معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

معترك الأقران في إعجاز القرآن - ج ١

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٣

رابعها ـ الحال المؤكدة ؛ نحو (١) : (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). ((٢) وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). ((٣) وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً). ((٤) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ). ((٥) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ). [٥٧ ا] وليس منه : ((٦) وَلَّى مُدْبِراً) ؛ لأن التولى قد لا يكون إدبارا ، بدليل قوله (٧) : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ـ ولا : ((٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) ، لأن التبسم قد لا يكون ضحكا. ولا : ((٩) وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) ؛ لاختلاف المعنيين ؛ إذ كونه حقا فى نفسه غير كونه مصدقا لما قبله.

* * *

النوع الرابع ـ التكرير ؛ وهو أبلغ من التأكيد ، وهو من محاسن الفصاحة ، خلافا لبعض من غلط. وله فوائد :

منها : التقرير : وقد قيل : إن الكلام إذا تكرر تقرر ، وقد نبه تعالى على السبب الذى لأجله كرر القصص والإنذار بقوله (١٠) : (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً).

ومنها : التأكيد.

ومنها : زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ؛ ليكمل تلقّى الكلام بالقبول ؛ ومنه (١١) : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) ؛ فإنه كرر فيه النداء لذلك.

ومنها إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا

__________________

(١) مريم : ٣٣

(٢) البقرة : ٦٠

(٣) النساء : ٧٩

(٤) البقرة : ٨٣

(٥) ق : ٣١

(٦) النمل : ١٠

(٧) البقرة : ١٤٤

(٨) النمل : ١٩

(٩) البقرة : ٩١

(١٠) طه : ١١٣

(١١) غافر : ٣٨ ، ٣٩

٣٤١

لعهده ؛ ومنه (١) : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). ((٢) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). ((٣) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ...) إلى قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). ((٤) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ). ((٥) إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ).

ومنها التعظيم والتهويل ، نحو : الحاقة ما الحاقة. القارعة ما القارعة. وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين.

فإن قلت : هذا النوع أحد أقسام النوع قبله ؛ فإن منها التوكيد بتكرار اللفظ ، فلا يحسن عدّه نوعا مستقلا.

قلت : هو يجامعه ويفارقه ، ويزيد عليه وينقص عنه ؛ فصار أصلا برأسه ؛ فإنه قد يكون التأكيد تكرارا كما تقدم فى أمثلته ، وقد لا يكون تكرارا كما تقدم أيضا. وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيدا للتأكيد معنى.

ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده ، نحو (٦) : (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ). ((٧) إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). فالآيتان من باب التكرير ، لا التأكيد اللفظى الصناعى.

__________________

(١) النحل : ١١٩

(٢) النحل : ١١٠

(٣) البقرة : ٨٩

(٤) آل عمران : ١٨٨

(٥) يوسف : ٤

(٦) الحشر : ١٨

(٧) آل عمران : ٤٢

٣٤٢

ومنه الآيات المتقدمة فى التكرير للطول.

ومنه ما كان لتعدد المتعلق ، بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول. وهذا القسم يسمى بالترديد ، كقوله (١) : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ). وقد وقع فيها الترديد أربع مرات. وجعل منه قوله تعالى (٢) : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). فإنها تكررت نيّفا وثلاثين مرة ، كلّ واحدة تتعلق بما قبلها ؛ ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان عائدا على شىء واحد لما زاد على ثلاثة ؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها. قاله ابن عبد السلام وغيره ، وإن كان بعضها ليس بنعمة فذكر النقمة للتحذير نعمة. وقد سئل : أى نعمة فى قوله (٣) : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)؟ فأجاب بأجوبة أحسنها النقلة من دار الهموم إلى دار السرور ، وإراحة المؤمن من الكافر ، والبار من الفاجر. وكذا قوله (٤) : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) فى سورة المرسلات ؛ لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول ، كأنه قال عقب كل قصة : ويل للمكذب بهذه القصة. وكذا قوله فى سورة الشعراء (٥) : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ـ كررت ثمان مرات ، كل مرة عقب كل قصة ؛ فالإشارة فى كل واحدة بذلك إلى قصة النبى المذكور قبلها ، وما اشتملت عليه من الآيات والعبر [٥٧ ب]. وبقوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قومه خاصة ، ولما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصفى العزيز الرحيم ، للإشارة إلى أن العزة على من لا يؤمن منهم والرحمة لمن آمن.

