لأنه فى سورة إبراهيم فى مساق وصف الإنسان. وفى سورة النحل فى مساق صفات الله وإثبات ألوهيته.

ونظيره قوله فى الجاثية (٦) : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). وفى فصّلت ختم بقوله (٧) : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ونكتة ذلك أن قبل الآية الأولى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا

__________________

(١) البرهان : ١ ـ ٨٦.

(٢). ٣٤

(٣). ١٨

(٤) هو القاضى ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمّد بن منصور الجذامى ، المعروف بابن المنير ، له تفسير سماه البحر الكبير فى نخب التفسير ، وكتاب الانتصار من الكشاف ، توفى سنة ٦٨٣ ه‍.

(٥) فى ب : وجهان.

(٦). ١٥

(٧) فصلت : ٤٦

٤٤

لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) ، فناسب الختام بفاصلة البعث ؛ لأن قبله وصفهم بإنكاره. وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب ؛ لأنه لا يضيّع عملا صالحا ولا يزيد على من عمل سيئا.

وقال فى سورة النساء (١) : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً). ثم أعادها وختم بقوله (٢) : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

ونكتة ذلك أن الأولى نزلت فى اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس فى كتابه ، والثانية نزلت فى المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد.

وقوله فى المائدة (٣) : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). ثم قال فى الثانية : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). ثم قال فى الثالثة : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

ونكتته أن الأولى نزلت فى حكام المسلمين. والثانية ، فى اليهود ؛ والثالثة ، فى النصارى. وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله ؛ والثانية فيمن خالفه مع علمه ولم ينكره ، والثالثة ، فيمن خالفه جاهلا. وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد. عبّر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب التكرار.

وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدّث عنه مختلف ، كقوله فى سورة النور (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ...) إلى قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ثم قال (٥) : (وَإِذا بَلَغَ

__________________

(١) النساء : ٤٨

(٢). ١١٦ من السورة نفسها.

(٣). ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧

(٤) النور : ٥٨

(٥). ٥٩

٤٥

الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١).

التنبيه الثانى : من مشكلات الفواصل : قوله تعالى (٢) : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فإن قوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) يقتضى أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم. وكذا نقلت عن مصحف أبىّ ، وبها قرأ ابن شنبوذ ، وذكر فى حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوته أحد برد عليه حكمه ، فهو العزيز أى الغالب ، والحكيم هو الذى يضع الشيء فى محله. وقد يخفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء فى بعض الأفعال فيتوهّم أنه خارج عنها (٣) ؛ وليس كذلك ؛ فكان فى الوصف بالحكيم احتراس حكيم حسن [، أى](٤) وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا يعترض عليك أحد فى ذلك ، والحكمة فيما فعلته.

ونظير ذلك فى سورة التوبة قوله (٥) : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). وفى سورة الممتحنة (٦) : (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وفى النور (٧) : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ). فإن بادى الرأى يقتضى تواب رحيم ؛ لأن الرحمة مناسبة للتوبة ، لكن عبّر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته ، وهى الستر عن هذه الفاحشة العظيمة.

؟ من؟ خفى ذلك أيضا قوله تعالى فى سورة البقرة (٨) : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ

__________________

(١) فى البرهان (٨ ـ ٨٨) : قال ابن عبد السلام : فى الأولى عليم بمصالح عباده حكيم فى بيان مراده. وقال فى الثانية عليم بمصالح الأنام ، حكيم ببيان الأحكام.

(٢) المائدة : ١١٨

(٣) أى عن الحكمة.

(٤) من البرهان (١ ـ ٨٩).

(٥). ٢١

(٦) الممتحنة : ٥

(٧) النور : ١٠

(٨) البقرة : ٢٩

٤٦

ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [١٠ ا] وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وفى آل عمران (١) : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فإن المتبادر إلى الذهن فى آية البقرة الختم بالقدرة ، وفى آل عمران الختم بالعلم.

والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم ، وخلق السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت ؛ والخالق على الوصف المذكور يجب أن يكون عالما بما فعله كليا وجزئيا ، مجملا ومفصّلا ـ ناسب ختمها بصفة العلم. وآية آل عمران لما كانت فى سياق الوعيد على موالاة الكفار ، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ناسب ختمها بصفة القدرة.

