معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

ووجه الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط ، كما تقتضيه القاعدة المذكورة ؛ لأن أمر البر ليس مما ينكر ، ولا نسيان النفس فقط ، لأنه يصير ذكر أمر الناس بالبر لا مدخل له ، ولا مجموع الأمرين ؛ لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر ، ولا نسيان النفس بشرط الأمر ؛ لأن النسيان منكر مطلقا ، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشدّ منه حال عدم الأمر ؛ لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها للطاعة ؛ لأن جمهور العلماء على أن الأمر بالبرّ واجب ؛ وإن كان الإنسان ناسيا لنفسه وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف معصية نسيان النفس ، ولا يأتى الخير بالشر.

قال فى عروس الأفراح : ويجاب بأن فعل المعصية مع النهى عنها أفحش ؛ لأنها تجعل حال الإنسان كالمتناقض ، وتجعل القول كالمخالف للفعل ، ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل. قال : ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها مع جنسها؟ فيه دقّة.

فصل

من أقسام الإنشاء الأمر

وهو طلب فعل غير كفّ ، وصيغته افعل وليفعل. وهى حقيقة فى الإيجاب ، نحو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ). (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ). وترد مجازا لمعان أخر ، منها : الندب : نحو (١) : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

والإباحة ، نحو (٢) : (فَكاتِبُوهُمْ) ـ نصّ الشافعىّ على أن الأمر فيه للاباحة. ومنه (٣) : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

والدعاء من السافل للعالى ، نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي).

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤

(٢) النور : ٣٣

(٣) المائدة : ٢

٤٤١

والتهديد ، نحو (١) : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) ، إذ ليس المراد الأمر بكل عمل شاءوا.

والإهانة ، نحو (٢) : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).

والتسخير ، أى التذليل ، نحو (٣) : (كُونُوا قِرَدَةً). وعبّر به عن نقلهم من حالة إلى حالة إذلالا لهم ، فهو أخص من الإهانة.

والتعجيز ، نحو (٤) : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ؛ إذ ليس المراد طلب ذلك منهم ، بل إظهار عجزهم.

والامتنان ، نحو (٥) : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).

والعجب ، نحو (٦) : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ).

والتسوية ، نحو (٧) : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا).

والإرشاد ، نحو (٨) : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ).

والاحتقار ، نحو (٩) : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

والإنذار ، نحو : (قُلْ تَمَتَّعُوا).

والإكرام ، نحو : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ).

والتكوين ـ وهو أعم من التسخير ، نحو : كن فيكون.

والإنعام ، أى تذكير النعمة ، نحو (١٠) : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

__________________

(١) فصلت : ٤٠

(٢) الدخان : ٤٩

(٣) البقرة : ٦٥

(٤) البقرة : ٢٣

(٥) الأنعام : ١٤١

(٦) الإسراء : ٤٨

(٧) الطور : ١٦

(٨) البقرة : ٢٨٢

(٩) يونس : ٨٠

(١٠) الأنعام : ١٤٢

٤٤٢

والتكذيب ؛ نحو (١) : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها). ((٢) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ) [٧٣ ا] (أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا).

والمشورة ؛ نحو (٣) : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

والاعتبار ؛ نحو (٤) : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).

والتعجب ؛ نحو (٥) : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ـ ذكره السكاكى فى استعمال الإنشاء بمعنى الخبر.

فصل

ومن أقسامه النهى

وهو طلب الكفّ عن فعل. وصيغته «لا تفعل» ؛ وهى حقيقة فى التحريم ، وترد مجازا لمعان ؛ منها :

الكراهة ؛ نحو (٦) : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

والدعاء ؛ نحو (٧) : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا).

والإرشاد ؛ نحو (٨) : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

والتسوية ؛ نحو (٩) : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا).

__________________

(١) آل عمران : ٩٣

(٢) الأنعام : ١٥٠

(٣) الصافات : ١٠٢

(٤) الأنعام : ٩١

(٥) مريم : ٣٨

(٦) الإسراء : ٣٧

(٧) آل عمران : ٨

(٨) المائدة : ١٠١

(٩) الطور : ١٦

٤٤٣

والاحتقار والتقليل ؛ نحو (١) : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية ، أى فهو قليل حقير.

وبيان العاقبة ، نحو (٢) : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، أى عاقبة الجهاد الحياة لا الموت.

واليأس ، نحو (٣) : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ).