__________________

(١) النور : ٣٥

(٢) الرحمن : ١٣ ، ١٦

(٣) الرحمن : ٢٦

(٤) المرسلات : ١٩

(٥) الشعراء : ٨ ، ٩

٣٤٣

وكذا قوله فى سورة القمر (١) : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

قال الزمخشرى (٢) : كرر ليجدّدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظا وتنبيها ، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق لاعتبار يختص به ؛ وأن يتنبهوا كى لا يغلبهم السرور والغفلة.

قال فى عروس الأفراح : فإن قلت : إذا كان المراد بكلّ ما قبله فليس بإطناب ؛ بل هى ألفاظ ، كلّ أريد به (٣) غير ما أريد بالآخر.

قلت : إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكون نصّا فيما يليه وظاهرا فى غيره.

فإن قلت : يلزم التأكيد.

قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد عليه عن ذلك (٤) ؛ لأن ذلك فى التأكيد الذى هو تابع. أما ذكر الشيء فى مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع. انتهى.

ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير (٥) فى قوله تعالى (٦) : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ...) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

__________________

(١) القمر : ١٧

(٢) الكشاف : ٢ ـ ٤٣٢

(٣) فى ب : بها

(٤) الإتقان : لا يزاد به عن ثلاثة.

(٥) تفسير الطبرى : ٣ ـ ٢٩٧

(٦) النساء : ١٣١ ، ١٣٢

٣٤٤

قال : فإن قيل : ما وجه تكرار قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فى آيتين إحداهما فى أثر الأخرى؟

قلت : لاختلاف معنى الخبرين عما فى السموات والأرض ؛ وذلك أن الخبر عنه فى إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه ، وغنى بارئه عنه ؛ وفى الأخرى حفظ بارئه إياه ، وعلمه به وبتدبيره.

قال : فإن قيل : أفلا قيل : وكان الله غنيا حميدا ، وكفى بالله وكيلا؟

قيل : ليس فى الآية الأولى ما يصلح أن تختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. انتهى (١).

وقال تعالى (٢) : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ).

قال الراغب (٣) : الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور فى قوله تعالى (٤) : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ). والكتاب الثانى التوراة. والثالث لجنس كتب الله كلها ؛ أى ما هو من شىء من كتب الله وكلامه.

ومن أمثلة ما يظن أنه تكرار وليس منه (٥) : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...) الخ ؛ فإن لا أعبد ما تعبدون أى فى المستقبل ، ولا أنتم عابدون أى الحال ، ما أعبد فى المستقبل ، ولا أنا عابد أى فى الحال. ما عبدتم فى الماضى. ولا أنتم عابدون ؛ أى فى المستقبل. ما أعبد أى فى الحال.

__________________

(١) تفسير الطبرى : ٣ ـ ٢٩٧

(٢) آل عمران : ٧٨

(٣) المفردات : ٤٢٥

(٤) البقرة : ٧٩

(٥) الكافرون : ١ ، ٢

٣٤٥

والحاصل أن القصد نفى عبادته لآلهتهم فى الأزمنة الثلاثة ؛ وكذا (١) : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ). ثم قال (٢) : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ). ثم قال (٣) : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ). فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر ؛ فالأول الذكر بالمزدلفة عند الوقوف بقزح (٤) ، وقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) إشارة إلى تكرره ثانيا وثالثا. ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة ، بدليل تعقيبه بقوله : فإذا قضيتم مناسككم. والذكر الثالث إشارة إلى رمى جمرة العقبة. والذكر الأخير لرمى أيام التشويق.

ومنه تكرير حرف الإضراب فى قوله (٥) : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ، بَلِ افْتَراهُ ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ). وقوله (٦) : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).

ومنه قوله (٧) : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). ثم قال (٨) : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). فكرر الثانى ليعم كل مطلقة ، فإن الآية الأولى فى المطلقات قبل الفرض والمسيس خاصة. وقيل : لأن الأولى لا تشعر بالوجوب ، ولهذا لما نزلت ، قال بعض الصحابة : إن شئت أحسنت وإن شئت فلا ؛ فنزلت الثانية ، قاله ابن جرير.