ومن ذلك قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). فالختم بالحلم والمغفرة عقب تسابيح الأشياء غير ظاهر فى بادى الرأى ؛ وذكر فى حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان فى حقها وأنتم تعصون ختم بها مراعاة المقدر (٣) فى الآية وهو العصيان ، كما جاء فى الحديث : لو لا بهائم رتّع ، وشيوخ ركّع ، وأطفال رضّع لصبّ عليكم البلاء صبّا.

وقيل : التقدير : حليما عن تفريط المسبّحين غفورا لذنوبهم.

وقيل : حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر فى الآيات والعبر ليعرفوا حقه بالتأمل فيما أودع فى مخلوقاته مما يوجب تنزيهه.

__________________

(١) آل عمران : ٢٩

(٢) الإسراء : ٤٤

(٣) فى ا : للمقرر.

٤٧

التنبيه الثالث : من (١) الفواصل ما لا نظير له فى القرآن (٢) ، كقوله عقب (٣) الغض فى سورة النور (٤) : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ). وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة (٥) : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). وفيه تعريض بليلة القدر حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان ؛ أى لعلهم يرشدون إلى معرفتها.

[التصدير]

وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت فى أول الآية ، ويسمى أيضا رد العجز على الصدر. وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام :

الأول ـ أن يوافق آخر الفاضلة آخر كلمة فى الصدر ، نحو (٦) : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

والثانى ـ أن يوافق أول كلمة منه ، نحو (٧) : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). «قال (٨) : (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ).

الثالث ـ أن يوافق بعض كلماته ، نحو (٩) : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). (انْظُرْ (١٠) كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). (قالَ (١١) لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً ...) إلى قوله : (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى).

__________________

(١) فى ا : فى الفواصل

(٢) البرهان : ١ ـ ٩٣

(٣) فى البرهان : عقب الأمر بالغض.

(٤). ٣٠

(٥) البقرة : ١٨٦

(٦) النساء : ٦٦

(٧) آل عمران : ٨

(٨) الشعراء : ١٦٨

(٩) الأنعام : ١٠

(١٠) الإسراء : ٢١

(١١) طه : ٦١

٤٨

[التوشيح]

وأما التوشيح فهو أن يكون فى أول الكلام ما يستلزم القافية. والفرق بينه وبين التصدير أن هذا دلالته معنوية ، وذلك لفظية ؛ كقوله تعالى (١) : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ...) الآية ؛ فإن اصطفى بدل على أن الفاصلة العالمين لا باللفظ ؛ لأن «العالمين» غير لفظ «اصطفى» ، ولكن بالمعنى ؛ لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء (٢) شىء أن يكون مختارا على جنسه ، وجنس هؤلاء المصطفين «العالمين». وكقوله (٣) : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ...) الآية. قال ابن أبى الإصبع : فإن من كان حافظا لهذه السورة متفطّنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة ، وسمع فى صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة مظلمون ؛ لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم ؛ أى دخل فى الظلمة ؛ ولذلك سمى توشيحا (٤) ؛ لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزّل المعنى منزلة الوشاح ، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليها الوشاح (٥).

[أقسام السجع والفواصل]

وقسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام : مطرّف ، ومتواز ؛ ومتوازن ، ومرصّع ، ومتماثل.

فالمطرف : أن تختلف الفاصلتان فى الوزن ويتفقا فى حروف السجع ؛ نحو (٦) : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

__________________

(١) آل عمران : ٣٣

(٢) فى ب : اصطفى ـ تحريف.

(٣) يس : ٣٧

(٤) بدائع القرآن : ٩١

(٥) لم يذكر القسم الرابع وهو؟؟؟ وفى الإتقان : وأما الإيطال يذكر فى الإطناب.

(٦) وح : ١٢ ، ١٣

٤٩

والمتوازى : أن يتفقا وزنا وتقفية ، ولم يكن ما فى الأولى مقابلا [١٠ ب] لما فى الثانية فى الوزن والتقفية ؛ نحو (١) : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ).

