معترك الأقران في إعجاز القرآن - المقدمة

معترك الأقران في إعجاز القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

فى منتصف القرن السابع الهجرى هجم المغول على بغداد حاضرة الملك ، ومثابة العلم والعلماء بقيادة قائدهم هولا كو وقوّضوا صرح الخلافة العباسية ، وأتوا من الفظائع والمنكرات ما لا ينسى : قتلوا الخليفة القائم ، وأعملوا السيف فى الشعب الآمن ، وخرّبوا المدن ، وأحرقوا خزائن الكتب.

وكانت البلاد الإسلامية على حال من الضعف والاضطراب ، ولكن مصر والشام كانتا فى حوزة المماليك ، وهم قد هيّئوا هذه البلاد لتحمّل الزعامة الإسلامية ، ورفع راية الحركة العلمية والأدبية والدينية والسياسية ، فهرع العلماء إليها ، ووجدوا فيها حرما آمنا ، وظلّا وارفا ، وعيشا رغيدا.

وكان الظاهر بيبرس قد مدّ يده إلى الخلافة فداوى جراحها ، وأقالها من عثرتها ، ودعا الوارث من بنى العباس فبايعه ، ونادى فى المساجد باسمه ؛ ومن ذلك الحين أصبحت القاهرة قبلة الإسلام ومثابة لمسلمين.

ورأى المماليك أنه لا شىء يقربهم إلى الشعب ، ويوطّد سلطانهم إلا أن يعظّموا الدين وأهله ، ويرفعوا من قدر العلم والعلماء ، فأسّسوا المدارس ، وشجعوا العلماء ، فهرع إليها الألوف من الطلاب ، ينهون العلم من أصفى؟ موارده؟ ، فكانت المدرسة الصالحية ، والصلاحية ، والمؤيدية ، والظاهرية ، والناصرية ، والكاملية ، وغيرها.

٣

وترغيبا فى العلم ، وحدبا على أهله ، أقاموا الخوانق والرباطات ، وحبسوا عليهما المال والضياع وقفا على طلبة العلم ، وترفيها عنهم.

وغصّت المدارس بخزائن الكتب ، ونفائس المصنّفات ، وذخرت البلاد بالأعيان من العلماء ، والأعلام من الفضلاء ، الفقهاء والمؤرخين وأصحاب المعاجم ، ومؤلفى الموسوعات ، كالنويرى ، والسيوطى ، والسخاوى ، والمقريزي ...

وكان لمعظم العلماء فى هذا العصر ميسم خاص ؛ فالمؤرخ فقيه ، والفقيه مؤرخ ، وهما قد أخذا بنصيب من اللغة أو الحديث أو التفسير.

ولم يثنهم عن طلب العلم ما كان يحيط بعصرهم من مؤثرات الظلم ، أو نزاع الأمراء والوزراء ، فصدر عنهم الجليل من المصنفات والكتب الجامعية لمختلف العلم ، مثل صبح الأعشى ، ونهاية الأرب ، ومسالك الأبصار ، ولسان العرب ، وأمثالها مما يشغل فى المكتبة العربية أنفس موضع وأعز مكان.

مؤلف الكتاب

فى أخريات هذه الحقبة من حياة الأمة الإسلامية ، وبين الجلة من شيوخ هذا العهد وعلمائه نشأ عالمنا جلال الدين السيوطى ، فتأثّر بها وأثر فيها ، وكانت حياته ومصنّفاته صورة صادقة لها.

وخير ترجمة له ما تحدث به هو عن نفسه فى كتابه «حسن المحاضرة (١)» ؛ إذ قال :

عبد الرحمن بن الكمال أبى بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان

__________________

(١) الجزء الأول ، صفحة. ٣

٤

ابن ناظر الدين محمد بن سيف الدين خضر بن نجم الدين أبى الصلاح أيوب ابن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الحصيري الأسيوطى.

أما جدى الأعلى همام الدين فكان من أهل الحقيقة ومن مشايخ الطريق ، ومن دونه كانوا من أهل الوجاهة والرئاسة ، منهم من ولى الحكم ببلده ، ومنهم من ولى الحسبة بها ، ومنهم من كان تاجرا فى صحبة الأمير شيخون.

وبنى مدرسة بأسيوط وقف عليها أوقافا ، ومنهم من كان متمولا ، ولا أعرف منهم من خدم العلم حقّ الخدمة إلا والدى (١).

وأما نسبتنا إلى الخضيرى فلا أعلم ما تكون هذه النسبة إلا الخضيرية : محلة ببغداد.