والإهانة ، نحو (٤) : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

فصل

ومن أقسامه التمنى

وهو طلب حصول شىء على سبيل المحبة ، ولا يشترط إمكان المتمنّى بخلاف المترجّى ، لكن نوزع فى تسمية تمنى المحال طلبا ، بأن ما لا يتوقّع كيف يطلب.

قال فى عروس الأفراح : فالأحسن ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمنى والترجى والنداء والقسم ليس فيها طلب ؛ بل هو تنبيه. ولا بدع فى تسميته إنشاء. انتهى.

وقد بالغ قوم فجعلوا التمنّى من أقسام الخبر ، وأن معناه النفى ، والزمخشرى ممن جزم بخلافه ، ثم استشكل دخول التكذيب فى جوابه فى قوله (٥) : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ...) إلى قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

__________________

(١) احجر : ٨٨

(٢) آل عمران : ١٦٩

(٣) التحريم : ٧

(٤) المؤمنون : ١٠٨

(٥) الأنعام : ٢٧ ، ٢٨

٤٤٤

وأجاب (١) بتضمّنه معنى العدة فتعلق به التكذيب.

وقال غيره : التمنى لا يصح فيه الكذب ، وإنما الكذب فى المتمنّى الذى يترجح عند صاحبه وقوعه ، فهو إذا وارد على ذلك الاعتقاد الذى هو ظن ، وهو خبر صحيح. قال : وليس المعنى فى قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أن ما تمنّوا ليس بواقع ، لأنه ورد فى معرض الذم لهم ، وليس فى ذلك المتمنى ذم ، بل التكذيب. ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون.

وحرف التمنى الموضوع له «ليت» ، نحو (٢) : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ). ((٣) يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ). ((٤) يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً).

وقد يتمنّى بهل حيث يعلم فقده ، نحو (٥) : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) ، أو بلو ، نحو (٦) : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ) ، ولذا نصب الفعل فى جوابها.

وقد يتمنّى بلعل فى البعيد ، فيعطى حكم ليت فى نصب الجواب ، نحو (٧) : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ).

__________________

(١) الكشاف : ١ ـ ٢٨٨

(٢) الأنعام : ٢٧

(٣) يس : ٢٦

(٤) النساء : ٧٣

(٥) الأعراف : ٥٣

(٦) الشعراء : ١٠٢

(٧)؟؟؟

٤٤٥

فصل

ومن أقسامه الترجّى

نقل القرافى (١) فى «الفروق» الإجماع على أنه إنشاء ، وفرّق بينه وبين التمنى بأنه فى الممكن ، والتمنى فيه وفى المستحيل ؛ وبأن الترجى فى القريب ، والتمنى فى البعيد ؛ وبأن الترجى فى المتوقّع والتمنى فى غيره ؛ وبأن التمنى فى المعشوق للنفس ، والترجى فى غيره.

وسمعت شيخنا الكافيجى (٢) يقول : الفرق بين التمنى وبين العرض هو الفرق بينه وبين الترجى.

وحرف الترجى : لعل ، وعسى ؛ وقد ترد مجازا لتوقع محذور ؛ ويسمى الإشفاق ؛ نحو (٣) : (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ).

فصل

ومن أقسامه النداء

وهو طلب إقبال المدعوّ على الداعى بحرف نائب مناب أدعو ، ويصحب فى الأكثر الأمر والنهى. والغالب تقدمه ؛ نحو (٤) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

__________________

(١) القرافى هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المعروف بالقرافى. وكتابه : «أنوار البروق فى أنوار الفروق». توفى سنة ٦٨٤ ه‍.

(٢) فى ب : الكلافيجى.

(٣) الشورى : ١٧

(٤) البقرة : ٢١

٤٤٦

رَبَّكُمُ). ((١) يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً). (يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وقد يتأخّر ؛ نحو (٢) : (تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ).

وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر ؛ نحو (٣) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ). ((٤) يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها). وقد لا تعقبها ؛ نحو (٥) : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ). ((٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ). ((٧) يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ).

وقد تصحبه الاستفهامية ؛ نحو (٨) : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ [٧٣ ب] ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ). ((٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ). ((١٠) يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ).

وقد ترد صورة النداء لغيره مجازا ، كالإغراء والتحذير ؛ وقد اجتمعا فى قوله (١١) : (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها).

والاختصاص ؛ كقوله (١٢) : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ).

والتنبيه ؛ كقوله (١٣) : (أَلَّا يَسْجُدُوا).

والتعجب ؛ نحو (١٤) : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ).

والتحسّر ؛ كقوله (١٥) : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).