والمتوازن : أن يتفقا فى الوزن دون التقفية ؛ نحو (٢) : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ).

والمرصّع : أن يتفقا وزنا وتقفية ، ويكون ما فى الأولى مقابلا لما فى الثانية كذلك ؛ نحو (٣) : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). ((٤) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

والمتماثل : أن يتساويا فى الوزن دون التقفية ، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما فى الثانية ، فهو بالنسبة إلى المرصّع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازى ، نحو (٥) : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). فالكتاب والصراط متوازنان ، وكذا المستبين والمستقيم ، واختلفا فى الحرف الأخير.

فصل

بقى نوعان بديعيان متعلقان بالفواصل : أحدهما التشريع ، وسماه ابنه أبى الإصبع (٦) التوأم ، وأصله أن يبنى الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض ، فإذا سقط منهما جزء أو جزآن صار الباقى بيتا من وزن آخر ، ثم زعم قوم اختصاصه به.

وقال آخرون : بل يكون فى النثر بأن يبنى على سجعتين لو اقتصر على الأولى منهما كان الكلام تاما مفيدا ، وإن ألحقت به السجعة الثانية كان فى التمام والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد فى اللفظ.

__________________

(١) الغاشية : ١٣ ، ١٤

(٢) الغاشية : ١٥ ، ١٦

(٣) الغاشية : ٢٥

(٤) الانفطار : ١٣ ، ١٤

(٥) الصافات : ١١٧ ، ١١٨

(٦) بديع القرآن : ١٣١

٥٠

قال ابن أبى الإصبع : وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن ، فإن آياتها لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لكان الكلام تاما مفيدا ، وقد كمل بالثانية ، فأفاد معنى زائدا من التقرير والتوبيخ.

قلت : التمثيل غير مطابق ، والأولى بأن يمثل بالآيات التى فى أثنائها ما يصلح أن يكون فاصلة ، كقوله (١) : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

الثانى : الالتزام ، ويسمى لزوم ما لا يلزم ؛ وهو أن يلتزم فى الشعر أو النثر حرف أو حرفان فصاعدا قبل شرط الروى بشرط عدم الكلفة ؛ مثال التزام حرف : (فَأَمَّا (٢) الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ). التزم الهاء قبل الراء. ومثله (٣) : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ... الآى التزم فيها الراء قبل الكاف. (فَلا (٤) أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ). التزم فيها النون المشددة قبل السين. ((٥) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ).

ومثال التزام حرفين : (وَالطُّورِ (٦) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ). (ما (٧) أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ). (بَلَغَتِ (٨) التَّراقِيَ. وَقِيلَ مَنْ راقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ).

ومثال التزام ثلاثة أحرف : (تَذَكَّرُوا (٩) فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ).

__________________

(١) الطلاق : ١٢

(٢) الضحى : ٩

(٣) انشراح : ١

(٤) التكوير : ١٥ ، ١٦

(٥) الانشقاق : ١٧ ، ١٨

(٦) الطور : ١

(٧) القلم : ٢

(٨) القيامة : ٢٦ ، ٢٧

(٩) الأعراف : ٢٠١ ، ٢٠٢

٥١

تنبيهات

الأول ـ قال أهل البديع : أحسن السجع ما تساوت قرائنه ، نحو (١) : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

ويليه ما طالت قرينته الثانية نحو (٢) : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى). والثالثة نحو (٣) : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ...) الآية.

وقال ابن الأثير : الأحسن فى الثانية المساواة ، وإلا فأطول قليلا ، وفى الثالثة أن تكون أطول.

وقال الخفاجى : لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى.

الثانى ـ قالوا : أحسن السجع ما كان قصيرا ، لدلالته على قوة المنشئ ، وأقلّه كلمتان نحو (٤) : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ...) الآيات. و (الْمُرْسَلاتِ (٥) عُرْفاً ...) الآيات. (وَالذَّارِياتِ (٦) ذَرْواً ...) الآيات. و (الْعادِياتِ (٧) ضَبْحاً ...) الآيات. والطويل ما زاد على العشرة كغالب الآيات ؛ وما بينهما متوسط كآيات سورة القمر (٨).