وقد حدثنى من أثق به أنه سمع والدى رحمه‌الله تعالى يذكر أنّ جدّه الأعلى كان أعجميا أو من الشرق ، فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة.

وكان مولدى بعد المغرب ليلة الأحد ، مستهلّ رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة ، وحملت فى حياة أبى إلى الشيخ محمد المجذوب ، رجل من كبار الأولياء بجوار المشهد النفيسى فبارك على.

ونشأت يتيما ، فحفظت القرآن ولى دون ثمانى سنين ، ثم حفظت العمدة ، ومنهاج الفقه ، والأصول ، وألفية ابن مالك ، وشرعت فى الاشتغال بالعلم من مستهل سنة أربع وستين فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ ، وأخذت الفرائض عن العلامة فرضىّ زمانه الشيخ شهاب الدين الشارمساحى (٢) الذى كان يقال إنه بلغ السن

__________________

(١) ولد بأسيوط ، واشتغل بها ، ثم تولى القضاء فيها قبل أن يرحل إلى القاهرة ، وتوفى سنة ٨٥٥ ه‍.

(٢) منسوب إلى شارمساح قرية قريبة من دمباط.

٥

والنقول التى اطلعت عليها فيها ، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخى فضلا : عمن دونهم ، وأما الفقه فلا أقول ذلك ، بل شيخى فيه أوسع نظرا ، وأطول باعا.

ودون هذه السبعة فى المعرفة : أصول الفقه ، والجدل ، والتصريف ، ودونها الإنشاء والترسل ، والفرائض ، ودونها القراءات ـ ولم آخذها عن شيخ ودونها الطبّ.

وأما علم الحساب ، فهو أعسر شىء علىّ ، وأبعده عن ذهنى ، واذا نظرت فى مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله ، وقد كملت عندى آلات الاجتهاد بحمد الله ؛ أقول ذلك تحدّثا بنعمة الله تعالى ، لا فخرا أو أى شىء فى الدنيا حتى يطلب تحصيلها بالفخر ، وقد أزف الرحيل ، وبدا الشيب ، وذهب أطيب العمر. ولو شئت أن أكتب فى كل مسألة مصنّفا لها بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ، ومداركها ونقوضها وأجوبتها ، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها ، لقدرت على ذلك من فضل الله ، لا بحولى ولا بقوتى ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

وقد كنت فى مبادئ الطّلب قرأت شيئا فى علم المنطق ، ثم ألقى الله كراهيته فى قلبى ، وسمعت أنّ ابن الصلاح أفتى بتحريمه ، فتركته لذلك ، فعوضنى الله تعالى عنه علم الحديث الذى هو أشرف العلوم.

أمّا مشايخى فى الرواية سماعا وإجازة فكثيرون ؛ أوردتهم فى المعجم الذى جمعتهم فيه ، وعدّتهم نحو مائة وخمسين ، ولم أكثر من سماع الرواية لاشتغالى بما هو أهم وهو قراءة الدراية».

٦

أما كتبه فقد عدّ منها فى حسن المحاضرة (١) ثلاثمائة كتاب (سوى ما غسله وتاب عنه) فى التفسير ، والقراءات والحديث والفقه والأجزاء المفردة ، والعربية والآداب.

وعدّ له الأستاذ بروكلمان ٤١٥ مصنّفا بين مطبوع ومخطوط ، والعلامة فلوغل ٥٦٠ مصنفا ، وذكر له الأستاذ جميل بك العظم ٥٧٦ مصنفا بين كتب كثيرة ورسائل ومقامات.

وذكره ابن إياس (٢) فيمن توفّى فى عصر الغورى ، وقال : بلغت مؤلفاته ستمائة مؤلف. وقال الشعرانى فى ذيل طبقاته : له من المؤلفات أربعمائة وستون مؤلفا مذكورة فى فهرس كتبه (٣).

وقد طبع من هذه الكتب كثير أحصى (٤) له الأستاذ يوسف سركيس فى معجم المطبوعات العربية ٩٢ كتابا لعهد تأليف معجمه (١٣٣٩ ه‍ ـ ١٩١٩ م) ، وقد طبع له بعد هذا التاريخ مؤلفات أخرى.

هذا العدد الوافر فى مختلف رواياته دعا بعض الباحثين إلى الشكّ فيه واستبعاد أن يكون ذلك المقدار للسّيوطى ؛ بل إن منهم من زعم أن كثيرا من هذه الكتب إنما هى لشيوخ السيوطى محلها نفسه بعد أن غيّر فيها قليلا ، وربما كان قد سطا على مكتبة المدرسة المحمودية (٥) ، وادّعى لنفسه كثيرا من كتب أصحابها.

