معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

لَشَدِيدٌ). ((١) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ). (٢) (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ).

ومنها المرفوّ ؛ وهو ما تركّب من كلمة وبعض أخرى ، كقوله (٣) : (جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ).

ومنها اللفظى ؛ بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية ، كالضاد والظاء ، كقوله (٤) : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

ومنها تجنيس القلب ؛ بأن يختلفا فى ترتيب الحروف ، نحو (٥) : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

ومنها تجنيس الاشتقاق ؛ بأن يجتمعا فى أصل الاشتقاق ؛ ويسمى المقتضب ؛ نحو (٦) : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ). ((٧) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ). ((٨) وَجَّهْتُ وَجْهِيَ).

ومنها تجنيس الإطلاق ؛ بأن يجتمعا فى المشابهة فقط ؛ كقوله (٩) : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ). ((١٠) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ). ((١١) لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي). ((١٢) وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ). ((١٣) اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا). ((١٤) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى ...) إلى قوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).

__________________

(١) غافر : ٧٥

(٢) النساء : ٨٣

(٣) التوبة : ١٠٩

(٤) القيامة : ٢٢ ، ٢٣

(٥) طه : ٩٤

(٦) الواقعة : ٨٩

(٧) الروم : ٤٣

(٨) الأنعام : ٧٩

(٩) الرحمن : ٥٤

(١٠) الشعراء : ١٦٨

(١١) المائدة : ٣١

(١٢) يونس : ١٠٧

(١٣) التوبة : ٣٨

(١٤) فصلت : ٥١

٤٠١

تنبيه

لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترك عند قوة المعنى ؛ كقوله تعالى (١) : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ). قيل : ما الحكمة فى أنه لم يقل وما أنت بمصدّق ؛ فإنه يؤدى معناه مع رعاية التجنيس؟ وأجيب بأن فى مؤمن لنا من المعنى ما ليس فى مصدق ؛ لأن معنى قولك : فلان مثلا مصدّق لى : قال لى صدقت. وأما مؤمن فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ؛ ومقصودهم التصديق وزيادة ، وهو طلب الأمن ، فلذلك عبّر به.

وقد زلّ بعض الأدباء فقال فى قوله (٢) : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) ـ لو قال : وتدعون لكان فيه مجانسة.

وأجاب الإمام فخر الدين : بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكليفات ؛ بل لأجل قوة المعانى ، وجزالة الألفاظ.

وأجاب غيره بأن مراعاة المعانى أولى من مراعاة الألفاظ. ولو قيل : أتدعون وتدعون لوقع الالتباس على القارئ ، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا. وهذا الجواب غير ناضج.

وأجاب ابن الزّملكانى بأن التجنيس تحسين ، وإنما يستعمل فى مقام الوعد والتوعد والإحسان لا فى مقام التهويل.

وأجاب الخويى بأن «يدع» أخص من يذر ؛ لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتنائه بشهادة الاشتقاق ؛ نحو الإيداع ، فإنه عبارة عن ترك الوديعة

__________________

(١) يوسف : ١٧

(٢) الصافات : ٢٥

٤٠٢

مع الاعتناء بحالها ؛ ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها. ومن ذلك الدّعة بمعنى الراحة. وأما تذر فمعناه الترك مطلقا ، والترك مع الإعراض والرفض الكلىّ.

قال الراغب (١) : يقال فلان يذر الشيء : أى يقذفه لقلة الاعتداد به. ومنه الوذرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد بها. ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول ، فأريد هنا تشنيع (٢) حالهم فى الإعراض [٦٧ ا] عن ربهم ، وأنهم بلغوا الغاية فى الإعراض. انتهى.

الجمع

هو أن يجمع بين شيئين أو أشياء متعددة فى حكم ؛ كقوله تعالى (٣) : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، جمع المال والبنون فى الزينة. وكذا قوله (٤) : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ).

الجمع والتفريق

هو أن أن يجمع (٥) بين شيئين فى معنى واحد ويفرق بين جهتى الإدخال. وجعل منه الطّيبىّ قوله تعالى (٦) : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها). جمع النفسين فى حكم التوفى ، ثم فرق بين جهتى التوفى بالحكم بالإمساك والإرسال ، أى الله يتوفى بالإمساك والإرسال ، أى الله يتوفى الأنفس التى تقبض والتى لم تقبض ، ويمسك الأولى ، ويرسل الأخرى.