__________________

(١) البقرة : ١٩٨

(٢) البقرة : ٢٠٠

(٣) البقرة : ٢٠٣

(٤) قزح ـ يضم أوله وفتح ثانيه وحاء مهملة : اسم جبل بالمزدلفة (ياقوت)

(٥) الأنبياء : ٥

(٦) النمل : ٦٦

(٧) البقرة : ٢٣٦

(٨) البقرة : ٢٤١

٣٤٦

ومن ذلك تكرير الأمثال ، كقوله (١) : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).

وكذلك ضرب [٥٨ ا] مثل المنافقين أول البقرة (٢) بالمستوقدين نارا ، ثم ضربه (٣) بأصحاب الصّيّب ؛ قال الزمخشرى (٤) : والثانى أبلغ من الأول ؛ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ؛ قال : ولذلك أخّر ، وهم يتدرجون فى نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.

ومن ذلك تكرير القصص ، كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء. قال بعضهم : ذكر الله موسى فى كتابه فى مائة وعشرين موضعا.

وقال ابن العربى فى القواصم : ذكر الله قصة نوح فى خمسة وعشرين موضعا ، وقصة موسى فى تسعين آية.

وقد ألف البدر بن جماعة كتابا سماه المقتنص فى فوائد تكرير القصص ؛ وذكر فى فوائده :

أن فى كل موضع زيادة شىء لم يذكر فى الذى قبله ، أو إبدال كلمة بأخرى لنكتة ؛ وهذه عادة البلغاء.

ومنها (٥) أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ، ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكمون ما نزل بعد صدور من بعدهم (٦) ، فلو لا تكرار القصص

__________________

(١) فاطر : ١٩ ـ ٢٢

(٢) آية : ١٧

(٣) آية ١٩

(٤) الكشاف : ١ ـ ٣٣

(٥) أى الفوائد

(٦) فى الإتقان : تقدمهم.

٣٤٧

لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين ؛ وكذا سائر القصص ؛ فأراد الله اشتراك الجميع فيها ، فيكون فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين.

ومنها أن فى إبراز الكلام الواحد فى فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفى من الفصاحة.

ومنها أن الدواعى لا تتوفّر على نقلها كتوفرها على نقل الأحكام ؛ فلهذا كررت القصص دون الأحكام.

ومنها أنه تعالى أنزل هذا القرآن ، وعجز القوم عن الإتيان بمثله ، ثم أوضح الأمر فى عجزهم بأن كرر ذكر القصة فى مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأى نظم جاءوا وبأى عبارة عبّروا.

ومنها أنه لما تحداهم قال (١) : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). فلو ذكرت القصة فى موضع واحد ، واكتفى بها لقال العربى : ائتونا أنتم بسورة من مثله ، فأنزلها سبحانه فى تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه.

ومنها أن القصة الواحدة لما كررت كان فى ألفاظها فى كل موضع زيادة ونقصان ، وتقديم وتأخير ؛ وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى ، فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب فى إخراج الأمر الواحد فى صورة متباينة فى النظم ، وجذب النفوس إلى سماعها لما جبلت عليه من حب التنقل بين الأشياء المتجددة ، واستلذاذها بها ، وإظهار خاصة القرآن ، حيث لم يحصل ـ مع ذلك التكرير فيه ـ هجنة فى اللفظ ، ولا ملل عند سماعه ؛ فباين بذلك كلام المخلوقين.

وقد سئل : ما الحكمة فى عدم تكرير قصة يوسف ، وسوقها مساقا واحدا

__________________

(١) البقرة : ٢٣

٣٤٨

فى موضع واحد دون غيرها من القصص؟ وأجيب بوجوه :

أحدها : أن فيها تشبيب النسوة به ، وحال امرأة ونسوة افتتنوا بأبدع الناس جمالا ؛ فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر. وقد صحح الحاكم فى مستدركه حديث النهى عن تعليم النساء سورة يوسف.