__________________

(١) حسن المحاضرة : ١ ـ ٣٤٠.

(٢) تاريخ ابن إياس : ٣ ـ ٦٣.

(٣) قبر السيوطى وتحقيق موضعه للعلامة أحمد تيمور صفحة ٤.

(٤) الجزء الرابع صفحة ٦٥.

(٥) أنشأ هذه المكتبة الأمير جمال الدين محمود بن على.

٧

قال السخاوى فى ترجمة السيوطى فى الضوء اللامع :

واختلس حين كان يتردد إلى مما عملته كثيرا ؛ كالخصال الموجبة للضلال ، والأسماء النبوية ، والصلاة على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموت الأبناء ، وما لا أحصره ، بل أخذ من كتب المكتبة المحمودية وغيرها كثيرا من التصانيف المتقدمة التى لا عهد لكثير من العصريين بها ، فغيّر فيها يسيرا ، وقدّم وأخّر ، ونسبها لنفسه ، وهوّل فى مقدماتها بما يتوهم منه الجاهل شيئا مما لا يوفى بحقه.

والسخاوى مؤرخ كبير ، وعالم ثبت جليل ، إلا أنه كان معاصرا للسيوطى ، وبينهما من المنافسة والخصومة ما نشهده بين علماء كل عصر ، وغير هذا فإنه مشتهر بالنّيل ممّن أرخ لهم وتحدث عنهم ، كما فعل فى تاريخ ابن تعزى بردى صاحب النجوم الزاهرة ، وفى ترجمة أبى البقاء البدرى صاحب سحر العيون ، وتاريخ تبصرة أولى البصائر ؛ فليس من اليسير أن يقبل قوله على إطلاقه ، وقد قال فيه معاصره ابن إياس : «إنه ألّف كتابا فيه كثير من المساوى فى حق الناس». وجرّد السيوطى نفسه فيه رسالة أسماها : «مقام الكاوى على تاريخ السخاوى» شهّر به فيها (١).

وليس ببعيد أن تكون نسبة هذه الكتب إلى السيوطى صحيحة ، فقد نسب المؤرخون والمترجمون إلى غيره من العلماء والأدباء قريبا من هذا العدد ، على أن الكثير من كتب السيوطى يقع فى رسائل صغيرة ، قال عنها السخاوى نفسه : «رأيت منها ما هو فى ورقة ، وأما ما هو فوق الكراسة فكثير».

وقد رأينا له أخيرا مجموعة من الكتب بعنوان «الحاوى للفتاوى» فى الفقه

__________________

(١) قال فى أولها : ما ترون فى رجل ألف تاريخا جمع فيه أكابر وأعيانا ونصب لأكلهم خوانا ، ملأه بذكر المساوى وقلب الأعواض ... مخطوطة بدار الكتب برقم ١٥١٠.

٨

وعلوم التفسير ، والحديث ، والأصول ، والنحو ، والإعراب ، وسائر الفنون يقع فى قريب من ٧٥٠ صفحة ، ويحوى ٧٨ كتابا مذكورا معظمها فى جملة ما ذكره السيوطى من حسن المحاضرة ، فإذا كان العدد الذى ذكره السيوطى وغيره يحوى أمثال هذه الكتب الصغيرة فليس بعيدا صحة ما نسب إليه من الكتب.

ومهما يكن من شىء ، فإن للسيوطى مؤلفات لم يتطرق الشك فى صحة نسبتها إليه ؛ وهى فى ذاتها تعدّ مفخرة من مفاخر التأليف والتصنيف ؛ منها الإتقان فى علوم القرآن ، والمزهر فى علوم اللغة ، ومعترك الأقران ، وهمع الهوامع ، والأشباه والنظائر ، وبغية الوعاة فى تراجم النحاة ، وأسباب النزول ، وغير ذلك مما يجعل السيوطى فى مقدمة العلماء والمصنفين.

***

وقد ظل السيوطى طول عمره مشتغلا بالتدريس والفتيا ، متفرّغا للعلم والتأليف. وظيفته شىء من ذلك حتى فى رحلاته وأسفاره ، وفى حلّه وترحاله ؛ ولكنه حينما تقدمت به السن ، وأحس بالهرم والضعف هجر الإفتاء والتدريس ، واعتزل الناس فى منزله بالروضة متجردا للعبادة والتصنيف ، وألف فى ذلك كتابه : «النفيس فى الاعتذار عن الفتيا والتدريس.