__________________

(١) المفردات : ٥١٨

(٢) فى الإتقان : تبشيع.

(٣) الكهف : ٤٦

(٤) الرحمن : ٥ ، ٦

(٥) فى الإتقان : أن تدخل شيئين.

(٦) الزمر : ٤٢

٤٠٣

الجمع والتقسيم

وهو جمع متعدد تحت حكم ، ثم تقسيمه ، كقوله تعالى (١) : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ).

الجمع والتفريق والتقسيم

كقوله تعالى (٢) : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...) الآيات. فالجمع فى قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، لأنها متعددة معنى ؛ إذ النكرة فى سياق النفى نعم. والتفريق فى قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ). والتقسيم فى قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا). (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا).

جمع المؤتلف والمختلف

هو أن يريد التسوية بين ممدوحين ؛ فيأتى بمعان مؤتلفة فى مدحها. ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص الآخر ، فيأتى لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية ، كقوله تعالى (٣) : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ ...) الآية. سوّى فى الحكم والعلم ، وزاد فى فضل سليمان بالفهم.

حسن النسق

وهو أن يتكلم (٤) المتكلم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا ، بحيث إذا أفردت كلّ جملة منها قامت بنفسها ، واستقل معناها

__________________

(١) فاطر : ٣٢

(٢) هود : ١٠٥ ـ ١٠٨

(٣) الأنبياء : ٧٨

(٤) فى الإتقان : يأتى.

٤٠٤

بلفظها ، ومنه قوله تعالى (١) : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) الآية ، فإنها جمل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذى تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم (٢) الذى هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة ، من الإطلاق من سجنها ، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك ، من دفع أذاه بعد الخروج ، ومنع إخلاف ما كان بالأرض ، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقضاء المادتين الذى هو متأخر عنه قطعا ، ثم بقضاء الأمر الذى هو هلاك من قدّر هلاكه ونجاة من سبق نجاته ، وأخّر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها ، وخروجهم موقوف على ما تقدم ، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف ، وحصول الأمن من الاضطراب ، ثم ختم بالدعاء على الظالمين ، لإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه.

عتاب المرء نفسه

ومنه (٣) : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي ...) الآية.

وقوله (٤) : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ...) الآيات.

العكس

هو أن يؤتى بكلام يقدّم فيه جزء ويؤخّر آخر ، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم ؛ كقوله تعالى (٥) : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ

__________________

(١) هود : ٤٤

(٢) فى الإتقان : الاسم.

(٣) الفرقان : ١٧

(٤) الزمر : ٥٦

(٥) الأنعام : ٥٢

٤٠٥

عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ). ((١) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). ((٢) وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ). ((٣) هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ). ((٤) لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ).

وقد سئل عن الحكمة فى عكس هذا اللفظ ، فأجاب ابن المنيّر بأن فائدته الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب : الحقّ أن كل واحد من فعل المؤمنة والكافر منفىّ عنه الحل ، أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة ، وأما فعل الكافر فنفى عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة ، فليس الكفار مورد الخطاب ، بل الأئمة ، ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك ، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد ، فاتضح [٦٧ ب] أن المؤمنة نفى عنها الحل باعتبار ، والكافر نفى عنه الحل باعتبار.

قال ابن أبى الإصبع (٥) : ومن غريب أسلوب هذا النوع (٦) : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً. وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى ، لتقديم العمل فى الأولى عن الإيمان ، وتأخيره فى الثانية عن الإسلام.

[القلب ، والمقلوب المستوى ، وما لا يستحيل بالانعكاس]

ومنه نوع يسمى القلب والمقلوب المستوى ، وما لا يستحيل بالانعكاس ،

__________________

(١) الحج : ٦١

(٢) يونس : ٣١

(٣) البقرة : ١٨٧

(٤) الممتحنة : ١٠

(٥) بديع القرآن : ١١١

(٦) النساء : ١٧٤ ، ١٢٥

٤٠٦

وهو أن تقرأ الكلمة من أولها إلى آخرها ، كما تقرأ من آخرها إلى أولها ، كقوله (١) : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ). ((٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). ولا ثالث لهما فى القرآن.