الثالث : قال الزمخشرى فى كشافه القديم (٩) : لا تحسن المحافظة على الفواصل

__________________

(١) الواقعة : ٢٨

(٢) النجم : ١

(٣) الحاقة : ٣٣

(٤) المدثر : ١

(٥) المرسلات : ١

(٦) الذاريات : ١

(٧) العاديات : ١

(٨) هى : اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر.

(٩) البرهان : ١ ـ ٧٢.

٥٢

لمجردها إلا مع بقاء المعانى على سردها (١) على المنهج الذى يقتضيه حسن النظم والقوافى (٢) ، فأما أنّ؟ تهمل؟ المعانى ويهتمّ بتحسين اللفظ وحده ، غير منظور فيه إلى مؤداه ، فليس من قبيل البلاغة ، وبنى على ذلك أنّ التقديم فى (٣) : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ـ ليس لمجرد الفاصلة ؛ بل لرعاية الاختصاص.

الرابع : مبنى الفواصل على الوقف ، ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور ، وبالعكس ، كقوله (٤) : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ). مع قوله (٥) : (عَذابٌ واصِبٌ) ، و (شِهابٌ (٦) [١١ ا] ثاقِبٌ) وقوله (٧) : (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) ، مع قوله (٨) : قد قدر. وسحر (٩) مستمر. وقوله (١٠) : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ). مع قوله (١١) : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ).

الخامس ـ كثر فى القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون. وحكمته وجود التمكن مع التطريب بذلك ، كما قال سيبويه : إنهم إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون ؛ لأنهم أرادوا مد الصوت ؛ ويتركون ذلك إذا لم يترنموا ، وجاء القرآن على أسهل موقف وأعظم مقطع.

السادس ـ حروف الفواصل إما متماثلة ، وإما متقاربة ؛ فالأول مثل (١٢) : (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ).

__________________

(١) فى البرهان : على سدادها

(٢) فى البرهان : والإتقان : و؟ التتامه؟.

(٣) البقرة : ٤

(٤) الصافات : ١١

(٥) الصافات : ٩

(٦) الصافات : ١٠

(٧) القمر : ١١

(٨) القمر : ١٢

(٩) القمر : ٢

(١٠) الرعد : ١١

(١١) الرعد : ١٢

(١٢) الطور : ١ ، ٢ ، ٣

٥٣

والثانى مثل : ((١) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ((٢) وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ).

قال الإمام فخر الدين وغيره : إن فواصل القرآن لا تخرج عن هذين القسمين ؛ بل تنحصر فى المتماثلة والمتقاربة ، قال : وبهذا يترجح مذهب الشافعى على مذهب أبى حنيفة فى عد الفاتحة سبع آيات من البسملة وجعل صراط الذين ... إلى آخرها آية ؛ فإن من جعل آخر الآية : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مردود بأنه لا يشابه فواصل سائر آيات سائر السورة لا بالمماثلة ولا بالمقاربة ؛ ورعاية التشابه فى الفواصل لازمة.

السابع ـ كثر فى الفواصل التضمين والإيطاء ؛ لأنهما ليسا بعيبين فى النثر وإن كانا عيبين فى النظم. فالتّضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقا بها ، كقوله تعالى (٣) : [(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). والإيطاء تكرر الفاصلة بلفظها ؛ كقوله (٤) تعالى :](٥) ـ فى الإسراء : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً). وختم بذلك الآيتين بعدها (٦).

الوجه الرابع من وجوه إعجازه

مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض ، حتى تكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعانى ، منتظمة المبانى.

وقد ألف علماؤنا فى أسرارها تواليف كثيرة مهم العلامة أبو جعفر بن الزبير (٧)

__________________

(١) الفاتحة : ٤

(٢) ق : ١ ، ٢

(٣) الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨

(٤) الإسراء : ٩٣

(٥) من الاتقان : ١٠٨

(٦) هما الآيتان : ٩٤ ، ٩٥

(٧) هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسى النحوى الحافظ صاحب كتاب الذيل على الصلة. وذكر السيوطى فى الاتقان أن اسم كتابه فى مناسبات الآى هو «البرهان فى مناسبة ترتيب سور القرآن» توفى سنة ٨٠٧ (الدر الكامنة ١ ـ ٨٤).