وقد كان رحمه‌الله عفيفا كريما ، صالحا تقيا رشيدا ، لا يمد يده لسلطان ، ولا يقف من حاجة على باب أمير أو وزير ، قانعا يرزقه من خانقاه شيخو ، لا يمد عينه إلى ما سواه.

رووا أن السلطان الغورى أرسل إليه مرة؟ خصيّا؟ وألف دينار ، فردّ الدنانير وأخذ الخصيّ ، وأعتقه ، وجعله خادما فى الحجرة النبوية ، وقال لرسول السلطان : لا تعد إلينا قط بهدية ، فإن الله أغنانا عن مثل ذلك.

٩

وكان الأمراء والوزراء يأتون لزيارته ، ويعرضون عليه أعطياتهم وهباتهم فيردّها. قال صاحب السفا الباهر بتكميل النور السافر : ولما مات لم يتعرّض أحد فى تركته مع أن الزمن كان رمن جور ، وقال السلطان الغورى : لم يقبل الشيخ منا شيئا فى حياته فلا نتعرض فى تركته.

***

أما تاريخ وفاته فقد ذكره الشعرانى فى ذيل طبقاته فقال : «أرسل لى ورقة مع والدى بإجازته لى بجميع مروياته ومؤلفاته ، ثم جئت إلى مصر قبيل وفاته واجتمعت به مرة واحدة ، فقرأت عليه بعض أحاديث من الكتب الستة وشيئا من المنهاج فى الفقه تبرّكا ، ثم بعد شهر سمعت ناعيه ينعى موته فحضرت الصلاة عليه عند الشيخ أحمد الأباريقى بالروضة عقب صلاة الجمعة.

ومات رضى الله عنه فى سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وتسعمائة ، وكان مرضه سبعة أيام بورم شديد فى ذراعه اليسار. فقد استكمل من العمر إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما وكان له مشهد عظيم ودفن بحوش قوصون خارج باب القرافة ، وقبره ظاهر وعليه قبة.

هذا الكتاب

هذا الكتاب يبحث وجوه إعجاز القرآن كما يظهر من اسمه ؛ وهو من كتب السيوطى القيمة التى تحيط بهذا الموضوع ، وتجمع كل ما قيل فيه.

والسيوطى يجعل ـ فى هذا الكتاب ـ للاعجاز وجوها ، فيقول : الوجه

١٠

الأول فى إعجازه ... والوجه الثانى بهذه الوجوه .. ويصل إلى الخامس والثلاثين. ثم ختمه بأقوال كلية وفوائد ...

وعند ما يبدأ الحديث فى كل وجه يذكر من ألّف فيه ، وأسماء الكتب التى بحثت موضوعه ، وإن كان هو ألف فيه شيئا ذكره ؛ فهو بذلك يقدم لكل وجه بمراجعه ، ويقوّم هذه المراجع فيصفها ، ويذكر رأيه فيها.

وقارئ الكتاب يحس أن السيوطى لم يترك كتابا ألف فى موضوع الإعجاز ، وما يتصل به إلا قرأها ، واستعان بها فى كتابه ، فهو ـ بهذا ـ يعد مرجعا فى موضوعه ، محيطا بكل جوانبه ، منبها إلى أمهات مراجعه ، مشيرا إلى أفاضل المؤلفين فيه.

والسيوطى يدخل فى هذا الموضوع فى تواضع واستحياء ، فيقول (١) : «وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كتابه ؛ فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.

فإذا علمت عجز الخلق عن تحصيل وجوه إعجازه ؛ فما فائدة ذكرها؟

لكنا نذكر بعضها تطفلا على من سبق ؛ فإن كنت لا ممّن أجول فى ميدانهم ، ولا أعدّ من فرسانهم ، لعمرك إنّ دار كريم أبناء الدنيا تتحمّل من تطفّل عليه فكيف بأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين.

وإن كانت بعض الأوجه لا تعد من إعجازه فإنما ذكرتها للاطلاع على بعض معانيه ، فيثلج له صدرك ، وتبتهج نفسك.

فإن وجدت له حلاوة فلا تنس أخاك الغريق بدعوة أن يتفضل عليه سبحانه

__________________

(١) صفحة ١١ ، ١٢

١١

فى دار كرامته بخلق سمع وقوة حتى يدرك به كلامه القديم ، فإنه منعه فى هذه الحياة الدنيوية لذيذ المناجاة له بسبب ذنوبه ، مصداقه قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ).