العنوان (٣)

قال ابن أبى الإصبع (٤) : هو أن يأخذ المتكلم فى غرض ، فيأتى لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة فى ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة ، وقصص سالفة. ومنه نوع عظيم جدا ، وهو عنوان العلوم ؛ بأن يذكر فى الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها ؛ فمن الأول قوله تعالى (٥) : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها ...) الآية ، فيها عنوان قصة بلعام.

ومن الثانى قوله تعالى (٦) : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ...) الآية ، فيها عنوان علم الهندسة ، فإن الشكل المثلث أول الأشكال ، فإذا نصب فى الشمس على أى ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رءوس زواياه ، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكّما بهم. وقوله (٧) : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية ، فيها عنوان علم الكلام ، وعلم الجدل ، وعلم الهيئة.

الفرائد

وهو مختص بالفصاحة دون البلاغة ، لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من العقد ، وهى الجوهرة التى لا نظير لها ـ تدل على عظم فصاحة هذا الكلام

__________________

(١) الأنبياء : ٣٣

(٢) المدثر : ٣

(٣) فى ا : الفنون.

(٤) بديع القرآن : ٢٥٧

(٥) الأعراف : ١٧٥

(٦) المرسلات : ٣٠ و ٣١

(٧) الأنعام : ٧٥

٤٠٧

وقوة عارضته ، وجزالة منطقه ، وأصالة عربيته ، بحيث لو أسقطت من الكلام عزّت على الفصحاء. ومنه : حصحص الحقّ ـ فى قوله (١) : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ). والرفث فى قوله (٢) : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ). ولفظة «فزّع» فى قوله (٣) : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ). وخائنة فى قوله (٤) : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ). وألفاظ كقوله (٥) : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا). وقوله (٦) : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ).

القسم

هو أن يريد المتكلم الحلف على شىء فيحلف بما يكون فيه فخر له ، أو تعظيم ، أو تنويه لقدره ، أو ذمّ لغيره ، أو جاريا مجرى الغزل والترفّق ، أو خارجا مخرج الموعظة والزهد ؛ كقوله (٧) : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ). أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر ، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة. «(٨) (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما لشأنه وتنويها بقدره. وسيأتى فى وجه (٩) الأقسام أشياء تتعلق بذلك.

اللف والنشر

هو أن يذكر شيئان أو أشياء إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالا ؛ بأن يؤتى بلفظة تشتمل على متعدد ، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك ، كل واحد

__________________

(١) يوسف : ٥١

(٢) البقرة : ١٨٧

(٣) سبأ : ٢٣

(٤) غافر : ١٩

(٥) يوسف : ٨٠

(٦) الصافات : ١٧٧

(٧) الذاريات : ٢٣

(٨) الحجر : ٧٢

(٩) فى الإتقان : نوع الأقسام.

٤٠٨

يرجع إلى واحد من المتقدم ، ويفوّض إلى عقل السامع ردّ كل واحد إلى ما يليق به.

فالإجمالى كقوله تعالى (١) : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ؛ أى قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا النصارى. وإنما سوّغ الإجمال فى اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى ، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة. فوثق بالعقل فى أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس. وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران.

قلت : وقد يكون الإجمال فى اللف لا فى النشر (٢) ؛ بأن يؤتى بمتعدد ، ثم بلفظ يشتمل على صفة (٣) تصلح لهما ، كقوله تعالى (٤) : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ـ على قول أبى عبيدة : إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. وقد بيّنته فى أسرار التنزيل.

والتفصيلى قسمان :

أحدهما : أن يكون على ترتيب اللفظ ، كقوله [١٦٨ ا] تعالى (٥) : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ؛ فالسكون راجع إلى الليل ، والابتغاء راجع إلى النهار. وقوله (٦) : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً

__________________

(١) البقرة : ١١١

(٢) هذا فى الأصل. وفى الإتقان : فى النشر لا فى اللف.

(٣) فى الإتقان : على متعدد يصلح لهما.