٥٤

شيخ أبى حيان فى كتاب سماه «البرهان» فى مناسبة ترتيب سور القرآن. ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعى (١) فى كتاب سماه نظم الدرر فى تناسب الآى والسور. وكتابى الذى صنفته فى أسرار التنزيل كافل بذلك. جامع لمناسبات السور والآيات مع ما تضمنه مرتبا (٢) من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة ، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة فى جزء لطيف سميته تناسق الدرر فى تناسب السور.

وعلم (٣) المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته ، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين ، وقال فى تفسيره : أكثر لطائف القرآن مودعة فى الترتيبات والروابط.

وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابورى ، وكان كثير العلم فى الشريعة والأدب ، وكان يقول على الكرسى إذا قرئت (٤) عليه الآية : لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما لحكمة فى جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزرى على علماء بغداد ، لعدم علمهم بالمناسبة.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام (٥) : المناسبة علم حسن ، لكن يشترط

__________________

(١) هو إبراهيم بن عمر برهان الدين البقاعى ، منسوب إلى بقاع ، من بلاد سورية ، مؤرخ أديب ، توفى سنة ٨٨٥ (البدر الطالع : ١ ـ ١٩).

(٢) فى الإتقان : مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز.

(٣) البرهان : ١ ـ ٣٥

(٤) فى الإتقان : إذا قرئ. وفى البرهان : إذا قرئ عليه الآية.

(٥) هو الإمام عبد العزيز بن عبد السلام المشهور بالعز ، ولد سنة ٥٧٧ ، وتوفى سنة ٦٦٠ (طبقات الشافعية : ٥ ـ ٨٠).

٥٥

فى حسن ارتباط الكلام أن يقع فى أمر متّحد مرتبط أوله بآخره (١). فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط. ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث ، فضلا عن أحسنه ؛ فإن القرآن نزل فى نيّف وعشرين سنة فى أحكام مختلفة ، شرعت لأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض.

وقال الشيخ ولى الدين الملوى : قد وهم من قال. لا يطلب للآية (٢) الكريمة مناسبة : لأنها على حسب الوقائع المتفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا ، وعلى حسب الحكمة ترتيبا ، وتأصيلا ، فالمصحف على وفق اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف ، كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه ، ونظمه الباهر ؛ والذى ينبغى فى كل آية أن يبحث أول كل شىء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة ؛ ثم المستقلة [١١ ب] ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك [علم](٣) جم. وهكذا فى السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.

وقال الإمام الرازى فى سورة البقرة : ومن تفكر فى لطائف نظم هذه السورة وفى بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة الفاظه وشرف معانيه فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته ، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك ، إلا أنى رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف ، غير منتبهين لهذه الأسرار ، وليس الأمر فى هذا الباب إلا كما قيل :

والنجم تستصغر الأبصار صورته

والذّنب للطرف لا للنّجم فى الصغر

__________________

(١) فى البرهان : لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر

(٢) فى البرهان : للآى.

(٣) من الإتقان والبرهان.

٥٦

[المناسبة]

المناسبة فى اللغة المشاكلة والمقاربة ، ومرجعها فى الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص ، عقلى أو حسى أو خيالى ، أو غير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهنى ، كالسبب والمسبب ، و [العلة و](١) المعلول ، والنظيرين والصدين ونحوه.

وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بإعتاق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء فنقول :

ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه فى الأولى ، فواضح ؛ وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل ، وهذا القسم لا كلام فيه.

وإما ألا يظهر الارتباط ، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى ، وأنها خلاف النوع المبدوء به ؛ فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة فى الحكم ، أو لا. فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه ، كقوله تعالى (٢) : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها). وقوله (٣) : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). للتضاد بين القبض والبصط ، والولوج والخروج ، والنزول والعروج ، وشبه التضاد بين السماء والأرض.

ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب ، والرغبة بعد الرهبة.