ثانيها : أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ، فإن مآلها إلى الوبال ؛ كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم ، فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعى على نقلها لخروجها عن سمة القصص.

ثالثها : قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني :

إنما كرر الله قصص الأنبياء ، وساق قصة يوسف مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب ، كأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسى فافعلوا فى قصة يوسف ما فعلته فى سائر القصص.

قلت : وظهر لى جواب رابع ، وهو أن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم ؛ كما رواه الحاكم فى مستدركه ، فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة ، وترويح النفس بها ، والإحاطة بطرفيها.

وجواب خامس ؛ وهو أقوى ما يجاب به : إن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذّبوا رسلهم ، والحاجة داعية إلى ذلك لتكرير تكذيب الكفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلما كذّبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب ، كما حل على المكذبين ، ولهذا قال تعالى [٥٨ ب] فى آيات : (١)

__________________

(١) الأنفال : ٣٨

٣٤٩

(فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ). ((١) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ). وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك ؛ وبهذا أيضا يحصل الجواب عن حكمة عدم تكرير قصة أهل الكهف ، وقصة ذى القرنين ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة الذّبيح.

فإن قلت : قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين ، وليست من قبيل ذلك؟ قلت : الأولى فى سورة كهيعص ، وهى مكية أنزلت خطابا لأهل مكة ؛ والثانية فى سورة آل عمران ، وهى مدينة أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ؛ ولهذا اتصل بها ذكر المحاجّة والمباهلة.

* * *

النوع الخامس : الصفة.

وترد لأسباب :

أحدها : التخصيص فى النكرة ؛ نحو (٢) : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).

الثانى : التوضيح فى المعرفة ، أى زيادة البيان ، نحو (٣) : (وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ).

الثالث : المدح والثناء ، ومنه صفات الله تعالى ، نحو (٤) : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ((٥) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ). ومنه (٦) : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا). فهذا الوصف للمدح ، وإظهار شرف الإسلام والتعريض باليهود ، وأنهم بعدوا

__________________

(١) الأنعام : ٦

(٢) النساء : ٩٢

(٣) الأعراف : ١٥٨

(٤) الفاتحة : ١ ـ ٤

(٥) الحشر : ٢٤

(٦) المائدة : ٤٤

٣٥٠

عن ملّة الإسلام الذى هو دين الأنبياء كلهم ، وأنهم بمعزل عنها ؛ قاله (١) الزمخشرى.

الرابع الذم ، نحو (٢) : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

الخامس : التأكيد لرفع الإيهام ، نحو (٣) : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ؛ فإن إلهين للتثنية ، فاثنين بعده صفة مؤكدة للنهى عن الإشراك ، ولإفادة أن النهى عن اتخاذ إلهين ، إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط ، لا لمعنى آخر من كونهما عاجزين أو غير ذلك ؛ ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما نحن وبنو المطلب شىء واحد. وتطلق ويراد بها نفى العدة بالتثنية باعتبارها. فلو قيل : لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهى عن اتخاذ جنسين آلهة ؛ وإن جاز أن نتخذ من نوع واحد عددا آلهة ؛ ولهذا أكد بالوحدة قوله (٤) : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ).

ومثله (٥) : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ـ على قراءة تنوين كل. وقوله (٦) : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) ؛ فهو تأكيد لرفع توهّم تعدد النفخة ؛ لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة بدليل (٧) : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

ومن ذلك قوله (٨) : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ). فإن لفظ «كانتا» يفيد التثنية ، فتفسيره باثنتين لم يفد زيادة عليه.

وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسى بأنه أفاد العدد المحض مجردا

__________________

(١) الكشاف : ١ ـ ٢٥٧

(٢) النحل : ٩٨

(٣) النحل : ٥١

(٤) الأنعام : ١٩

(٥) المؤمنون : ٢٧

(٦) الحاقة : ١٣

(٧) إبراهيم : ٣٤

(٨) النساء : ١٧٦

٣٥١

عن الصفة ؛ لأنه قد كان يجوز أن يقال : فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات ، فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط. وهذه فائدة لا تحصل من ضمير المثنى.

وقيل : أراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا ؛ فعبّر بالأدنى عنه وعما فوقه اكتفاء.