(٤) البقرة : ١٨٧

(٥) القصص : ٧٣

(٦) الإسراء : ٢٩

٤٠٩

إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً). فاللوم راجع إلى البخل ، ومحسورا راجع إلى الإسراف ؛ لأن معناه منقطعا لا شىء عندك. وقوله (١) : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً ...) الآيات ؛ فإن قوله : فأمّا اليتيم فلا تقهر ـ راجع إلى قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى). وقوله : فأما السائل فلا تنهر ـ راجع إلى قوله : ووجدك ضالّا ؛ فإن المراد السائل عن العلم ، كما فسره مجاهد وغيره. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) راجع إلى قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى). رأيت هذا المثال فى شرح الوسيط للنووى المسمى بالتنقيح.

والثانى : أن يكون على عكس ترتيبه ، كقوله تعالى (٢) : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ...) الخ. وجعل منه جماعة قوله تعالى (٣) : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ؛ قالوا : متى نصر الله : قول الذين آمنوا ، (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) قول الرسول.

وذكر الزمخشرى له قسما آخر (٤) ؛ كقوله (٥) : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ). قال : هذا من باب اللف. وتقديره : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار. إلا أنه فصل بين منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار ؛ لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشىء وقع (٦) مع إقامة (٧) اللف على الاتحاد.

__________________

(١) الضحى : ٦ ـ ١١

(٢) آل عمران : ١٠٦

(٣) البقرة : ٢١٤

(٤) الكشاف : ٢ ـ ١٨٧

(٥) الروم : ٢٣

(٦) فى الاتقان والكشاف : كشىء واحد.

(٧) فى الكشاف : مع إعانة.

٤١٠

المشاكلة

ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا ؛ فالأول كقوله تعالى (١) : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). ((٢) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ). فإطلاق النفس والمكر فى جانب البارى تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه.

وكذا قوله (٣) : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة. ((٤) فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ). ((٥) الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا). ((٦) فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ). ((٧) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

ومثال التقديرى (٨) : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) ؛ فقوله : صبغة الله أى تطهير الله ، لأن الإيمان يطهر النفوس. والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : إنه تطهير لهم ؛ فعبّر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة.

المزاوجة

أن يزاوج بين معنيين فى الشرط والجزاء ، أو ما جرى مجراهما ، كقوله (٩) :

__________________

(١) المائدة : ١١٦

(٢) آل عمران : ٥٤

(٣) الشورى : ٤٠

(٤) البقرة : ١٩٤

(٥) الجاثية : ٣٤

(٦) التوبة : ٧٩

(٧) البقرة : ١٤

(٨) البقرة : ١٣٨

(٩) للبحترى ، ديوانه : ١ ـ ٢١٧

٤١١

إذا ما نهى الناهى فلجّ بى الهوى

أصاخت إلى الواشى فلجّ بها الهجر

ومنه فى القرآن (١) : (آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ).

المبالغة

أن يذكر المتكلم وصفا يزيد (٢) فيه حتى يكون أبلغ فى المعنى الذى قصده ؛ وهى ضربان :

مبالغة فى الوصف ؛ بأن يخرج إلى حد الاستحالة. ومنه (٣) : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ). و ((٤) لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

ومبالغة فى الصيغة ، وصيغ المبالغة فعلان ، كالرحمن. وفعيل ، كالرّحيم. وفعّال ، كالتوّاب والغفّار والقهّار. وفعول ، كغفور ، وشكور ، وودود. وفعل ، كحذر وأشر وفرح. وفعال بالتخفيف ، كعجاب ؛ وبالتشديد ككبّار. وفعل كلبد وكبر. وفعلى كالعليا ، والحسنى ، والشورى ، والسّوأى.

فائدة

الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل ، ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم. وفسره السهيلى بأنه ورد على صيغة التثنية ، والتثنية تضعيف ، فكأن البناء تضاعف فيه الصفة.

__________________

(١) الأعراف : ١٧٥

(٢) فى الاتقان : فيزيد ...

(٣) النور : ٣٥

(٤) الأعراف : ٤٠

٤١٢

وذهب ابن الأنبارى إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن. ورجحه ابن عسكر بتقديم الرحمن عليه ، وبأنه جىء به على صيغة الجمع ، كعبيد ؛ وهو أبلغ من صيغة التثنية. وذهب قطرب إلى أنهما سواء.