__________________

(١) الحجرات : ١

(٢) النور : ٣١

(٣) الحج : ٧٣

(٤) هود : ٦٤

(٥) الزخرف : ٦٨

(٦) فاطر : ١٥

(٧) يوسف : ١٠٠

(٨) مريم : ٤٢

(٩) التحريم : ١

(١٠) غافر : ٤١

(١١) الشمس : ٣

(١٢) هود : ٧٣

(١٣) النمل : ٢٥

(١٤) يس : ٣٠

(١٥) النبأ : ١٠

٤٤٧

قاعدة

أصل النداء بيا أن يكون للبعيد حقيقة أو حكما ؛ وقد ينادى بها القريب لنكتة ، منها إظهار الحرص فى وقوعه على إقبال المدعوّ ؛ نحو (١) : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ).

ومنها كون الخطاب المتلوّ معتنى به ؛ كقوله (٢) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).

ومنها قصد تعظيم شأن المدعوّ ، نحو : (يا رَبِّ). وقد قال تعالى (٣) : (فَإِنِّي قَرِيبٌ).

ومنها قصد انحطاطه ، كقول فرعون (٤) : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

فائدة

قال الزمخشرى وغيره : كرر (٥) فى القرآن النداء بيا أيها دون غيره ، لأن فيه أوجها من التأكيد ، وأسبابا من المبالغة.

منها ما فى «يا» من التأكيد والتنبيه وما فى «ها» من التنبيه ، وما فى التدرج من الإيهام فى «أى» إلى التوضيح ، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد ؛ «لأن» كل ما نادى الله عباده من أوامره ونواهيه ، وعظاته وزواجره ، ووعده

__________________

(١) القصص : ٣١

(٢) البقرة : ٢١

(٣) البقرة : ١٨٦

(٤) الإسراء : ١٠١

(٥) فى الإتقان : كثر.

٤٤٨

ووعيده ، ومن القصاص أخبار الأمم الماضية ، وغير ذلك مما أنطق الله به كتابه ـ أمور عظام وخطوب جسام ، ومعان واجب عليهم أن يتيقّظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون ، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ.

فصل

ومن أقسامه القسم

نقل القرافى الإجماع على أنه إنشاء ، وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها عند السامع.

ومن أقسامه الشرط.

* * *

الوجه التاسع والعشرون من وجوه إعجازه

إقسامه تعالى فى مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها

وقد أفرده ابن القيّم (١) فى مجلد سماه «التبيان».

فإن قلت : ما معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدّق بمجرد الإخبار من غير قسم ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.

وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ، ومن عادتها القسم إذا أرادت

__________________

(١) هو محمد بن أبى بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية توفى سنة؟؟؟ ه

٤٤٩

أن تؤكد أمرا ، حتى جعلوا مثل (١) : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ـ قسما ، وإن كان فيه إخبار بشهادة ، لأنه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما.

قال أبو القاسم القشيرى : وذلك لأن الحكم يفصل باثنين ، إما بالشهادة ، وإما بالقسم ، فذكر تعالى فى كتابه النوعين ، حتى لا تبقى لهم حجة ، فقال (٢) : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). وقال (٣) : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ). وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى (٤) : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) صاح (٥) وقال : من الذى أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين.

ولا يكون القسم إلا باسم معظّم. وقد أقسم الله تعالى بنفسه فى القرآن فى سبعة مواضع : الآية المذكورة ؛ بقوله : (قُلْ إِي وَرَبِّي). ((٦) قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ). ((٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ). ((٨) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). ((٩) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ). ((١٠) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ).

والباقى كله قسم بمخلوقاته ، كقوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ). (وَالصَّافَّاتِ). والليل. والشمس. والضّحى. فلا أقسم بالخنّس.

فإن قيل : كيف أقسم بما يخلق ، وقد ورد النهى عن القسم بغير الله؟

قلت : أجيب عنه بأجوبة :

__________________

(١) المنافقون : ١

(٢) آل عمران : ١٨

(٣) يونس : ٥٣

(٤) الذاريات : ٢٢ ، ٢٣

(٥) فى الإتقان : صرح.

(٦) التغابن : ٧

(٧) مريم : ٦٨

(٨) الحجر : ٩٢

(٩) النساء : ٦٥

(١٠) المعارج : ٤٠

٤٥٠

أحدها : أنه على حذف مضاف ، أى ورب التّين ، ورب الشمس ، وكذا الباقى.

الثانى : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها ، فنزل القرآن على ما يعرفون.