__________________

(١) من الإتقان

(٢) سبأ : ٢

(٣) البقرة : ٢٤٥

٥٧

وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا أو وعيدا ؛ لتكون باعثا على العمل بما سبق ، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه ؛ ليعلم عظم الآمر الناهى.

وتأمّل سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك.

وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام ، وهى قرائن معنوية تؤذن بالربط (١).

[أسباب الربط]

وله أسباب :

أحدها : التنظير ؛ فإن إلحاق النّظير بالنّظير من شأن العقلاء ، كقوله (٢) : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) ـ عقب قوله (٣) : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ؛ فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضي لأمره فى الغنائم على كره من أصحابه ، كما مضى لأمره فى خروجه من بيته لطلب العير أو القتال وهم له كارهون. والقصد أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم للخروج. وقد تبين فى الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعزّ الإسلام ، فكذا يكون فيما فعله فى القسمة ، فليطيعوا ما أمروا به ويتركوا هوى أنفسهم.

الثانى : المضادة ، كقوله فى سورة البقرة (٤) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ...) الآية. فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن ، وأن من شأنه الهداية للقوم الموصوفين بالإيمان. فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث

__________________

(١) فى البرهان (١ ـ ٤٦) : والأول مزج لفظى ، وهذا مزج معنوى ، تنزل الثانية من الأولى منزلة جزئها الثانى.

(٢) الأنفال : ٤

(٣) الأنفال : ٥

(٤) البقرة : ٦

٥٨

الكافرين ؛ فبينهما جامع وهمىّ بالتضاد من هذا الوجه. وحكمته التشويق والثبوت على الأول ، كما قيل : وبضدها تتبين الأشياء.

فإن قيل : هذا جامع بعيد ؛ لأن كونه حديثا عن المؤمنين [١٢ ا] بالعرض (١) لا بالذات ، والمقصود بالذات الذى هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن ؛ لأنه مفتتح القول.

قيل : لا يشترط فى الجامع ذلك ؛ بل يكفى التعلق على أى وجه كان ، ويكفى فى وجه الربط ما ذكرنا ؛ لأن القصد تأكيد أمر القرآن ، والعمل به ، والحثّ على الإيمان ؛ ولهذا لما فرغ من ذلك قال (٢) : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ـ فرجع إلى الأول.

الثالث : الاستطراد ؛ كقوله تعالى (٣) : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ...) الآية.

قال الزمخشرى : هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ السّوءات ، وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما فى العراء (٤) وكشف العورة من المهانة والفضيحة ؛ وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى.

وقد خرجت على (٥) الاستطراد قوله تعالى (٦) : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ؛ فإن أول الكلام ذكر فيه الرد على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح ، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.

__________________

(١) فى ب : بالفرض.

(٢) البقرة : ٢٣

(٣) الأعراف : ٢٦

(٤) فى البرهان : العرى.

(٥)؟ فى ا؟ : عن

(٦) النساء : ١٧٢

٥٩

ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان (١) يفترقان حسن التخلص ؛ وهو أن ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى ، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثانى لشدة الالتئام بينهما.

وقد غلط أبو العلاء محمد بن غانم فى قوله : لم يقع منه فى القرآن شىء لما فيه من التكلف ؛ وقال : إن القرآن إنما وقع ردا على الاقتضاب الذى هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم.

[التخلص]

وليس كما قال ؛ ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول. وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة ، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله (٢) : واكتب لنا فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة» ، وجوابه تعالى عنه ، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته (٣) : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ) من صفاتهم كيت وكيت ، وهم الذين يتبعون الرسول النبى الأمى ؛ وأخذ فى صفاته الكريمة وفضائله.

وفى سورة الشعراء حكى قول إبراهيم (٤) : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ). فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ...) الخ.

وفى سورة الكهف حكى سدّ «ذو القرنين» بقوله (٥) : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ

__________________

(١) فى ا : لا يكاد يفترقان.

(٢) الأعراف : ١٠٦.

(٣) الأعراف : ١٠٦.

(٤) الشعراء : ٨٧.

(٥) الكهف : ٩٨.

٦٠