فائدة

ذكر البرهان الرشيدى أن صفات الله تعالى التى على صفة المبالغة كلها مجاز ؛ لأنها موضوعة للمبالغة ، ولا مبالغة فيها ، لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما له ، وصفاته تعالى متناهية فى الكمال لا تمكن المبالغة فيها. وأيضا فالمبالغة تكون فى صفات تقبل الزيادة والنقصان ، وصفات الله [٦٨ ب] منزهة عن ذلك. واستحسنه الشيخ تقى الدين السبكى.

وقال الزركشى فى البرهان : التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان :

أحدهما : ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.

والثانى : بحسب تعدد المفعولات. ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة ؛ إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين ، وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى ، ويرتفع الإشكال. ولهذا قال بعضهم ـ فى «حكيم» : معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.

وقال فى الكشاف : المبالغة فى التوّاب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، أو لأنه بليغ فى قبول التوبة ، نزّل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.

٤١٣

وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا على قوله (١) : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ـ وهو أن قديرا من صيغ المبالغة ، فيستلزم الزيادة على معنى قادر ؛ والزيادة على معنى قادر محال ؛ إذ الإيجاد من وجد (٢) لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد.

وأجيب بأن المبالغة لمّا تعذّر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التى دل السياق عليها ؛ فهى بالنسبة إلى كثرة المتعلق لا الوصف.

المطابقة

وتسمى الطباق : الجمع بين المتضادين فى الجملة ؛ وهو قسمان : حقيقى ، ومجازى. والثانى : يسمى التكافؤ ؛ وكل منهما إما لفظى أو معنوى ، وإما طباق إيجاب أو سلب.

فمن أمثلة ذلك : ((٣) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً). ((٤) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا). ((٥) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). ((٦) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ).

ومن أمثلة المجازى (٧) : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) ؛ أى ضالّا فهديناه.

ومن أمثلة طباق السلب (٨) : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ). ((٩) فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).

ومن أمثلة المعنوى (١٠) : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ

__________________

(١) البقرة : ٢٨٤

(٢) فى الإتقان : من واحد.

(٣) التوبة : ٨٢

(٤) النجم : ٤٣

(٥) الحديد : ٢٣

(٦) الكهف : ١٨

(٧) الأنعام : ١٢٢

(٨) المائدة : ١١٦

(٩) المائدة : ٤٤

(١٠) يس : ١٥ ، ١٦

٤١٤

إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ). معناه إن ربنا يعلم إنا لصادقون. ((١) جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً). قال أبو على الفارسى : لما كان البناء رافعا للمبنيّ قوبل بالفراش الذى هو خلاف البناء.

ومنه نوع يسمى الطباق الخفىّ ؛ كقوله (٢) : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ؛ لأن الغرق من صفات الماء ، فكأنه جمع بين الماء والنار.

قال ابن منقذ (٣) : وهى أخفى مطابقة فى القرآن.

وقال ابن المعتز (٤) : من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى (٥) : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ؛ لأن معنى القصاص القتل ، فصار القتل سبب الحياة.

[الترصيع]

ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام ؛ وهو اقتران الشيء بما يجتمع معه فى قدر مشترك ؛ كقوله (٦) : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى). جاء بالجوع مع العرى ، وبابه أن يكون مع الظمأ ، وبالضّحى مع الظمأ ؛ وبابه أن يكون مع العرى ، لكن الجوع والعرى اشتركا فى الخلو ؛ فالجوع خلوّ البطن من الطعام. والعرى خلو الظاهر من اللباس. والضحى والظمأ اشتركا فى الاحتراق ؛ فالظمأ احتراق الباطن من العطش ، والضّحى احتراق الظاهر من حر الشمس.

__________________

(١) البقرة : ٢٢

(٢) نوح : ٢٥

(٣) هو أسامة بن منقذ صاحب كتاب «البديع» وغيره. توفى سنة ٤ / ٥.