الثالث : أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو يحبه (١) ، وهو فوقه ، والله تعالى ليس [٧٤ ا] شىء فوقه. فأقسم تارة بنفسه ، وتارة بمصنوعاته ، لأنها تدل على أنه بارئ صانع.

قال ابن أبى الإصبع ـ فى أسرار الفواتح : القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع ؛ لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل ؛ إذ يستحيل وجود مفعول من غير فاعل.

وأخرج ابن أبى حاتم عن الحسن ، قال : إن الله يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله.

وقال العلماء : أقسم الله تعالى بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قوله : «لعمرك» ، ليعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، قال : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا سمعت الله أقسم بحياة مخلوق غيره ، قال (٢) : «لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون».

وقال أبو القاسم القشيرى : القسم بالشىء لا يخرج عن وجهين : إما لفضيلة ،

__________________

(١) فى الإتقان : أو يجله.

(٢) الحجر : ٧٢

٤٥١

أو لمنفعة ، فالفضيلة كقوله : (وَطُورِ سِينِينَ ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). والمنفعة ، نحو : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ).

وقال غيره : أقسم تعالى بثلاثة أشياء : بذاته كالآيات السابقة ، وبفعله نحو (١) : (وَالسَّماءِ وَما بَناها ، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها ، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) ، وبمفعوله نحو : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى). (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ).

والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة. وإما مضمر ؛ وهو قسمان : قسم دلّت عليه اللام نحو (٢) : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ). وقسم دل عليه المعنى ؛ نحو (٣) : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). تقديره : والله.

وقال أبو على الفارسى : الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان :

أحدهما ما تكون كغيرها من الألفاظ التى ليست بقسم ، فلا تجاب بجوابه ، كقوله (٤) : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ((٥) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ). ((٦) فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ).

وهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما ، وأن يكون حالا لخلوّه من الجواب.

والثانى ما يتلقى بجواب القسم فى قوله (٧) : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). ((٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ).

__________________

(١) الشمس : ٥ ـ ٧

(٢) آل عمران : ١٨٦

(٣) مريم : ٧١

(٤) الحديد : ٨

(٥) البقرة : ٦٣

(٦) المجادلة : ١٨

(٧) آل عمران : ١٨٧

(٨) النور : ٥٣

٤٥٢

وقال غيره : أكثر الأقسام فى القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو ؛ فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل ؛ كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ). ((١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ). ولا تجد الباء مع حذف الفعل. ومن ثمّ كان خطأ من جعل قسما بالله (٢) : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). ((٣) ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ). ((٤) بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ).

وقال ابن القيّم : اعلم أنه سبحانه يقسم بأمور على أمور ، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته ، وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته. فالقسم إما على جملة خبرية ، وهو الغالب ، كقوله (٥) : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ). وإما على جملة طلبية ، كقوله (٦) : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ). مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه ، فيكون من باب الخبر ؛ وقد يراد به تحقيق المقسم ؛ فالقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه ؛ فلا بد أن يكون مما نحن (٧) فيه ؛ وذلك كالأمور الغائبة (٨) الخفيّة ؛ إذا أقسم على ثبوتها ؛ فأما الأمور المشهودة الظاهرة ، كالشمس ، والليل ، والنهار ، والسماء ، والأرض ـ فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها. وما أقسم عليه الرب فهو من آياته ، فيجوز أن يكون مقسما به ، ولا ينعكس.

وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب ، ويحذفه أخرى كما يحذف جواب «لو» كثيرا للعلم.

ولما كان القسم يكثر فى الكلام اختصر ، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى

__________________

(١) التوبة : ٦٢

(٢) لقمان : ١٣

(٣) الزخرف : ٤٩

(٤) المائدة : ١١٦

(٥) الذاريات : ٢٣

(٦) الحجر : ٩٢

(٧) فى الإتقان : يحسن.

(٨) فى ب : الغائية.

٤٥٣

بالباء ، ثم عوّض من الباء الواو فى الأسماء الظاهرة ، والتاء فى اسم الله ؛ كقوله (١) : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ). قال : ثم هو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التى يجب على الخلق معرفتها ، وتارة يقسم على التوحيد ، وتارة يقسم على أن القرآن حق ، وتارة [٧٤ ب] على أن الرسول حق ، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد ، وتارة على حال الإنسان :

فالأول كقوله : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ...) إلى قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).

والثانى كقوله (٢) : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ).

والثالث كقوله : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ...) الآيات.

والرابع كقوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ...) إلى قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ). والمرسلات ... إلى قوله : إنما توعدون لواقع.