ونظيره (١) : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ). والأحسن فيه أن الضمير عائد على الشهيدين المطلقين.

ومن الصفات المؤكدة قوله (٢) : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ). فقوله : يطير ـ لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته ، فقد يطلق مجازا على غيره. وقوله : بجناحيه ، لتأكيد حقيقة الطيران ؛ لأنه يطلق مجازا على شدة العدو والإسراع فى المشى.

ونظيره (٣) : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) ؛ لأن القول يطلق مجازا على غير اللسانى ، بدليل (٤) : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ).

وكذا (٥) : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ؛ لأن القلب قد يطلق مجازا على العين ، كما أطلقت العين مجازا على القلب فى قوله (٦) : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي).

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢

(٢) الانعام : ٣٨

(٣) الفتح : ١١

(٤) المجادلة : ٨

(٥) الحج : ٤٦

(٦) الكهف : ١٠١

٣٥٢

قاعدة

الصفة العامة لا تأتى بعد الخاصة ؛ لا يقال رجل فصيح متكلم ، بل متكلم فصيح. وأشكل على هذا قوله تعالى فى إسماعيل (١) : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا). وأجيب بأنه حال لا صفة ؛ أى مرسلا فى حال نبوته. وقد تقدم فى وجه التقديم والتأخير أمثلة من هذا.

قاعدة

إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولهما عدد جاز إجراؤها على المضاف وعلى المضاف إليه ؛ فمن الأول (٢) : (سَبْعَ سَماواتٍ) [٥٩ ا] (طِباقاً). ومن الثانى (٣) : (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ).

فائدة

إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن إن تباعد معنى الصفات العطف ، نحو (٤) : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ؛ وإلا تركه ، نحو (٥) : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ).

__________________

(١) مريم : ٥١

(٢) الملك : ٣

(٣) يوسف : ٤٣

(٤) الحديد : ٣

(٥) القلم : ١٠ ـ ١٣

٣٥٣

فائدة

قطع النعوت فى مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها ؛ قال الفارسى : إذا تكررت (١) صفات فى معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف فى إعرابها ؛ لأن المقام يقتضى الإطناب ، فإذا خولف فى الإعراب كان المقصود أكمل ؛ لأن المعانى عند الاختلاف تتنوع وتتفنن ، وعند الاتحاد تكون نوعا واحدا ، مثاله فى المدح (٢) : (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ). ((٣) وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ). وقرئ شاذا : الحمد لله رب العالمين ـ برفع رب ونصبه. ومثاله فى الذم (٤) : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).

النوع السادس ـ البدل :

والقصد به الإيضاح بعد الإبهام. وفائدته البيان والتأكيد. أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيدا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير. وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل ، فكأنه من جملتين ، ولأنه دل على ما دل عليه الأول ؛ إما بالمطابقة فى بدل الكل ، وإما بالتضمين فى بدل البعض. أو بالاشتمال (٥) فى بدل الاشتمال.

مثال الأول (٦) : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

__________________

(١) فى الإتقان : إذا ذكرت.

(٢) النساء : ١٦٢

(٣) البقرة : ١٧٧

(٤) السد : ١

(٥) فى الإتقان : أو بالالتزام.

(٦) الفاتحة : ٦

٣٥٤

((١) إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللهِ). ((٢) لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ).

ومثال الثانى (٣) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً). ((٤) وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ).

ومثال الثالث (٥) : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). ((٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ). ((٧) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ). ((٨) لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ).

وزاد بعضهم بدل الكل من البعض ، وقد وجدت له مثالا فى القرآن ؛ وهو قوله (٩) : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. جَنَّاتِ عَدْنٍ). فجنات عدن بدل من الجنة التى هى بعض. وفائدته تقرير أنها جنات كثيرة لا جنة واحدة. وقال ابن السيد : وليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذى يعرض فى المبدل منه ؛ بل من البدل ما يراد به التأكيد ، وإن كان ما قبله غنيا عنه ، كقوله (١٠) : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ). ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثانى لم يشك أحد فى أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نصّ سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد. انتهى.