(٤) هو عبد الله بن محمد المعتز بالله الخليفة الشاعر. صاحب كتاب «البديع» توفى سنة ٢٩٦ ه

(٥) البقرة : ١٧٩

(٦) طه : ١١٨ ، ١١٩

٤١٥

[المقابلة]

ومنه نوع يسمى المقابلة ؛ وهو أن يذكر لفظان فأكثر ثم أضدادها على الترتيب.

قال ابن أبى الإصبع (١) : والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين :

أحدهما : أن الطباق لا يكون إلا فى (٢) ضدين فقط. والمقابلة لا تكون إلا بما زاد [على الضدين](٣) من الأربعة إلى العشرة.

والثانى : أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد ؛ والمقابلة بالأضداد وبغيرها.

قال السكاكى : ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط فى الأول أمرا شرط فى الثانى ضده ، كقوله تعالى (٤) : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ...) الآيتين. قابل بين الإعطاء والبخل ، والاتقاء والاستغناء ، والتصديق والتكذيب ، واليسرى والعسرى ؛ ولما جعل التيسير فى الأول مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده ـ وهو التعسير ـ مشتركا بين أضدادها.

وقال بعضهم : المقابلة إما لواحد بواحد ؛ وذلك قليل جدّا ؛ كقوله تعالى (٥) : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ). أو اثنين باثنين كقوله تعالى (٦) : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً). أو ثلاثة بثلاثة كقوله (٧) : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).

__________________

(١) بديع القرآن : ٣١

(٢) فى بديع القرآن : لا يكون إلا بالجمع بين ضدين فذين فقط.

(٣) من بديع القرآن.

(٤) الليل : ٥ ، ٦

(٥) البقرة : ٢٥٥

(٦) التوبة : ٨٢

(٧) الأعراف : ١٥٧

٤١٦

((١) وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). أو أربعة بأربعة كقوله (٢) : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى). أو خمسة بخمسة كقوله (٣) : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ...) الآيات. قابل بين بعوضة ، فما فوقها. وبين فأمّا الذين آمنوا والذين كفروا. وبين يضل ويهدى ، وبين ينقضون وميثاقه ، وبين يقطعون وأن يوصل. أو ستة بستة ؛ كقوله تعالى (٤) : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ...) الآيات ، ثم قال : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ـ قابل الجنّات ، والأنهار ، والخلد ، والأزواج ، والتطهير ، والرضوان ، بإزاء النساء ، والبنين ، والذهب ، والفضة ، والخيل المسوّمة ، والأنعام ، والحرث.

وقسّم آخر المقابلة ثلاثة أنواع : نظيرى ، ونقيضى ، وخلافى ؛ مثال الأول مقابلة السّنة بالنوم فى الآية الأولى ؛ فإنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة فى آية (٥) : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ). وهذا مثال الثانى ؛ فإنهما نقيضان.

ومثال الثالث مقابلة الشر بالرشد فى قوله (٦) : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ؛ فإنهما خلافان لا نقيضان ؛ فإن نقيض الشر الخير ، والرشد الغىّ.

المواربة

براء مهملة وباء موحدة : أن يقول المتكلم قولا يتضمن الإنكار عليه ؛ فإذا حصل الإنكار استحضر؟ بحذقه؟ وجها من الوجوه يتخلص به ، إما بتحريف

__________________

(١) البقرة : ١٥٢

(٢) الليل : ٥ ، ٦

(٣) البقرة : ٢٦

(٤) آل عمران : ١٤ ، ١٥

(٥) الكهف : ١٨

(٦) الجنّ : ١٠

٤١٧

كلمة ، أو تصحيفها ، أو زيادة أو نقص. قال ابن أبى الإصبع (١) : ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن أكبر أولاد يعقوب (٢) : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ؛ فإنه قرئ إن ابنك سرّق ولم يسرق ؛ فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد فى الراء وكسرها.

المراجعة

قال ابن أبى الإصبع (٣) : هى أن يحكى المتكلم مراجعة فى القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة ، وأعدل سبك ، وأعذب ألفاظ ؛ ومنه قوله تعالى (٤) : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ـ جمعت هذه القطعة ـ وهى بعض آية ـ ثلاث مراجعات فيها معانى الكلام ، من الخبر والاستخبار ، والأمر والنهى ، والوعد والوعيد ، بالمنطوق والمفهوم.