والخامس كقوله : والليل إذا يغشى ... إلى قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ...) الآيات. والعاديات ... إلى قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). والعصر إن الإنسان لفى خسر ... الخ. والتّين والزيتون ... إلى قوله : لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم. الآيات. (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ...) إلى قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ).

قال : وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان فى نفس المقسم به دلالة على

__________________

(١) الأنبياء : ٥٧

(٢) الواقعة : ٧٥ ـ ٧٧

٤٥٤

القسم عليه ، فإن المقصود يحصل بذكره ، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز ، كقوله. (ص ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ؛ فإن فى المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه ، والشرف والقدر ـ ما يدل على المقسم عليه ، وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقوله الكافرون ؛ ولهذا قال كثيرون : إن تقدير الجواب : إن القرآن لحقّ ، وهذا مطّرد فى كل ما شأنه (١) ذلك ؛ كقوله : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ). وقوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ؛ فإنه يتضمن إثبات المعاد. وقوله : والفجر ... الآيات ؛ فإنها أزمان تتضمن أفعالا عظيمة من المناسك وشعائر الحج التى هى عبودية محضة الله ، وذلّ وخضوع لعظمته ؛ وفى ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

قال : ومن لطائف القسم قوله : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...) الآيات ؛ أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له ؛ وذلك متضمّن لتصديقه له ، فهو قسم على صحة نبوءته ، وعلى جزائه فى الآخرة ، فهو قسم على النبوءة والمعاد. وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته. وتأمّل مطابقة هذا القسم وهو نور الضّحى الذى هو يوافى بعد ظلام الليل للمقسم عليه ، وهو نور الوحى الذى وافاه بعد احتباسه عنه ، حتى قال أعداؤه : ودّع محمد ربّه ؛ فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.

__________________

(١) فى الإتقان : ما شابه ذلك.

٤٥٥

الوجه الثلاثون من وجوه إعجازه اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة

وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد يبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به ؛ لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين ، لأمرين :

أحدهما ـ بسبب ما قاله (١) : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ).

والثانى ـ أن المائل إلى دقيق المحاجّة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام ؛ فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذى يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذى لا يعرفه إلا الأقلّون ، ولم يكن ملغزا ، فأخرج تعالى مخاطباته فى محاجّة خلقه فى أجلى صورة ؛ ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة ، وتفهم الخواص من أثنائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء.

وقد أفرد جدل القرآن بالتصنيف نجم الدين الطوفى (٢).

قال ابن أبى الإصبع (٣) : زعم الجاحظ أن المذهب الكلامى لا يوجد منه شىء فى القرآن ، وهو مشحون به ، وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاندة فيه على طريقة أرباب الكلام. ومنه نوع منطقى تستنتج منه

__________________

(١) إبراهيم : ٤

(٢) هو سليمان بن عبد القادر بن عبد الكريم المعروف بنجم الدين الطوفى المتوفى سنة ٧١٦ ه‍ (الدر الكامنة : ٢ ـ ١٥٤).

(٣) بديع القرآن : ٣٧ ، ٣٨

٤٥٦

النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة ؛ فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أنّ من أول سورة الحج إلى قوله (١) : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ـ خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات : قوله (٢) : (ذلِكَ) [٧٥ ا] (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) ؛ لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظّما لها ؛ وذلك مقطوع بصحته ، لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمّن ثبتت قدرته ، منقول إلينا بالتواتر ؛ فهو حق ، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق ، فهو (٣) الولى.

وأخبر تعالى أنه يحيى الموتى ، لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر ، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التى يعلمها (٤) الله من أجلهم.

وقد ثبت أنه قادر على كل شىء ؛ ومن الأشياء إحياء الموتى ؛ فهو يحيى الموتى.

وأخبر تعالى أنه على كل شىء قدير ؛ لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ، ومن يجادل فى الله بغير علم ـ يذقه من عذاب السعير ؛ ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شىء قدير ؛ فهو على كل شىء قدير.

وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها ؛ لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله (٥) : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً). وضرب

__________________

(١) الحج : ٧

(٢) الحج : ٦

(٣) فى الإتقان وبديع القرآن : فالله هو الحق.

(٤) فى بديع القرآن : التى فعلها الله.