... وحاشاك نسيان أخيك الجالب لك من أسرار كلامه تعالى ما تزيد فيه حلاوته والنظر فيه يزيدك له محبة».

وهكذا يبدأ السيوطى كتابه ، ثم يصل إلى الوجه الخامس والثلاثين ، وهو ألفاظه المشتركة ، فيحتفل بهذا الوجه احتفالا كبيرا ، ويقول (١) :

«وهذا الوجه من أعظم إعجازه ، حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجها ، وأكثر وأقل ، ولا يوجد ذلك فى كلام البشر.

إلى أن يقول (٢) :

وقد من الله عيسى فى جلب بعض ألفاظ فى هذا المعنى ، وكان هو السبب فى هذا المبنى ، فاشدد بكلتا يديك على هذا الكتاب ...

ثم يعود الى التواضع فيقول :

... مع أنى ـ علم الله ـ لست من فرسان هذا الميدان ، ولا ممّن يجول فى هذا الشأن ، لكنى تطفّلت على المتقدمين ، رجاء أن يضمنى جميل الاحتمال معهم ، ويسعنى منه حسن التجاوز ما وسعهم.

ثم يقول ـ بعد أن يذكر أنه استخرجه من الكتب المطولة : وايم الله وأراد لاستغناء له عن النظر فى غيره لكفاه ، مع أنى زدت ـ مع اللفظ

__________________

(١) صفحة : ٥١

(٢) صفحة : ١٥

١٢

المشترك ـ تفسير مفردات لا بد منها ، لينم له معناه ، وأعقبت كل حرف بحروف تشاكلها من الأسماء والظروف ؛ لأن معرفة ذلك من المبهمات المطلوبة ، لاختلاف مواقعها ؛ ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها ...

ثم يقول :

على أنى ليس فيه مزية ؛ وإنما الفضل لمتقدمى علماء الأمة المحمدية ...... فاجعله لنا شافعا مشفعا ؛ فإنى أودعت فيه فنون العلوم على تنوعها ، ومررت به على رياض التفاسير على كثرة عددها ، وختمته بأقوال كلية ، فخلصت سبائكها ، وفوائد مهمة سبكت تبرها ، وأقوال محمدية على بعض آياتها رجاء بركتها ؛ فختمته بما صح من التفسير على نبيك البشير النذير ، السراج المنير ...».

ومن هذا نعرف قيمة الكتاب ، وأسلوبه ، وأهدافه ، فهو كتاب فى الإعجاز أوسع ما يكون إحاطة بموضوعه.

والوجه الخامس والثلاثون منه فى مشترك القرآن (١) قد جمع فيه ألفاظا من القرآن ، ورتبها على حسب حروف الهجاء ، وفسّرها ، وأحاط بمعانيها ، وأزال غموضها ، ورجع فى ذلك إلى كل كتب التفسير والحديث واللغة وغيرها.

وهذا الباب وحده يشهد للمؤلف بما بذل من جهد ، وما ناله من كد ؛ فهو لم يقتصر فيه على تفسير المفردات تفسيرا لغويا ، بل فسر الآيات التى وردت فيها هذه الألفاظ تفسيرا يوضح معالمها ، ويزيل مشكلاتها.

وترتيب هذا الوجه على حروف المعجم ، على ترتيب المغاربة ، ولا يخفى أن المؤلف من علماء المشرق ؛ فالظاهر أن هذا الترتيب من الناسخ.

ولا بد أن نشير هنا ـ بمناسبة الترتيب على حروف المعجم ـ إلى أن

__________________

(١) هو معجم شامل يشرح ألفاظ القرآن وتفسيرها.

١٣

المؤلف حين يضع الكلمات فى حروفها لا يراعى ـ دائما ـ أصولها ، بل إنه كثيرا ما يضع الكلمة كما وردت فى القرآن الكريم ، من غير أن ينظر إلى هذه الأصول ؛ فهو يذكر فى حرف الهمزة ـ مثلا (١) :

أسلمت وجهى ـ أقلامهم – أركسهم

ويذكر فى حرف الفاء :

فإن الله هو موليه ـ فلينظر الإنسان ـ فلا يخاف عقباها

ويذكر فى حرف الميم :

ما ينطق عن الهوى ـ ما أوحى ـ مستقر ومستودع وهكذا ، وكأنى به يقصد إلى الأخذ بيد قارئ القرآن أيا كان ، فيساعده على الفهم ، وحل ما يعترضه من مشكلات التفسير ، ولو أنه اتبع طريقة المعجمات فرجع بالكلمات إلى أصولها لأتعبه وأضناه ، وجره إلى مهامه قد يضل فيها سبيله ، ويعيا به جهده.