قلت : أحسن من هذا أن يقال جمعت الخبر والطلب ، والإثبات والنفى ، والتأكيد والحذف ، والبشارة والنذارة ، والوعد والوعيد.

النزاهة

هى خلوص ألفاظ الهجاء من الفحش حتى يكون ـ كما قال أبو عمرو ابن العلاء ـ وقد سئل عن أحسن الهجاء : هو الذى إذا أنشدته العذراء فى خدرها لا يقبح عليها. ومنه قوله تعالى (٥) : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). ثم قال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

(١) بديع القرآن : ٩٥

(٢) يوسف : ٨١

(٣) بديع القرآن : ٣٠٠

(٤) البقرة : ١٢٤

(٥) النور : ٤٨ ـ ٥٠

٤١٨

أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ، بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). فإن ألفاظ ذم هؤلاء المخبر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقع فى الهجاء من الفحش. وسائر هجاء القرآن كذلك.

الابداع

بالباء الموحدة : وهو أن يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع. قال ابن أبى الإصبع (١) : ولم أر فى الكلام مثل قوله تعالى (٢) : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) الآية ، فإن فيها عشرين (٣) ضربا ، وهى سبع عشرة [٦٩ ب] لفظة ، وذلك للمناسبة التامة فى «ابلعى» و «اقلعى» ، والاستعارة فيهما ، والطباق (٤) بين الأرض والسماء ، والمجاز فى قوله : «يا سماء» ، فإن الحقيقة يا مطر السماء ، والإشارة فى : وغيض الماء ، فإنه عبر به عن معان كثيرة ، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء ؛ فينقص الحاصل على وجه الأرض من الماء. والإرداف فى : «واستوت». والتمثيل فى : «وقضى الأمر». والتعليل ، فإنّ غيض الماء علّة الاستواء. وصحة التقسيم ، فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه ؛ إذ ليس إلا احتباس ماء السماء ، والماء النابع من الأرض ، وغيض الماء الذى على ظهرها. والاحتراس فى الدعاء لئلا يتوهّم أن الفرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك ؛ فإنّ عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق. وحسن النسق ، وائتلاف اللفظ مع المعنى. والإيجاز ، فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة. والتسهيم ؛ لأن أول الآية يدل على آخرها. والتهذيب ؛ لأن مفرداتها موصوفة بصفات

__________________

(١) بديع القرآن : ٣٤٠

(٢) هود : ٤٤

(٣) فى بديع القرآن : أحدا وعشرين ضربا من البديع.

(٤) فى بديع القرآن : والمطابقة اللفظية فى ذكر السماء.؟؟؟

٤١٩

الحسن ، كل لفظة سهلة مخارج الحروف ، عليها رونق الفصاحة ، مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب (١). وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف فى فهم معنى الكلام ، ولا يشكل عليه شىء منه. والتمكين ؛ لأن الفاصلة مستقرة فى محلها ، مطمئنة فى مكانها ، غير قلقة ولا مستدعاة. والانسجام. هذا ما ذكره ابن أبى الإصبع (٢). وفى بديعة الصفىّ منها مائة وخمسون ، فتأملها.

* * *

الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه

احتواؤه على الخبر والإنشاء

وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما ، وأنه ليس له قسم ثالث.

وادعى قوم انقسامه إلى خبر وطلب وإنشاء ؛ قالوا : لأن الكلام إما أن يحتمل التصديق والتكذيب أم لا : الأول الخبر ؛ والثانى إن اقترن معناه بلفظه فهو الإنشاء ، وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهو الطلب.

والمحققون على دخول الطلب فى الإنشاء ، وأن معنى «اضرب» مثلا ـ وهو طلب الضرب ـ مقترن بلفظه. وأما الضرب الذى يوجد بعد ذلك فهو متعلق الطلب لا نفسه.

وقد اختلف الناس فى حدّ الخبر ؛ فقيل : لا يحد لعسره. وقيل :

__________________

(١) فى البديع : والتركيب سليم من التعقيد وأسبابه.

(٢) بديع القرآن : ٣٤٠ ـ ملخصا.

٤٢٠