__________________

(١) إبراهيم : ١ ، ٢

(٢) العلق : ١٥ ، ١٦

(٣) آل عمران : ٩٧

(٤) البقرة : ٢٥١

(٥) الكهف : ٦٣

(٦) البقرة : ٢١٧

(٧) البروج : ٤ ، ٥

(٨) الزخرف : ٣٣

(٩) مريم : ٦٠ ، ٦١

(١٠) الشورى : ٥٢ ، ٥٣

٣٥٥

وجعل منه ابن عبد السلام (١) : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) ـ قال : ولا بيان فيه ؛ لأن الأب لا يلتبس بغيره. وردّ بأنه قد يطلق على الجد ، فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة.

النوع السابع ـ عطف البيان :

وهو كالصفة فى الإيضاح ، لكن يفارقها فى أنه وضع ليدل على الإيضاح باسم مختص به ، بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل فى متبوعها.

وفرّق ابن كيسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود ؛ وكأنك قررته فى موضع المبدل منه ، وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود.

وقال ابن مالك فى شرح الكافية : عطف البيان يجرى مجرى النعت فى تكميل متبوعه ، ويفارقه فى أن تكميله (٢) بشرح وتبيين ، لا بدلالة على معنى فى المتبوع أو سببيه ، ومجرى التوكيد فى تقوية دلالته ، ويفارقه فى أنه لا يفارقه (٣) توهم مجاز ، ومجرى البدل فى صلاحيته للاستقبال ، ويفارقه فى أنه غير منوىّ الاطراح.

ومن أمثلته (٤) : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ). ((٥) مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ).

وقد يأتى لمجرد المدح والإيضاح (٦). ومنه : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) فالبيت الحرام عطف بيان [٥٩ ب] للمدح والإيضاح (٧).

__________________

(١) الأنعام : ٧٤

(٢) فى الإتقان : تكميل متبوعه

(٣) فى الإتقان : لا يرفع.

(٤) آل عمران : ٩٧

(٥) النور : ٣٥

(٦) فى الإتقان : بلا إيضاح

(٧) فى الإتقان : لا للإيضاح.

٣٥٦

النوع الثامن : عطف أحد المترادفين على الآخر :

والقصد منه التأكيد أيضا ، وجعل منه (١) : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ). ((٢) فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَما ضَعُفُوا). ((٣) فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً). ((٤) لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى). ((٥) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً). قال الخليل : العوج والأمت بمعنى واحد. ((٦) سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ). ((٧) شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). ((٨) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ). ((٩) إِلَّا دُعاءً وَنِداءً). ((١٠) أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا). ((١١) لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) ، فإن نصب كلغب وزنا ومعنى ـ ((١٢) صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). ((١٣) عُذْراً أَوْ نُذْراً). قال ثعلب : هما بمعنى واحد. وأنكر المبرد وجود هذا النوع فى القرآن ، وأوّل ما سبق على اختلاف المعنيين.

وقال بعضهم : الملخص (١٤) فى هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين يحصّل معنى لا يوجد عند انفرادهما ؛ فإن التركيب يحدث معنى زائدا. وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ.

النوع التاسع ـ عطف الخاص على العام :

وفائدته التنبيه على فضله ، حتى كأنه ليس من جنس العام ، تنزيلا للتّغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الذات.

__________________

(١) يوسف : ٨٦

(٢) آل عمران : ١٤٦

(٣) طه : ١١٢

(٤) طه : ٧٧

(٥) طه : ١٠٧

(٦) التوبة : ٧٨

(٧) المائدة : ٤٨

(٨) المدثر : ٢٨

(٩) البقرة : ١٧١

(١٠) الأحزاب : ٦٧

(١١) فاطر : ٣٥

(١٢) البقرة : ٥٧

(١٣) المرسلات : ٦

(١٤) فى الإتقان : المخلص.