على أن هذا الصنيع قد يعجز الباحث العالم عن الوصول إلى هدفه فى البحث عن كلمة يريد معرفة معناها ، أو آية يهدف إلى الوقوف على تفسيرها.

ولهذا كان لا بد من فهرس خاص يساعد هذا ، وذاك ، لتتم الفائدة من الكتاب ، ولا يحرم أحد من الاستفادة منه ، أيا كانت ثقافته.

__________________

(١) صفحة ٥٣٣

١٤

اسم الكتاب

سمّى هذا الكتاب فى المخطوطتين : معترك الأقران فى إعجاز القرآن ، وكذلك ورد اسمه فى بعض الكتب التى ترجمت للسيوطى.

وقد جاء فى صفحة ١٧٠ من المخطوطة الثانية : إعجاز القرآن ومعترك القرآن.

أما فى الإتقان (١) فقد أشار إلى هذا الكتاب ، وسماه : معترك الأقران فى مشترك القرآن (٢).

وقد اعتمدنا الاسم الأول لوروده فى المخطوطتين من غير اختلاف ، أو زيادة أو نقص.

أصول الكتاب

هذا الكتاب الذى أعاننا الله على إخراجه محققا ، أول مرة ، له مخطوطتان فى دار الكتب المصرية :

الأولى ـ مصورة بالفوتوستات عن الأصل المحفوظ بخزانة الشيخ أحمد الصديق المغربى المكتوب يقلم مغربى بخط أحمد بن المستغانمى سنة ١١٠٦ ه‍ فى ٣٣٣ لوحة كل لوحة بها صفحتان. وباللوحة الثانية أختام وفهرس.

وهى برقم ٢٠٣٤٧ ب ـ تفسير.

وقد رمزنا إليها بالحرف (ا).

__________________

(١) الإتقان : ١ ـ ٢٣ ، ٦٨ ، ٢ ـ ١٢١ ولعله اسم للوجه الخامس والثلاثين من هذا الكتاب.

(٢) ويظهر أنه سمى الكتاب باسم باب من أهم أبوابه ، وهو الباب (أو الوجه) الخامس والثلاثون منه.

١٥

والثانية بخط مغربى دقيق جدا ، وعلى الصفحة الأولى تملكات وتواريخ صعبت علينا قراءتها ، وعلى هامشها بعض تعليقات ، وتكتب فيها العناوين ، والآيات القرآن بالأحمر.

وهى برقم ٤٧٦ ـ تفسير ، وعدد صفحاتها ٦٠٥ صفحات.

وقد رمزنا إليها بالحرف (ب).

ومما يستحق التسجيل هنا أن النسختين كلتيهما بالخط المغربى.

***

أما عملى فى الكتاب فقد كان مراجعة المخطوطتين ، وإثبات الخلاف بينهما إن كان ، تم مراجعة الكتاب على الكتب التى عالجت موضوعه ، كالبرهان ، والإتقان ، وإعجاز القرآن للباقلانى ، ومراجعته على الموجود من الكتب التى أشار المؤلف إليها ، وجعلها من مراجعه ، مثل : بديع القرآن ، والتحبير ، وأحكام القرآن.

كما رجعت إلى كتب اللغة ، والنحو ، والتفسير ، والحديث ، والأدب ، ويظهر ذلك واضحا فى هوامش الكتاب ، وفى فهرس المراجع.

أما الآيات القرآنية ، وهى كثيرة منثورة فى الكتاب ، فقد أثبتّ فى الهوامش سورها ، وآياتها ، تسهيلا للباحث ، وتحقيقا لمطابقتها للمصحف.

هذا ، وقد ذيلت كل جزء بفهرس خاص يوضح أبوابه ، ثم ختمت الكتاب بفهارس فنية منوعة توضح معالمه ، وتساعد القارئ والباحث على الإفادة منه.

***

١٦

هذا هو ما قمت به فى سبيل إخراج هذا الكتاب الذى بقى مخطوطا إلى الآن لم نمتد إليه يد محقق أو طابع ، وقد وفق الله فى إخراجه على هذا الوجه الذى تراه الآن بين يديك.

فالحمد لله الذى هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدى لو لا أن هدانا الله؟

على محمد البجاوى

١٧