(٥) الحج : ٥

٤٥٧

لذلك مثلا بالأرض الهامدة التى ينزل عليها الماء فتهتزّ وتربو ، وتنبت من كل زوج بهيج. ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ، ثم يعيده بالبعث ، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل ، ثم أحياها بالخصب ، وصدق خبره فى ذلك كله بدلالة الواقع (١) المشاهد على المتوقع الغائب ، حتى انقلب الخبر عيانا ـ صدق خبره فى الإتيان بالساعة ، ولا يأتى بالساعة إلا من يبعث من فى القبور ؛ لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة ؛ فهى آتية لا ريب فيها ، وهو سبحانه يبعث من فى القبور (٢).

وقال غيره : استدل سبحانه على المعاد الجسمانى بضروب :

أحدها : قياس الإعادة على الابتداء ، قال (٣) : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). ((٤) كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). ((٥) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ).

ثانيها : قياس الإعادة على خلق السموات والأرض بطريق الأولى ، قال (٦) : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ ...) الآية.

ثالثها : قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات.

رابعها : قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر.

وقد روى الحاكم وغيره أن أبىّ بن خلف جاء بعظم ففتّه ، فقال : أفيحيي الله هذا بعد ما بلى ورمّ ، فأنزل الله (٧) : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ

__________________

(١) فى بديع القرآن : الشاهد.

(٢) إلى هنا من بديع القرآن.

(٣) الأعراف : ٢٩

(٤) الأنبياء : ١٠٤

(٥) ق : ١٥

(٦) يس : ٨١

(٧) يس : ٢٩ ، ٨٠

٤٥٨

مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ؛ فاستدل سبحانه بردّ النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث. ثم زاد فى الحجاج بقوله (١) : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) ؛ وهذه فى غاية البيان فى رد الشيء إلى نظيره ، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليها.

خامسها : فى قوله (٢) : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ، بَلى ...) الآيتين ؛ وتقريرها أن اختلاف المختلفين فى الحقّ لا يوجب انقلاب الحق فى نفسه ، وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه ، والحقّ فى نفسه واحد ؛ فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة لا محالة ، وكان لا سبيل لنا فى حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفا يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف ؛ إذ كان الاختلاف مركوزا فى فطرنا ، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجبلّة ، ونقلها إلى صورة غيرها ـ صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة ، فيها يرتفع الاختلاف والعناد ؛ وهذه هى الحالة التى وعد الله بالمصير إليها ؛ فقال (٣) : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) ؛ فقد صار الخلاف الموجود ، كما ترى ، أوضح دليل على كون البعث الذى ينكره المنكرون ؛ كذا قرره ابن السيّد.

ومن ذلك الاستدلال على أنّ صانع العالم واحد ، بدلالة التمانع المشار إليها فى قوله (٤) : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ؛ لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجرى تدبيرهما على نظام ، ولا ينسّق على إحكام ، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما ؛ وذلك لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم [٧٥ ب] وأراد الآخر

__________________

(١) ق : ١٥

(٢) النحل : ٣٨ ، ٣٩

(٣) الأعراف : ٤٣

(٤) الأنبياء : ٢٢

٤٥٩

إماتته فإما أن تنفذ (١) إرادتهما فيتناقض ؛ لاستحالة تجزئ الفعل إن فرض الاتفاق ، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف ، وإما ألا تنفذ إرادتهما فيؤدى إلى عجزهما ، أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدّى إلى عجزه ، والإله لا يكون عاجزا.

فصل

[السبر والتقسيم]

من الأنواع المصطلح عليها فى علم الجدل السّبر والتقسيم.

ومن أمثلته فى القرآن قوله تعالى (٢) : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) الآيتين ؛ فإن الكفار لما حرّموا ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السّبر والتقسيم ، فقال : إن الخلق لله ، خلق من كل زوج مما ذكر ذكرا وأنثى ، فممّ جاء تحريم ما ذكرتم؟ وما علته؟ لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة ، أو اشتمال الرحم الشامل لهما ، أو لا يدرى له (٣) علة ، وهو التعبّدى ، بأن أخذ ذلك عن الله ، والأخذ عن الله إما بوحى ، أو إرسال رسول ، أو سماع كلامه ومشاهدة تلقّى ذلك عنه ، وهو فى معنى قوله (٤) : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا).

فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وجه (٥) منها :

والأول يلزم عليه أن تكون جميع الذكور حراما.

__________________

(١) فى ب : تتعذر.

(٢) الأنعام : ١٤٣

(٣) فى الإتقان : أى ما علته.

(٤) الأنعام : ١٤٤

(٥) فى الإتقان : عن واحد منها.

٤٦٠