٣٥٧

وحكى أبو حيان عن شيخه أبى جعفر بن الزبير أنه كان يقول : هذا العطف يسمّى بالتجريد ، كأنه جرد من الجملة ، وأفرد بالذكر تفصيلا

ومن أمثلته (١) : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). ((٢) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ). ((٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ((٤) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ). وإنما إقامتها من جملة التمسك بالكتاب ، وخصّت بالذكر إظهارا لرتبتها ، لكونها عماد الدين. وخص جبريل بالذكر ردا على اليهود فى دعواهم عداوته. وضم إليه ميكائيل ؛ لأنه ملك الرزق الذى هو حياة الأجساد ، كما أن جبريل ملك الوحى الذى هو حياة القلوب والأرواح. وقيل : إن جبريل وميكائيل لما كانا أميرى الملائكة لم يدخلا فى لفظ الملائكة أولا ، كما أن الأمير لا يدخل فى (٥) مسمى الجند. حكاه الكرمانى فى العجائب.

ومن ذلك (٦) : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ). ((٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ). بناء على أنه لا يختص بالواو ، كما هو رأى ابن مالك فيه وفيما قبله. وخصّ المعطوف فى الثانية بالذكر تنبيها على زيادة قبحه.

تنبيه

المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملا للثانى لا المصطلح عليه فى الأصول.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٨

(٢) البقرة : ٩٨

(٣) آل عمران : ١٠٤

(٤) الأعراف : ١٧٠

(٥) ا : فى الجند.

(٦) النساء : ١١٠

(٧) الأنعام : ٩٣

٣٥٨

النوع العاشر ـ عطف العام على الخاص :

وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ. والفائدة فيه واضحة ، وهو التعميم. وأفرد الأول بالذكر اهتماما بشأنه.

ومن أمثلته (١) : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي). والنسك العبادة فهو أعم. ((٢) آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ). ((٣) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). ((٤) فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

وجعل منه الزمخشرى (٥) : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ـ بعد قوله : قل من يرزقكم.

النوع الحادى عشر ـ الإيضاح بعد الإبهام :

قال أهل البيان : إذا أردت أن تبهم ثم توضّح فإنك تطنب. وفائدته إما رؤية المعنى فى صورتين مختلفتين : الإبهام ، والإيضاح ، أو ليتمكن المعنى فى النفس تمكنا زائدا لوقوعه بعد الطلب ؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب ، أو لتكمل لذة العلم به ؛ فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوفت النفس للعلم به من باقى وجوهه ، وتألمت ؛ فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة.

ومن أمثلته (٦) [٦٠ ا] : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي). فإن «اشرح» يفيد طلب شرح شىء ما له ، وصدرى يفيد تفسيره وبيانه ؛

__________________

(١) الأنعام : ١٦٢

(٢) الحجر : ٨٧

(٣) نوح : ٢٨

(٤) التحريم : ٤

(٥) يونس : ٣١

(٦) طه : ٢٥ ، ٢٦

٣٥٩

وكذلك (١) : (يَسِّرْ لِي أَمْرِي). والمقام يقتضى التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد ، وكذلك (٢) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ؛ فإن المقام يقتضى التأكيد ؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم. وكذا (٣) : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ).

ومنه التفصيل بعد الإجمال ، نحو (٤) : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ...) إلى قوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).

وعكسه ؛ كقوله (٥) : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ). أعيد ذكر العشرة لدفع توهم أن الواو فى «وسبعة» بمعنى «أو» فتكون الثلاثة داخلة فيها ، كما فى قوله (٦) : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، ثم قال (٧) : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ؛ فإن من جملتها اليومين المذكورين أولا ، وليست أربعة غيرهما. وهذا أحسن الأجوبة فى الآية ، وهو الذى أشار إليه الزمخشرى ، ورجّحه ابن عبد السلام ، وجزم به الزملكانى فى أسرار التنزيل ؛ قال : ونظيره (٨) : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ـ فإنه رافع لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة.

قال ابن عسكر : وفائدة الوعد بثلاثين أولا ثم بعشر ؛ ليتجدد له قرب انقضاء المواعدة ، ويكون فيه متأهبا ، مجتمع الرأى ، حاضر الذهن ؛ لأنه لو وعد بالأربعين أولا كانت متساوية ، فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام ، وتجدّد بذلك عزم لم يتقدم.

__________________

(١) طه : ٢٥

(٢) الشرح : ١

(٣) الحجر : ٦٦

(٤) التوبة : ٣٦

(٥) البقرة : ١٩٦

(٦) فصلت : ٩

(٧) فصلت : ١٠

(٨) الأعراف : ١٤٢

٣٦٠